نُور رَبّانِيّ :
لا يمكنني نسيان تلك الليلة التي تغير فيها مجرى حياتي، لقد كانت إحدى أشدّ ليالي الشتاء برودة، وأكثرها تساقطا للثلوج، ولكن الصّدمة التي تلقّيتُها فيها كانت أكبر من كل ذلك.. أذكر أنني كنت جالسة قرب المدفئة في بيتنا أحتسي شرابا دافئا وأرقب عودة أبي من عمله حتّى نتناول العشاء سويّا، كان كلّ شيء حولي يبدو طبيعيّا، ولكنّني لم أكن أحسّ بالرّاحة، أعدت تفقّد ترتيب الصّحون على الطّاولة لمرّات عديدة، وحاولت أن أشغل نفسي عن ذلك الإنسان القابع خارجا ولكن هيهاتّ، فقد قادتني قدمايَ إلى عتبة الباب بعد أن حملت كسرة خبز ووعاءا من الحساء ومصباحا عتيقا، وعلّقت معطفا لأبي على كتفي عازمة على التّوجه إلى موقف الحافلات القريب من منزلنا.
خطوت أوّل خطوة إلى الخارج، وكدت أن أعود بسبب البرد والظلام الحالك، لولا أن تمسّكتُ بربّي وغلّبتُ إنسانيّتي على خوفي ( إلهي إنّي أوكلت إليك نفسي فأحفظها، ورجوت حمايتك فلا تحرمني منها يا أمان الخائفين، ربِّ هبْ لي من لدُنك يقينا وامنحني الشجاعة الكافية لأقوم بواجبي الذي تقتضيه إنسانيّتي، وارزُقني نورا يُنسيني عَتمةَ هذا الطّريق بِعطفك ورحمتك يا مُجيب ).
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&سُبــحان اللــه وبحــمده سبـحان اللـه العظيـــم&&&&&&&&&&&&&&&&&
{ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفُّف } :
لم تكن المسافة تتجاوز المائة متر، لذا لم أستغرق وقتا طويلا في السَّير. كان على الحالةِ نفسِها منذ أن رأيته من نافذة البيت.. جالسٌ على أحد كراسي الانتظار تحت الزُّجاج الواقي، وينفخ بين الحين والآخر على يديه علَّهُ يمنحُهُما بعض الدِّفء، أمّا عيناه فسَرَحَتا في الأُفق وما قطعهُما عن ذلك إلا ضوءُ مصباحي..
التفت إليَّ فهَمَمتّ بالسّلام لولا أنّه بادرني بالقول قائلا : " أهذِه أنتِ يا ابنتي؟!! ما الذي جعلكِ تخرجين في وقت وجوٍّ كهذا؟!!، استغربت من معرفتهِ لي، ومن لهجته التي بدت مألوفة !، فقلت بحيرة: " عفوا يا عمّي، يبدوا أنّك قد شبّهتني بفتاة أخرى، فأنا لا أذكر أنه قد سبق لنا أن التقينا أو تعرّفنا! "،
أومأ برأسه إيجابا: " بلى يا ابنتي، ولكنّي أراكِ يوميّا مّتّجهة إلى جامعتكِ، ولا عجب أنّني لم أنسكِ فملامحك تذكرني بإنسان كنتُ قد فقدته منذ زمن، ألستِ ابنة الضابط القدير الذي يعيش في ذلك المنزل؟". تذكّرت معطف أبي والأغراض التي جلبتها معي، فسلّمته إيّاها: " خذ هذا المعطف وتناول بعض الحساء الدافئ لعلّه ينسيك قساوة الثلوج ". نظر إليّ ممتنّا ولكنّه على عَوَزِه لم يقبل بما أحظرت إلا بعد إلحاحٍ شديد منّي.
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&سُبــحان اللــه وبحــمده سبـحان اللـه العظيـــم&&&&&&&&&&&&&&&&&
كدتُ أن أنشغل عن الوقت وأنا أراقب طريقة أكله الرّاقية، والتّي كانت على خلاف ما تخيَّلته من رجل جائع، لولا أن رنّ هاتفي مُعلنا عن وصول رِسالة: " ابنتي الغالية، تأكّدي من إغلاق الأبواب جيّدًا ولا تنتظريني على العشاء، فقد طرأ علَيّ عمل عاجل، ولن أعود حتّى صبيحة الغد ".
قرأت الرسالة بامتعاض شديد، فقد تمنّيتُ أن يعود أبي ليُقدِّم المساعدة اللازمة لهذا المتشرِّد، ولكنّ المرء لا يدرِك كلَّ ما يتمَنّاه.. جلستُ على أقرب كرسِيّ وعاودتني المخاوف التي تراودني كُلَّما غاب أبي عن البيت، فعمله العسكرِيّ يجعلُه معرّضا للخطر في أيّ وقت، خاصّة مع الأوضاع المُتأزّمة التي تمرّ بها البلاد، ( وهو لم يُخبِرني حتّى عن طبيعة المُهِمَّة العاجلة التي كّلِّفَ بِها )، قطعني من سلسلة أفكاري صوته القلق: " ما الذي حصل لكِ يا ابنتي؟ هل ثمَّة خبرٌ في الرّسالةِ أزعجك؟ " ( أكاد أُقسِم أنّ لهذا الإنسانِ ماضيا غامضا جعله بهذا الوضع، فلا يُعقل لرجُلٍ مثلِه أن يستسلم للحياة بهذه السّهولة ويجعل من التّشرّد عنوانا له فيها دون أسباب وجيهة وأحداث قاهرة).
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&سُبــحان اللــه وبحــمده سبـحان اللـه العظيـــم&&&&&&&&&&&&&&&&&
وصَدَق الحدْس :
قرّرتُ أن أتأكّد ممّا يدور في خُلدي، فسلّمته الهاتف ليقرأ رسالة أبي، ومثلما توقّعت فقد استطاع فعل ذلك دون أن يجد أيّ صعوبة، فسألته بحيرة: " هل تُجيد القراءة يا عمّي ؟!!! " عندها نظر إليَّ نظرة خالية من التّعبير وهو يجيبني بنبرة حزينة: " طبعا يا ابنتي، لقد كنت في زمنٍ مضى مثلكِ طالبا مُجِدًّا وإنسانا ناجحا، ولكِنَّ الحياة أبت إلا أن تجعلني في هذا الحال "، تنَهَّد بعُمق ثم واصل كلامه: " من كان يتوقَّع أنني سأصبح في يومٍ من الأيّام شريدا يجوب شوارع الجزائر! ". ابتأست لحاله حتّى أنني نسيت هَمّي، ورُحت أسأله علِّي أُنسيه بعض حُزنه : " وما كان تخصُّصُك يا عَمّاه؟ "، ابتسم بحالِمِيَّة وكأنّه يتذكّر شيئا غاليًا: " الصّحافة يا ابنتي، تخصّصي كان في الإعلام "، ( سبحان الله، وكأنّني أتأمَّل نفسي في المرآة ! يهفو قلبه إلى الصّحافة كما هو حال قلبي! "، صرختُ دون وعي: " الإعلام تخصُّصي أيضا "، ابتسم بسعادة بالغة: " أحقًّا ما تقولين؟ "
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&سُبــحان اللــه وبحــمده سبـحان اللـه العظيـــم&&&&&&&&&&&&&&&&&
ثورة الكرامة:
انتبهتُ لصوتي العالي فأجبتُ بهدوء: " بلى، وأنا أعكِف الآن على تحضير رسالة التّخرّج، ولو أنّني لم أُقرِّر بعدُ أيّ موضوعِ أختارُه لها "، بدا و كأَنَّ في جُعبته اقتراحا مُناسِبا لي، فقال بعد صمتٍ: " هل سبق لكِ وأن قرأتِ عن تاريخ وثورةِ سوريا؟ أعتقد أنّه سيكون موضوعا فريدًا من نوعه ومُمتازًا لبحثكِ ".
لم أفهم سبب اختِياره لهذا الموضوع بالذّات، ولكنّي سألته: " أتقصِدُ ثورة الكرامة التي انتهت بالعدوان المشترك على سوريّا، واستِشهاد أزيَد من أربعة ملايين سُوريّ؟ "، كان التّأثُّر بادِيًا على وجهه طوال فترة تحدُّثي، حتّى أنّني لمحتُ دمعةً تسلّلت من عينه وهو يقول: " ثورة الكرامة... هو هكذا أرادها الشّعب السوري، ولكن تجري الرّياح بما لا تشتهي السُّفن ! "،
آلمتني دموعه كثيرا فرُحتُ أحاول التخفيف عنه : " هَوِّن عَليْكَ يا عمّاه، أتبكي شُهَداء سوريّا وقد طهّرهم الله واصطفاهُم، واختار لهم مكانّا أعظمَ من الأرض التي نجَّسَها البشر بِفسادهم وسفكهم لدماء بعضهم بعضا، أم أنّك نسيت قوله تعالى: { ولا تَحسَبَنَّ الذين قُتِلوا في سبيل اللهِ أمواتا بل أحياءٌ عِندَ ربِّهم يُرزقون } "،
حرّك رأسه مقتنِعًا بما أقول: " بلى يا ابنتي، ولكِنّي أبكي الأرض التي أنجبتني ورَبَّتني وأكرمتني، أبكي حال بلدي سوريا الذي يؤول إلى الأسوءِ يوما بعد يوم، وأبكي حال أهلي وأحبابي الذين فرّقتني الحربُ عنهم ". ألجمَتني الصّدمة عن الكلام ( فهل يُعقل أنني أكلِّم أحد ضحايا الحربِ السوريّة ! )، انتبهت له وهو يُسَلِّمُني الوعاء الخالي من الحساء: " شكَرَ الله سعيكِ يا بُنَيَّتي، خذي الوعاء وَعُودي إلى البيت فالجوُّ بارد والوقت غير مناسب لمكوثكِ خارجا".
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&سُبــحان اللــه وبحــمده سبـحان اللـه العظيـــم&&&&&&&&&&&&&&&&&
{ الفتنة أشدُّ من القتل} :
كُنتُ سأنفِّذُ كلام العمِّ لو طلب منّي المغادرة قبل ذلك، أمّا وقد علمت عنه ما علمتُ واستبَدَّ بيَ الفضول، فلم يعد بإمكاني إلا أن أعرف ماضيه كاملا، وضعتُ وِعاءَ الحساءِ جانبا وقلتُ: " أسألك بالله يا عمّي أن تروِيَ لي قِصَّتَك "، لم أنتظر منه جوابا ورُحتُ أرجوه: " لا تنسَ أنَّ ذلِك قد يساعِدُني كثيرا في رسالتي الجامعيّة، وسأحمِلُ امتناني لك ما حَييت "، ابتسم أخيرا مُعلنا موافقته على طلبي فيبدو أنني بذكري للصّحافة قد أمسكتُ مربط الفرس، شعرتُ بسعادة بالغة عندما قال: " لكِ ما أردتِ، ولكِنَّ شرطي أن تسمعيني دون مقاطعةٍ ...
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&سُبــحان اللــه وبحــمده سبـحان اللـه العظيـــم&&&&&&&&&&&&&&&&&
انتهى بعون الله
في المرة القادمة..
- قبل حَواليْ اثنيْ عَشر عامًا، سنة 2011 للميلاد...
- فلم يكن لي خيار إلا أن أترك زوجتي عند أسرة جزائرية محافظة، على أن أعود لاصطحابها ...
- مسألةُ موتٍ أو موت !!
- أسْرَعتُ بالرَّد على الاتّصال لأقع منهارة من فوري
توقعاتكم للقادم؟؟
ألقاكم في القريب العاجل إن شاء الله
سلآم