كاتب الموضوع :
MOHAMMAD ALI ALKAYED
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: رواية ياسين / بقلمي
الفصل الثاني (( البحث عن وظيفة ))
في صبيحة اليوم التالي إنطلق ياسين مع والده إلى مركز المدينة المجاورة لقريتهم ، ولقد كان التنقل من القرية وإليها في غاية الصعوبة ، حيث بدأوا بالإنتظار في شارع القرية الرئيسي لحين مرور أي وسيلة تقلهم ، حتى مرت شاحنة زراعية أشاروا لسائقها فتوقف وحملهم معه ، ثم أوصلهم إلى الطريق الخارجي للقرية حيث نزلوا هناك وشكروا السائق على ايصالهم ، ثم عاد الإنتظار ثانيةً حتى مرّت بهم حافلة ركبوا فيها إلى مركز المدينة المجاورة.
كانت المسافة تقارب الساعة من الزمن وصلوا بعدها وإستقلوا سيارة أجرة إلى مركز التوظيف ، وما إن وصلوا حتى كانت الصدمة لياسين من الإزدحام الشديد على المركز ، لدرجة أنه أحس باليأس الشديد من فرصة إيجاد وظيفة تناسبه ، إذ كيف يُعيّن في وظيفة وهنا كل هذا العدد من الشباب الباحث عن عمل ، لكنه برغم ذلك وبإلحاح والده وقف في الطابور بإنتظار دوره لتقديم أوراقه.
مرّ الوقت بطيئاً تخلله مشاحنات بين وقت وآخر ، وصياحٌ هنا وجدالٌ هناك حتى أحس ياسين بنفسه يختنق فهو لم يعتد على مثل هذا الوضع في أوروبا حيث كان يعيش ، وبينما هو ينتظر كان هناك على مقربةٍ منه كلب صغير يبدو عليه الضعف والجوع والعطش ، يحاول أن يلعق بعض الماء الموجود بإحدى الحفر الصغيرة ، نظر إليه ياسين بشفقة وتمنى لو ينهي أمور أوراق التعيين ليحاول مساعدة هذا الكلب الصغير بالغذاء والماء ، ويبدو أن أحدهم كان يشارك ياسين في تفكيره فقد أقبل شاب وسيم مبتسماً إلى حيث الكلب وأفرغ أمامه علبة من اللحم بدأ الكلب إلتهامها بشراهة كبيرة جعلت من حوله يضحكون ، لكن ضحكتهم لم تدم طويلاً حيث إنقض كلبٌ شرسٌ يحاول أخذ اللحم من الكلب الصغير الذي لا حول ولا قوة له أمام هذا الكلب المتوحش ، ومرة أخرى وجد ياسين نفسه يتمنى أن يبتعد الكلب الكبير ويترك طعام الصغير دون أذيته ، وكان على وشك أن يصرخ فيه طالباً منه الإبتعاد لولا أنه تدارك نفسه في أخر لحظه ، وعاوده نفس التساؤل كيف تراودني فكرة إعطاء الأوامر للحيوانات ولم يخفي ياسين أمنيته لو إستطاع تحقيق ذلك.
لم يغب الموضوع عن ياسين طيلة إنتظار دوره ، وأخذت الأفكار تعصف في ذهنه وتذكر فجأة أستاذه الألماني الكبير ونظريته عن إمكانية التحكم بسلوك وتصرفات الكائنات الحية من خلال نظام كيميائي تكنولوجي موحد ، وبدأ ياسين يسرح في تلك النظرية التي وصلت إلى مرحلة التجربة الفعلية لولا موت معلمه الالماني ، ولم يقطع حبل أفكار ياسين سوى صوت الموظف يطلب منه الاوراق ، ويعطيه إستمارة التوظيف طالباً منه تعبئتها وتسليمها إلى الشباك المجاور.
أنهى ياسين تعبئة الإستمارة وسلمها للموظف الذي طلب منه إنتظار الرد على طلبه خلال أسابيع ، عاد بعدها ياسين إلى الخارج حيث كان والده بإنتظاره وذهبوا معاً إلى سوق المدينة لشراء بعض إحتياجات المنزل ، ركبوا بعدها إلى موقف الحافلات وإستقلوا الحافلة التي تمر بالطريق القريب من القرية وعادوا إلى قريتهم بعد يوم طويل شاق ، وفي طريق العودة عادت الأفكار المجنونة تراود ياسين مرة أخرى ، الفأر ومخزن الغذاء ، الكلب الصغير والكبير ، أستاذه الألماني ونظريته اللاواقعية ، وهل من الممكن التحكم بسلوك وتصرفات الكائنات الحية..؟؟؟؟
بعد أن وصلوا إلى المنزل وتناولوا طعام الغداء ، ذهب ياسين ليستريح في غرفته ، لكن هيهات أن تأتي الراحة وتلك الأفكار أخذت تعصف في رأسه كأنها زوبعة مجنونة ، جعلته يقف منتصباً كأنه جندي في تفتيش ثم أخرج حقيبة كتبه وأوراقه وأخذ يبحث فيها عن ملف البحث الذي قام به إستاذه القديم ، وأخذ يعيد قراءته من جديد ، ويفكر في كل جملةٍ كتبها معلمه ، أخذ يقرأ ويقرأ حتى أنه لم يلحظ دخول والدته الى حجرته إلا عندما سمعها تناديه ياسين ، ياسين ما بالك يا بني ؟ اعتدل في جلسته وتبسم في وجه والدته الريفية البسيطة ويقول في نفسه كيف يا ترى من الممكن أن أشرح لوالدتي فيما أفكر ؟ ثم دعاها للجلوس وقال لها يا أمي هل الأغنام في حظيرة المنزل والأرانب والدجاج تتصرف كما ينبغي ؟؟!! نظرت إليه والدته بدهشة وقالت لم أفهم ما تقول يا بني ، ماذا تعني بتتصرف كما ينبغي ؟؟ إنها حيوانات يا ياسين ماذا تريد منها أن تتصرف ؟؟ أحس ياسين أن كلامه غير مناسب وأن والدته ببساطتها الريفية لن تقهم ما يريد فقال لها لا شيء يا أمي فقط أريد أن أطمئن على الحيوانات في منزلنا ، فردت الأم إطمئن يا بني كل شيء على ما يرام ، إذا كنت لا تريد النوم تعال واشرب معنا الشاي أمام البيت ، فأومأ رأسه بالإجابه وخرجت والدته وتركته في حيرة كبيرة اغلق معها ما كان يقرأ وتبع والدته إلى الخارج.
الفصل الثالث (( في العاصمة ))
جلس ياسين يشرب الشاي مع والديه أمام المنزل وعيونه ترقب كل حيوان هنا وهناك ، وعقله يفكر هل من الممكن التحكم بسلوك هذه الحيوانات ؟؟ هل من الممكن جعلها تتصرف كما يريد صاحبها ؟؟ وإن كان هذا ممكناً فما هي الطريقة ؟؟ هل نظرية معلمه الألماني يمكن تطبيقها ؟؟ وهل من الممكن الحصول على ما يلزم لإجراء التجارب هنا ؟؟ كل هذه التساؤلات أرهقت ياسين وجعلته خارج العالم من حوله ، حتى أن والديه بدأوا يلاحظونه سارحاً بإستمرار ، قليل الكلام ، دائم العزلة والتفكير ، وكلما حاولوا سؤاله عن ذلك لم يعرف ياسين كيف يشرح لهم ما يفكر به.
مرت الأيام تلو الأيام وبدأ الملل يتغلغل إلى نفس ياسين وبدأت فكرة العودة إلى أوروبا تراوده كثيراً ، حتى جاء اليوم الذي تبدل فيه الحال ، حين جاء أحمد ابن صاحب الدكان إلى منزلهم يلهث ويصرخ من خلف البوابة بأن هناك هاتف لياسين ، تبعه ياسين على عجل إلى دكان أبيه حيث الهاتف الوحيد في القرية ، وجاء الصوت من الطرف الآخر أنت ياسين كامل ياسين ؟؟ نعم انا ، يجب أن تراجع مركز الأبحاث الزراعية في العاصمة لإكمال إجراءات التعيين.
هنا أحس ياسين بنافذة في الأفق فُتحت أمامه ، وشعر بالحيوية تدب في جسده ، وبدأ النشاط يتدفق إلى عقله بعد كل هذا الملل من الروتين اليومي القاتل الذي كان يعيشه خلال الأيام الماضية ، عاد مسرعاً إلى المنزل ليزف هذا الخبر العظيم إلى والديه ، وكم كانت فرحتهم بهذا الخبر فقد كانوا يشعرون بأن ياسين قد ملَّ في الفترة الماضية ، وكانوا يخشون من عودته إلى بلاد الغربة ، لكنه الآن سيبقى في وطنه وبين أهله ، صحيح أنه سيذهب إلى العاصمة لكنه قريب منهم مقارنة بأوروبا البعيدة ، فهنا يستطيعون زيارته بين فترة وأخرى ، وهو كذلك يستطيع زيارة القرية أثناء الإجازات.
في المساء بدأت الوالدة بتجهيز حقيبة ياسين ، ووضعت فيها كل ما يلزمه ، فيما ياسين جمع كتبه وملفاته وأبحاثه في حقيبة أخرى ، وجلس مع العائلة يودعهم ويطلب من والديه الدعاء له بالتوفيق في عمله الجديد ، فإنهالت دعوات الوالدين الصادقة من القلب بأن يوفقه الله ويسدد على طريق الخير خطاه ويحفظه من كل شر ، ثم أخذه والده وخرجا إلى فناء المنزل فمسكه والده من كتفيه وقال له يا ولدي أوصيك بالأخلاق يا ياسين ، وليكن ضميرك هو الحكم في كل أمر ، وإتقي الله في عباده وكن مخلصاً في عملك ، صادقاً مع الله ومع نفسك ومع الناس ، ولا تبع مبادئك بكنوز الدنيا يا ولدي ، وإحتضنه بشده وياسين يطمئن والده بأنه سيكون كما عهده دائما ، ولده الذي يعرفه جيداً.
إستيقظ ياسين على صياح الديك عند الفجر ، فقام من سريره واغتسل ثم صلى الفجر وارتدى ملابسه وجلس مع والديه يتناول طعام الإفطار ، وما هي إلا دقائق حتى سمعوا صوت الشاحنه الزراعية التي إتفقوا مع سائقها بالأمس لنقل ياسين إلى الطريق العام ، حمل ياسين الحقائب إلى صندوق الشاحنه وركب بجانب السائق وأشار إلى والديه مودعاً وإنطلقت الشاحنه مع بزوغ أشعة الشمس تنقل ياسين بحقائبه وأحلامه وأفكاره إلى العاصمة حيث عمله الجديد.
وصلت الشاحنة إلى الطريق العام حيث نزل ياسين ينتظر الحافلة التي ستقله إلى مركز المدينة المجاورة ليركب من هناك حافلة العاصمة ، وقد كان حظه جيداً هذه المرة فلم ينتظر طويلاً حين رأى الحافلة تقف أمامه فصعد إليها وإنطلقت بركابها إلى المدينة المجاورة ، حيث نزل في الموقف العام وسأل أحد الباعة عن حافلة العاصمة فأرشده إلى مكانها ، وضع حقائبه في الصندوق أسفل الحافلة وجلس في كرسيه ينتظر انطلاقها.
انطلقت الحافلة بعد أن إمتلأت بالركاب ، وأخذت تشق طريقها إلى العاصمة التي تبعد ما يقارب ست ساعات عن المدينة ، كانت الطريق طويلةٌ وبدأ الركاب بالنوم فيما ياسين أخذ يفكر بما هو مقبل عليه ، كيف يا ترى سيكون عمله الجديد ، وهل سيلبي طموحه وأحلامه ، ومرة اخرى عادت تجربة معلمه القديم إلى صميم أفكاره ، يا لهذه الأفكار اللعينة التي لا تفارقني ، سوف تصيبني بالجنون يوماً ما.
مرت الساعة تلو الساعة حتى بدأت تظهر معالم العاصمة من بعيد بمبانيها الحديثة وأبراجها الشاهقة ، وبدأ الإزدحام المروري يشتد أكثر وأكثر حتى وصلت الحافلة إلى الموقف العام في وسط العاصمة ، نزل ياسين وحمل حقائبه باحثاً عن سيارة أجرة تقله إلى مركز الأبحاث الزراعية ، الذي لم يكن بعيداً عن موقف الحافلات ، فما هي إلا عشرين دقيقة إلا وكان أمام مبنى المركز ، فدخل الى الإستعلامات الذين أرسلوه إلى قسم التوظيف ، وهناك قابل المهندس نبيل رئيس القسم الذي رحّب به
وأخبره بأنه تم تعيينه في قسم مكافحة الآفات الزراعية ، وطلب منه الذهاب اليوم الى سكن الموظفين والالتحاق بعمله إعتباراً من صباح الغد ، وطلب من أحد العمال مرافقة ياسين إلى السكن وإيصاله إلى الغرفة رقم 111 الذي سيشغلها برفقة زميله المهندس ياسر الذي سيقابلهم هناك ، فشكره ياسين ومضى برفقة العامل إلى سكنه الجديد.
كان بناء السكن نظيفاً مرتباً يتكون من طابقين بمساحة طولية كبيرة ، وكانت غرفة ياسين في الطابق العلوي ، دق العامل باب الغرفة 111 ففتح الباب شاب أسمر البشرة طويل القامه تعلو شفتيه إبتسامة أدخلت الإرتياح إلى نفس ياسين ، وسلم عليهم ودعاهم للدخول معرفاً بنفسه المهندس ياسر قاسم عضو قسم مكافحة الآفات الزراعية ، فقام ياسين بالمثل وعرّف بنفسه كزميل جديد له في القسم ، ثم ساعده المهندس ياسر بترتيب محتويات الحقائب في خزانة الملابس وأطلعه على محتويات الغرفة التي كانت تتكون من سريرين وخزانتين ومكتبين وكنبه أمامها شاشة تلفاز وعلى أحد الرفوف كان هناك جهاز راديو وبعض التحف الصغيرة ، بالإضافة إلى الحمام في طرف الغرفة ، ثم إستأذن المهندس ياسر من ياسين للذهاب لإكمال عمله وطلب منه أن يرتاح من عناء السفر.
إغتسل ياسين ثم إستلقى على سريره ووجد نفسه يشعر بالنعاس والإرهاق ، وما هي إلا فترة وجيزة حتى داهمه النوم ولم يستيقظ إلا على حركة قريبة منه وعندما فتح عينيه وجد ياسر بإبتسامته الجميله يدعوه للاستيقاظ وتناول الشاي ، وكانت الساعة المعلقة على الحائط تشير إلى السادسة والنصف مساءً ، جلس زملاء العمل يشربون الشاي وبدأ ياسر يوضح لياسين طبيعة عمل قسم مكافحة الآفات الزراعية ، وكيف يدرسون النباتات والامراض التي تتعرض لها والأبحاث التي يقومون بها في المختبر لإيجاد العلاج المناسب لأي آفة زراعية جديدة ، وما إن سمع ياسين كلمة مختبر وأبحاث إلا وتذكر فوراً أستاذه الألماني وتلك النظرية التي لا تفارقه ، هل يا ترى أستطيع إجراء التجربة في عملي الجديد..؟؟ مرّت السهرةُ لطيفه أحس معها ياسين بالود من المهندس ياسر وشعر بأنه سيكون صديقه المقرب في الأيام القادمه ، ثم خلدوا إلى النوم في إنتظار أول أيام العمل الجديد.
الفصل الرابع (( المختبر ))
استيقظ ياسين وزميله في السادسة تماما على جرس المنبه ، فإغتسلوا وإرتدوا ملابسهم وتناولوا إفطاراً خفيفاً خرجوا بعده إلى العمل ، حيث نزلوا من سكن الموظفين وتوجهوا إلى ساحة النقل لتنقلهم حافلة صغيرة إلى قسم الآفات الزراعية ، والذي يقع في أقصى الطرف الجنوبي لمركز الأبحاث ، وعندما وصلوا هناك كان على بوابة المبنى رجل قصير يرتدي نظارات سميكة ومريولاً طبياً ، وما إن شاهده المهندس ياسر حتى مال برأسه على ياسين يهمس له بأن يتهيأ لمحاضرة قوية ، لم يفهم ياسين ماذا يقصد ياسر إلا عندما إقترب من الرجل القصير وحيّاه ، وبدلاً من رد التحية إنهال عليهما بمحاضرة عن الإنضباط والإلتزام ، أنتم متأخرون ثلاث دقائق عن موعد الدوام الرسمي ، لماذا لا تلبسون الملابس الطبية والقفازات ، أين حقائبكم والكراسات والأقلام ، هذا إستهتار وتهاون ، إتبعوني إلى الداخل ، تبعه الإثنان وهول المفاجأة لا زالت اثارها على وجه ياسين ، فيما ياسر يبتسم ويقول له لم تشاهد شيئاً بعد..!!
دخل الرجل القصير إلى أول مكتب في المبنى ، وجلس خلف الطاولة ونزع نظارته السميكة وشبك أصابعه معاً وقال إجلسوا ، أعرفك بنفسي أيها الموظف الجديد الغير ملتزم ولا منضبط ، أنا الدكتور حازم ، رئيس قسم مكافحة الآفات الزراعية وقد أفنيت عمري وشبابي في إنقاذ النباتات والأشجار من الأمراض ، لقد عشت بين المزروعات أعتني بها كأنها أولادي ، ونمت بين المحاليل والعقاقير لأكتشف دواءً لهذا المرض وعلاجاً لذلك الداء ، لم أتأخر يوماً دقيقة واحدة عن عملي كما تفعلون أنتم أيها الجيل المستهتر .... وهنا لم يستحمل ياسين كل ذلك فقاطعه قائلاً يا حضرة الدكتور إنني في أول يوم ولم أتأخر سوى دقائق معدودة ، ولا أعرف قوانين وتعليمات العمل فأرجو منك غفران هذه الزلة وأعدك بأن أكون ملتزماً منضبطاً كما تريد ، وعلى عكس ما توقع ياسين فقد إبتسم الدكتور حازم وقال في ود يبدو أنك موظف جيد كما أنك تجيد فن الإعتذار ، ثم عادت الكشرة إلى وجهه والحدة إلى صوته وقال لكن لا تنتظر مني أن أقبل بذلك مرة أخرى ، والآن هيّا بنا نقوم في جولة أُعرفك على طبيعة العمل.
تنفس ياسين الصعداء بعد هذه البداية المرهقة ، وأحس أنه سيواجه متاعب كثيرة مع هذا المسؤول المعقد ، الذي بدأ بتعريف ياسين على أقسام المبنى ، هذه غرفة سلمى السكرتيرة والمسؤولة عن الأمور الإدارية للقسم ، دخل الدكتور حازم إلى الغرفة فوجد سلمى مشغولة بترتيب بعض الملفات في الخزانة المخصصة لها ، وما إن رأته حتى أنتفضت فوراً مرحبة به ، هذا ياسين كامل عضو القسم الجديد ، وهذه سلمى السكرتيرة ، حياها ياسين فردت التحية باختصار فقد كان واضحاً أنها من نوعية الأشخاص المهووسون بالعمل والنظام والترتيب الذي كان واضحاً في مكتبها ، وإلا لما إستطاعت أن تستمر عند هذا المدير الحازم كما هو اسمه ، والذي سبقهم إلى الخارج يمضي في جولته ، هذا مكتب مكافحة القوارض ويضم أيمن وعادل وجميل الذين وقفوا باحترام يحيون مديرهم وزميلهم الجديد ، وإستمرت الجولة إلى قسم معالجة المياه ويضم سعيد وكمال ، ثم قسم الحشرات ويضم سعاد ونبيل وجلال وسمية ، ثم خفق قلب ياسين عندما شاهد لوحة فوق إحدى الغرف المغلقة مكتوب عليها المختبر.
لقد كان ياسين متشوقاً لرؤية مختبراً بعد أن غابت المختبرات عنه فترة طويلة ، بقواريرها الزجاجية ومحاليلها ومجاهرها ، وكم كان سعيداً عندما دق الدكتور حازم الباب وفتحه ودخلوا إلى المختبر ، ورأى ياسين الطاولات الرخامية ممتدة على جدران الغرفة الكبيرة ، تعلوها أرفف تحوي القوارير الزجاجية ، وفي احد الزوايا خزائن للمحاليل والسموم ، وكان الموظفون منهمكون في أعمالهم ، منهم من يتفحص بالمجهر ، ومنهم من يركب المحاليل ، ومنهم من يكتب المعادلات على سبورة في جانب الغرفة ، نعم هذا هو العمل الذي أريد ، هكذا كان ياسين يفكر ، وقد بدأ الموظفون بالتجمع أمامهم ليتعرفوا على زميلهم الجديد ، وبدأ الدكتور حازم بتعريف ياسين على موظفي المختبر ، هذا الدكتور قاسم رئيس المختبر ، والدكتور حسن مساعده ، وهذا الدكتور سمير والدكتورة عزيزة والدكتورة رباب والدكتور سليم ، وهذا راتب وفاطمه وجهاد وخليل ، وهذا عنتر عامل النظافة في المختبر ، وهذا زميلكم الجديد الدكتور ياسين وهو عالم في الكيمياء أنهى غربته في أوروبا ليعود إلى وطنه ويخدمه ، رحّب الجميع بياسين الذي كان سعيداً بهذا الجو الرائع بين الموظفين ، ولم يعكر صفوه إلا خروج الدكتور حازم من المختبر لإكمال جولته ، فقد كان ياسين لا يريد الخروج أبداً.
أسرع ياسين باللحاق بالمدير وإقترب منه قائلا ، يا حضرة المدير هل سيكون عملي في المختبر ؟ توقف الدكتور حازم فجأة وقال في حدّة أنا من يقرر أين سيكون عملك ، إتبعني لتعرف مكان عملك ، هنا أحس ياسين بالضيق والغضب الشديد فهو لا يريد غير المختبر مكاناً للعمل ، إنه عالم للكيمياء ومكانه المختبر ولا مكان غيره ، ولم يقطع تفكيره هذا سوى توقف المدير عند إحدى الغرف قائلاً هنا عملك يا ياسين ، قسم كيمياء التربة ، فنحن بحاجتك هنا لأن القسم لا يحوي سوى موظفين إثنين فقط ، وقد واجهنا في الفترة الأخيرة مشكلة كبيرة في نوعية التربة وإحتوائها على قدر كبير من الجراثيم التي تتلف المحاصيل ، وسبقه إلى الداخل حيث كان هناك موظف واحد فقط يجلس على مكتبه يطالع مجموعة من الأوراق ، هذا زميلك بالقسم المهندس عدنان ، ولكن أين جواد يا عدنان ؟ وقف الموظف مرحبا بهم وقال لقد خرج جواد لجمع عينات من تربة البيوت البلاستيكية في المزرعة يا حضرة المدير ، وسيعود سريعاً ، إلتفت الدكتور حازم الى ياسين قائلا هذا مكتبك وهذا زميلك عدنان الذي سيعرفك على زميلك الآخر جواد ، وأرجو أن تتعاونوا جميعاً لمصلحة العمل ، يمكنك الآن أن تباشر عملك ، وأرجو أن تأتي إلى مكتبي قبل نهاية العمل بنصف ساعة ، إلى اللقاء.
جلس ياسين على مكتبه والحزن واضحاً على وجهه ، فسأله عدنان ما بال زميلنا الجديد يبدو عليه الحزن في أول أيام العمل ، هل ضايقك المدير بإختيارك للعمل هنا ، أم أنك ترغب في قسم آخر ، رد ياسين نعم ، أريد أن أعمل في المختبر ، ولن أتقبل العمل في أي مكان آخر ، ضحك عدنان ضحكة إستفزت ياسين قائلا المختبر ؟؟!! وهل هناك عاقلاً يريد أن يعمل في المختبر بين المحاليل والسموم ، يرهق عينيه بالمجهر ويمضي ساعات وساعات بعد إنتهاء العمل لينتظر نتيجة تجربة قد تفشل مرات ومرات ، ما بالك يا ياسين هل أنت جاد ؟؟ نظر إليه ياسين دون أن يكلمه فقد أدرك بأن عدنان وأمثاله لن يعرفوا معنى العمل الحقيقي ، ولم يدركوا يوماً ما هي الكيمياء ، ولن يفهموا أبداً روعة حياة المختبرات والتجارب ، والأفضل أن لا أخوض معه في جدالات لا تفيدني في شيء ، ويجب أن أفكر كيف سأقنع الدكتور حازم بنقلي الى المختبر ، لكنني طبعاً سأقوم بعملي الحالي بإخلاص وجد حتى يحدث ذلك.
أخذ ياسين يرتب مكتبه ويتفقد خزانته وأدراجه ، وطلب من عدنان بعض الأشياء من قرطاسية وأوراق وغيرها ، وبينما هو كذلك دخل جواد يحمل بين يديه صندوقاً خشبياً وضعه على الطاولة ، ونظر إلى ياسين مستغرباً ، لكن عدنان تدخل فوراً وقال هذا الموظف الجديد يا جواد ، الدكتور ياسين كامل وهذا زميلنا جواد يا دكتور ياسين ، سلم كل منهم على الآخر وقد كان جواد شاب رياضي يبدو عليه القوة والنشاط ، وقد يكون الوحيد الذي شعر ياسين بأنه يقوم بعمله بجد ، طبعاً بالإضافة لموظفي المختبر والسكرتيرة سلمى ، جلس جواد في مكتبه وبدأ يحدث ياسين عن تخصصه وشهاداته ، وتعجب كثيرا عندما علم بما يتمتع به ياسين من شهادات وخبرة من اوروبا ، وقال مندهشا كيف لشخص يتمتع بكل هذا أن يكون عمله في هذا القسم ؟ فإعتدل ياسين في جلسته وقد أحس بأن جواد هو من سيفهمه ، فقد عرف بأن هذا القسم ليس مناسباً له ، وأكمل جواد كأنه يحدث نفسه ، عالم كيمياء حاصل على أعلى الشهادات من جامعات أوروبا وأمريكا وله خبرة طويله يتم تعيينه في مكافحة الآفات الزراعية ، وأين ؟؟!!!! في قسم كيمياء التربة الذي لا يعرف الكيمياء إلا في أسمه فقط ، فنحن ما علينا سوى أخذ العينات التي نجمعها إلى المختبر وهم من يقومون بكل ما يلزم ويزودونا بالنتائج وما علينا فعله ، إننا لسنا إلا موظفي نقل عينات ، وهنا ضحك عدنان ضحكة أدخلت الإحباط إلى نفس ياسين لكنه برغم ذلك لم ييأس بل أصبح أكثر جدية في محاولة النقل من هذا القسم بكل الوسائل.
جلس ياسين يراقب جواد وهو يفرغ محتويات الصندوق الخشبي حيث كان يحوي على مجموعة علب بلاستيكية مغلقة ولكن يبدو أن بداخلها تراباً ، وأخذ جواد يفرز العلب حسب المكتوب عليها ، القطعة رقم 3 مربع رقم 6 ، القطعة رقم 8 مربع رقم 2 ، وهكذا ، فإقترب منه ياسين مستفسراً عما يقوم به ، فشرح له جواد طبيعة ما قام به ، إننا نذهب إلى المزرعة والبيوت البلاستيكية لأخذ عينات من التربة لفحصها في المختبر ، والمزرعة وتلك البيوت مقسمه إلى قطع وكل قطعة مقسمه إلى مربعات ، وعندما نأخذ العينة نكتب على العلبة رقم القطعة والمربع لنعرف من أين أخذناها وننتظر نتيجة الفحص لنعالج المربع والقطعه المعنية ، فقاطعه ياسين وكيف يتم نقل العينات إلى المختبر وكم تستغرق من الوقت لذلك ؟ رد جواد ننقلها في هذا الصندوق وقد يستغرق الوقت بضع ساعات أو اكثر ، قال ياسين لكن هذه طريقة خاطئة يا جواد ، ولن أستغرب إذا عرفت بأن التربة لن تعالج بهذه الطريقة ، تعجب جواد وقد بدا عليه بعض الضيق وقال لياسين كيف تقول أن هذه الطريقة خاطئة ، وما هي الطريقة الصحيحة أيها الدكتور العبقري ؟؟ أحس ياسين بنوع من الإستهزاء بكلام جواد لكنه برغم ذلك إبتسم وقال سأشرح لك يا جواد ولا تغضب من كلامي ، فأنا لا أقصد بأن التقصير منك أنت لكن أنا اقصد بأن الطريقة كلها خاطئة وأنت لا ذنب لك ، فأنت تنفذ ما هو مطلوب منك ، لكن يا صديقي بعض الجراثيم تعيش في بيئتها في التربة ، وعندما تخرج من قاع التربة إلى محيط آخر فإنها تموت خلال دقائق ، لذلك قد تكون هناك جراثيم كثيرة في التربة الموجودة بالمزرعة وتؤثر على جودة المحاصيل ، لكن المختبر لن يكتشفها لأنها بكل بساطة عندما تُنقل في هذه العبوات البلاستيكية ولهذه الفترة الطويلة تموت ولا تظهر في مجهر المختبر ، وإن ظهر شيئاً منها فإن فني المختبر لا يأخذ موضوعها بعين الإعتبار لأنه يعتقد أنها ميته أو أن معالجة التربة قد نجحت ، وسكت ياسين وهو ينظر إلى مدى الدهشة على وجوه عدنان وجواد كأن على رؤوسهم الطير ، فقد كانت هذه المعلومات جديدة عليهم ، وفجأة إنفجر جواد غاضبا واخذ يسبُّ ويلعن بالمركز والقسم والعمل لأنه شعر بأن كل ما كان يقوم به سابقاً لا فائدة منه وذلك بسبب غباء القائمين على هذا المركز ، لكن ياسين أخذ يخفف عنه ويقول له بأن العمل الكيميائي دائما يحوي أخطاءاً ولا يمكن إكتشافها إلا بالخبرة والتجربة ، فشكره جواد على إهتمامه وأغرقه بسيل من المديح لعلمه ومعرفته وخبرته ، ثم عاد وقال مكانك ليس هنا يا ياسين ، صدقني.
إستأذن جواد من زملائه للذهاب لأخذ العينات إلى المختبر ، مع أنه قال مستهزئاً بأنه لا فائدة من ذلك لكنني سأفعل ما هو مطلوب مني ، وهنا طلب ياسين منه أن يرافقه إلى المختبر فقد وجدها فرصة للعودة ولو لبعض الوقت إلى المكان الذي يحب ، وفي الطريق طلب ياسين من جواد بأن لا يخبر قسم المختبر بما شرحه له سابقاً لأنه سيشرح الامر لمدير المركز اليوم عند الذهاب إليه قبل نهاية الدوام ، وعندما وصلوا إلى المختبر كان الجميع منهمكاً في العمل كما كانوا في الصباح ، ودخلوا إلى مكتب رئيس المختبر الدكتور قاسم ، وقد كان في مناقشة حادة مع مساعده الدكتور حسن ، كيف يا حسن تقول لي أن التجربة لم تنجح ، والعينات غير صالحة ؟؟ هل تفشل تجربة اربع مرات ، هل تفسد العينات في كل مرة ؟ هذا كلام غير مقبول نهائياً ولا بد أن هناك تقصير وخلل ما وهذه مسؤوليتك انت ، ثم إلتفت إلى ياسين وجواد وقال تفضلوا بالجلوس ، وعاد يصرخ في مساعده لابد أن تعالج الأمر يا حسن ولن أقبل بفشل جديد ، هل فهمت والآن إذهب إلى عملك ، وقبل أن يغادر حسن الغرفة توقف ياسين وقال انتظر يا دكتور حسن ، بعد إذن الدكتور قاسم هل لي أن أعرف ما هي تلك التجربة وما هي المشكلات التي تواجهكم ، نظر الدكتور حسن الى رئيسه الذي قال له إجلس يا حسن وإشرح الموضوع لزميلنا الجديد فقد نجد لديه حلّا ، إنه تعلم في أوروبا وقد يساعدنا في عملنا ونتعاون لما فيه مصلحة الجميع ، أحس ياسين بأن هذه فرصته التي ساقها له القدر ، فلو إستطاع إثبات قدرته للدكتور قاسم فقد يطلب من الدكتور حازم رئيس المركز بنقله للعمل لديه في المختبر ، وتمنى ياسين أن يستطيع حل مشكلة التجربة الفاشلة التي بدأ الدكتور حسن بسرد تفاصيلها.
إننا نقوم بعمل فحص لخزانات المياه المغذية لبعض أقسام المزرعة ، لأن نتيجة التحاليل أثبتت بأن هناك نوع من الجراثيم يعيش في المياه يؤثر على المزروعات عند سقايتها مما يتلف جذور النبات ويمنع وصول الماء إلى باقي أجزاء النبتة ، ولكننا أخذنا عينات من كافة الخزانات الموجودة وقمنا بفحصها ولم يتبين لنا وجود أي جرثومه في الماء ، وكررنا التجربة اربع مرات دون جدوى ، كما أعدنا تجاربا على النباتات المتأثرة ووصلنا إلى نفس النتيجة بأن السبب هو نوع من الجراثيم المائية ، ولا نعرف كيف تصل هذه الجراثيم إلى النبات وهي غير موجوده بالماء الذي يروى به ، فما رأيك يا دكتور ياسين ، هل لديك حل ؟؟ تنهد ياسين وفكر قليلا ثم بدا عليه الإرتياح وقال هل لي أن أعرف من أين تأخذون العينات وفي أي وقت ؟ تعجب الدكتور حسن من سؤال ياسين لكنه اجاب إننا نأخذها من خزانات المياه في الصباح الباكر ، قال ياسين وكيف تأخذون العينات ؟ رد الدكتور حسن نمد انبوب ونسحب من الماء الموجود في قوارير زجاجية ونقوم بفحصها ، قال ياسين وهل كل العينات تم أخذها في الصباح الباكر ؟ رد الدكتور حسن بالايجاب ، حينها قال ياسين لقد وجدت المشكلة يا دكتور قاسم ، ووجدت الحل أيضاً ، إن بعض الجراثيم يا دكتور تنشط في درجات الحرارة المرتفعة ، وتخمل في درجات الحرارة المنخفضة ، فهي عند إنخفاض درجة حرارة الماء فإنها تخمل وتنزل وتتجمع في قاع الخزان ، وعندما يتم أخذ العينات في الصباح الباكر عندما تكون المياه بارده فإن الجراثيم تكون في قاع الخزان ، لذلك إذا أخذنا العينه من مياه السطح فلن تظهر معنا في التحاليل ، لذلك أقترح أخذ نوعين من العينات ، الأول في الصباح الباكر ولكن من قاع الخزان ، والثاني من سطح أو وسط الخزان ولكن عند الظهيرة حيث درجات الحرارة مرتفعة ، وأعتقد بأنه سيتم إكتشاف الجراثيم في كلتا العينتين أو إحداهما على الأقل ، بدا السرور واضحاً على الدكتور قاسم الذي قال أحسنت يا ياسين ، إنك مبدع حقاً ، ونظر إلى الدكتور حسن وقال له نفذ إقتراح ياسين فوراً ، هنا تدخل ياسين راجيا من الدكتور قاسم السماح له بمرافقة الدكتور حسن بأخذ العينات وفحصها لكن الدكتور قاسم قال له بأن هذا غير ممكن لأن عمله في قسم آخر وليس في المختبر ، ولما أحس الدكتور قاسم بخيبة الأمل على وجه ياسين وعده بأن يأخذ الإذن من الدكتور حازم وإن وافق فلا مانع لديه من مرافقة الدكتور حسن في العمل ، أحس ياسين بفرحة عارمة وشكره كثيراً متمنياً موافقة الدكتور حازم على ذلك.
تغيرت نفسية ياسين بعد زيارته للمختبر ، حتى أن جواد أخذ يسأله هل لهذه الدرجة أنت متشوق للمختبرات والتجارب والابحاث ، أحس ياسين بأنه يريد أن يتحدث ، يتحدث مع أي شخص ، يخرج ما في جعبته علّه يرتاح قليلا ، إنني يا جواد عالم ، هل تعرف ما معنى عالم ؟ عالم يعشق الكيمياء ويعشق المختبرات والتجارب ، خمسة عشر سنة من عمري بين الأبحاث والتجارب والمختبرات ، في أوروبا وامريكا عشت أجمل أيام حياتي لأنني كنت أقوم بما أحب ، ثم بدا عليه الحزن وهو يقول معلمي الألماني كم كان عظيماً يا جواد ، لقد كنت ساعده الأيمن ، وأطلعني على كل خفايا علم الكيمياء ، حتى تجربته السرية الخطيرة أطلعني على سرّها ، تنبه ياسين فجأه وأحس بأنه قال ما كان يجب أن لا يقال ، وتأكد من ذلك عندما سأله جواد عن أي تجربة سرية تتحدث ؟ ومن هو هذا الألماني وماذا يريد ، وأحس ياسين بنظرة شك في عيون جواد لكنه أخذ يضحك وقال له لا تجربة سرية ولا شيء من هذا يا جواد ، إنه أستاذي في الجامعة وقد تعلمت منه الكثير وهو الآن تحت التراب لأنه توفي منذ زمن ، ولم تفلح هذه التبريرات مع جواد فقد أحس ياسين بنظراته كأنه ينظر إلى جاسوس خطير.
مضى اليوم وياسين يحاول بين فترة وأخرى أن يكسب ود جواد ويبعد عن تفكيره أي شك فيه ، فليس لديه الوقت الآن للدخول في متاهات وتحقيقات وأسئلة من هذه الجهة أو تلك ، وبدأ جواد يعود إلى طبيعته شيئاً فشيئاً ، حتى إقترب الدوام من نهايته ولم يبقى سوى أربعين دقيقة فإستأذن ياسين من زملائه للذهاب إلى المدير ، وأخذ يفكر في طريقه هل فاتحه الدكتور قاسم بموضوع مساعدة الدكتور حسن بتجربته ، هل سيوافق ، هل يمنعه من ذلك ، ولم يحس بنفسه إلا وهو أمام باب غرفة المدير ، عدّل هندامه وطرق الباب فسمع صوت المدير يقول تفضل ، فتح الباب ودخل ، كيف حالك يا حضرة المدير ، أهلا يا ياسين تفضل بالجلوس ، هل تشرب الشاي ، ودون أن ينتظر إجابة ياسين رن جرس أمامه فسمع ياسين الباب يطرق ، ودخل عامل فأمره الدكتور بإحضار كوبين من الشاي ، ثم إلتفت إلى ياسين قائلاً حسناً أخبرني كيف كان يومك ؟ هل كل شيء على ما يرام ؟ أحس ياسين بأنه يجب أن يكون صادقا فإن المدير سيعرف كل شيء عاجلا أم آجلا ، فقال في وضوح الحمدلله يا حضرة المدير كان كل شيء جيداً ، وزملائي بالعمل في قمة الأدب والإحترام ، وقد رافقت جواد إلى المختبر لإيصال عينات التربة ، ولكن يا حضرة المدير هناك مشكلة أريد أخبارك بها ، إن آلية نقل عينات التربة غير صحيحه ويجب تغييرها ، أحس ياسين بالضيق على وجه المدير ، فأسرع يقول أقصد أن هناك طريقة أفضل يمكن أن تعطي فعالية أكبر في نتائج التحاليل ، إن العينات تأخذ وقتاً طويلا والتربة تخرج من بيئتها لفترة قد تجعل أي جراثيم لا تظهر في العينة عند تحليلها ، ثم سكت ياسين بإنتظار رد المدير الذي رد بكلمة واحده ، أكمل.. وجد ياسين نفسه مضطراً لأن يخبر المدير بما حصل في المختبر فاخبره بكل الموضوع راجياً منه الموافقة على مشاركة الدكتور حسن في التجربة ، تنهد المدير ونظر إلى ياسين كأنه يتفحصه ، ثم قال إنني لا انكر مجهودك اليوم ، وأقدر لك حرصك على مصلحة العمل ، لكنني أريد أن أخبرك بأنني لا أحب مخالفة الأوامر ، وذهابك اليوم إلى المختبر فيه مخالفة لا أحب أن تتكرر ولن يشفع لك سوى إقتراحاتك المجدية بخصوص عينات التربة ، وأيضاً حل مشكلة فحص المياه ، هذا إن نجحت طريقتك ، أما بخصوص مرافقة الدكتور حسن فإن الدكتور قاسم طلب مني السماح لك بذلك لكنني رفضت ، أنت لك عملك وهم لهم عملهم ولا يجوز خلط الأمور ببعضها ، فعليك أن تلتحق بقسمك من صباح الغد وتنسى مرافقة الدكتور حسن ، انتفض ياسين واقفاً وقال يا حضرة المدير أرجوك ، أرجوك أن تسمح لي بذلك ، إنني عالم كيمياء ويجب أن اقوم بالتجارب والأبحاث ، أرجوك يا حضرة المدير لا تكبح جماحي وتلجم طموحي ، كان المدير ينظر إلى ياسين بإستغراب ، لكنه أمام لهفة ياسين وحماسه لم يجد مفرّا من الموافقة على طلبه بشرط ، أن يعود بعدها إلى عمله في قسم كيمياء التربة.
فرح ياسين كثيراً بموافقة المدير على طلبه ، وأحس أنه بدأ خطوة جيدة نحو ما يريد ، فلو نجح إقتراحه فلا بد أن الدكتور قاسم سيطلب من المدير نقله إلى المختبر ، وتوجه مسرعاً إلى ساحة النقل للعودة إلى السكن ، فقد كان يحس بتعب شديد فكرياً أكثر منه جسدياً ، وكان بحاجه لأخذ قسط من الراحه وما إن وصل إلى غرفته حتى إستلقى على سريره ونام وشعاع من الأمل بين عينيه.
الفصل الخامس (( خطوةٌ إلى الأمام ))
إستيقظ ياسين فوجد الظلام قد حل ، قام واضاء النور فوجد ياسر لم يحضر بعد ، وكانت الساعة قد تجاوزت السابعة مساءً ، ثم تذكر فجأة بأنه لم يعرف في أي قسم يعمل زميله ياسر ، لأن مديره لم يذكره أثناء جولة التعريف بالموظفين ، ولم يهتم ياسين بالأمر كثيراً فعندما يعود ياسر سيسأله ويعرف منه مكان عمله ، ثم بدأ بتحضير الشاي لأنه أحس بصداع خفيف يحتاج معه لكوب من الشاي الثقيل ، وفي أثناء انتظار الشاي تناول حبة من البرتقال وإصبعاً من الموز وأخرج بعض الكتب من حقيبته لمراجعة بعض الأمور المتعلقة بتجربته القادمة مع الدكتور حسن ، فوقعت عيناه على الملف الخاص بالتجربة القديمة مع أستاذه الألماني ، فترك الكتب ومسك الملف يتأمله ويقول هل سترى هذه التجربة النور وأطبقها على أرض الواقع ، أم ستبقى حبيسة هذا الملف وسجينة في هذه الأوراق ، وبدأ يقرأ الملف من بدايته ويتذكر إستاذه ويبدي إعجابه بعبقريته وعلمه ، ثم أحضر كوب الشاي وإستمر في القراءة ، وسافر إلى عالم آخر لم يدري معه بالوقت وهو يمر إلا عندما وقعت عيناه على ساعة الحائط فوجدها التاسعة والنصف ليلاً ، أغلق الملف ووضعه في الحقيبة وبدأ القلق ينتابه على ياسر الذي لم يعد بعد.
خرج ياسين من الغرفة إلى ممر السكن يتمشى قليلاً ، وبدأ يفكر في الغد ، هل ستمضي الأمور على ما يرام أم أن التجربة لن تنجح ، وإذا فشل فيها كيف سيقنع الدكتور قاسم بالعمل عندهم في المختبر ، وبينما هو غارق في تفكيره ، لمح ياسر في الطابق الأرضي يهمُّ بالصعود لأعلى ، فقابله عند اخر الدرج ، أين أنت يا رجل ، لقد قلقت عليك كثيرا ، إبتسم ياسر وقال لك الحق في ذلك كان يجب أن أخبرك منذ الصباح ، تعال ندخل الغرفة فقد أحضرت بعض الطعام نتناوله سوياً وسأخبرك بكل شيء ، دخل الصديقان الى الغرفة ووضع ياسر الطعام على المائدة فيما ياسين أحضر كوبين من الشاي الذي حضّره ، وبدأوا يتناولون طعامهم وعاد ياسين يسأل ياسر عن سبب تأخره ، قال ياسر إنني يا صديقي أذهب بعد العمل إلى عمل آخر في مطعم وسط العاصمة ، أنت تعرف بأن الحياة أصبحت صعبة جدا والعبء ثقيل علي ، فأنا أبعث لوالدتي وشقيقي الصغير مصاريفهم كل شهر ، فوالدي متوفي وليس لهم أحد غيري ، ووالدتي مريضة وتحتاج إلى دواء مكلف جداً ، توقف ياسين عن الطعام وبدأ يشد من أزر ياسر ويبدي إعجابه بكفاحه وبرّه بوالدته وأخذ يشجعه على الإستمرار في ذلك لأن الله لن يضيّع له تعباً ، وسيجازيه بالإحسان إحسانا.
بعد إنتهاء الطعام سأل ياسين زميله ياسر عن القسم الذي يعمل به ، فأخبره بأنه يعمل في معالجة الأسمدة والكيماويات ، وبأنه لم يشاهد قسمه في جولته مع المدير لأن القسم في مبنى منعزل يبعد قليلاً عن المركز ، وبدأ الإثنان يتحدثان عن العمل وتفاصيله وصعوباته ، وأخبره ياسين بما حصل معه خلال اليوم ، وتسائل ياسر عن عشق ياسين للمختبرات والتجارب وإصراره على النقل إلى المختبر برغم صعوبة العمل فيه ، فبدأ ياسر يشرح له متعة التجارب وفرحة النجاح في اكتشاف شيء جديد ، لكنه كان حذراً هذه المره ولم يخطىء كما أخطأ مع جواد في حديثه عن تجربة استاذه الألماني السرية ، مع أنه كان يحس بأنه محتاج لأن يبوح بأسرارها إلى أحدٍ يثق به ، فهل يكون ياسر هو هذا الشخص.
إستيقظ ياسين مبكراً في صباح اليوم التالي فوجد ياسر ما زال غارقاً في النوم يبدو عليه التعب والإرهاق ، فنظر إليه مجدداً نظرةً فيها الإعجاب والشفقة معاً ، وإقترب منه وأيقظه للذهاب الى العمل ، ثم أسرع ياسين بتجهيز نفسه وأخبر ياسر بأنه سيذهب أولا إلى قسم اللوازم لاستلام معدات طبية كامله للتوجه إلى المختبر ، وبالفعل ذهب واستلم مريولاً طبياً وحذاءً وخوذةً وقفازات ونظارات واقية ، ثم توجه فوراً إلى المختبر وهو في قمة الحيوية والنشاط ، طرق الباب ودخل فوجد الدكتور قاسم في مكتبه برفقة الدكتور حسن ، الذي بادر ياسين بقوله ما كل هذا الحماس والنشاط يا ياسين ، لقد حضرت باكراً وهذا يعجب الدكتور قاسم كثيراً ، فإبتسم الدكتور قاسم وقال فعلاً إنني أحب الموظف المجتهد المحب للعمل والمتحمس دائماً للإبداع والتطور ، شكرهم ياسين على هذا الاستقبال الجميل وسألهم عن الخطوة القادمة ومتى سيبدأون العمل ، فأخبره الدكتور حسن بأنهم ينتظرون الدكتورة رباب والعامل عنتر الذين سيرافقونهم في عملهم ، ولكن ما رأيك انت يا ياسين كيف سنبدأ ، أجاب ياسين بأن عينات الصباح يجب أن تؤخذ باكراً جداً واليوم لا يصلح لها ، لكن يمكن أن نأخذ عينات الظهيرة من سطح ووسط الخزانات ، وغداً نحضر عند الفجر لأخذ عينات الصباح من قاع الخزان ، وافق الجميع على اقتراح ياسين وبدأوا يتمنون نجاح التجربة ، فإستغل ياسين هذا الجو وسأل الدكتور قاسم هل أنتم بحاجة إلى موظفين في المختبر ؟ إبتسم الدكتور قاسم ونظر إلى الدكتور حسن الذي قال لقد كنا نتكلم في هذا قبل حضورك ، لقد إقترح الدكتور قاسم أن نطلب من المدير أن ينقلك إلى هنا لتكون زميلاً لنا في المختبر ، كاد ياسين أن يطير فرحاً عندما سمع هذا الكلام ، وقال أرجوكم أن تفعلوا ذلك ، فإنني لا أرى نفسي إلا في المختبر وأنا في شوقٍ للعمل والإنجاز والإكتشاف ، قاطعه الدكتور قاسم قائلاً نحن نرحب بذلك ، لكن لا يحدوك الأمل كثيراً بموافقة الدكتور حازم على ما نريد ، إنه كما تعرف لا يحب أن يناقشه أحد في قراراته ، لكن لننتظر ونرى.
وصل العامل عنتر وتبعه بقليل الدكتورة رباب وأصبح الجميع جاهزاً للعمل ، خرجوا من المبنى وتوجهوا إلى خزانات المياه ، يحملون ما يلزمهم لأخذ العينات ، كانت خزانات عملاقة مبنية من الخرسانة الصلبة ، مثبت على جوانبها سلم حديدي للصعود إلى أعلى الخزان ، بدأ الجميع بالصعود واحداً تلو الآخر حتى أصبحوا جميعاً فوق الخزان ، نظر ياسين في ساعته وكانت بعد العاشرة بقليل فطلب منهم الإنتظار حتى تشتد الحرارة أكثر ، فوقفوا يتأملون منظر المزارع من هذا العلو ، لقد كان منظراً رائعاً وقد زاده روعةً عنتر عندما أخرج لهم حافظةً بها بعض المرطبات والفطائر بدأوا يتناولونها في سعادةٍ كبيرة ، قالت الدكتورة رباب إن عنتر دائماً ما يأتي بالشيء المناسب في الوقت المناسب ، إبتسم عنتر وقال وفي المكان المناسب أيضاً ، قال الدكتور حسن هذا صحيح تماماً ، ثم إلتفت إلى ياسين وقال حدثنا عن سنين دراستك وعملك في أوروبا وأمريكا ، هل نحن متأخرون عنهم كثيراً في مجالنا ؟ بدأ الجميع يستمع إلى ياسين وهو يتحدث عن مقدار التطور الكبير في التكنولوجيا والبحث العلمي والكيمياء والفيزياء وشتى أنواع العلوم في أوروبا وأمريكا ، وأخبرهم بأننا متأخرون جداً عنهم في هذا المجال من الناحية التقنية من أجهزة ومعدات وميزانيات ضخمة تعد لهذه الغاية ، أما من ناحية الكفاءات والأيدي العاملة فعندنا منها ما يكفي للتطور والتقدم ومجاراة الغرب في هذا المجال.
مضى الوقت والجميع مستمتع بحديث ياسين ، حتى إشتدت الحرارة فبدأوا جميعا بتجهيز القوارير ومد الأنابيب لإخراج العينات من الخزان ، فتح عنتر باب الخزان الثقيل وكانت المياه قريبة من السطح بحوالي ثلاثة أمتار ، مد ياسين والدكتور حسن الأنابيب الموصوله بمضخة يدوية ، في جانبها الآخر انبوب صغير يوضع في القارورة الزجاجية ، وبدأت الدكتورة رباب بالضغط عليها فبدأ الماء بالتدفق حتى إمتلأت القارورة ، اغلقها ياسين وكتب عليها رقم الخزان وأن هذه العينة من السطح ، ثم مد الانابيب إلى داخل الخزان حتى وصلت إلى منتصفه تقريبا ، وأشار للدكتورة رباب لتبدأ ضخ المياه في قارورة أخرى ، ولما إنتهت أغلقها ياسين وكتب الرقم وانها من منتصف الخزان ، ثم سحبوا الأنابيب ونزلوا إلى الخزان الثاني وفعلوا ما فعلوه سابقاً ، ثم إلى الثالث والرابع حتى انتهوا تماماً من أخذ جميع العينات وعادوا بها إلى المختبر.
وضعوا العينات على طاولة في المختبر تحضيراً لفحصها بالمجهر ، وأخبرهم ياسين بضرورة فحص العينات فوراً ، وطلب من الدكتور قاسم مساعدتهم بالفحص على أحد المجاهر ، فوافق على ذلك مما أدخل السرور إلى قلب ياسين وبدأ بعمله على المجهر الذي فارقه منذ وقت طويل ، وانهمك الجميع بعملهم يتفحصون العينات بكل دقة ، حتى صاح الدكتور سمير أحد الموظفين بالمختبر منادياً الدكتور قاسم ، يا دكتور قاسم تعال وأنظر هنا ، خفق قلب ياسين بشدة فهو لم يكن قد وجد شيئاً بعد وقد بدأ يقلق من عدم نجاح فكرته ، نظر الدكتور قاسم بالمجهر ثم نظر إلى ياسين مبتسما وقال هذا رائع ، تعال وأنظر يا ياسين لقد ظهرت الجراثيم حيةً ولقد عرفنا نوعها أيضاً ، نظر ياسين في مجهر الدكتور سمير وهو لا يكاد يصدق ما يسمع ، لقد نجح فعلاً وأثمرت فكرته وإكتشف الجراثيم التي كانت تضر بالمزروعات ، وكسب ثقة الجميع بالمختبر ولا بد أن الدكتور قاسم سيفعل كل شيء لينقله إلى جواره ، رفع ياسين عينيه عن المجهر فوجد الجميع ينظر إليه بإعجاب فأطرق رأسه خجلاً حتى إقترب منه الدكتور قاسم قائلا يبدو أن عالمنا المبدع يشعر بالخجل ، لا تخجل يا دكتور ياسين بل اشعر بالفخر فأنت مجتهد تستحق كل الإحترام ، شكره ياسين وكان يريد أن يذكره بموضوع نقله إلى المختبر لكن الدكتور قاسم كأنه كان يحس بذلك فقال لا تقلق يا ياسين سأحدث الدكتور حازم بالأمر ، ولكن هل هناك ضرورة لإجراء تجربة الغد عند الفجر ؟ رد ياسين فوراً بالطبع يا دكتور فقد نكتشف نوعاً جديداً فنضع العلاج المناسب لكل الأنواع.
كان يوماً رائعاً أحس ياسين فيه بالتقدم خطوة نحو المستقبل ، وكان يفكر وهو عائد إلى السكن بتجربة الغد وكان أكثر ما يشغل باله هو موافقة الدكتور حازم على نقله إلى المختبر ، لكنه سأل نفسه لماذا كل هذا القلق وكل هذه اللهفة للعمل في المختبر ، صحيح أنني أحب التجارب والإكتشاف ولكن هناك شيء آخر يدفعني إلى ذلك ، وفجأة هبطت على رأسه صورة أستاذه الألماني وملف تجربته السرية النادرة ، ووجد نفسه يسرح في معادلاتها ونظرياتها وأرقامها ، هل هي فعلا ما يدفعني الى المختبر ، هل سأفكر في إجراء التجربة على أرض الواقع ، عندها عرف ياسين سر عشقه للمختبر ولهفته للعمل فيه ، لقد كانت فعلا تلك التجربة هي ما يدفعه دائماً للتفكير بالمختبر ، أنه من داخله يريد إجراءها ولن يرتاح إلا إذا قام بذلك ، إنه شيء جنوني لكني سأقوم به حتماً.
في مساء ذلك اليوم عاد ياسين يقرأ في الملف مرة أخرى ، ولكن في هذه المرة كان أكثر جدية وبدأ يدون خطوات إجراء التجربة وما يحتاجه لذلك خطوة بخطوة ، وبدأ بالتخطيط الزمني لكل خطوة وكيف سيقوم بها ، حتى إنتهى تماما من وضع ملخص كامل لكل ما يجب فعله ، ثم عاد وقرأ ما دوّن فبدأ الإحباط يصيبه عندما راجع ما يحتاج لمغامرته القادمه ، إنها أشياء كثيرة جداً والحصول عليها يحتاج وقتاً كبيراً وجهداً مضاعفاً ، حيوانات ، ومواد كيميائية ، ومعدات خاصة ، والأهم من ذلك كله مختبرٌ متفرغٌ تماماً لذلك ، لم أكن أعرف بمدى صعوبة الموضوع إلى هذا الحد ، لكنني سأقوم بذلك مهما كلف الامر.
في فجر اليوم التالي ذهب ياسين إلى المختبر ورافق الدكتور حسن وبعض الزملاء وبالطبع عنتر معهم إلى الخزانات مرة أخرى ، وقاموا بأخذ العينات وفحصها وكما توقع ياسين إكتشفوا نوعاً جديداً من الجراثيم ، وطلب منه الدكتور قاسم البحث في العلاج للقضاء عليها جميعاً كما طلب منه العودة إلى السكن ليرتاح فقد جاء باكراً جداً ووعده بأن يحدث الدكتور حازم بموضوع نقله إلى المختبر هذا اليوم قبل إنتهاء العمل وسيجد الجواب عنده صباح الغد.
في المساء إنتظر ياسين وصول ياسر إلى السكن ، وجلسوا يتبادلون الحديث وقد تكلم كل منهم عن عائلته وبيته وأحلامه وبدأ كل منهم يشعر بالقرب أكثر من الآخر ، وبدأت الثقة والمحبة تزداد بينهم وقد شعر ياسين بالإرتياح تجاه ياسر مما دفعه لبدء البوح بما يجول بداخله ، قل لي يا ياسر ، هل هناك حيوانات للتجارب في مركز الأبحاث ، رد ياسر نعم ولكن لماذا ؟ قال ياسين لا شيء يا صديقي كنت اريد أن أعرف فقط هل توجد حيوانات وأين هي لأنني لم أشاهدها أبداً ، ضحك ياسر وقال مع أنني غير مقتنع بإجابتك ومتأكد تماماً بأنك لا تسأل عن حيوانات التجارب فضولاً فقط إلا أنني سأجيبك ، هناك في الطرف الشرقي لمركز الأبحاث قسم للطب البيطري به كل أنواع الحيوانات المستخدمة في التجارب العلمية ، هل تريد أن أحضر لك فأراً أبيضاً صغيراً تتسلى فيه هنا بالسكن أثناء غيابي ؟ ضحك الإثنان من هذه النكتة الظريفة ، ثم عاد ياسين يسأل ياسر كيف يمكن الحصول على معدات مخبرية ومواد كيميائية ؟ هنا تعجب ياسر وقال لن أخبرك إلا عندما تخبرني لماذا تسأل كل هذه الأسئلة ، رد ياسين ستعرف كل شيء في وقته ، صدقني يا رفيق السكن ، قال ياسر حسناً ولكن اذا لم تخبرني بالأمر فبدلا من الفأر سأحضر لك أسداً يرافقك هنا بدلاً مني ، ضحكوا مرة أخرى ثم قال ياسر هناك سوق في وسط العاصمة لكل ما يلزم المختبرات من معدات ومواد كيميائية وغيرها ، وإذا أردت فانتظر يوم إجازتي من عملي المسائي لنذهب سوياً وتراه بعينك إن أحببت ، أجابه ياسين طبعا أريد أن أراه ، أشكرك كثيراً يا صديقي وأعدك بأن تعرف كل شيء قريباً.
في الصباح ذهب ياسين إلى العمل مسرعاً وهو يشعر بالقلق ، هل وافق الدكتور حازم على نقله إلى المختبر ؟ وماذا سيفعل إن رفض ذلك ، توجه فوراً إلى مكتب الدكتور قاسم في المختبر فوجده جالساً مع الدكتور حسن ، فألقى التحية وسألهم عن رد الدكتور حازم ، فبدا الضيق على وجه الدكتور قاسم ولم يرد ، فقام الدكتور حسن وقال يا دكتور ياسين لا نريد منك أن تشعر بالحزن والضيق ، فكل مكان في المركز يمكن لك أن تثبت فيه مقدرتك وعلمك ، وقسم كيمياء التربة يحتاج وجودك فيه ، ويجب أن تقدر رؤية الدكتور حازم في هذا الأمر , فهو المدير وأكثرنا خبرة علمية وإدارية ، وأنه ..... وسكت الدكتور حسن ، فسأله ياسين وقد أحس بالضيق وإنه ماذا ؟ وإنه ... وإنه ... ثم صرخ الدكتور قاسم فجأةً وإنه وافق على نقلك إلى المختبر يا أيها العبقري ، وإنتابت الدكتور قاسم والدكتور حسن نوبة من الضحك فيما ياسين متسمر مكانه لم يصدر منه أي تعبير ، ثم أدرك الأمر فسارع بعناق الدكتور قاسم ومساعده وهو يغدق عبارات الشكر لهما على ما بذلوه من أجله.
نافذةٌ جديدة من الأمل فُتحت أمام عيني ياسين ، لم يرى من ورائها إلا وجه أستاذه الألماني العظيم يمد يده لياسين يحمل بها ملف تلك التجربة المجنونة ، وينظر إليه مبتسماً وهو يقول إفعلها يا صغيري.
|