شعور ضبابيّ يسيطر عليها ..
همهمات تصل إلى أذنيها شبه المتوقفتين عن العمل وهبَّاتٌ من نسيم بارد تلامس جلدها ببطء ..
جاهدت لفتح عينيها محاولة التغلب على الظلام الذي سيطر على عقلها في تلك اللحظة لتداعب مسامعها هتافات وصلتها همساتٍ تقول: إنها تفيق .. يا خالة، جفونها تتحرك!
أطبقت جفنيها بقوةٍ، محاولةً التركيز على إدراك مكانها أو حالتها فقط على الأقل لتفتحهما لا إرادياً ما إن تناهى إلى مسامعها ذلك الصوت المتزامن مع لمسة حانية أحستها على وجهها قائلاً:
صغيرتي، عدتِ إليّ حقاً؟!
انقطع الصوت لثانية ثم عاد يهتف برجاء شَجِنٍ ما إن قابلت عينا صاحبته مقلتيها البنيتين اللتين تختفيان بين ثانية وأخرى بفعل رفرفة رموشها التي تحاول التأقلم على الوضع الجديد:
أميرتي الصغيرة، أنت بخير حقاً؟!
اهتزت شفتاها الجافتان لتفر من بينهما بصعوبة حروف متقطعة شكلت كلمة
"أمي" لتهتف الأخرى وقد وجدت العبرات أخيراً طريقها إلى وجنتيها الشاحبتين:
لا تتعبي نفسك بالكلام، صغيرتي .. أنتِ على ما يرام .. أنتِ على ما يرام، وهذا فقط ما يهم.
اقتربت الأولى لتضع كفيها على كتف رفيقتها المستلقية باستسلام على فراشها هامسة بابتسامة مؤازرة:
كنت أعلم أنكِ ستتجاوزين الأزمة وتعودين بسلام .. أهلاً بعودتك.
***
دفقات الهواء المندفعة من النافذة المفتوحة أمامها تتسلل بين خصلات شعرها القصيرة فتنثرها بفوضوية حول وجهها شبه الدائري بينما كفها تدفع الستائر التائقة إلى الاهتزاز بحريةٍ جانباً تاركة للمقلتين بلون الشكولا الداكنة الحرية في التجول على الشجيرات المهذبة في حديقة منزلهم الجديد ..
علمت من أمها أنهم انتقلوا إلى هنا خلال الفترة التي ابتلعها فيها عالم الغياب الضبابي لتفيق في مكان جديد كلياً، فربما يساعدها ذلك على تجاوز إحساسها المر بالغدر ..
السور المحيط بالمكان مكونٌ من صفوف من الحجر البني القاتم مع قوالب فاتحة منثورة بفن لتشكل بتلات زهور صغيرة اتخذت مستويات مختلفة على محيط السور ..
اليوم ستكتشف أخيراً شكل الحياة وراءه .. حياة، لا تعرف منها إلا رءوس العمارات القديمة نوعاً ما والتى كانت الشيء الوحيد الممكن رؤيته دون تجاوز سور البيت المنعزل عن المكان من حوله.
هي لم تغادر حدود المنزل إلا مراتٍ معدودة بعد إصرار صديقتها تجولتا فيها بأروقة الحديقة خلال فترة نقاهة أقصر مما تخيلتها وإن كانت طويلة نسبياً ..
أولت النافذةَ ظهرها لتبتسم عيناها وهما تقعان على الحجرة التي شكلت مرفأ أمانها في الفترة الأخيرة ..
جدرانٌ وأثاث بلون السماء مع مفروشات تنوعت بين درجات الأزرق للفراش وأغطية الكراسي التي احتلت زاوية المكان والرمادي الفاتح للسجادة التي غاصت قدماها في وبرها الناعم ..
لم يمض الكثير مذ أزيلت الأجهزة الطبية التي احتلت الجزء الأكبر من الغرفة الواسعة..
والداها لم يريدا لها قضاء فترة الغيبوبة في المشفى فجلباه إلى عالمها الجديد، ورغم كونها قد استغنت عن هذه الأجهزة منذ أشهر ربما، ولكنهما أبقيا عليها تحت تأثير رعبٍ داخليٍ من عودة صحتها للانتكاس من جديد .. انتكاس لم يحصل ولله الحمد ..
حسناً، هي ليست بذلك الضعف في العادة، وصداقة رقت لدرجة الأخوة لم يكن دمارها ليوقعها تحت وطأة الانهيار العصبي في وضعها الطبيعي .. تدرك هذا جيداً، ولكنا تدرك أيضاً أنها لسوء الحظ أو حسنه ربما، كانت قد سمحت لآثار الضغط التي دفنتها سنينَ بالعودة إلى السطح وربما كان هذا سبب ضعفها الغريب ..
لحسن الحظ، لأنها قامت من انهيارها وقد أزاحت كل شيء بعيداً، كما ترجو ..
انتشلها من أفكارها صوت طرقات على باب الغرفة تبعه انفراجه عن شابة في نفس سنها تقريباً، أقصر بقليل من السنتيمترات ولها ابتسامة مرحة تشع من عينيها قبل أن ترتسم على وجهها ..
هتفت الزائرة وهي ترى هيئتها:
جاهزة للجولة؟
أومأت بالإيجاب لتقول تلك بمرح قبل أن تتخذ طريقاً بدت تعرفه جيداً بين أروقة المنزل:
إذن هيا بنا يا كسولة ..
***
أمام بوابة البيت وقفتا، وأشعة الشمس الغاربة تنثر شيئاً من اللمعان على شعرهما ..
سألت صديقتها بمشاكسة:
أرأيتِ؟ إنها مبانٍ وطرقٌ عادية تماماً، بل قديمة ومقشرة كحيكم القديم تقريباً .. لا شيء بلون الدم ولا ضباب يغطي هذه البقعة من المدينة، لذا أنتِ بأمان كليّ.
أتبعت كلماتها بضربة لطيفة على كتفها لتبتسم هي وتقول بهدوء:
ألن تنسيّ هذا الكابوس عما قريب؟! صدقاً، أنا بخير ولم أعد أفكر في الأمر حالياً.
لتهتف الأخرى مشجعةً:
أحسنتِ، لا تتركي للآخرين المجال ليتخذوا منك موقعاً قد يسببون لك منه الأذى يوماً ما ..
اكتفت بالابتسام كردٍ على الكلام الذي تأمل أن الطعنة الأخيرة كانت كفيلة بتثبيته في رأسها الأخرق ..
وقع بصرها على أثر جرح كاد يختفي عن معصمها الأيمن تماماً كما كاد جرح قلبها يزول .. نعم، لا داعي لاقتراب أحد .. لا داعي للتفكير في صداقة تتوغل أكثر داخل محيطها الآمن في قفصه الفولاذي الوهمي ..
حتى هذه التي ودعتها للتو ماضية في طريقها .. هذه التي لم تعرفها لمدة طويلة ولكنها كانت ركناً أساسياً من أركان تجاوزها خيانة معنوية ممن قد سمتهما يوماً أختين .. حتى هذه، ستحتفظ معها بعلاقة هادئة .. لكلٍ اهتماماتها .. لكلٍ عالمها .. لكلٍ فلكها الخاص الذي تدور فيه أحلامها وأوهامهما ..
قد تلتقيان اليوم لتفترقا غداً، لا أحد يدري، ولكنها ستظل ممتنة أبد الدهر ليدها التي امتدت تنتشلها من دوامة ضياع كادت تبتلعها كلياً ..
دفعت البوابة الخشبية لترتسم على شفتيها ابتسامة حب خالصة لدى رؤيتها والديها منتظرين أمام مدخل البيت كما توقعت أن تجدهما ..
سارعت إلى تقبيل جبهتيهما وأكفهما بينما يمطرانها بالأسئلة عما فعلته في يومها الأول بالخارج وهي تجيب وما زالت ابتسامتها حاضرة ..
دلفوا إلى بيتهم الدافيء بينما البدر يرسل أولى أشعته الفضية لتنعكس على بتلات الأزهار المتناثرة على أرضية حديقتهم معلناً غروب شمس آلامها مع غروب شمس المدينة.