المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
غريبة بجوارك - روايتي الأولى " كنت الى جوارك قريبة .. غير أني كنت غريبة"
بسم الله الرحمن الرحيم
استيقظت وإذ بي في مكان .. كأنه الجنة ..
مرتخية فوق فرش من حرير ..
منه اكتسيت وعليه اتكأت وإليه دنوت ثم أدنيت كأسا ارتشفتها ..
كقطرات الندى لم أملها ..
رأيت وجهي يزهر مع كل رشفة ارتشفتها ..
ومع استفاقتي .. استفاق من حولي ..
لحن شجي .. شعاع مستور خفي ..
زهر الأقحوان .. زهر البنفسج الذي ملأ المكان بعطر فواح زكي ..
كنت كالأميرة ..
بل كنت حقا سيدة ذلك القصر المنيف ..
كاللؤلؤة المجوفة لا يرى باطنها ..
تهيأت للنهوض وإذ بهن ..
حِسان تنبسط الأرض طوعا لهن ..
اصطحبنني .. هيأنني .. لحظات وأصبحت بكامل زينتي ومستعدة للخروج ..
غلمان كالسماء الصافية كالنجوم النائية منهم ..
من أتى به .. من داعبه .. من ساقه إلي من خاطبه ..
مقلة بلون الذهب .. جناحان كاللهب ..
جوادي الذي امتطيته .. حلق بي نحو مكان مترع بالشهب ..
وفوق تلة خضراء اصطف عشاقي ..
فاليوم هو اليوم الذي سأختار فيه ..
من رفرف له القلب وحنا له الفؤاد ..
من تعلق بتلابيب روحه كامل أوداجي ..
مررت مرور الكرام ..
لم أمعن النظر ومالحاجة فقلبي من سيختار ومن أتخطاه ينكس رأسه خائبا من ثم يختفي ..
ولم أزل على هذا المنوال حتى بلغته ..
وأقسم لو أني رأيته الآن لعرفته ..
أمرد الوجه حنطاوي البشرة ..
مسترسل الشعر ذا غرة سوداء اكتنفت نصف وجهه دون استثناء ..
اختفى الكل ما عداي وعداه ..
دنا مني فاحمرت وجنتاي ..
قبلني فارتج خافقي وارتد صوت اليقين في داخلي ملحا أن بادليه الإحساس بالإحساس ..
استقبلته بجسدي الذي انقاد إليه طواعيه ..
بروحي التي لم تطرق الباب ..
باللحظات التي لم أرغب بها أن تنتهي حتى أنتهي ..
حملني وتحت ظل شجرة مكتظة بالألوان البراقة .. بالأصوات الندية .. بالثمار الفتية ..
أجلسني في حضنه ..
تسامرنا .. تضاحكنا من ثم غادرنا ..
عدنا إلى قصري .. إلى مخدعي ..
إلى غرفة بيضاء .. إلى الثلوج تهبط من السماء ..
إلي وقد اشتملت لحافا متذبذب الأطراف ..
إليه أتاني يسترق النظر .. يسرق قبلة أخرى على عجل ..
إلا أني باغته وهربت ..
لحق بي محاولا اصطيادي ..
راوغته .. ناوشته ..
ومن خلف عمودٍ إلى آخر ومن زاوية إلى أخرى ..
كاد أن يمسِك بي .. كِدت أن أقع بين يديه لأقفز ..
فوق سريري ليقفز ورائي ..
حاصرني بذراعيه ..
ولا حدود لناظري سوى ناظريه ..
لم تزل الثلوج على حالها تهبط بانسجام ..
ولم أزل متأملة بسكون تقاسيم وجهه التي بدت لي وكأنها أبيات شعر مرتلة ..
بانتظار كلمة ينطق بها أو حركة يقوم بها ..
تطفئ لهيب شوقي أو لهفة جوارحي ..
تمتم قائلا ..
ماذا تقول؟
أظلم وجهه .. أظلم المكان ..
وتكاثف من حَوليَ الدخان وأنا الآن ..
مقيدة في سريري والأرض تهتز من تحتي ..
سرعان ما انهارت سرعان ما هويت وإذ ..
بيدٍ باليةٍ تمسك بي ..
شعرت بخوف شديد دفعني .. أن أفلت بإرادتي يدي وحينها ..
هويت وحينها ..
استيقظت .. استيقظت هذه المرة لأجد بأني لم أزل حبيسة واقعي وبأن أميري ليس بجانبي سواك يا طائري العزيز .. أعلم أنك مللت ترديدي الحلم ذاته .. أرى ذلك من خلال عينيك وانتفاش ريشك تستعد لأخذ قيلولة ككل مرة تستمع بها إلي .. لا بأس .. فأن تنصت إلي يجعلني شاكرة لك باستمرار .. كانت تتأمله .. كيف يغفو وذبول أجفانه حينما نوديت:
هيا .. سنرحل الآن ..
ــ لقد حان الوقت إذن .. كنت صديقي الوحيد مذ أبصرت النور وكم .. تركت الباب مفتوحا لك كي ترحل ولكنك .. لم ولن تفعل أعلم ولذا .. كان علي فعل ذلك بيدي .. أمسكَته بعناية من ثم أردفت: لقد حانت لحظة الفراق .. ابحث لك عن أصدقاء أخَر غيري فأنا .. لن أكون إلى جوارك دومًا .. أفضل أن ترحل قبل أن أرحل أن تنشغل عني قبل أن أفعل ألا ترى .. بأني بت مؤخرا أهملك بسبب كثرة واجباتي وأنت .. كنت ولازلت من أهم واجباتي إلا أنه لم يعد باستطاعتي .. فعل ذلك على أكمل وجه بعد الآن ولذا .. عليك من الحين فصاعدا الاعتناء بنفسك .. لقد أصبحت راشدا لم تعد بحاجة إلي .. لم يزل ساكنا هادئا حتى إذا ما رفعته إلى السماء وأطلقته جعل يرفرف بجنون أمامها .. أغلقت النافذة سريعًا والتصقت بالزجاج: أيها الأحمق .. أنظر إلى نفسك كيف ترفرف بجناحيك ولا حدود لحريتك .. لو أني كنت مكانك لحلقت بهما بعيدا وللحقت بأحلامي أينما كانت .. التصق بالزجاج هو الآخر ينظر إليها عن كثب .. تساقط دمعها وهي ترى خوفه .. حزنه واشتياقه المسبق لها .. أسدلت الستائر ثم اعتصرتها: أرجوك .. لا تلحق بي ..
في ذلك الوقت من الزمان كانت الأرض حينها مقسمة إلى خمسة أجزاء ..كل جزء يكنى باسم الفصل الذي يغلب عليه وهي واقعة بمجملها تحت حكم ملك عادل ذا نفوذ وسلطان .. ذا عطاء لا حدود له وولاء ومحبة في قلوب رعيته وتابعيه لا ارتفاع له يدعى "الأبيض بن الأشهب بن سلام" وريث وريث أجداد أجداده .. عرفوا بالحكمة والاتزان .. بالعقل المستنير بالرأي الراجح .. بالحلم وقلة الكلام .. يعرف المختار منهم بأثر ولادته أثر الخاتم وسط سبابته .. ومن دون عقد مجلس للشورى فهو من سيتولى الأمر بغض النظر عن خلقه وطريقة نشأته .. وقد أفلح كل من عرف بتلك العلامة بحسن تدبيره وطلاقة علمه .. هو شيخ كبير تجاوز الثمانين من عمره وبالرغم من الشيب الذي يفتري جسده ولحيته .. حاجباه وشعره الذي يتدلى فوق أكتافه إلا أنه لا يزال محتفظا بقوته وصلابته .. رحلت" كندة" الفتاة التي بلغت عامها هذا سن الرشد بصحبة والدها "موسى" شيخ العطارين إلى العاصمة لعلاج الرمد الذي يعاني منه الملك هذه الأيام.
العاصمة وكونها المكان حيث يقطن الملك لابد من أن تكون الأجمل والأكثر روعة .. وهي كذلك حقا .. فهي المدينة التي تجتمع فيها الفصول الأربعة معا بنغم وتناسق دون تفاضل أو تدافع .. الربيع والصيف .. الخريف والشتاء .. هي مدينة تزهو بمبانيها بشوارعها .. بأسواقها بسكانها .. بأزهارها بأدق التفاصيل التي لا تخطر على بال .. حتى الحصى أدق الحصى مرسوم بإتقان وأنا لها .. أن تستمد كل هذا الجمال إلا ممن .. تمركز في المنتصف .. كاللؤلؤة المجوفة لا يرى باطنها ذا بريق أخاذ يسطع بالليل والنهار .. تفاجأت كندة لما رأته فهو أشبه .. بالقصر المنيف الذي تراه من حين إلى آخر في أحلامها .. ردهاته .. أرجاؤه أشعرتها بالألفة وكأنها تعرف هذا المكان .. وبينما هم في طريقهم حيث ينتظر الملك انحرفت عن مسارها دون علمهم أو شعور منها وسارت في طريق طويلة حتى بلغت باب غرفة .. علمت علم اليقين أنها بفتحها له ستتحقق أحلامها .. فهو الباب حيث كانا خلفه معا .. الكريستال المرصع .. الأجراس المحفورة .. النقوش المذهبة والنجوم التي ستضيء بلمسة منها .. ستدق الأجراس وستترنم النقوش وسيتحطم الكريستال إلى نثرات تطفو حولها فقط .. بلمسة منها .. إحساس قوي يدفعها .. ها هِيَ تجاريه ها هِيَ لتستيقظ فجأة على .. صوت الدليل يناديها .. سارت خلفه وتركت خلفها .. إحساسها المعطل مركون عند عتبة الباب هناك .. بانتظارها حتى تعود ..
ــ صاح المنادي: الملك الأبيض بن الأشهب ابن سلام .. الملكة نورهان ..
ــ أتى تمسك بيده تهديه الطريق حتى أسكنته عرشه وجلست هي عن يمينه ..لم يعد يرى جيدا بسبب الرمد الذي يكاد يتلف بصره .. تقدم موسى يعاينه فالتف الجند من حوله – وكان قد أحيط علما مسبقا بأن يؤدي عمله دون اعتراض – ارتعب وارتجفت أطرافه إلا أنه بذل جهده لدفع خوفه - أشار إلى ابنته بإصبعيه فأخرجت المقص وما كادت حتى تجمع بقية الجند من حولها فأوقعوها أرضا وأطبقوا عليه .. نهضت الملكة بامتعاض شديد رافقها بينما ارتجت القاعة بأصوات أثارت حفيظة الملك الذي سألها بصوته العميق: مالذي يجري؟
ــ مليكي ومولاي .. أعتذر فالخطأ خطئي .. لقد أتى هذا الرجل لقتلك لا لشفائك .. أيها الجند ألقوه في السجن وارموا برأسه غدا إلى الكلاب ..
ــ صرخت كندة تدافع عن أبيها وتستجدي الرحمة من الملك الذي استفهم من موسى بطبيعة الأب الحنون .. موسى الذي يرثى لحاله لم يتبق لأنفاسه أنفاس ينطق بها: شعر حاجبيك الطويل الذابل أعاقني فأردت التخفيف منه كي أكمل عملي .. تلك كانت حاجتي إلى المقص ..
ــ تلمس الملك حاجباه فابتسم .. أمر الجند فخرجوا ثم طلب من موسى بوجهه البشوش أن يكمل ما بدأ دون خوف وبارتياح تام .. تخلص موسى من الشعيرات التي استوقفته .. سأل ابنته أن تطحن له بعض الأعشاب التي مزجها بنفسه بقطرات من زيت زيتون نقي وبالمزيج دهنهما وبعد ساعة أزاله وأخيرا فركهما بمجموعة أخرى من الزيوت ثم ابتعد قليلا وسأل الملك أن يبصر الآن .. رفع جفنيه وجعل يتلفت يمنة وشمالا حتى استقر بصره أمام زوجته التي كانت تترقب ردة فعله التالية .. مد يده يلامس براحة كفه وجنتها: أين تلك التجاعيد التي كانت؟
ــ باستغراب: ماذا؟
ــ ضحك ملأ شدقيه: لا تجزعي هكذا .. إنه ذلك الرمد اللعين من جعلني أرى ما لا أود أن أراه في وجهك الجميل .. نكست رأسها خجلا: أيها العطار ..ما السحر الذي صنعته .. إني أرى الآن أفضل من ذي قبل؟
ــ سيدي ومولاي .. أنا لم أفعل شيئا .. ذلك صنع الله ..
ــ سنجزيك خير الجزاء وسنكرمك حتى لا يقال بعدك مكرم .. ذاك ما كان من أمر الملك أما الملكة .. فكفارة لفعلها .. اكتنفت كندة تحت ظلها مدة إقامته .. أن تجعلها كالأميرة .. أقرب المقربات إليها أن تعتني بها وكأنها ابنتها وقد فعلت .. لقد رأت كندة في الأيام القليلة التي تلت مالم تره فتاة في عمرها .. إنه عالم لا يقيده خيال .. لن يسعه النظر البعيد ولن يحتمله حلم صغير .. فهي المتعة والبهجة والترف بأنقى ألوانه وأرقى أشكاله.
وفي ذات مساء .. خرجت الملكة بصحبة زخم من وصيفاتها إلى طرف المدينة إلى مكان يدعى .. "خانة البؤساء" شارع طويل يعبق بكل ذي حاجة إلى عطاء من الأمصار والأعراق المختلفة .. كانت تسأل كل شخص على حدة .. تصغي إليه باهتمام وانتباه .. تدون مطالبهم في كتاب للحاجات .. تمسح على رؤوسهم وتعدهم خيرًا بتحقيقها في أقرب وقت وبينما .. هي كذلك إذ بها .. تقف شاخصة العينين نحو الهزيل حافي القدمين المستند بظهره على الحائط المتكأ برأسه النائم على البائس بقربه .. ملابس ممزقة .. عمامة مهترئة وجسد مدعوك بالرماد .. حاولت إيقاظه فاشمأزت فبادرت كندة حالا .. أيقظته وبالكاد استيقظ .. أيقظته ليهتز عالمها بعد ذلك في لحظة .. اضطربت أمعاؤها وارتج خافقها وإحساسها المعطل المركون عند عتبة الباب ذاك أتي إليها .. يجري صارخا بكلمات لم تجد .. وقعًا حقيقيا في داخلها حتى إذا ما .. أحنى رأسه فسقطت عمامته فكشف لها المستور الذي أربكها .. وجهه الأمرد .. شعره المسترسل وغرته السوداء التي اكتنفت نصف وجهه دون استثناء .. التقاسيم ذاتها ممزوجة بقصة من الشقاء .. النظرات المتعبة التي تخلو من وجودها والصوت الخافت المستهزأ المرحب: آآآآآآآه .. أماه .. كيف الحال؟ مد يدا فارغة ترجو العطاء وبالأخرى ارتشف ما تبقى من شراب في زجاجته .. أمرت الجند أن يعيدوه إلى القصر على الفور فصنع فوضى لم تكن في الحسبان .. ساء الوضع فاقترحت كنده إرجاعه إلى القصر بنفسها فأمره على وشك أن يفتضح وليس من صالح الملكة أن تستمر في عنادها فقد يأتي ذلك عليها بما لا يحمد عقباه .. غادرت بعد أن تركتهما بصحبة حارسان طلبت منهما كندة ألا يلتصقا بهما كي لا يثيرا الشبهة .. سار مترنحا حتى ولج إلى السوق إلى مكان اكتظ بالألوان .. النساء بعباءاتهن اللاتي تميزن بهن .. تعرف الأرملة بعباءتها البيضاء .. المطلقة بالصفراء .. المتزوجة بالسوداء والبكر بلونها الزهري والرجل من فئتها بالعسلي .. وللباعة ألوان وللخدم ومن بلغ الحلم ومن دونهم ألوان .. أما الملك وأهله فقد اختصوا بعباءات من الذهب الخالص مطرزة بخيوط من فضة مرصعة بالزمرد بالياقوت بحبات المرجان .. توقف أمام محل للعطور .. سكب بعضها على ملابسه ولولا كندة .. لكان تناول أحدها توقف .. عند محل للملابس النسائية .. ارتدى هذه واتزر بتلك وتلك تصده تحاول منعه وهو غير عابهٍ بها قد .. تركها ثم سار في طريقه وهكذا .. يحطم هذا ويمزق ذاك .. يخرب يصرخ .. يرقص يغني ويهلوس .. يتصرف كالأمير في عالمه المجنون .. يجري هاربا فحشد من المطالبين خلفه مباشرة .. قبضوا عليه وألقوه داخل حلبة قريبة ليواجه مصيره .. الكل يهتف للضخم المتصلب كالحائط أن اقتص منه وامنحه ما يستحق .. مبتسما كان ولازال حتى بعدما رفعه إلى الأعلى وطرحه أرضا .. جعل ينظر إليه بطريقة أغاضته جعلته يرتمي بثقله عليه .. مد ساقيه وبقدميه العاريتين أصاب أعضاءه فسقط يتلوى من الألم يبكي فقد أصابه إصابة فجرت دماءه .. امتطى ظهره غير مهتم .. الكل صامت ما عداه وكندة الحائرة في أمرها لا تدري ما تفعل ..
ففارس أحلامها غريب عنها ..
من لم تؤمن يوما بأنها ستلقاه ..
التقته ولكن ..
هل هكذا يجب .. أن يكون اللقاء ..
تبعته حتى استلم جائزته حتى نثر النقود فوق طفل وانتزع دجاجته .. خلفه حتى بلغ مزرعة .. عاث فيها فسادا ثم هرب .. حتى نفذ إلى نادٍ .. ملأ جوفه بالشراب ثم خرج .. إلى حافة جبل .. أراد أن يفلت الدجاجة أن يلقيها من الهاوية فأفلتت .. لحق بها إلى غابة تكتسي بالثوب الأحمر كلما غربت الشمس وتتوهج كاللهب كلما اكتمل القمر .. يخشاها الناس كما الملك .. لا يتجرأ أحد على دخولها أو الاقتراب منها هي بقعة .. لا وجود لها خارج حدود سيطرة الملك .. توغل عميقا خلفها وكنده تحاول جاهدة ألا يغيب عن نظرها .. ارتطم بأحد الأشجار فأسرعت إليه .. احتضنت رأسه .. عاينته .. لم يصب بأذى لقد أغمي عليه فقط .. لم تشأ إيقاظه .. أن يكون وديعا مسالما هكذا .. أن تتملى منه دون أن تلهث خلفه .. أن تتلمس تلك التقاسيم التي لطالما عبثت بمخيلتها دون أن تخشى أحدا .. أن ينعم ببعض الراحة بعد كل الذي رأته سيجعلها تشعر بالراحة أيضا .. هي لم تصدق بعد .. ستستيقظ في أي لحظة هذا ما اعتقدته إلا أن الحلم يزداد غرابة فأطياف مضيئة كالقناديل المعلقة بأذيال من لهب تندفع خلف ثعلب يقضم بين فكيه دجاجة وزنها من ذهب .. لاحظها أحدهم فتقدم ببطء ناحيتها .. خائفة مذعورة ولكن ما باليد حيلة فهي لا تستطيع تركه .. حَملَه واستدعاء النجدة أمر لا يسعه مدى صوتها .. يكاد يلتقي بها بأرنبة أنفها .. تراجعت حتى التصقت بالجذع خلفها .. لم يلتفت لذعرها لم يستمع لنبضات قلبها بل .. لقد اقترب أكثر وبجرأةٍ حينما .. امتدت أطرافه ببطءٍ من الداخل تعبث .. بأمائرها بالخصلات المتناثرة على جبينها .. بخمارها .. اخترقت ثوبها إلى محيط صدرها إلى قلبها الذي تباطأت نبضاته .. ثوان والتصق وجه الطيف في وجهها وكأنه يقبلها والتفت أطرافه تعانقها .. لم تشعر بالوجع أو الألم بل بإحساس غامر بالمحبة بالدفء يحيطها ولم يفلتها إلا بعد أن ارتد طرف الراقد في حضنها .. دنا منه فتعكر مزاجه تعكرًا جعل اللهب يتطاول نحو مقدمته .. أطفأت بيدها العارية ما التهب .. احتضنت رأسه وبشجاعتها المتواضعة حاولت دفع ما اقترب .. أخذ الطيف يحوم حولها بانزعاج شديد وهي تصده تمنعه من الاقتراب ولم يزل حتى لاحت له فرصة .. أوشك فبرزت جذور الشجرة التي تظلهم وارتفعت تصنع قفصا ذا فتحات ضيقة اكتنفهم .. محاولات الطيف اليائسة جعلته يشتاط غضبا جعلته .. يقذف اللهب بلا مبالاة هنا وهناك.. تحرك الحصى ومن تحته انبرت من جحورها أقزام بحجم الفول ذات بطون ممتلئة تطفأ اللهب بالماء المندفع من أفواهها وما إن انتهت حتى .. عادت من حيث أتت .. تحولقت الأطياف حول صاحبها تمتص غضبه .. عاد الوضع إلى ما كان عليه .. دنا منها معتذرًا وبحزنٍ شديد بان عليه .. ودعها بطرفه التي لامس برفق وجنتها .. محيط وجهها و غادر .. غادر تاركا إياها بصحبة القمر الذي اكتمل شامخا رغم السحاب المكتظ الذي يبدو أنه يهابه .. سكب ضوءه بقوة وسط المكان .. بين الزوايا وفوق الأغصان .. فراشات لا لون لها وجنيات لا هم لها سوى توسط الضوء ونثره .. أسماك طائرة .. ضفادع ذات إزار وبلابل أفاقت تشهد الحال .. استحال العشب الأخضر وانتزع الشجر رداءه وتبدل لون الحصى .. لون الندى والأزهار .. الوهج الأحمر يكتسح المكان وهي ترى مالا يعقل ولا يخطر على بال .. أتى البلبل .. بلبلها .. فز قلبها لدى رؤيته .. إنه من تمنت من القلب رؤيته .. لقاء لثوانٍ انتهى حينما .. نثر رذاذا فوق عينيها فغفت وعند الفجر استيقظت .. أين القفص الذي اكتنفها .. الأجواء الساحرة والوهج الأحمر الذي اكتسحها بل .. أين هي الآن؟ لا تزال في الغابة إلا أنها .. قرب المدخل .. سحبته إلى الخارج .. استدعتهما .. من لَم يتجرءا مطلقًا على اللحاق بها .. من أخذا منها عهدًا ألا .. تخبر أحدا ..حملاه وقفلوا راجعين إلى القصر ..
عادت كندة إلى جناحها وارتمت فوق سريرها تفكر حائرة بين ..
الحلم الذي رأته ثم اختفى ..
وبين الحلم الواقع بين يديها الآن ..
كان هذا هو الفصل الأول .. أرجو أن يحوز على رضاكم أن ألقى منكم التشجيع الذي يدفعني للاستمرار دون توقف أو تقصير ..
|