كاتب الموضوع :
سيريناد
المنتدى :
روايات أحلامي
رد: 309 - نهر الذكريات _ ليز فيلدينغ _ روايات أحلامى مكتوبة
شمس فى الذاكرة
لم يعرف أحد أن نيال ماكبين قادم الى بلدته شيلينغ ، الى ان وصلها فعلا في ذلك اليوم الصيفي العاصف.
كانت اليسون ماكاي جالسة في غرفة الصف عندما شرد إنتباهها عن مقعدها الذي كان ويلي ماكلويد يشرحه لستة من زملائه التلامذة ، ومن مقعدها المرتفع لمحت ظلا أزرق اللون يمر عبر الأشجار مما جعلها تسرع نحو النافذة.
قالت للطفل الذي توقف عن الشرح مستغربا:
" تابع القراءة يا ويلي ، فنحن نستمع اليك".
إنتظرت حتى عاودت السيارة الزرقاء الظهور ، لم تستطع ان تلمح شيئا داخل السيارة لأن المطر الغزير كان يهيمن على كل شيء ، ترى من الذي يقصد القرية في منتصف آخر الأسبوع من حزيران؟ فالمدرسة تقع خارج الطرق التي يقصدها السياح ، وهي معزولة تماما بإستثتاء الدكاكين المتنقلة التي تزورها مرتين في الأسبوع.
فجاة إلتمعت السماء ببريق قوي اعقبه صوت الرعد القاصف ،وعلى هذا الضوء الباهر شاهدت السيارة مرة أخرى وهي تصعد الطريق الوحيد في المنطقة ثم تقف أمام لوك شيل الذي بدا غامقا وغريبا في هذا الشتاء الغزير.
إرتجفت أليسون لأحساسها بقرب وقوع مشاكل غير محدودة ، وأحست بالبرد ، رغم ان قاعة الصف كانت دافئة تماما ، لمحت شكل رجل يخرج من السيارة ثم يقطع الشارع مسرعا قبل أن يختفي في أحد الأكواخ هناك ، إعتقدت أنه دخل منزل فيرجوس ماكبين ، لكنها لم تكن متأكدة.
خيّم صمت شامل على القاعة ، فعادت اليسون الى مكانها وهي تقول:
" أحسنت يا ويلي ، كانت قراءتك ممتازة".
نظرت اليسون الى ساعة يدها ، إنها الرابعة إلا الربع تقريبا ، لم يعد هناك مجال للمزيد من الدروس ، بالإضافة الى أن الأولاد يأتوا منزعجين من العاصفة ، بل ويبدو على إثنين منهما الخوف الشديد ، توجهت أليسون الى الطاولة وقالت:
" هيا ايها الأولاد ، إحملوا معاطفكم وسآخذكم الى بيوتكم".
إبتسمت وهي تراقب الأولاد وسرورهم ، من حسن الحظ انها جاءت بسيارتها عند الصباح ، فمع انها تعيش على بعد ميل واحد فقط من المدرسة إلا ان هذا المطر الغزير ما كان ليتركها تسير ولو لأمتار قليلة.
تأكدت أليسون من أن النار في المدفأة خامدة ، ثم أطفأت الأنوار وجمعت الأولاد في المدخل في حين فتحت هي أبواب السيارة لهم ، وواحدا بعد واحد ودّعت الأولاد الفرحين على ابواب بيوتهم الممتدة على طول الطريق الوحيد ، واحدة من التلامذة، فيونا ستيوارت ، تعيش في البيت المجاور لمنزل فيرجوس ماكبين ، لذلك قالت اليسون وهي تفتح لها الباب:
" يبدو أن السيد ماكبين يستقبل بعض الضيوف".
إستغربت اليسون نظرة غير الطبيعية في وجه الفتاة ، صحيح أن فيونا كانت في العاشرة من عمرها فقط ، إلا ان كل سكان القرية يعرفون التفاصيل الشاملة عن النزاع ، قالت فيونا:
"هذا صحيح يا آنسة أليسون".
منتديات ليلاس
كان الكوخ ماء ، تظاهرت اليسون بانها تراقب فيونا حتى تصل الى بيتها ، بينما كان نظرها في الواقع مركزا على القنديل الزيتي الذي ينير الغرفة الأمامية من منزل السيد ماكبين ، وطيلة الوقت كان التساؤل حول هوية الضيف يلح على فكرها ومشاعرها.
لكن اليسون نست كل شيء عندما وصلت الى البيت ، فهناك أمور اخرى كثيرة تشغل بالها ، سمعتها جيسي وهي توقف السيارة أمام الباب الخلفي ، فأسرعت تفتح لها الباب وهي تقول:
" هيا بسرعة يا إبنتي ....هيا".
قطعت اليسون المسافة القصيرة ركضا ، وعندما وقفت الى جانب المرأة ذات الشعر البيض الناصع ، قالت:
" يا له من يوم قاس يا جسي ، هل الشاي جاهز؟".
" الماء على النار ، لحظات ويكون قدح الشاي أمامك ، لكن قبل كل شيء أريد أن أحدثك قليلا ، هيا إجلسي".
إعترضت أليسون على جسي التي حاولت أن تجلسها وقالت:
" انا سأصنع الشاي.......".
" لن تفعلي ذلك ، هناك شخص واحد في هذا البيت يعرف كيف يصنع الشاي... وهذا الشخص هو انا".
إبتسمت أليسون من على كرسيها الهزاز وقالت:
" آسفة يا جسي ، لا أعرف ما يمكن ان نفعل من دونك".
وكانت تعني كل كلمة تقولها ، راحت تراقب يدي العجوز وهما تعملان بثقة وخفّة في إعداد الشاي ، فقد عاشت جسي مع العائلة منذ ما قبل مولد اليسون ، بل حتى قبل مولد اخيها أليك الذي يكبرها بخمس سنوات ، والان ، بعد وفاة والدها وزواج اليك في كندا وتبخّر ثروة العائلة بالكامل... فإن جسي ما تزال معهم في الضراء كما كانت في السراء.
وبقوة تحسد عليها ، إستطاعت جسي أن تقف الى جانب الأم عندما قتل الأب في حادث طائرته وهو في رحلة عمل الى يوغوسلافيا قبل ثلاث سنوات ، كان الأب على وشك أن ينقل شركته الهندسية الى مرحلة أخرى من النجاح ، مرحلة كانت ستعني الثروة والأمان ، بعد خيانة غير متوقعة من شريك محتال.
المال الذي كان بين يدي العائلة إبتلعته ترتيبات الدفن بعد الحادث المفجع ... ومع ذلك ظلت جسي معهم ، وكم تتمنى أليسون أن تظل معهم طيلة حياتها ، فهي تحب مدبرة المنزل وترتاح اليها كثيرا.
وضعت جسي أبريق الشاي من يدها وقالت:
"المسألة تتعلق بأمك ، فهي تتصرف بشكل غريب هذه اليام ، تتجول في البيت على غير هدى بدل الإهتمام بلوحاتها الفنية ، وقد لاحظت على وجهها تلك النظرة الحالمة ، النظرة نفسها التي تحملها عندما تكون قد وضعت في راسها فكرة ثابتة ، الواقع انني لا أعرف ماذا تفكر ، لكنني يمكن أن أخمن".
هزت اليسون راسها وقد احست قلبها يغرق بين أضلعها:
"البيت؟".
تمعّنت جسي في وجه أليسون بحدّة وقالت:
" اجل ، فهي تواصل الحديث منذ مدة عن أن البيت كبير ويكلّف الكثير من الأوال لصيانته ... وما شابه".
قاطعتها أليسون بأسى واضح:
" اعرف ذلك ، انها تثير الموضوع كل صيف عندما تكشف الشمس ما حلّ بالبيت من الخارج ، آه يا جسي ، ماذا يمكن أن أفعل؟".
تلفّتت جسي حولها قائلة:
" الله وحده يعلم يا إبنتي، إنها على حق ، ماذا تفعل ثلاث نساء وحيدات في هذا البيت الضخم ؟ المدخول الوحيد هو المال الذي تكسبينه وما قد تبيع امك من رسوم ... وهذا المدخول لا يكفي".
ردت أليسون بإنفعال يائس:
" لكنها لا يمكن ان تبيع البيت، فهو متوارث في العائلة منذ أجيال".
توقفت عن الكلام وكأن فكرة طارئة داهمتها ثم اضافت:
"في كل حال ، من سيشتري البيت ؟ فالمعروف أن مثل هذه البيوت الضخمة غير رائجة في السوق ، آه يا جسي...".
أغمضت عينيها براحتي يديها وهي تقول:
" أتمنى ان نكون مخطئين ".
" صحيح ، لكن يجب أن نكشف الحقيقة ، من الأفضل أن تساليها لكن بلطف يا أليسون ، فأنت تعرفين بأنها تضطرب فورا إذا ما تعرضت لأية مشاكل".
إغتصبت اليسون إبتسامة صفراء وقالت:
" سافعل ذلك طبعا ، اشكرك يا جسي لأنك أخبرتني ، لعلنا نستطيع إيجاد مخرج ، من يدري؟".
رمت اليسون هذه العبارة بخفّة ، لكن قلبها كان مثقلا بالأحزان ، فهي تحب بيتها بكبرياء مجنونة ، فقد كان منزلا ريفيا ضخما مبنيا بالحجر الصخري ، موقعه يواجه الشرق بحيث تحتضنه الشمس كل صباح ، ومع ذلك تحميه التلال المجاورة من العواصف والأمطار ، كما تحيطه الجبال والغابات في موقع يعتبر من أجمل مناطق اسكتلندا ، وبينما هي في طريقها من المطبخ الى القاعة الرئيسية ، أضاء البيت برق خاطف أعقبه رعد قوي... فإزداد إضطراب اليسون وخوفها.
كان على أليسون أن تنتظر حتى ساعة متأخرة من الليل كي تعرف الحقيقة التي أنهت كل التكهنات ، كانت جالسة في مقعدها المريح في غرفة الجلوس وهي تراجع بعض الدفاتر المدرسية ، وعندما رفعت عينيها الى أمها لمحت على وجهها تلك النظرة الحالمة التي تعني الكثير ، انها النظرة التي تكشف كل مكنونات الأم ، لذلك لم تعد تحتمل المزيد ، وضعت الدفاتر جانبا وقالت بهدوء:
" امي أرجوك ان تحدثيني".
فتحت السيدة ماكاي عينيها على إتساعهما ، وهي تشعر بالذنب أكثر من أي وقت مضى ، أحست اليسون بدفقة حب عارمة لأمها ، وكادت أن تغص بالبكاء لكنها تمالكت نفسها بسرعة ، بدت الأم متعبة ومهزومة بحيث اجبرت أليسون على إسترجاع صورتها عندما كانت مهندسة ديكور ناجحة جدا زارت معظم أقطار العالم مع شريكة لها قبل أن تتعرف الى والدها في أستراليا ... بعد ذلك عادت الى أسكتلندا وتزوجته وتركت اعمالها لتصبح ربة بيت مثالية ، ومنذ ذلك الحين لم يسمع أحد منها كلمة اسف أو ندم على الثروة الكبيرة التي كانت ستحصل عليها فيما لو إستمرت في مهنتها ، اما الآن فتكتفي بالرسم الزيتي ، وفي بعض الأحيان بيع اللوحات الى مردوخ أيمري ، وهو صديق قديم للعائلة يملك محلا فاخرا لبيع التحف القديمة واللوحات الفنية.
" اخبرك عن ماذا؟".
لكن إرتجاف يدها وهي تداعب خدها كشف كل ما تحاول اخفاءه .
توجهت اليسون لتجلس على الرض أمام امها ثم وضعت راسها في حضنها وقالت:
"آه يا أمي ، انا وجسي قلقتان عليك تماما ، هناك شيء ما يدور في تفكيرك ، ولا بد لك من الحديث عنه عاجلا ام آجلا فلماذا لا يكون الآن؟".
لم يكن للأم مهرب من المنطق الواضح في كلام إبنتها ، تنهدت بعمق بينما يدها تداعب شعر اليسون بحنان:
" حسنا ، إنه شيء كان يجب أن احدثك به قبل الان لأنني لا احب أن اخفي شيئا عنك أنت خاصة".
فجأة تهدّج صوتها وعادت تبكي ، لكنها تمالكت وتابعت تقول :
" لقد وصلت الأمور الى حد بات معه من المستحيل المضي في الوضع الحالي أكثر ، علينا أن نبيع البيت".
نظرت اليسون الى امها وهي تجاهد كي تحبس دموعا ترقرقت في عينيها عندما تأكدت مخاوفها.
" هذا ما فكرنا فيه ، لكنني احب هذا البيت كثيرا".
ردّت الأم بحنان واضح :
" وانا أحبه ايضا ، كم فكرت في المسالة قبل إتخاذ القرار؟ كان عليّ أن أخبرك منذ مدة ، لكنني كنت اتامل حدوث... انت تعرفين كيف افكر".
هزّت اليسون راسها وهي تشعر بالحزن لأمها ولنفسها أيضا.
تابعت الام:
"الواقع انني بحثت المسألة مع السيد جون ستيورات".
وجّهت اليسون نظرة حادة الى أمها ، فمع ان جون ستيورات هو محامي العائلة ومن الطبيعي ان تبحث الأم معه موضوع البيت ، إلا أن ذكر إسمه جعل عملية البيع تبد اكثر إلحاحا.
" وماذا قال لك؟".
إبتسمت الأم بضعف وقالت:
" لن تصدقي الأمر ، هناك شخص ما مهتم بشراء البيت ، لم يخبرني السيد ستيوارت عن هوية هذا الشخص ، حتى أنني لم أعرف ما إذا كان رجلا او أمرأة ، والظاهر ان هذا الشخص إتصل به قبل حوالي سنة وابلغه أنه مهتم بالبيت ، ويريد ان يعرف حالما نقرر طرحه للبيع ، ولا شك أن هذا الشخص يعرف البيت ، المهم ان المحامي إتصل بي امس وقال لي ان ذلك الشخص سيتصل بنا قريبا".
حوّلت الأم نظرها الى المدفأة ، وتابعت تقول وهي تربّت على كتف أليسون:
" هذا هو السبب الذي جعلني متوترة خلال الأيام القليلة الماضية ، فارجو ان تسامحيني ، إذ ليس أمامي إلا هذا السبيل".
هزّت اليسون راسها بعنف:
" لا ، لا بد ان هناك طرقا أخرى".
" ماذا؟ اتمنى لو أجد حلا آخر ، أنت تعرفين كيف يكون البيت في الشتاء... يصبح كثلاجة كبيرةجدا ، كان علينا ان نركّب تدفئة مركزية منذ مدة ، الأمر كان محتملا عندما كان البيت مليئا بالزوار والنار في كل غرفة...لكنه لم يعد كذلك ، نحن وحدنا في البيت ، وجسي أصبحت كبيرة في السن ، الى متى تظنين انها ستظل قادرة على العمل في ذلك المطبخ الشاسع؟ صحيح أنها لا تشكو ولا تتلكأ ... لكن التعب سيظهر جليا باسرع مما نظن".
هدأت العاصفة ، وإنعكس الهدوء على مزاج أليسون التي بدت ساكنة وكأنها تخلّت عن كل معارضتها ، تنهدت وحوّلت نظرها بإتجاه الكلب راستي الذي كان متمددا بالقرب من المدفأة ، مدّت اليسون يدها تداعبه ، وسالت أمها من دون ان تنظر اليها:
" والى اين سنذهب يا أمي؟".
" كنت اتفحص منذ يومين الكوخ الملحق بالبيت والأراضي المحيطة به ، صحيح أنه بحاجة الى عمل كثير لأنه مهجور منذ أن تخلينا عن البستاني العامل فيه ، إلا أنه يصلح لنا نحن وللكلب أيضا".
رددت اليسون كلام امها:
" .... وراستي ايضا لكن هل يمكننا بيع البيت دون الكوخ".
اجابت الأم بإستغراب:
" طبعا ، الواقع انهما منفصلان ، وسوف نحتفظ بالحديقة الصغيرة المحيطة بالكوخ ، وفي الوقت نفسه تطل على الوادي تماما كما تطل من هنا".
كل ما قالته الأم كان صحيحا ، لكن أليسون تساءلت في سرها:
( هل تحتمل العيش في الكوخ قريبا من البيت الذي يعيش فيه غرباء ؟) هذا هو السؤال الذي لا جواب له الان.
ذهبتا الى النوم دون أن تخبر أليسون أمها عن الشيء الاخر الذي يقلقها هذه الأيام ، إذ يكفيها الألم الذي تحملته فيما يتعلق بالبيت ، فالمدرسة التي تعمل فيها اليسون ستغلق بعد فصل الخريف ، ومن سبعة تلامذة تعلمهم أليسون هناك خمسة سيغادرون لأنهم اصبحوا فوق العاشرة وهذا يتطلب إنتقالهم الى مدرسة أخرى ، اما التلميذان الآخران فسينقلان الى مدرسة تقع على بعد خمسة عشر ميلا ، وبما أنه لا يوجد أطفال في عمر مناسبة لصفها ، فإن الإدارة قررت إغلاقه لمدة أربع سنوات ، وربما الى البد ، ومع ان أليسون ستتلقى قرارا بالنقل إلا ان المدرسة الجديدة ستكون بعيدة جدا ، وكل ما تتمناه الآن حدوث معجزة تتمثّل في إنتقال عائلتين فقط الى شيلينغ لكل منهما ثلاثة او اربعة أطفال ، وهذا كفيل بإنقاذ وظيفتها.
تنهّدت أليسون بعمق وهي تطفىء نور غرفتها ... وعبثا حاولت النوم.
كان اليوم التالي نهار الجمعة ، يوما مشمسا ودافئا وكأن عاصفة الأمس لم تكن قط ، وبينما كان الأولاد يلعبون بعد الظهر في باحة المدرسة ، شاهدت اليسون مرة أخرى السيارة الزرقاء التي راتها بالأمس وهي تتوقف مجددا أمام منزل فيرجوس ماكبين ، كانت قد نسيت تماما هذا الضيف الغريب لأنشغالها بقضايا البيت والمدرسة الملحة ، إقتربت من الحائط الحجري الصغير الذي يحمي الصغار من المنحدر المطل على القرية ، وراحت تتامل السيارة بفضول ، خرج رجل من سيارة الفورد القديمة ، وقبل أن يعبر الطريق القى نظرة خاطفة بإتجاه المدرسة ، كانت كفيلة بإحراج اليسون مما جعلها تبتعد عن الحائط وكانها شوهدت بالجرم المشهود ، ومع ذلك كانت راغبة في معرفة هوية الرجل ، لو انه أحد أبناء فيرجوس لكان الخبر قد عمّ القرية فورا ، لكن شيئا لم يذع بين الأهالي ، لم تستطع ان تلمح وجه الرجل الغريب ، ومرة أخرى القت نظرة الى الكوخ الذي يعيش فيه فيرجوس ماكبين وحيدا ، بعد رحيل إبنائه الأربعة أليستير وأيان ودانكان ونيال، الإبنان الأكبران يعيشان في نيوزيلندا ويقال أنهما يعملان في تجارة الماشية ، اما دانكان ونيال فقد غادرا القرية منذ سنوات للعمل في السفن التجارية... نيال الأسود كما يسمونه ، الإبن الأقسى بين أربعة يشكلون عائلة ماكبين التي عاشت في نزاع مستمر منذ أكثر من قرن مع عائلة ماكاي ، اليسون تتذكر نيال فقط لأنه كان أصغر اخوته ، من عمر أخيها أليك تقريبا وزميله في الصف نفسه أيضا ، زميله ؟ صحيح ، لكنهما كانا يتقاتلان دائما ، فكرت أليسون ان الكراهية موجودة في الدم ، بحيث كانت العائلتان على نزاع دائم ومستمر منذ العام 1869 عندما كانتا أكبر عائلتين في القرية والأرياف المحيطة بها ، ففي أحد ايام ذلك العام ، وجد هيكتور ماكبين ودومنيول ماكاي نفسيهما يقعان في غرام أمرأة واحدة عمدت الى تاجيج نار الحب والحقد بين الرجلين معا ، وفد تأكد فيما بعد ان الشابين كانا ضحية سحر إيزابيل القاسية ، ومهما كانت الحقيقة فإن الرجلين قررا ذات يوم التوجه الى التلال لتسوية المسالة بينهما... ذهبا ولم يعودا ابدا.
بعد عدة ايام ، نزل احد الرعاة من كوخه الجبلي ليروي قصة مرعبة عما شاهده ، في أحد الأيام ، ذهب يبحث عن بعض الأغنام الضالة ناحية الجبل المطل على البحر بإنحدار شديد الإرتفاع ، وهناك شاهد الرجلان يتقاتلان بضراوة ووحشية ، كانت الأرض مغطاة بصخور وحصى صغيرة تجعل الثبات عليها صعبا ... وبينما هو يراقب إنزلق الرجلان واخذا ينحدران صوب البحر وهما مستمران في القتال ، وعندما وصل الى مكان المعركة كان الأوان قد فات ، ففي الأسفل ، لم يكن يسمع إلا صوت إرتطام الموج بالصخور الحادة وزعيق طيور البحر الباحثة عن طعامها.
ولما إنتشرت قصة الراعي في القرية ، تبادلت العائلتان التهم والكلمات القاسية ، ومنذ ذلك اليوم إنقطعت العلاقات بين الطرفين وإندلع الحقد في نفوس الجميع ، وبالطبع كانت هناك قصص غير قصة مصرع الشابين تتعلق بتجارة البحر والتهريب وغيرهما ، لكن أحدا لم يخبر أليسون عن الحقيقة تماما ، لعل الخجل كان يجعل كل طرف يحجم عن المجاهرة بالواقع ، واليسون نفسها لم تتجرأ وهي طفلة على طرح الأسئلة ، ودائما كانت تتساءل عما إذا كان أليك قد عرف الحقيقة أم لا .
منتديات ليلاس
البيت الذي تعيش فيه اليسون الآن هو بيت العائلة قبل زمن طويل من النزاع ، اما فيرجوس ماكبين ، وهو آخر فرد من العائلة باق في القرية ، فيعيش في كوخ عاش فيه من قبل أبوه وجده ، وبيت ماكبين ، الذي كان يجاور بيت ماكاي ، فقد دمر نهائيا في حريق كبير إندلع في العام 1872 ، وتقول الروايات أن ثروة العائلة إحترقت في البيت ، ولم يبق من أثر البيت المحترق إلا بعض الأحجار المتفرقة ، في حين نمت اعشاب وأشجار برية في المكان برمته.
احست اليسون بقشعريرة برد تجتاح جسمها بفعل الذكريات الأليمة التي إسترجعتها ، لذلك توجهت الى الأطفال تشاركهم تمارينهم الرياضية بحماس وكأنها تريد إبعاد أشباح الماضي عن فكرها ، لكن عقلها رفض التلبية في الدروس اللاحقة ، كانت تشعر بالضيق الشديد ، ربما لعلمها بأن المدرسة ستغلق ، او ربما لأن البيت سيذهب الى الأبد مع العائلة ، أو ربما للسببين معا ، اصابها التفكير الشديد بصداع حاد إستمر بإلحاح رغم تناولها قرصين من الأسبرين ،وما أن جاءت الساعة الرابعة حتى شعرت بالإرتياح لأن العمل قد إنته وبات بإستطاعتها أن ترتاح ، ومن مقعدها خلف الطاولة راحت تراقب الأطفال وهم يغادرون القاعة بسرور كمن أطلق سراحه من سجن مظلم.
في الجهة الخرى من الوادي ، إستطاعت أليسون ان ترى من مقعدها جانبا من البيت ، السقف القرمزي وبعض غرف النوم ، فعادت اليها كل مخاوفها ، فكرت بصوت خافت ، كيف يمكن أن أتركه ؟ فطفرت دموع الحزن والألم الى عينيها ، لقد كانت أمها على حق بينما تصرفت هي بطيش وعاطفية ، إنهم لا يستطيعون مواصلة العيش في البيت بالمدخول الخفيف المتوفر لديهم ، فالحب العميق الذي تشعر إتجاه البيت لم يعمها عن رؤية إطارات النوافذ المتساقطة أو قرميد السطح الذي يحتاج الى ترميم سريع ، حتى الحديقة تحولت الى يباس بعد أن إضطروا الى الإستغناء عن البستاني ، حاولت أليسون وأمها جهدهما ، لكنهما كانتا تخوضان معركة خاسرة مع المساحات الواسعة التي غزاها اليباس.
تنهدت أليسون بعمق ثم اخرجت مرآة صغيرة وتطلعت فيها الى عينيها ، يجب أن لا يرى احد آثار الدموع عندما تعود الى البيت ، حدّقت طويلا في المرآة فلم تر سوى عينين دامعتين ، ولكنّ الذين ينظرون اليها يجدون أكثر من ذلك ... يجدون الجمال الهادىء الذي ينير ملامحها بحيث يجعلها محط أنظار المجتمع الذي تتواجد فيه ، كانت شفتاها حمراوين ممتلئتين ،وعيناها برموش سوداء كثيفة.
وضعت المرآة في حقيبة يدها وتناولت مشطا صغيرا سرّحت به شعرها المجعّد من دون إنتظام ثم جالت في الغرفة لتتأكد من ان كل شيء على ما يرام.
زال الصداع الحاد عندما بدات اليسون سيرها نزولا نحو القرية ، كان عليها أن تعرج على مكتب البريد للحصول على بعض الأوراق الرسمية والطوابع لجسي التي تراسل العديد من القارب في مختلف انحاء العالم ، وقد شعرت أليسون بالإرتياح وهي تحيي اهل القرية على طول الطريق ، ما أعاد اليها بعض السعادة المفقودة.
يقع مكتب البريد الذي يشكّل أيضا مخزنا لبيع الخضار الطازجة والبضائع المختلفة ، في الطرف الاخر من القرية على الطريق المؤدي الى بيت اليسون ، وكانت قد إستدارت قليلا لتحيي السيد ماكينتر قرب مكتب البريد ، ولما إتجهت مجددا نحو المكتب وجدت نفسها وجها لوجه مع رجل خرج لتوه من الداخل ، للحظات ، شعرت أن توازنها قد إختل ، لكن يدين قويتين امسكتاها ....فنظرت الى صاحبهما فورا ، وما أن لمحت وجهه حتى علتها الدهشة فجذبت نفسها بعيدا عنه وكنها تهرب من أفعى سامة ، فالرجل الذي إصطدمت به والذي كان يرميها بنظرة غريبة ، لم يكن إلا نيال ماكبين ، نيال ماكبين الأسود نفسه ، وعندما تمالكت نفسها ، إبتعدت أليسون مسرعة ودخلت الى مكتب البريد المعتم وقلبها يخفق بشدة لكنها ظلت تشعر ان نظراته تلاحقها من خلال النافذة.
" عشرة مغلفات بريد جوي ، يا سيدة فنليسون".
يا لها من صدفة ، من بين كل أبناء ماكبين يعود الأصغر الى بيت أبيه ،وهو البن الذي تبغضه أكثر من الباقين.
حدّقت السيدة فنليسون بعينيها الحادتين في وجه أليسون وقالت:
" هذه المغلفات يا آنسة ماكاي ، هل رأيت من كان هنا قبل لحظات؟ إنه نيال ، إبن نيال فيرجوس ماكبين".
أجابت أليسون بهدوء:
" نعم لقد رايته".
عضّت السيدة فنليسون على نواجذها وهي تقول:
" كنت قد بدات انسى ، مضى وقت طويل على رحيل الشباب الى الخارج ، بحيث بدا وكأن النزاع قد إنتهى".
إبتلعت ضحكة خفيفة ثم تابعت تقول:
" والآن عاد كل شيء".
ردّت اليسون مبتسمة وهي تجاهد كي تبدو طبيعية :
" هذه هي الحياة، أعتقد أن النزاع صار من الماضي".
وبينما كانت اليسون تدفع ثمن المغلفات قالت السيدة فنليسون:
" لا شك في لك ، في كل حال يجب أن أذهب الآن لإرسال هذه البرقية ، اعتقد ان الريو في أميركا الجنوبية ، اليس كذلك؟".
" الريو ؟ نعم ، في البرازيل".
تناولت اليسون المغلفات وشكرت موظفة البريد وأسرعت هاربة ، في الخارج ، لم يكن هناك أثر لنيال ماكبين ، فتنفست الصعداء ، كان يكفي ان تراه حتى يسود يومها ، لكن أن تصطدم به ايضا ، فهذا امر لا يحتمل ، اسرعت نحو البيت محاولة أن تعيد الى ذاكرتها تفاصيل آخر مرة شاهدته فيها قبل تسع سنوات.
عادت الأحداث الى ذهنها بوضوح تام ، كانت في السادسة عشرة وأليك في الواحدة والعشرين ، وقد سمح لها أهلها يومها بحضور حفلة راقصة في نادي القرية شرط أن ترافق شقيقها في طريق العودة ، القاعة العامة كانت مكتظة في ذلك المساء الصيفي الدافىء ، والجميع يتمتعون بالموسيقى والرقصات المتنوعة ، وكم كان سرور اليسون كبيرا عندما إكتشفت أنها محبوبة من الجميع إذ لم تجلس الى طاولتها إلا لماما في حين أمضت الوقت كله في الرقص ،ومما زاد في سرورها رؤية نيال ماكبين في مطلع السهرة وهو منعزل قرب الباب وكأنه غير واثق من نفسه وسط هذا الجمع ، كان يرتدي بزة زرقاء مهلهلة فبدا غريبا بين كل هؤلاء الناس ، لاحظت أليسون أنه يراقبها ، لذلك قررت أن تؤكد له وللجميع بأنها تتمتّع بوقتها الى ابعد الحدود.
لعلّها تصرّفت بدافع أنثوي دفين لم تكن تفهم سره آنذاك ، ففي كل مرة كانت تمر أمام نيال كانت ترى عينيه مسمّرتين عليها ، وإمعانا في التشفي كانت تطلق ضحكاتها عاليا في القاعة وتزداد حماسا في الرقص وقد بات المكان بالنسبة لها قطعة من ارض الأحلام في ليلة لا تنسى.
وكما في قصة سندريللا ، كان لا بد لليل أن ينجلي ،وعندما قررت اليسون العودة الى البيت بحثت عن شقيقها لمرافقته ، لكنها لمتعثر عليه ، وظلت لفترة بإنتظار عودته ، كانت خلالها تلوم نفسها لأنها لم تنتبه لوجوده أكثر ، وبينما هي هكذا ، سمعت صوتا من خلفها:
" هل تريدين ان أوصلك الى البيت؟".
فإلتفتت لتجد شابا تعرفه من القرية المجاورة إسمه جوني جوردون .
" لا ، شكرا لك ".
بدأت تحس بالإنزعاج ، فالتمتع بالرقص في قاعة مزدحمة شيء والسير الى البيت في هذا الظلام مع شخص سمعته غير حميدة شيء آخر ، أضافت مخاطبة جوني:
" سألاقي أليك في منتصف الطريق".
ودون ادنى تفكير ، لوّحت له بيدها وسارت بإتجاه البيت وهي تتساءل : ( اين انت يا اليك؟".
ولما إبتعدت عن القاعة خفّفت أليسون من سيرها ، لم تكن خائفة من الظلام ، بل هي متمتعة بهذا المساء الصيفي ، كان عقلها مشغولا بترتيب بعض العبارات التي ستقولها لأخيها ساعة تراه عندما احست بوقع خطوات شخص خلفها ، فبدات تسرع في السير مجددا ، وصلت الى طريق منعزل يؤدي الى الحقول الملحقة ببيتها ، فدخلته مسرعة ، كسرت أحد أظافرها عندما قفزت فوق جدار ريفي صغير يقع على حدود أراضي البيت ، ومن ثم وجدت نفسها وسط أشجار الصنوبر التي راحت اغصانها تعلق في شعرها وثيابها ، ثم سمعت فجأة صوتا جعلها تتوقف وتستدير الى حيث بدا ان عراكا عنيفا يدور بين شخصين في ظلمة الليل ، وجاءتها اصوات لكمات وصرخات وصدى إرتطام جسد بالأرض ، ثم أنين ألم من أحد المتعاركين .. وأخيرا وقع خطوات شخص يهرب الى الطريق العام ، هل هذا اليك ؟ هل يعقل أن يكون شقيقها قد شاهد شخصا ما يلاحقها فتعارك معه ؟ كانت هذه الأسئلة تلح على ذهن أليسون وهي تنتظر في مكانها ، لكن أحدا لم يأت ، ولم تعد تسمع أية أصوات.
" أليك؟".
نادت أليسون أولا بصوت خافت ثم رفعت صوتها أكثر عندما لم تسمع أي جواب ، وبسرعة هرعت الى حيث سمعت المعركة ، لكها توقفت فجأة عندما لمحت عدوها اللدود نيال ماكبين بالقرب منجدول مائي في منطقة مكشوفة وهو يفرك قبضتيه ، وعلى الفور أنقضت عليه وقد تذكرت المعارك الدائمة بينه وبين اخيها.
صرخت في وجهه بغضب شديد:
" ماذا فعلت باخي؟".
إستدار نحوها بهدوء ،وتذكرت أليسون كيف انه بدا آنذاك مختلفا ، إذ لم يعد هو نفسه الشاب الخجول الذي ظهر في القاعة بل ظهر الآن قويا ناضجا وواثقا من نفسه ، نظر اليها مليا ، ولاحظت اليسون في عينيه نظرة شماتة وتشف وهو يقول:
" لم افعل شيئا لأخيك ، الذي هرب كالأرنب الآن هوجوني جوردون وقد كان يلاحقك طوال الطريق".
" لا أصدق كلامك هذا".
لكنها لاحظت قطرات من الدم على ذقنه نازفة من جرح في شفته السفلى.
ردّ وهو يمسح الدم بمنديله :
" هل تعتقدين أنني أهتم بما إذ كنت تصدقين ام لا ؟".
" ماذا تقصد بكلامك هذا؟".
أجابها بجفاء:
" لقد أصبحت في السادسة عشرة ، وعليك أن تعرفي معنى الكلام".
حبست أليسون أنفاسها بغضب وقالت:
"كيف تجرؤ على هذا الكلام ، لو أن أليك هنا لجعلك......".
ردّ بضحكة ساخرة:
" لكنه ليس هنا ، هل تعتقدين انني أخاف منه ؟ كان عليك ن تري ماذا فعلت بجوني قبل قليل".
تظاهرت أليسون بالهدوء وقالت:
" هذا كل ما تفكر فيه ، القتال فقط ، فأنت تفتعل المعارك دائما ".
" هذا غير صحيح ، ليس دائما".
إقترب نيال من أليسون وحاول ملامسة وجهها ، لكنها إنتفضت ولطمته على يده الممدودة وهي تقول:
" إياك ان تلمسني ، إياك ان تحاول ابدا".
رد بسخرية دون أن يبدي أية علامة تاثر :
" إنك لا تمانعين في أن يلمسك الآخرون خلال الرقص ، والحقيقة أنني اعتقد انك كنت تتمتعين بذلك".
وفجأة إنقض عليها ، فاخذها على حين غرّة بين ذراعيه ... ودون أن تدري وجدت نفسها في عناق طويل معه ، ولما أطلق سراحها ، ظلت مصدومة للحظات قبل أن تستعيد وعيها وتوجه لطمة شديدة الى وجهه ، ولم تستطع أن تهرب ، إذ ان ذراعيه إمتدتا وأوقفتاها في مكانها ، إتسعت حدقتاها خوفا لما تعرفه عنه من طباع متوحشة ، لكنه أطلق ضحكة مجلجلة وكأنه يقرأ أفكارها وقال:
" أنت آمنة معي ، فأنا لا أضرب الفتيات ، لكنني ايضا لا أحب ان أضرب منهن".
" دعني أذهب".
ثم تذكرت فجأة شيئا آخر فأضافت قائلة :
" وأنت أيضا كنت تلاحقني".
وكأنها تذكرت ما يمكن أن تجره هذه العبارة ، فأخذت تحرك ذراعيها بشدة محاولة التملص من قبضته.
أطلق ذراعيها بقسوة وقال :
" صحيح ، لكني كنت أقصد هذه الناحية اساسا ، فقد كنت أرغب في إصطياد بعض سمك الترويت قبل الذهاب الى البيت وهكذا".
منتديات ليلاس
ونقل نظره بين الجدول المائي وبين وجه أليسون وكأنه يتحداها ، لم تستطع ان تواجه نظراته ، لذلك حوّلت وجهها الى ناحية أخرى ، هذه هي المرة الأولى التي يتواجهان فيها ، فالنزاع العائلي كان يقف حاجزا بينهما ، إنها تكرهه لأنه من العائلة المعادية ، وتكرهه لأنه اسدى اليها معروفا ، وتكرهه لأنه عانقها بالقوة ، هذا هو عناقها الأول ، لم تكن تتصوره على هذا الشكل وليس مع عدوها العائلي.
قالت بعد تردد محاولة ان تبدو حازمة وجادة:
"لكن إصطيادك السمك يعتبر إعتداء على أملاك الغير.
جلجلت ضحكة نيال وهو يقول:
" أملاك الغير ؟ حسنا يا آنسة ماكاي ، لن تكون هذه هي المرة الأولى التي أعتدي فيها على أملاك الغير ولن تكون الأخيرة ايضا".
حلّت الدهشة محل الخوف في نفس اليسون التي أدركت أنه لن يؤذيها ، قالت له بإستغراب:
" ماذا تعني بذلك؟".
ردّد جملتها:
" ماذا تعني بذلك ؟ هل انت صماء ؟ لقد قصدت هذه الناحية مئات المرات ، وكذلك أخوتي ، وتاكدي أن البستاني وأليك وكلابكم لم يعرفوا ابدا".
قالت :
" أنا سأخبرهم وسنطالب بإعتقالك".
"آه لقد جعلتني ارتجف من الخوف جربي ذلك ، وسوف تتحولين الى اضحوكة القرية فاين الدليل؟".
" ساخبرهم بما أخبرتني به".
هز راسه بتهكم:
" هل ستفعلين بعد اليوم، وتتركينهم يسألونني كيف حصلت على هذا الجرح ؟ ماذا تريديني ان اخبرهم ؟ هل أخبرهم أنك تعركت معي ؟ ام أخبرهم الحقيقة؟".
إتسعت البسمة على شفتيه في حين ضمّت أليسون قبضتها وهي تشعر بالحقد أكثر فاكثر ، يا له من وقح ، إنه يملك جوابا لكل شيء ، وهي تضيّع وقتها في الحديث معه ، رفعت رأسها ووقفت في وجه بصلابة وعناد:
" هيا خذ أسماكك وإرحل ، لا بد انك بحاجة الى مكافأة على إنقاذك لي ، سمك الترويت هو المكافأة".
أدركت أليسون أن كلامها صدمه ، وجاءت كلماته لتؤكد ذلك :
" من المؤسف ان احدا لم يستطع أن ينزلك من عليائك أيتها المتمردة".
اجابته وهي تستدير مواصلة السير:
" من أنت ؟ إنك تضحكني فعلا".
" ربما استطيع ذلك في يوم من الأيام".
ركضت أليسون بإتجاه البيت ، ولم تخبر أحدا بما حدث حتى ولا أليك الذي كان يوصل إحدى الفتيات الى بيتها ، ولذلك لم يقل لأبويه أنه لم يوصل اخته الى المنزل.
عبرت أليسون الان الجدول المائي ، وقد ملأت الذكريات القديمة رأسها ، لا شك أن نيال قال الكلمات القاسية الأخيرة دون أن يعنيها ن إذ أنه بعد ايام من حادثة الجدول غادر البيت ولم تعد تراه ابدا.
كان الفرق واضحا جدا بين الشاب المشاكس الذي شاهدته لآخر مرة عند الجدول وبين الرجل الذي أصطدمت به بعد ظهر هذا اليوم ، فقد تغيّر تماما ، كتفاه أصبحتا أعرض وبنيته أكثر قوة ، فالشاب ذو الطباع الحادة اصبح رجلا ناضجا ، ووجهه الساخر بات يحمل ملامح السنوات وتجارب الأيام.
واصلت اليسون سيرها نحو البيت ، وهي تدرك ان جسي ستهتم كثيرا عندما تخبرها عن هوية الرجل الذي إلتقته اليوم ، بعكس أمها التي كانت تضيق ذرعا بإصرار اليك على مقاتلة نيال ولا تفهم لماذا يستمر النزاع في التأثير على حياة العائلتين بعد هذا الزمن الطويل.
لكن عندما دخلت أليسون البيت ، طارت من ذهنها كل أحداث اليوم بمجرد رؤية التعبير الذي حمله وجه أمها ، التي أسرعت تستقبلها فور سماعها صوت فتح الباب ، كان في الجو نوع من القلق ، لذلك سالت أليسون على الفور:
" أمي ماذا في الأمر؟"
" أنهيت لتوي إتصالا مع جون ستيوارت الراغب في شراء البيت وقد ابلغني أنه آت لزيارتنا غدا".
خفق قلب اليسون بشدة لدى سماعها النبأ ، ونظرت الى أمها بأسى واضح ، كان هناك شيء آخر في نفس أمها ، قالت لها:
" حسنا فليأت".
" شيء آخر يا اليسون".
" نعم".
" آه.... لا شيء".
لكن يد الأم التي إرتفعت الى خدها عكست طبيعة الإضطراب الذي تعانيه هذه السيدة.
" امي ، ماذا في الأمر ؟ هل اعدت التفكير بقرارك؟".
" لا، لا...... انني .... انني لست على ما يرام".
ركضت الأم بإتجاه غرفتها وكأن احدا يطاردها ، وقفت أليسون ترقب المنظر وقد احست بان أمها مصابة بإضطراب في الأعصاب ، لكنها لم تستطع أن تحدد سبب ذلك.
إستيقظت أليسون صباح اليوم التالي وقلبها مثقل بالهموم والأحزان ، وطوال الوقت كانت تحس كمحكوم بالإعدام ينتظر لحظة تنفيذ الحكم ، لم تستطع ان تنام جيدا أمس وقد إنعكس القلق دوائر سوداء وحمراء حول عينيها.
الرجل الراغب بشراء البيت سيأتي الساعة العاشرة ، عند الساعة التاسعة والنصف إكتفت أليسون بإحتساء فنجان من القهوة لأن نفسها كانت رافضة للأكل ، وسرعان ما وجدت نفسها عاجزة عن الإنتظار ولذلك قررت الذهاب هي والكلب في نزهة قصيرة.
طفرت الدموع من عيني أليسون عندما توقفت في الحديقة لتتامل البيت الضخم الذي يحمل كل الذكريات ، لقد ولد ابوها واجدادها هنا ، وكذلك هي وأليك ، ولم تكن لتحتمل فكرة أنتقال البيت الى اناس غرباء ، لكن المطلوب معجزة للإبقاء عليه.
سارت اليسون ببطء مع الكلب وسط الأشجار والأعشاب البرية دون إتجاه محدد ، ولعل ذكريات الأمس قادت خطاها فوجدت نفسها تقصد الجدول المائي ، عبرت الكثير من الأشجار الكثيفة المتشابكة قبل أن تصل الى الجدول حيث وقعت تلك الأحداث المؤلمة قبل تسع سنوات ، وما أن أطلت على المكان حتى شهقت بصوت خافت عندما رات شخصا يقف عند طرف الجدول ، ألتفت الرجل نحوها ، لم يكن شبحا مرعبا بل هو رجل من لحم ودم وأكثر نضجا من المرة السابقة التي راته فيها في المكان نفسه، المكان نفسه والشخص نفسه.... لكن بعد تسع سنوات ، هناك وقف نيال ماكبين يراقبها ، وكأنه كان ينتظر مجيئها الى الجدول!
|