كاتب الموضوع :
كريستل
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: رواية "وردة النار"
الفصل الثاني
لم تلتفت الجدة لدخول الخادمة (ساراي) للكهف وهي تحمل سلة فواكه ثقيلة بالكاد توازنها فوق رأسها الصغير
- سيدتي! الحمد لله على سلامتك
هتفت (ساراي) ثم أسرعت بمشيتها الخرقاء المعتادة وانحنت على الفور لتقبّل يد سيدتها، فكادت حبّات العنب تسقط من السلّة
ضربت الجدة بعصاها على الأرض وأمرت (ساراي) بالخروج للبحث عن حطب لتسخين القِدر المليء بالماء حتى تضع كماداتٍ ساخنة على مفاصلها
- آه! هل عادت آلام مفاصلك يا سيدتي؟ الأفضل أن تجلسي هناك
ساعدتها (ساراي) لتقف وتجلس على صخرة مسطحة بالقرب من سرير (لاتيكا)، ثم وضعت السلة عند قدميها وانحنت خاضعة. تردّد صوتها في حلقها بهمساتٍ متحشرجة وهي تدعو لسيدتها بالشفاء والهناء وطول العمر، ثم أسرعت منطلقة خارج الكهف لتنفّذ أوامر الجدة
نظرت الجدة لحذاء (ساراي) المتمزّق الذي وقع من رجلها أثناء جريها دون أن تلتفت له. رقّت ملامحها بحزنٍ دفين. عادت وخزة الندم تضايق ضميرها. تذكرت وعدها لزوج حفيدتها حين قدّم لها (ساراي) كخادمة مؤقتة.
- كوني رحيمة بهذه الفتاة اليتيمة. ان قصّرت في خدمتكما يوماً فلا تضربيها على رأسها.
تذكرت كيف وضعت (ساراي) كفيّها على رأسها الصغير وكيف أجابت ببساطة طفولية حين صرخت الجدة بوجهها يوماً: "لماذا أنتِ خرقاء هكذا؟!" فقالت: "لأن بابا كان يضربني بالعصا على رأسي".
أغلقت الجدة عيناها بقوة وضغطت على عظمة أنفها بأطراف أصابعها في محاولة يائسة لطرد الصداع الذي بدأ يطرق جمجمتها.
انتفضت للحظة حين أحستّ بأنامل ساخنة تربت على يدها اليسرى. أبعدت يدها بسرعة خاطفة دون أن تستوعب فداحة فعلتها، فعادت وخزة الندم تطعنها. كادت تلعن جسدها الذي تحرّك دون أخذ الإذن من عقلها الواعي. خيّم صمتٌ خانق قبل أن تتجرّأ للنظر في وجه حفيدتها.
لم يتشوه وجه (لاتيكا) الجميل الأسمر بالحروق بقدر ما تشوّه بالابتسامة الصغيرة الزائفة التي شقّت شفتيها الداميتين
كانت قد عضّت شفتيها أثناء المخاض حتى كادت تشرب دمها
- لا بأس يا جدتي، أعلم أنك لا تزالين خائفة..
أشاحت بوجهها وأبعدت أصابعها عن جدتها ثم وضعت كفّها في الخُرقة المبتلة بدمائها التي جثمت فوق صدرها
- لستُ في خطرٍ الآن.. يمكنكِ أن تلمسيني..
استدار إصبع سبّاباتها حول معدتها بكسل
- انظري..
تنهّدت الجدة واستجمعت شجاعتها لتلقي نظرة خاطفة على معدة حفيدتها، لكنها عادت لتحدّق فيها بذهول..
- أين.. أين اختفت...؟
- علامة لعنة وردة النار؟
ضحكت (لاتيكا) ضحكة خافتة مريرة
- يبدوا أنها خرجت من رحمي أثناء الولادة.. ما رأيكِ ان اعتبرتها طفلي الثاني؟
عبست الجدة ووضعت كفها على جبهة (لاتيكا). تنفست الصعداء حين تأكّدت من قُرب شفاء (لاتيكا) من الحمى الملتهبة التي كانت تنهشها.
اغرورقت عينا (لاتيكا) بالدموع وأخذت تُقبّل يدّ جدتها قبلة تلو القبلة وتكرّر:
- يمكنكِ أن تلمسيني.. يمكنكِ أن تلمسيني..
مرّت 9 أشهر كاملة منذ أن لمس انسانٌ جسد (لاتيكا) دون أن تلسعه لعنة وردة النار..
هل زالت اللعنة بلا علاج؟... يا الله!!
مدّت الجدة ذراعيها بلهفة وطوّقت رأس (لاتيكا) في حضنها. عانقتها بقوة حتى كادت تعصر ضلوعها، فأجهشت (لاتيكا) بالبكاء وعلا صوت نحيبها. نظرت الجدة لكفّيها المجعدين المحترقين و انهار السدّ المنيع الذي أحاطت به قلبها فذرفت دمعات فرح.
مرّرت كفّيها على جسد حفيدتها لتتحسس جلدها الدافئ بحب وشوق. لم تكن من نوع الجدّات الحنونات اللواتي يغمرن أحفادهن بالأحضان والقُبلات قط، بل كان زوجها يضحك من صرامتها ويصف قلبها بالصحراء القاحلة. لكنها الآن مستعدة لأن تعوّض (لاتيكا) عن كل أشهر الحمل الطويلة التي حرمتها من مجرد اللّمس.
رنّ صوت زوجها في أذنها بنغمة صوته المبحوح الشجيّ:
حاسة اللّمس نعمة إلهية يا عزيزتي.. والأحمق هو الذي لا يُقدّر نِعَمَ الله عليه إلا حين تزول عنه..
مسحت الجدة عينيها الدامعتين بطرف ثوبها وقبّلت جبهة حفيدتها التي رفرفرت رموشها مستسلمةً لغفوةٍ أخرى
يا إلهي، كم كنتُ حمقاء
|