المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
Mekarrenn Mefarrenn
Mekarrenn Mefarrenn
د/احمد خالد توفيق
يمكنك بسهولة أن تدرك أن زحف اللغات الغربية على اللغة العربية هو زحف مغولي لا يرحم، ويحرق القرى ويقتلع الزرع ويهلك الضرع.
كم من مرة قرأت في ردود القراء (نايس .. ثانكس) و(كول) و(لول). وقد قرأت قصائد عصماء لشاب من أقاربي كتبها كلها بطريقة الفرانكو آراب على غرار (7bibty 2alt li).. إلخ.
قال لي: إن هذه الطريقة أكثر رشاقة وظرفاً.. يبدو أن فكرة د. لويس عوض وطريقة أتاتورك في استبدال الحروف اللاتينية بالعربية تعود للحياة بقوة.
على كل حال نحن انتقائيون جداً في هذه الأمور.. يستمع المرء لأغانٍ غربية أو موسيقى كلاسيكية؛ فيتهمونه بأنه خواجة ومتصنّع، ويذكّرونه بأن "النبي عربي"؛ فإذا أبدى غضبه لأن فلاناً لم ينصب المفعول به أو يجزم فعلاً مضارعاً جاء بعد (لم)، قيل له: "ما تخليكش حنبلي كده".
كل هذا معروف وكُتبتْ عنه مقالات لا حصر لها؛ لكن ما ضايقني مؤخراً هو زحف مغولي من نوع جديد: زحف العامية لتطيح بقلاع الفصحى.
قد نقبل العامية المكتوبة في الحوار، وفي الشعر العامي، وفي كلمات معيّنة في السياق، وغالباً بين قوسين. كما يقول إبراهيم عيسى مثلاً: "بلاش دي.. تعال نتحدث عن كذا وكذا.. مشّيها كذا".
مجرد جرعات محسوبة تعطي حيوية وحميمية للكلام لا أكثر.. أما أن تقرأ مقالاً كاملاً بالعامية؛ فهذا بالتأكيد يشعرك بعدم راحة.. ثمة شيء ما خطأ.. أن تقرأ عنواناً في جريدة يقول: "السفير الإسرائيلي شغال نفسنة والوزير مكبر دماغه"؛ فهذا فتح جديد. لا أذكر أنني قرأت أي مقال سياسي مكتوباً بالعامية الأمريكية مثلاً، ولم أقرأ عنوان جريدة بريطانية يقول:
"Bullocks! The government ain't gonna win the elections"
سوف نقبل هذا باعتبار قطار التقدم أو الزحف المغولي -حسب رأيك– لا يمكن إيقافه، وهناك محاولات كثيرة سابقة؛ منها مثلاً كتاب "مذكرات طالب بعثة" للويس عوض الذي أثار دهشتي عندما قرأته أول مرة فوجدته بالعامية، وهو كتاب عتيق يرجع للخمسينات على ما أذكر.
اليوم يمكنك أن تقرأ مدوّنات طويلة جداً بالعامية على شبكة الإنترنت، ومع الوقت لم يعد هذا يبدو غريباً أو يستحق التعليق.
جاءت المفاجأة فعلاً عندما قرأت أن د. علي الدين هلال -أمين لجنة الإعلام وعضو المكتب السياسي للحزب الوطني- يطالب بعدم إلزام الطلبة المسيحيين بدراسة وحفظ الآيات القرآنية المقررة في مناهج اللغة العربية، وهو أمر غريب فعلاً.
أولاً: هذا القرار يعني تلقائياً عدم استخدام آيات في القرآن في منهج اللغة العربية للدينين معاً؛ لأن المسلمين لن يدرسوا منهج لغة عربية مغايراً لزملائهم المسيحيين؛ يعني هذا القرار معناه باختصار استبعاد القرآن الكريم من دراسة اللغة العربية.
ثانياً: كلنا يعرف أن الغرض من تدريس آيات قرآنية ليس الدعوة هنا؛ ولكن باعتبار القرآن الكريم هو أعلى مرجع ممكن للغة العربية، وقد تم تأسيس علمي النحو والبلاغة اعتماداً عليه.
إن الارتباط قوي جداً بين القرآن واللغة العربية؛ بحيث لا يمكن الكلام عنهما بشكل منفصل في الحقيقة. لا يمكن أن نتصور أن يدرس إنسان اللغة الإنجليزية من دون أن يدرس شكسبير، ولا أن يدرس الفرنسية من دون راسين وموليير؛ بالطبع لا يدرس الإنجيل أو التوراة بالإنجليزية؛ لأنك تعرف جيداً أن هذه ليست لغتهما الأصلية، وحتى النص العربي يعرف الجميع أنه مترجم. وكما يقول الزميل محمود الغنام في مقالة بعنوان "الطلاب المسيحيون والقرآن.. وافتكاسات "هلالية"!
فقد درس وحفظ مقاطع كاملة من التوراة عندما كان يدرس اللغة العبرية ولم يعترض؛ لأن هذا أمر طبيعي جداً.. لا يمكن بالفعل تخيّل دراسة اللغة العبرية من دون توراة.
دعك من أن هذه القضية لم تثر من قبل، ولي أصدقاء مسيحيون كثيرون سمعت منهم الكثير مما يضايقهم؛ فلم أسمع اعتراضاً على هذه النقطة بالذات.
إذن هي مناورة سياسية ستروق للغرب والأمريكان جداً؛ لكنها في الوقت ذاته تشارك دون قصد في هدم اللغة العربية، كما يحاول أي واحد آخر.
الآن ننتقل -بلا فخر- للويكيبديا المصرية، وهي موسوعة الإنترنت التي قررت أن تقدّم فتحاً جديداً بأن تكون كلها بالعامية. يقول مبدع الموسوعة: "ويكيبيديا مصري مكتوبة باللغة المصرية اللي بيتكلمها المصريين ومكتوبة زي ما بيكتبوها في جواباتهم لبعضهم وفي حياتهم اليومية".
ثم يسدي النصائح بصدد طريقة الكتابة؛ باعتبار أن تدمير اللغة العربية له قواعد صارمة: "ما فيش (ي), فيه (ى); لإن (ى) مكتوبة زي ما بيكتبوها المصريين؛ لكن لو عاوز تكتب (ي) ما فيش مشكلة لأن (ي) و(ى) حرف واحد.
(ته) التأنيث بتتكتب حسب النطق يا إما (ة) أو (ه), يعني تتكتب (انا رايح المكتبه) وتتكتب (انا رايح مكتبة الكليه). لو فيه كلمه من أصل عربي أو أي لغه فيها حرف/نطق (الث) وبيتنطق (س), يتساب زي ما هو. ولو بيتنطق (ت) يتكتب بـ(الت). ما فيش همزات قطع ولا همزات وصل.. كلهم (ا)، إلا لو في نص وآخر الكلمة؛ لكن لو عاوز تكتب همزة قطع جوّا المقالة, ما فيش مشكلة".
ثم يتذكر نصيحة مهمة: "فيه شوية صغيرة من المقالات في ويكيبيديا مصري منها نسخ بالأبجدية اللاتيني لإن كان فيه اقتراح من سنة 1948 لكتابة المصري بحروف الأبجدية اللاتيني, ورغم إن أغلبية المصريين مش بتفضّل الأبجدية اللاتيني؛ لكن فيه مواد قليلة جداً في ويكيبيديا مصري بحروف الأبجدية اللاتيني (الفرانكو) للي عاوز يكتب بيها".
يمكن بسهولة استنتاج أن الخطوة التالية هي استعمال الحروف اللاتينية لكتابة العربية، كما يحدث في (الشات)، ويبدو أن نبوءة نزار قباني عن يوم يرغموننا فيه على أن نقرأ القرآن بحروف عبرية ليست شطحة شعرية. نعم .. أعتقد كما تعتقد أنت أن الأمر ليس مؤامرة منظّمة، بقدر ما هو نوع من (الروشنة) الشبابية.
لا أعتقد أننا نملك اليوم التفكير المنظّم الذي يسمح بنسج المؤامرات؛ لكننا نتحرك بعشوائية وحماقة كمستعمرة نمل مذعورة، والنتيجة واحدة هي أننا فعلاً ندمّر لغتنا بلا توقّف.. دعك من النزعة العنصرية -ولا أقول الشعوبية- الواضحة في هذه الويكيبيديا؛ إذ ترفض كل ما هو عربي غير مصري حتى (الياء المنقوطة) التي تميّز كتابة الشوام.
الموقف لم يحدث من قبل في التاريخ؛ لأن الإنترنت لم تكن موجودة، ولم يكن بوسع كل شخص أن يقول ما يريد ليقرأه الجميع.
ليس الخطر ببعيد أو وهمي؛ إذ يجب أن تتذكر أن اللغة اللاتينية ماتت مع الزمن لتحلّ محلّها العامّية التي صارت اللغة الإيطالية فيما بعد، وعلى من يرغب في استعادة اللاتينية أن يتخصص في ذلك.
على الأقل نحن نعرف أن اللغة العربية باقية ما بقي القرآن؛ لكن هذا لا يلغي الاحتمال المخيف: أن تصير الفصحى لغة خاصة لا يتعامل بها إلا من يقرأ القرآن أو يدرس دراسات دينية؛ بينما المجتمع والصحف وكل شيء يتكلم بلغة (النفسنة) و(كول آخر حاجة)، ويكتب قصائد المتنبي وامرؤ القيس بحروف لاتينية، ومن يعترض فهو رجل ضيّق الأفق.
|