المنتدى :
سلاسل روايات مصرية للجيب
رواية في ممر الفئران لـ أحمد خالد توفيق
هذه الرواية هي معالجة أنضج وبشكل مختلف لأسطورة أرض الظلام من سلسلة ما وراء الطبيعة، وبدون رفعت إسماعيل وسالم وسلمى.. لم أقرأ أرض الظلام إلى الآن، ولو قرأتها أعتقد أني كنت سأحب هذه الرواية أيضًا.. أما عن كون الرواية مكررة أو أن أفكارها خليط من روايات أخرى، فلا بأس إطلاقًا، فمن صاحب فكرة أن الكاتب يجب أن يأتي بفكرة مبتكرة لكي تكون الرواية جيدة؟! بل تقاس جودة الرواية بمعالجتها.
استخدام الكاتب أكثر من أسلوب سرد أضاف للرواية بشكل كبير، في أغلب الوقت يكون سارد موضوعي أو خارجي، وحينًا تجده سارد داخلي، ونادرًا ما يكون الراوي القريب، مع استخدامه لأساليب مبتكرة.. قدرة عظيمة على التنوع بين أساليب السرد دون تشتيت القارئ، ولهذا التنوع فائدة كبيرة في الرواية.
أسلوب الكاتب سلس، لا تكلف فيه ولا ركاكة، وهي عادة العراب بخلاف روايته السنجة.
الرواية تعبر عن واقعنا الذي نعيشه، فمجتمعنا غارق في الظلام، ملتحم بالجهل والفقر والتخلف، فكر فقط أن تختلف معهم في أي شيء، ستجدهم يسبونك ويكيلون لك اللعنات ويتهمونك بالكفر والهرطقة والشذوذ والعمالة.. الخطأ يقع بشكل أكبر على المغيبين اللذين استسلموا لكل هذه الآفات، بل أصبحوا يدافعون عنها.. ذكرتني الأحداث بشكل كبير بنظرية الكهف عند أفلاطون.
" الثورات لا تقوم ضد الطغاة، بل تقوم ضد البلهاء أولًا. عندما يصير ثلاثة أرباع الشعب ضدك، وقد آمنوا بأن الطغيان أمر إلهي، وأنهم أسعد حالًا تحت سلطة أبوية غاشمة.. عندها يصيرون متأهبين لرجمك. "
تبدأ الرواية بمقدمة عن كيفية دخول الشرقاوي إلى أرض الظلام، حيث نام وفي الصباح أعلنوا أنه دخل في غيبوبة لا تفسير لها، ثم نعرف سرًا لا بأس به بأنه ارتحل لبعد آخر، وهو بعد نعرفه ونعيش فيه. ثم يعود الكاتب بالزمن إلى ذكريات النور، ما قبل حلول الظلام، حيث رامي الطالب الجامعي، وعلياء وعزة أختيه، وفاتن الفتاة التي سيحبها، ود.مصطفى: دكتوره في الجامعة.. في أحد الأيام سيعلنون عن هبوط نيزك سيدمر كوكب الأرض، وستكون نهاية البشر كما حدث الأمر مع الديناصورات قبل ملايين السنين:
"هذا نيزك غريب الأطوار.. لا نعرف من أين جاء ولا لماذا قرر أن يدمر عالمنا، لكن النتيجة الحتمية هي أنه سيصدم كوكبنا.. لتكونن هذه نهاية الحضارة كما نعرفها."
وعندها تزوج فاتن ورامي بيسر، وما كان هذا ليحدث لولا نهاية العالم، واستعد الجميع للنهاية، البعض اعتكف للعبادة، والبعض تمادى في العربدة، والبعض انتحر.. لكن عند هبوط النيزك لم يدمر الكوكب كما توقعوا، لكنه خلف وراءه سحب سوداء أدت إلى عدم شروق الشمس، وعندها هلل الناس وفرحوا لكونهم أحياء، وأصبح اعتماد الناس في المستقبل على ضوء الكشافات والشموع، لكن بعد عشرين عامًا أطبق الظلام، وأصبح من يستخدم أي وسيلة للإضاءة كافر وزنديق، ويعدم ويعاقب بأبشع أنواع العقاب إلى الموت بتهمة تدنيس الظلام، وكانت هذه أوامر القومندان، وهو الذي وجدوه في يوم من الأيام يصدر قوانينه، وأنه الحاكم لهذا العالم لأنه كما قال بأنه يعيش في أعلى قمم العالم في الضوء. ومن بعدها انتشر رجال الشرطة في وسط الناس وعلى رأسهم جهاز رؤية ليلة، ومن يجرؤ على كسر القوانين يعدم. وأصبح هناك جيل لم يعرف معنى النور، ينظرون لكلام الجيل القديم عن النور كأنه خرافة من خرافات الكبار.
في أول مائة صفحة كان السرد بأسلوب القطع مابين ذكريات النور حيث رامي، وبين الشرقاوي الذي استيقظ ليجد نفسه في ظلام دامس، في عالم بلا سيارات وبلا ضوء، ينادي أصحاب الأماكن بأسمائها ليعلم الناس مكانهم، وجد نفسه في ممر الفئران.
الشرقاوي هو النبوءة التي انتظروها طويلًا.. رجل أربعيني قادم من الظلام، لكنه قبلها جاء من لا مكان.. إنه المنقذ.
يحاول أن يفهم أين هو لكنه لا يعرف، يظن أنه مصاب بالعمى لكنه يكتشف أن الكل هكذا، وأنه ليس أعمى.. وفي أحد الأيام يجد قداحته وهو يعبث في جيوبه، فأخرجها وأضاءها ليتبين ملامح الناس المندهشة من حوله، وعندما ساد الظلام من جديد سمع من يصرخ: !متمرد! كافر! زنديق! مجدف! هرطيق! لقد لوث الظلام .. ويهرب منهم بصعوبة ليعرف بعدها أن سيارات الشرطة تطارده، ويساعده أحد المارة على تغيير ملابسه بملابس لها رائحة نتنة كي لا تجده الكلاب.
وفي ظل تخبطه في هذا العالم، وفي أحد الأيام يجرب أن يشعل قداحته مرة أخرى عندما ظن ألّا أحد يراه، لكنه بعد أن أشعلها رأى شخص يتابعه وعلى رأسه جهاز رؤيا ليلية، شخص يدعى رامي.
وعند هذه النقطة بعد الصفحة مائة تتضح ملامح الرواية، وبعدها تستطيع الربط بين الكثير من الأحداث المبهمة الأولى.. ليتلاقى رامي والشرقاوي ويأخذه رامي لمقر النورانيين: وهي جماعة ثائرة على النظام.. يدخل وسطهم ويندمج معهم، يرون فيه المختار والمنقذ الذي يتحدثون عنه.
وتتوالى أحداث الرواية بعدها، ثم يخططون للصعود مع الرحلات التي تأخذهم للخدمة في قصر القومندان لكي يحدثوا أي ضرر، وهناك يتقابلوا مع جماعات أخرى من النورانيين اللذين خططوا لتدمير هذا المكان.. ثم تأتي النهاية المربكة السوداوية إلى أقصى حد.
ما ذكرته الآن هو ما وقع قبل الصفحة المائة، لم أخض فيما بعد هذا إلا قليلًا جدًا، ولم أرد أن أخوض في النهاية.
في الصفحات ما بين مائتين إلى ستين ومائتين أصبح هناك بعض البطء والمط في الأحداث لكنها لم تحدث خللًا كبيرًا.
الشخصيات تم بناءها بشكل جيد، ومن الجيد أن الشخصيات الثانوية لم تكن كثيرة.
شخصية الشرقاوي تم بناءها بعبقرية، ونهايتها ممتازة.
أما عن القومندان فهو من الشخصيات الغير موجودة لكنها مؤثرة في أحداث الرواية، هو مثل الأخ الأكبر في رائعة أورويل، الحاكم التي اخترعه العلماء والمترفين لكي يستطيعوا أن يسيطروا به على الناس في أرض الظلام.
ومن الشخصيات جماعة المنورين في جميع أنحاء العالم، ومنهم ماهر ونجوان أصدقاء رامي والشرقاوي، ومنهم باولا وفيتوريو وهما من نفس الجماعة في أوروبا.. شخصيات لم يكن لها دور كبير لكن وجودها مؤثر.
من قال أن هذه الرواية شبيهة بيوتوبيا؟ فالحقيقة أنها لا تتشابه معها إلا في كونهما ينتميان إلى أدب المدينة الفاسدة (ديستوبيا)، فهذه الرواية أكثر نضجًا، وأوسع موضوعًا، وأكثر سوداوية، فما فعله معنا الكاتب فيما قبل النهاية لم يكن سوى بصقة أمل، ليجعل النهاية أكثر سوداوية بمراحل، فالنهاية مفجعة ومربكة، لكنها رائعة؛ لأنها الأنسب لهذا النوع من الأدب.
كانت تراودني بعض أبيات الشاعر أمل دنقل وأنا أقرأ الرواية:
آه .. ما أقسى الجدار
عندما ينهض في وجه الشروق
ربما ننفق كل العمر .. كي ننقب ثغره
! ليمر النور للأجيال .. مره
ربما لو لم يكن هذا الجدار ..
!! ما عرفنا قيمة الضوء الطليق
هذه النهاية السوداوية وقعت في بُعد آخر، فربما في بُعدنا ينجلي زمن الجهل والفقر والتخلف والاستبداد، ربما ينجلي زمن الظلام، ربما يرى جيلنا النور مرة، ربما.
يمكنك قراءة الرواية من هنا : تحميل رواية في ممر الفئران لـ أحمد خالد توفيق
|