المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
عيناه تذرفان.
عيناه تذرفان
صديق الطفولة البريئة، قصير القامة، خفيف اللحم، رشيق الجسم، دائم الابتسام، كسِّيب، يعرف من أين يأتي بالقرش، تكون ماهرًا لو لملمت جملة من خربشته.
ما إن رآني فوق دراجتي الهوائية - بعد عودتنا من سنوات التهجير - حتى حاذاني بسيارته الفاخرة وفتح بابها الأمامي، فما إن أدركت أنه هو حتى قفزت إلى جواره، وتعانقنا، وتم تحميل الدراجة بشنطة السيارة.
واتفقنا، وكان كريمًا.
قال:
• حدِّد الأجر الذي تريده؛ فأنت محاسبي العليم الأمين، لا أرتضي غيرَك.
ما إن يسمع أذان الوقت حتى أجده فوق رأسي يسحبني من يدي في مودة للمسجد.
كما رتبنا البدار إلى فتح المعرض لنباركه يوميًّا بآيات الذِّكر الحكيم مما عليه حفظه ومراجعته.
ما إن يبدأ ترديد الآيات خلفي، حتى يغشاه التأثُّر فيخشع، وتغرورق عيناه وتحمرَّا.
كان يقف يوميًّا بالحارة يصل طينُ الشتاء لنصف رِجليه، أمامه طبلية خشبية نصبها على أربع، رصَّ عليها علب البسكويت، والملبسات واللبان، وحلوى الموز، والبمب، والبالونات.
يخشخش جيبه بالنقود المعدنية لينبّه العيال لبضاعته.
ألزم نفسه بمبلغ يومي "يحوّشه" ادخارًا لمستقبله في الحصالة الصفيح التي اشتراها من السمكري الأشقر ذي البشرة المهببة؛ لذلك أطلقنا عليه اسم شهرته: "حواش".
فكرت في وضع رجلي على طريق الثروة مثله.
فلو وجدت محلاًّ لاشتريته بمجوهرات زوجتي.
وإذ عرَض عليَّ أحدهم أن أشتري محلاًّ، طلبت نصيحة الحاج صديق الطفولة المتدين لخبرته.
نهض الحاج إلى الغرفة الداخلية ثم ناداني وهمس ناصحًا: انتظرني لأستطلع حكايته وضرائبه.
وأسرع إلى الرجل قائلاً:
بنا نعاين.
تابعت عملي يغمرني شعور بالبهجة لهذه الفرصة الهائلة، أمتلك محلاًّ وأملؤه ببضائع المنطقة الحرة، وأنطلق إلى عالم التجارة الرابحة؛ فتسعة أعشار الرزق في التجارة، وأحلَّ الله البيع.
عاد ليقول لي:
• لا يصلح؛ مثقَل بالضرائب، وغير مؤمَّن.
استسلمت فورًا لرأي الحاج المؤمن، وفي نفس الوقت نعيت حظي.
قمت بالجولة اليومية لتحصيل دفعة من حساب العملاء، ثم عرجت على المحل لأستطلعه، ولدهشتي وجدت الحاج يشرف على أعمال النجارة والدهانات به.
قلت بصوت مبحوح:
"مبارك"، على من "رسي" المحل؟
لف الحاج ساعده على وسطي ومشى بي وهو يقول: "الحياة فرص؛ ألا تعرف أنني شخصيًّا مغناطيس الفرص".
اسوَدَّت الدنيا أمامي، وداهمني اكتئاب شديد مع اشتعال نار كراهيتي الشديدة لهذا الماكر القصير.
أليس الدين النصيحة؟ وهذا الصديق خانني بنصيحته! يا له من خَنجَر مسموم أصاب قلبي في الصميم!
استأذنت بصوت مخنوق، وانصرفت يغشاني العشَى الليليُّ لأول مرة من شدة الصدمة، وكدتُ أصرخ من شدة الآلام التي نفثها الغدر والخيانة والأنانية في كل خلاياي ونفسيتي الحساسة.
لجأت إليها: أفضيت بهمي المتأجج وألمي الممض من خيانة صديق الطفولة، ومحل ثقتي الكاملة، الرجل الذي يبكي دمًا تأثُّرًا عند سماع آيات القرآن العظيم! الرجل الذي يصلي الفرضَ لوقته جماعة في المسجد!
فاحتوتني زوجتي ونصحتني:
• اهدأ، هذا درس لن تنساه، استمرَّ معه وستوافيك فرصة أخرى فاكتُمْها.
عصرت على نفسي "لمونة" وذهبت بخطى متثاقلة.
لأجد الحاج قد سبقني.
ردد الآيات خلفي بخشوعه المعتاد.
ولما انتهينا احتل وجهَه الأسمرَ ملامحُ الحزن، وبرزت زرقة هالتين منتفختين تحت عينيه!
وقال:
• "شُفْت" المصيبة!
المحل أزيل تنفيذًا لحُكم قضائي نهائي، وباتت خَسارتي كبيرة.
• والبائع؟
• فص ملح و"داب"!
|