(رجاء خاص من أصحاب القلوب الضعيفة عدم قراءة القصة)
جثة في المحمية
في تلك المحمية المنعزلة وسط الصحراء كان يعمل (نوح) وزميل عمله كحراس لها, يقضون أوقاتهم يتكلمون يتحدثون يسلون بعضهم بعضا محافظين على صلواتهم وخشوعهم في آناء الليل حيث تلك الأرض المقطوعة عن الجميع , ذلك ماكان ظاهرا فقط , بينما هم في الحقيقة يكرهون بعضهم بشدة حسدا يملاء قلبيهما , يغتابون بعضهم , نميمة تنهش لحمهم , يقذفون المحصنات في بيوتهم , عند من يرأسوهم في العمل وأصدقاءهم , بسبب طمعهم أن يصبح أحدهم مديرا على الآخر , كي يتأمر عليه ويتسلط يشعر بفخرا داخل نفسه اللئيمة .
ذات ظهرا حارا جدا يحرق بلهيبه مابداخل الأنفس وماتخفى الصدور , كان الرفيقان يجوبان بسيارتهم تلك المحمية الكبيرة التي خلت حتى من بقة وبعوضة يجاملون بعضهم , إذ بهم يشاهدون من بعيد شخصا غريبا ملقى على الأرض , ما أثار دهشتهم وحيرتهم , فمكان عملهم بعيدا كل البعد عن أي مدينة , والقوانين تمنع دخول أحد بتلك المحمية .
في وسط دوامتهم وترددهم وتساؤلاتهم ذهبوا إليه حتى وصلوا , توقفوا بسيارتهم بسرعة شديدة حيث حلت عليهم الكارثة , إذ رأوا جثة مقطوعة الرأس ملطخة بدماءها.
خوفا شديد أنتابهم هلع وفزع , حالة صمت رهيبة بين الأثنين من يلومهم بعد أن رأوا ذلك المنظر , أسئلة كثيرة شغلتهم , أجابات ناقصة :
- لمن هذه الجثة ؟
- من قطع رأسها ؟
- من أحضرها إلى هنا ؟
- من أرتكب الجريمة ؟
- كيف دخلوا المحمية ؟
- لما ألقيت في هذا المكان ؟
يفكرون ويفكرون يحادثون أنفسهم التي لطالما لبدوا فيها نواياهم , نهاية الأمر قرروا أخذها إلى مخفر الشرطة , رغم بعد المسافة , هنا وهناك تراجعوا عن فكرتهم شيئا ما فهم غير معتادين برؤية الجثث , إلا أنهم عقدوا العزم أخيرا , فحملوها إلى سيارتهم مستكرهين فعلتهم , لكن ما السبيل إلى الخلاص عدى بهذه الطريقة كي ينأوا بأنفسهم عن مشكلة ما ربما , ويتخلصون من هذا الكابوس المخيف الذي رأوه واقع وليس حلما أثقل جفونهم , ويتركون الأمر بيد الشرطة لتتصرف بالأمر .
ركبوا سيارتهم خرجوا من المحمية سلكوا طريقهم الترابي المعتاد الذي يوصلهم للمدينة , يسيرون ويسيرون بقمة فزعهم من تلك الجثة التي معهم , روعتهم وقتئذ نور الشمس ساطع , لايتكلمون ولايتحدثون وكأن القدر يختبرهم .
ساعة مرت وساعتين مايفترض أن يكونوا قد وصلوا كما جرت العادة , هنا وهناك ينظرون غريب مايحدث لهم , فالطريق ليس كما عرفوه الذي يأتون منه ويرجعون كل يوم , لكن ما الذي تغير وزلزل دواخلهم ! فلم تظهر المدينة أو سراب لها , إذ يبدو رعب تلك الجثة حرفهم عن طريقهم وجرفهم لآخر مشابه له , قاموا يوبخون بعضهم كل شخص يتهم الآخر في ضياع الطريق , حتى توقفوا بالسيارة نزلوا راحوا يمعنون النظر في كل ماحولهم , لكن ماذا! كل شيء يجري عكس ماأرادوه وماتوقعوه , كأن شيئا مدبرا يحصل معهم متفق عليه مسبقا !
بينما (نوح) ينظر يمينا شمالا يحلل ويفصل الأحداث والطريق وماجرى , نظر لرفيقه
وقال له : تبا , نحن نسير في حلقة مفرغة , طوال سيرنا كنا نعود ونلتف في طريق واحد لايتغير كأنه متاهه , هل تصدق ؟
رفيقه : يا إلهي ! أنت محق , لما يحدث هذا ؟ شيئا غريب بالفعل , كيف دخلنا هذا الطريق المشابه ؟
نوح : يارجل , دعني أخبرك أمرا , يبدو بأن هذه الجثة مصابة بلعنة ما أو مرض , كل مايحصل مثيرا للريبة ؟
رفيقه : أخبرني الآن ما الحل , ماذا نفعل ؟
نوح : لا أدري صدقني , لا أستطيع التفكير وهذه الجثة الجيفة معنا !
برهة من الوقت مضت يناقشون ويتحدثون ركبوا سيارتهم , هنا حلت بهم مصيبة أخرى لم تطرأ عليهم ! إذ بمركبتهم معطلة لاتعمل , عرفوا بأنه يوم نحس هذا الذي رأوا فيه الجثة , ملعونا وكأن شيطان يتلاعب بهم بوسواس قهرهم :
- من يحل مشكلتهم الآن ؟
- طريقهم لايعرفون كيف ضيعوه ؟
- جثة غريبة وجدوها لايعلمون حكايتها ؟
- سيارتهم معطلة زادت من بلائهم ؟
- أجهزتهم اللاسلكية لاتعمل ؟
وكأن ماحدث سيناريو خطط له بأتقان شديد , دوامة يخرجون منها ويدخلون أخرى , صحراء أرادت أن تربط عقدة بوسطهم .
مر يوم وأثنين وهم بحالهم لاطعام أو شراب , جثة نتنة تغللت عالمهم تحاكيهم بصمتها وبدماءها تخيفهم , أرادوا أن يدفنوها لكن كيف ! ليس لهم طاقة على الحراك .
مرت أربعة أيام ذاقوا فيها كل الويلات منقطعين من كل شيء بشر وبهيمة شجرا وماء وطعام , أستيقظ (نوح) من نومه لشدة جوعه , ماجعله لحظتها يتمنى أن يأكل قمامة ويشعر بها طعاما هنيا , نظر إلى رفيقه بعد أن ضعف صوته وبدنه
وقال له : يارجل , سأقوم كي آكل هذه الجثة ؟
أهتز الرفيق خوفا مما سمع مصدقا مكذب قال : ويحك ! أغبي أنت أو مجنون , أنه لحم آدمي ! كيف فكرت في ذلك ؟
نوح : أنه الجوع ياصديق , الجوع , قطعني ولم تعد لدي قدرة على شيء , سأموت إذ لم أفعلها ؟
رفيقه : لكنها جثة نتنة , هل تشتهي ؟
ضارب بكلام رفيقه عرض الحائط قام (نوح) يأكل بعض من أجزاء الجثة فالجوع أعمى بصيرته قبل بصره , معدته ركعته , بينما ظل رفيقه ينظر إليه قليلا تارة يتقزز و يتقيأ وتارة أخرى يسب ويشتم.
لكنها النفس البشرية التي أذلت كبار القوم جوعا وجشعا ووحشيتا , فقام رفيقه وشاركه وأكل ماتبقى من الجثة , قطعوها قطعة قطعة , شربوا كل دما فيها , أصابتهم التخمة إلى أن غطوا في سباتهم .
بعد ساعات طويلة جلسوا من نومهم يشعرون بنشاط كبير حاولوا أصلاح مركبتهم وحاولوا دون جدوى , تحدوا كل ماحدث لهم شدوا من عزمهم راحوا يسيرون على أقدامهم لايريدون المكوث أكثر في ذاك المكان المشؤؤم الذي فعلوا فيه مافعلوا .
ليت سيرهم نفعهم لايعرفون أين هم وأين يذهبون , فهم لهذا المكان يأتون أول مرة , صحراء قاحلة لاسراب فيها أو نفس , لاتحدى أطرافها عدى رمالا ناعمة تخدع من ينظر إليها كي تحرقه .
بعد يأس وتعب جلسوا تحت أشعة الشمس الملتهبة يلوون أجسادهم بتلك الرمال جوعا وعطشا وضياع وهوس , أيام تمر عليهم لايدرون بحالهم , كما العالم الذي لايعلم بهم شيئا .
ظلوا متماسكين حتى رمقهم الأخير لايتكلمون لاينظرون مغمضي أعينهم من كل شيئ , يدعون بما يعرفون يتلون آيات بما يحفظون يكتبون وصاياهم على ذاك الرمل الذي محاها في طرفة عين كأنه لايريد أن يخلد لهم شيئا فرغم نعومته إلا أنهم أحسوا به كالصخر قاسيا , يبكون نادمين لأكلهم لحم أخيهم ميتا فكرهوا أنفسهم لسوء فعلتها .
وقت يمضي عرف (نوح) حينها بأن الموت ينام بجانيه يناديه ويعد أيامه , أخذ يفكر ويفكر يتمسك بأي شعرة لتطيل حياته فقال لرفيقه : أتريد العيش , لو أيام قلائل ؟ هز برأسه موافقا فلم يعد قادرا على التحدث! قال له (نوح) مالم يصدقه عقله قبل نفسه : أن تأكل بعضا من جسمي , وأنا أفعل لك بالمثل ؟ منصدما رفيقه من كل الموقف فوق صدماته تلك وماتوالت عليه منذ اللحظة الأولى التي رأى فيه الجثة التي دمرت حياته ومن معه , رفض ذلك بشدة , حاول معه (نوح) وحاول دون فائدة .
لحظات ترقب وحذر بينهما , الشيطان يهمس لهذا تارة وذاك تارة أخرى تخللتها نظرات غدر وحقد , الجوع الجوع والعطش ذلك ماتصرخ به دواخلهم , هجم الأثنان على بعضهم وكأنهم ينتقمون مما فعلوا فيما بينهم من نميمة وغيبة ومحاولة تحقير الآخر , يتشاجرون ويتشاجرون نسوا تعبهم وحالتهم فقاموا يأكلون أجزاء من أجسام بعضهم , قليلا قليلا أنهكوا فسقط الأثنان مغشيا عليهما لكثرة مانزفوا دماء ومافقدوا من أجسادهم .
برهة قضت صحوا من غشيتهم رجعوا يهجمون على بعض , يسابقون فيما بينهم يأكلون لحم بعض يشربون دماء بعض , هذا ينهش وهذا يقطع حتى أصبحوا عظاما نخرة , فخرى الأثنان ميتين صرعا بحالتهم تلك .
بقلمـــي