~_ الفصل الأول .. ورده بين الأزهار _~
كاد القطار ان يفوت لأنها اخطأت فى حساب الوقت الذى تحتاج اليه لتنتقل فى السيارة التاكسى من منطقة اورلز كورت الى محطة بادينغتون للسكه الحديد, تركها الحمال مع حقائبها فى أحد الممرات,فحملت لورا حقائبها وتوجهت نحو القطار تفتش عن مكان خال داخل عربات الدرجه التانيه, كانت تتعثر بالحقائب وبالمسافرين, وراحت تلوم نفسها لرعونتها وعدم مهارتها, خيل اليها انها تسمع صوت ابنة عمها كليوباترا وهى تقول:"انت دائما تائهة وشاردة الذهن, يا لورا"
وكليوباترا ليست مخطئه, فهى لم يسبق لها من قبل ان فشلت فى معالجة مشكله تواجهها , صعبه كانت ام سهله, لاشئ يعكر روحها العمليه وحضور ذهنها.
" عفوا.. بالأذن .. عفوا ..."
لم تكف لورا عن التفوه بهذه الكلمات بينما كانت تحاول المرور بين الركاب المزدحمين, أخيرا , فقدت توازنها وسقطت فوق خقيبه قى وسط الطريق صاحبها ساب متكئ فى وقاحه على باب عربه شبه فارغه, فصرخت باستغراب:"آه! يا الهى! هذا ما ينقصنى"
فانحنى الشاب لمساعدتها على النهوض , شعره الاسود المشعث ووجهه المتيقظ والمتوقد وبشرته السمراء التى تذكرك بشمس البلدان الأستوائية , كلها تدل على أنه قرصان أو مهرب.
قال فى لهجة تسحق القلب:" اعذرينى لأننى تركت حقيبتى فى وسط الطريق!"
أجابت وهى تلوم نفسها لفقدها التوازن:" كدت اكسر قدمى"
حاول بوقاحه الاطمئنان على ركبتها فابتعدت عنه فى سرعه وقالت:" كلا, لا أعانى من شئ"
بدا وكأنه يسخر أكثر فأكثر من رد فعلها فأعلن قائلا:" لديك ثلاث علامات نمش على انفك"
احست لورا انه يسخر منها, فلم تبتسم له, لكنها قالت فى صوت متعب : " نعم لدى ثلاث علامات نمش على أنفى , وأعتقد ان وجهى ملئ بالغبار وشعرى مشعث ... كما اشعر بعدم قدرتى على الاستمرار فى البحث عن مكان خال داخل القطار"
اقترح عليها وهو يشير برأسه الى الحافله التابعه للدرجة الأولى : " اذن لاعليكى الا ان تجلسى هنا "
" لكننى لا أحمل تذكرة درجه أولى "
" وماذا اذن ؟ "
فتح الباب وانحنى أمامها ضاحكا وتابع يقول : " لايهم ! أنا أتفاهم مع المراقب, فأننى لا أخشى العراك "
ولمجرد رؤية ملامحه التى تدل على حب المغامره, والتفكير فى الوقوف لمدة خمس ساعات , صدقته وتركت نفسها تجلس فى المقعد المريح وجلس الرجل الغريب فى مواجهتها وقال: " تعاسة البعض قد تؤدى الى سعادة الأخرين ! كنت قد قررت الاستسلام للضجر, فجئت انت فى الوقت المناسب لتسلينى , الى اين ذاهبه؟ "
" الى ميرينبورث"
" عليك اذن أن تأخذى قطارا آخر فى محطة ترورو,هل تعرفين المنطقة ؟"
أجابت لورا بايماءه من رأسها. ان الرجل أمامها يتصرف فى ألفه مشبعه بالسخرية, نظراته النافذه بدأت تزعجها وارتاحت لوجود ركاب آخرين غيرهما يطالعون الصحف, وبدا على الرجل الغريب أنه فهم ما يدور فى رأسها , فسألها فى الحال : " مم تخافين؟ "
احمر وجه لورا فأضاف قائلا : " انها موهبة بدأت تزول "
سألته لورا فى سذاجة : " أى موهبه تقصد ؟"
" موهبة الأحمرار , أنت ما تزالين صغيرة "
احتجت قائلة : " عمرى 20 سنه , وأنى أعيل نفسى !"
" صحيح؟ ماذا تعملين؟ "
" أنا بائعة زهور "
" هذا لطيف جدا ! انه يليق بك تماما ,انت نفسك زهرة , ووجهك الجميل لا شك أنه يجعل الورود شاحبة من الغيرة "
احمر وجه لورا من جديد , لكن هذه المره من الغضب.
" لديك نظرة شاعرية اتجاه مهنتى ! هل أنت معتاد على التفوه بالتفاهات امام البنات اللواتى لا تعرفهن ؟"
قال فى تحد : " نعم . وفى معظم الأوقات , أنجح فى ذلك , وجهك غير نظيف وشعرك مشعث !"
تناولت لورا حقيبة يدها وبحثت فيها عن المشط وأدوات الزينة , بينما هو يراقبها فى مرح ووقاحة, وراح يتأمل وجهها المثلث, الشاحب وعينيها الواسعتين وشعرها الأسود الذى يرفض مجاراة الموضه والمنسدل فى كسل حول عنقها النحيف , ان لورا ممشوقة القوام , لكن معطفها الرمادى لا يتناسب مع قامتها وحتى مع بشرتها.
قالت فجأة : " هل انتهيت من مراقبتى ؟"
بدا الرجل وكأنه فوجئ بهذا الهجوم المباشر التى تشنه هذه الفتاه الخجولة ظاهريا , لكنها أكدت بلهجه جعلته يضحك , اذ قالت : " تعتقد كليوباترا اننى لا أعرف كيف أتدبر أمرى , لكن فى رأيى , على المرء أن يتقبل ظروفه كما هى "
" تعجبنى صراحتك يا آنسة ... !"
حذرتها العمة فلورا مرارا من اللقاءات المفاجئه والقدرية غير انها. من جهه ثانيه , علمتها اللياقة والتهذيب .فأجابت بهدوء : " اسمى لورا سميث "
" ومن هى كليوباترا ؟"
" ابنة عمتى , انى ذاهبه الى الريف الغربى كى أساعدها على الاهتمام بأبنها الصغير "
" هل تسكن فى ميرينبورث؟"
"كلا, ميرينبورث هى المحطة القريبه من القرية التى تعيش فيها فى الوقت الحاضر, انها تسكن الريف فى منزل يدعى *بانسيون* "
لاحظت لورا نظرة اهتمام فى عينى الرجل , وكادت أن تستعلم بدورها عن أسمه عندما دخل المفتش الى المقصورة, ولما أراد أن يطبق القانون راح الرجل يسخر منه ويشتمه فى عنف كما يتصرف أبناء الشوارع , فانزعجت لورا من هذا التصرف وأسرعت الى دفع الغرامة.
وبعدما غادر المفتش الغاضب المقصورة راحت لورا تلومه فى مرارة جارحة لتصرفه المقيت وهى تقول :" الظاهر ان ما حدث الأن أفرحك! هل تهوى ازعاج الناس ؟"
" ولم لا ؟"
ألقى نظرة سريعه على المسافرين الاخرين الذين كانوا يستغربون تصرفه الوقح , فأسرعوا من جديد الى التحديق فى الجرائد , الوضع كان مضحكا, ولم تعد لورا تستطيع المحافظه على جديتها , فاذا بها تنفجر ضاحكة . وفى الحال بدأ الرجل يستلطفها, وأدرك أن رفقتها ستساعده فعلا على ملء ساعات السفر الطويلة , فقال : " تعالى , سأدعوك الى تناول الغداء معى "
صرخت وهى تتذكر نصائح العمه فلورا : " آه , لا! "
" لا تكونى تافهة وحمقاء , اننا الآن صديقان !"
كانت لورا تتضور جوعا ولم يكن فى وسعها ان ترفض عرضه , فقد كان رفيقها مهتم بها كما يجب , حريصا على أن تتناول طعامها , أنه فضولى جدا يريد ان يعرف الذى ستتجه اليه لورا , فقال : " أنت اذن ستهتمين بولد فى ميرينيورث ؟"
" ليس فى ميرينيورث , بل فى *بانسيون*, المربية التى حجزتها ابنة عمتى اعتذرت فى اللحظه الاخيره , وبما ان المحل الذى كنت أعمل فيه أعلن افلاسه , فقد اقترحت على كليوباترا أن أتى الى *بانسيون* وتمضية بعض الوقت هناك قبل البحث عن عمل آخر , ان اقامتى هناك مؤقته "
قال الرجل بعدما قطب حاجبيه : " الاهتمام بولد صغير , تعتبرينه اجازة ! "
كيف عرف أنه ليس فى امكان أحد أن يرفض طلب كليوباترا ؟ على كل حال , ان الاهتمام بنيكولا ليس مهمه صعبه , قالت : " بعد وفاة والدى , تربيت عند عمتى فلورا , وبما أن والدى كليوباترا كانا يقطنان فى الهند , فقد وضعاها فى مدرسه داخليه فى انجلترا , لكنها كانت تمضى الأجازات المدرسيه فى منزل العمه فلورا, وكنت أكن لها اعجابا كبيرا لا حدود له , كنت ما أزال صغيره وهى فى سن المراهقه وكانت باهرة الجمال , واثقه من نفسها وشديدة التكلف .. "
" وماذا بعد ؟ "
" تزوجت من رجل يدعى ترويلوس تريفاين , لم أتعرف اليه لأن ..."
قاطعها الرجل من جديد وقال فى استغراب : " تريفاين ؟ آل تريفاين الذين يقطنون فى بانسيون ؟ "
" نعم , هل تعرفهم ؟ "
" سمعت عنهم الكثير "
فرحت لورا بهذا الخبر وسألته : " اذن يمكنك ان تخبرنى عنهم ! هل مازالوا يعتبرون ان القراصنه هم جزء من أسلافهم؟ "
هذا السؤال أدى الى انفجار الرجل فى ضحك ساخر , وقال : " فى الوقت الحاضر , انا الذى أصغى اليك "
بدأت لورا تفقد تركيزها, فقالت فى غير وضوح : " فى الواقع , ليست هناك أشياء كثيره أقولها, فى بانسيون , كان يعيش ثلاثة أبناء مع والدهم العجوز الشرير الذى كان يملك ميدانا للخيل , لا أعرف بالظبط , وهذا الأب القوى أرغم ثانى أولاده ويدعى ترويلوس على عقد خطبته من فتاة اختارها له , وذات يوم , لا أعرف تفاصيل القصه ,هرب ترويلوس الى اوستراليا مع ابنة عمتى "
صمتت لورا ثم انصرفت الى الطعام الذى بدأ يبرد , فأكمل الرجل الحديث عنها وقال : " ومات العجوز الشرير جاهلا تماما انه أصبح جدا , فورث كبير أبنائه المصنع وترويلوس , ذو العادات الغريبه مات فى حادث سيارة تاركا أرملة وابنا صغيرا كان مفاجأة للجميع "
فتحت لورا عينيها الواسعتين وقالت فى خيبة أمل : " أنت تعرف كل شئ "
قال الرجل فى ابتسامه : " انى ابن المنطقه والعجوز زاكارى ومشاجراته العائليه مشهوره جدا فى المنطقه "
لم تقتنع لورا كليا بما قاله وخيل اليها انه لا يقول الحقيقه , فقالت :" لا أعتقد أن آل تريفاين عائله بسيطه وعاديه "
" كيف يكونون بسطاء وأسلافهم قراصنه "
اعترفت فى خجل قائله : " أخشى أن أكون قد أخترعت لقب القراصنه , أحب الأساطير وآل تريفاين يجعلوننى أحلم فى ....."
دخل القطار نفق , فتوقفت لورا عن الكلام وراحت تفكر فى هذه الأسماء الثلاثه * دومنيك – ترويلوس وبيريغرين * الذين كانوا يهدهدون أحلامها منذ فتره طويله , وكانت كليوباترا تسخر دائما من خيالها الجامح , وأكدت لها مره فى سخريه أن ترويلوس كان كل شئ ما عدا كونه مغامر , اما دومنيك وبيرغرين فليسا سوى نسخه طبق الأصل من والدهما , لا يعرفان سوى احصاء ثروتهما , لكن فى الوقت الحالى , هل يعترفان بحقوق ابن كليوباترا ؟
ولما خرج القطار من النفق المظلم , سألت لورا :" دومنيك , هل هو رجل جيد ؟ "
" السلطان القرصان ؟ سوف تجدين الجواب بنفسك متى تعرفت اليه ! "
" لماذا تدعوه بالسلطان القرصان ؟ عندما كتبت له كليوباترا وأعلنت أن له ابن أخ يبلغ الخامسه من عمره , اقترح عليها فى الحال أن تأتى الى بانسيون , وهذا يدل على حسن نيته "
بدا الرجل الغريب فرحا بهذا الظلام وفى سرعه اختلط وجهه فى عقل لورا بالوجه الذى كانت تتخيله كلما تصورت فى ذهنها أبناء تريفاين الثلاثه , وسألها : "العمه فلورا ستتفرح بك اذن ..؟ "
" لقد ماتت , منذ فتره "
" اذن , تعيشين وحدك ؟"
" عندما عادت كليوباترا من اوستراليا , كنا نتقاسم شقه واحده لكننا ...!! "
قاطعها الرجل فى نفاذ صبر غير منتظر وقال : " لاتعتمدى كثيرا على عاطفة آل تريفاين "
" بأى حق تسمح لنفسك ان تصدر أحكاما عليهم ؟ "
حملت حقيبة يدها وقالت :" سأعود الى مكانى , وأشكرك على هذا الغداء , يا سيد ..."
بكن الرجل الغريب لم يطلعها على اسمه .
كانت الشمس قد شارفت على المغيب عندما عادا الى مكانهما.الرجل الغريب اختفى فى الممر , ولم يعد الا عندما وصل القطار الى محطة ترورو , لورا المتأثره بعقلية الخوف التى فرضتها عليها العمه فلورا , خافت أن تضل القطار الثانى , لكنها شعرت بارتياح عندما علمت أن الرجل الغريب سيأخذ القطار نفسه , استقلا معا القطار الثانى فسألته : " هل أنت ذاهب أيضا الى ميرينبورث؟ "
" كلا. سأهبط من القطار فى المحطه القادمه, وأنصحك مراعاة الهبوط فى المحطه المقصوده والا فسيأخذك القطار الى آخر البلاد ... وربما الى الجحيم حيث تلتقين الشيطان نفسه , أنت الآن فى كورنويل وأحيانا تقع هنا حوادث غريبه .."
" ما تقوله هراء أو هذيان ! "
غير أن لورا لم تستطع ان تمنع نفسها من الارتجاف.
فلاحظ الرجل هذا الأمر وقال هازئا : " لست فى وضع يؤهلك للعيش بين القراصنه !"
نامت فى انزعاج وكانت تستيقظ فى انتفاضه كلما توقف القطار فى المحطات , وخلال تلك اللحظات القصيره , كانت تجد فى رفيقها ملامح شريره ومؤذيه.
توقف القطار مره أخرى , فنهض الرجل الغريب وقال : "سأتركك هنا , ي آنسه سميث , عليك أن تترجلى فى المحطه التاليه ولا تدعى نفسك تذهبين الى الجحيم ! "
همست تقول : " وداعا ... وشكرا على الغداء "
قال وهو يختفى كالشبح : "هذا ليس وداعا .. سنلتقى مرات أخرى ! "
يا لهذا الشبح ! الشيطان ! ولامت لورا خيالاتها الخصبه وغابت فى نوم عميق , وفى نومها أصبحت رحلتها كابوسا يعبره القراصنه الذين كانوا يتحولون الى شياطين, وفجأة حدثت صدمه قوية . ألم واضح نبه لورا أنها لم تعد تحلم , فتوقف القطار فجأة فى محطة ميرينبورث ووقعت حقيبتها على رأسها.
وبعد نزولها رأت الرجل الغريب الذى رافقها فى رحلتها, فصرخت تقول : "يا الهى ... من أين جئت ؟ "
أجاب الرجل بعدما قطب حاجبيه الأسودين : " يا لهذه الطريقه الغريبه فى التحدث مع رجل غريب ! من تتصورينى يا آنسه ؟ من أنا فى نظرك ؟ "
"الشيــــطان !"
نطقت بهذه الكلمه غصبا عنها .
*نهايـــــة الفصل الاول *