المنتدى :
الفن والطرب
نجدة أنزور مخرج سوري قاد الانقلاب على الدراما المصرية
يشكل المخرج العربي السوري نجدة إسماعيل أنزور ظاهرة فنية لافتة للانتباه، فقد تمكن، بفضل موهبته ومثابرته، من الإطاحة بعرش الدراما المصرية التي عمرت لعقود طويلة، منذ تجربة الأبيض والأسود، ليقيم مكانها أسس دراما بديلة، رفعت سوريا، بالرغم من مشاكلها السياسية الكثيرة، إلى مقام الملكة الجديدة المتوجة على عرش الدراما التلفزيونية بالعالم العربي.
نبيل منصر:
المخرج السوري نجدة أنزور
لم يكن المخرج نجدة إسماعيل أنزور، على امتداد العقدين اللذين قطعتهما تجربته حتى الآن، يخبط خبط عشواء، ولكنه كان يضع قدميه، بنوع من التصميم، فوق أرض صلبة، لا تستفيد فقط من المعطيات الحضارية والوراثية للبلد والأسرة، ولكنها تدمج كل ذلك برغبة ملحة في تجاوز التقليد والجماليات العربية الكلاسيكية إلى رحابة التجديد الذي لا يمكن ولوج بوابته إلا بالصبر والجدية والعمل الدؤوب. هذا ما كشف عنه نجدة أنزور في آخر حوار له أجراه مع «جريدة الفنون» (العدد79/2007)، وهو حوار جاء ليضيء أكثر مسيرة مخرج استثنائي.
ويُذكر أن نجدة إسماعيل أنزور ُولد بمدينة حلب (1954) ذات العبق الحضاري، وحصل تعليمه، من الابتدائي حتى الجامعي(شعبة هندسة الميك[محذوف][محذوف][محذوف][محذوف])، بمؤسساتها التربوية والعلمية، وكان للوالد عليه أثر كبير في توجهه نحو الإبداع التلفزيوني والسينمائي، فوالده هو «المخرج الفنان إسماعيل أنزور الذي كان له شرف الريادة في إخراج أول فيلم سوري صامت ( تحت سماء زرقاء) عام1931». ويعترف نجدة أنزور بأن الوالد شجعه منذ البداية (1972) عندما صنع فيلما دعائيا لمنتج كولونيا، وواصل الأخذ بيده على «مدارج الفن» حتى ارتفع رصيده الفني إلى «نحو ألف فيلم إعلاني بين سورية والأردن ولبنان إضافة إلى الفيديو كليب»، ليكون بذلك، بشهادته، أول من أدخل الفيديو كليب إلى العالم العربي.
ربما كانت هذه الأعمال المبكرة هي المدرسة الحقيقية التي شكلت الشخصية الفنية للمخرج نجدة أنزور، الذي حرص دائما على تحصيل خلفية ثقافية تعضد مساره الفني، دون أن يفوته الانخراط في عضوية العديد من النوادي السينمائية بعدد من البلدان. وهي كلها عناصر عمقت التكوين الفني لنجدة أنزور، الذي اتجه إلى إخراج أول فيلم تلفزيوني له «نزهة على الرمال» سنة1987، ليخرج بعده، بسنة واحدة، أول فيلم سينمائي أردني، الفيلم الذي شارك، بشهادة مخرجه، في 23 مهرجانا دوليا وعربيا، وحصل على العديد من الجوائز والشهادات التقديرية، كما أنه كان وراء زيارة المخرج لنصف الكرة الأرضية، مما عمق، في رأيه، خبرته الفنية وانفتاحه على «آفاق جديدة من التقنية والتطوير».
ويذكر المخرج، دائما في حواره الأخير، أن الواقع العربي جعل التلفزيون هو «الأهم والأكثر انتشارا ورواجا ماديا ومعنويا، حيث يكون القرب الأكبر من الجمهور»، وهو الواقع الذي دفعه إلى «تحقيق شرط أساسي واحد، ألا وهو السعي نحو تغيير الشكل التقليدي الكلاسيكي للتلفزيون، الذي ينهج نهج الدراما المصرية، والذي هو بعبارة أدق: وليد الإذاعة». وقد تحقق لنجدة أنزور هذا التغيير من خلال دراما «نهاية رجل شجاع» التي يجدها قد «قلبت كل الموازين الكلاسيكية للعمل الدرامي والتلفزيوني»، كما أنها شجعت، في رأيه، الآخرين على كسر التقليد.
لقد أدرك نجدة أنزور التميز، ليس فقط بسبب خبرته الإخراجية الطويلة في مجال الإعلان والفيديو، بل أيضا بسبب فهمه لأسرار الصورة التلفزيونية واحترافيته في العمل، فضلا عن التزامه الوطني والفني، فهو، حسب تصريحه، لا يُخرج النصوص الجاهزة وإنما يستلهم الأفكار ويستكتب المؤلفين وفقا لما يريد طرحه من قضايا وأفكار عبر لغة الصورة. وهو ينهج هذا الأسلوب لأنه يعتبر نفسه صاحب مشروع فني، ذي أبعاد قومية، يسعى إلى تحقيقه في كل ما ينجز من أعمال: «أنا لستُ مجرد مخرج وحسب بل أنا فنان يقع على عاتقي النهوض بقضايا أمتي والسير بها صعدا نحو النور».
وقد تجلت هذه الاحترافية والالتزام، في رأي نجدة أنزور، على الساحة الفنية «بدءا من الواقع (نهاية رجل شجاع) وانطلاقا من الفنتازيا التاريخية كما في (الجوارح) مرورا بحقبة زمنية معينة(إخوة التراب)، ومن ثم (الموت القادم من الشرق)، وغيرها كثير من التاريخ الحقيقي بما يتناوله من إسقاطات معاصرة». كل هذه الأعمال وغيرها، مثل (الكواسر) و(البواسل) و(آخر الفرسان) و(البحث عنه صلاح الدين)..، حققت نجاحا عربيا واسعا يعزوه المخرج إلى أسلوب العمل وخلفيته الإخراجية: «يجب أن يتحقق في العمل الدرامي عنصر الفرجة، فالسمع شيء والفرجة شيء آخر، فالفرجة تمنح الصورة القدرة على الكلام وتفرض وجودها على المشاهد وتصبح هي قلب الحدث، مما يهدف إلى تطوير الناحية البصرية للمشاهد واحترام عينه، حيث انتقلنا في كل ما قدمنا من عمل إلى الطبيعة، وأقمنا الديكور الحقيقي بشكل متفرد خاص لنتخطى مرحلة سمع المسلسل إلى مشاهدته».
كل هذه الاعتبارات أدت، شيئا فشيئا، إلى الانقلاب على الدراما المصرية حبيسة الأستوديو، والتصوير الداخلي ورؤية الحارات الشعبية، فتمت مزاحمتها، بالرغم من مهاراتها وتاريخها الطويل، وسحب اعتراف الجمهور الواسع من بساطها، في وقت كانت فيه الجماهير العربية بحاجة ماسة إلى متنفس فنتازي عن مشاعرها القومية الجريحة، عبر توظيف صورة جميلة وعين فنية ذكية خبيرة بمواطن الفتنة.
وقد جر النجاح الواسع الذي حققته الدراما السورية، خاصة ما تعلق منها بالفنتازيا، على المخرج نجدة أنزور نقمة المخرجين المصريين، لتتحول المعركة أو المنافسة بينهما، إلى ما يسميه أنزور بالحرب الاقتصادية. وفي هذا السياق يؤكد أنزور، في حوار سابق: «نحن سبقناهم تقنيا برغم امتلاكهم التجربة والجماهيرية والتراكم، لكن للأسف رأيناهم في رمضان 2001، والانتفاضة في ذروتها والعالم العربي يغلي، يقدمون أعمالا (كالحاج متولي)»، ثم يضيف: «أنا لا أستطيع منافسة هذه النماذج ولا هذا الفكر، لأنه يساهم في تغييب المواطن، أنا أبحث عما يفيد المجتمع دون تنظير». إن الحرب الاقتصادية تسيء إلى الدراما عموما وتحول الرأسمال إلى سلطة تتحكم في التصور الفني والرؤية الإخراجية للعمل التلفزيوني، ولهذا يدق نجدة أنزور، في حواره الأخير بجريدة الفنون، ناقوس الخطر، مؤكدا أن «رأس الفتنة هو دخول رؤوس أموال عربية وخليجية» توظف في غير مكانها «كأن يُعجب صاحب رأسمال بممثل ما فيسخر له ماله ليتحول هذا الممثل في ليلة وضحاها إلى منتج فيتحكم بالمخرج والممثلين»، الشيء الذي يفسد العمل الفني كما أنه يخلق «حالات من العداء في الوسط الفني».
وقد اعترضت المسلسل الأخير لنجدة أنزور «سقف العالم»، الذي هيأه المخرج على خلفية الرسوم المسيئة للرسول (ص)، فأراده أن يكون ردا حضاريا «بلغة الفن على تطاول الغرب على مقدساتنا» (تصريح سابق)، هذا المسلسل الذي بلغت تكلفة إنتاجه (مليوني دولار) والذي لم تتم إذاعته بعد، اعترضته مشاكل مرتبطة بفتنة الرأسمال التي حذر منها المخرج، حيث اشترطت شركات الإعلان والدعاية التي ستقوم بدعم القناة(LBC)، كما صرح نجدة أنزور في حوار سابق، أن يكون البطل من مصر وأن يقوم المطرب اللبناني عاصي الحلاني بدور «ابن فضلان»، وهما شرطان رفضهما المخرج، واعتبر أن هناك نية سيئة وراء طرحهما، فأصحاب مثل هذه الشروط، في رأيه، «يريدون أن يفرضوا سياسات مرسومة لتتفيه العمل والدراما السورية على وجه الخصوص»، لذلك يصرح أنزور: «لا أقبل فرض السياسات، ولا أقبل أن يكون العمل الفني رهين أمزجة شركات الدعاية والإعلان، وقلتُ لهم إذا قبلنا بذلك فإنكم ستطلبون مني في العام المقبل أن أعطي هيفاء وهبي مثلا دور رابعة العدوية».
لكل هذه الاعتبارات الخارجة عن إرادة المخرج، ولكن التي اقتضت موقفا حازما منه، كان سيتوقف العمل في مسلسل «سقف العالم» لولا أن الرأسمال الليبي تدخل لإنقاذ الفيلم دون شروط مسبقة، من خلال المساهمة بنصف تكلفة الإنتاج.
إن الطموح الكبير الذي يحرك نجدة أنزور، الآن، شبيه بالأحلام الكبرى التي كانت تحدو مواطنه المخرج العالمي مصطفى العقاد، ذي الجنسية الأمريكية(1953 /2005)، إلى إخراج أكبر الأعمال السينمائية برؤية فنية لا تخلو من دلالات حضارية وثقافية خاصة، وهي الرؤية التي تحكمت في إخراج فيلميه السينمائيين الكبيرين «الرسالة» (1976)، و«أسد الصحراء» (1981)، وهي الرؤية التي كانت تتحكم في تحضيره لفيلم سينمائي عالمي عن صلاح الدين، لولا أن يد الغدر عاجلته بتفجير، ذهب ضحيته صحبة ابنته بفندق بالأردن. إن نجدة أنزور هو من سلالة هذا المخرج، على مستوى الطموح والرؤية الإخراجية، ولعل خير ما يجسد الآن هذا الانتساب هو ما صرح به أنزور، في حواره الأخير وأيضا في حوارات سابقة، من انكبابه على مشروع سينمائي ضخم «قصته وفكرته تنطلق من ليبيا»، لكن رسالته ذات أبعاد إنسانية كونية، مشروع يخطو المخرج، من خلاله «بخطوات ثابتة نحو العالمية يضم المئات بل الآلاف من الوسط الفني العالمي».
صرح نجدة أنزور بهذا الأمر، معتذرا عن الخوض في التفاصيل أو إفشاء أسرار، إلى مناسبة قادمة ربما يكون فيها العمل قد اتخذ أبعادا أكثر ملموسية، ونحن، في انتظار ذلك اليوم، نتمنى للمخرج كامل التوفيق، كما نتمنى له الابتعاد عن الرأسمال السياسي حتى لا يقع إفساد الفرجة.
مقطع من مسلسل سقف العالم
http://uk.youtube.com/watch?v=9Of1nuiR7z8
|