د. نبيل فاروق يكتب.. الهدف أنت (2)
كان أكرم صدقي رجل مخابرات فذ لا يشق له غبار
قبل المضي في الأحداث، لا بد لنا من العودة إلي الوراء قليلا؛ حتى تستقيم الأمور..
وبالتحديد إلي تلك اللحظة، التي مثل فيها المفتش رياض، أمام رئيسه المباشر، بعد نجاح من أطلقوا عليه اسم مجرم القرن في الفرار من ذلك المبنى الشاهق، عقب تفجيره مكتب معلومات الأمن الجنائي العام..
اسمه أكرم صدقي..
قالها المفتش رياض في توتر واضح، وهو يشير بيده، قبل أن يتابع في حنق ملحوظ:
- كان رجل مخابرات عمومية سابق، قبل أن ينحرف به المسار، إلي ذلك الاتجاه الإجرامي.. وكما كان رجل مخابرات فذ، لا يشق له غبار، تحوَّل أيضا إلي مجرم فذ، لا سبيل لمواجهته.
قال رئيسه في صرامة:
- لست أؤمن إطلاقا بكلمة لا سبيل هذه.. إنه -ومهما بلغت قدراته- مجَّرد رجل واحد، في مواجهة دولة، بكل نظمها وأجهزتها الأمنية.
هزَّ رياض رأسه، قائلا في توتر:
- لهذا كانوا يطلقون عليه لقب قاهر المستحيل؛ فهي ليست أوَّل مرة يواجه فيها أنظمة أمنية كاملة، وينتصر عليها كلها.. رفاقه ما زالوا يذكرون كيف هزم وحده مخابرات الولايات المتحدة السوفيتية، ولا انتصاراته المذهلة، علي نظم أمن الاتحاد الأمريكي.. حتى عندما واجه منظمة "مافيوزا"، كان بالنسبة إليهم شوكة كبيرة، لم ينجحوا قط في انتزاعها.
بدا رئيسه غاضبا، وهو يقول:
- وكأني بك تحدثني عن واحد من أبطال الروايات الخيالية، أو من خارقي الروايات المصورَّة.. أفق يا رجل.. إنه رجل واحد.. مجرَّد رجل واحد.
زفر المفتش رياض في توتر، قائلا:
- رجل عجزت كل أجهزتنا عن الظفر به، لأكثر من عام كامل.
صاح رئيسه في حدة:
- لدينا قصور كبير إذن.. قصور ينبغي أن نبحث عنه، ونكشفه، ونسعى لمعالجته، وإلا فكيف سنواجه الشعب، ونحن عاجزون عن مواجهة رجل واحد؟!
هزَّ رياض كتفيه، دون أن يجيب، فتراجع رئيسه في مقعده، وسأله بكل صرامة:
- هل تريد أن تقول: إنك عاجز عن معالجة هذا الأمر، وعلينا أن نسند المهمة إلي آخر؟
بدا وكأن السؤال قد أصاب مفتش الشرطة بطعنة نجلاء في كرامته، فشد قامته، قائلا في صرامة مماثلة، بغض النظر عن فارق الرتب:
- دعني أذكَّرك يا سيدي، بأنني قد توليت هذه القضية، بعد فشل ثلاثة من الزملاء في الإيقاع به، وأنني الوحيد الذي نجح في كشف هويته حتى الآن.
لوَّح رئيسه بذراعيه، صائحا:
- وما الذي أسفر عنه هذا حتى الآن؟!
انعقد حاجبا رياض في ضيق، وشد قامته أكثر، وهو يقول:
- هل لي أن أقترح أمرا خارجا عن المألوف يا سيدي؟!
هتف رئيسه في حدة:
- لن يضيرنا هذا.. افعل.
أجابه رياض على الفور:
- وفقا لما قرأته، في ملف ذلك الرجل، قبل أن يمحوه تماما من قاعدة المعلومات، لن تنجح الوسائل التقليدية في التعامل معه، أو الإيقاع به أبدا.
قال المدير في عصبية:
- لم أسمع اقتراحك بعد.
واصل رياض، وكأن المدير لم يقاطعه:
- إننا نحتاج إلي وسيلة غير تقليدية.. وسيلة تتجاوز كل الأمور المألوفة.
ثم مال نحو رئيسه، مضيفا بكل الحزم:
- وسيلة تتجاوز حتى حدود العقل.
تطلّع إليه رئيسه بضع لحظات في دهشة مستنكرة، وكأنه يتطلّع إلي مجنون، قبل أن يغمغم بكل حيرته:
- هل يبدو لك أننا في فيلم من أفلام الخيال العلمي؟!
هزَّ رياض رأسه نفيا في بطء، وقال في حزم:
- بل نحن في عالم الواقع يا سيدي، ولكن في زمننا هذا، تطوّر العلم إلي درجة فاقت كل خيال.
صمت رئيسه بضع لحظات في دهشته، ثم مال نحوه، يسأله في شيء من العصبية:
- وما الذي يمكن أن يفعله العلم، الذي فاق كل خيال، في حالتنا هذه؟!
أجابه رياض، في سرعة واقتضاب:
- الكثير.
تراجع رئيسه، متطلعا إليه في دهشة، باعتبار أن الكلمة التي نطقها، لا تحمل أي جواب، فعاد رياض يشد قامته، وهو يتابع:
- سيادتك تعلم أن شقيقي الأكبر راضي، هو أحد أشهر علماء الفيزياء في هذا القرن، وأنه حاصل علي جائزة زويل، عن أبحاثه حول الأكوان الكتوازية، والتي أثبتت من خلالها أنه هناك عوالم موازية لنا، تحيا معنا، في نفس الزمان والمساحة، ولكننا لا نشعر بها، ولا تشعر بنا* (* نظرية علمية حقيقية، أثبتتها الأبحاث التجريبية)
غمغم رئيسه، بنفس العصبية:
- أذكر أنني قد قرأت شيئا عن هذا، ولكنني عجزت عن استيعابه.
أشار رياض بيده، قائلا، في شيء من الحماس:
- النظرية باختصار تقول إن عالمنا واحد من عدة عوالم أخرى، في كل منها يحيا نفس البشر، أي أنك ستجد هناك شبيها لك، وشبيه لي.. ولكن رياض الآخر قد لا يكون مفتشا للأمن هناك، بل قد يكون مجرما، وأنت قد..
قاطعه رئيسه في عصبية:
- فليكن.. أذكر هذا.. ولكن السؤال ما زال كما هو: كيف يمكن أن يفيدنا هذا.
شد رياض قامته أكثر، وهو يجيب بكل الحزم:
- الأفضل ألا تسمع هذا مني يا سيدي.
ثم عاد يميل نحو رئيسه، مردفا في قوة:
- بل من صاحب النظرية والاقتراح الأصلي.. من شقيقي راضي.. شخصيا.
وتضاعفت دهشة رئيسه..
ألف مرة..
***
لا يفل الحديد إلا الحديد..
نطق راضي العبارة في هدوء حازم، وهو يقف داخل معمله الفيزيائي الكبير، فهزَّ رئيس المفتش رياض رأسه في عصبية، قائلا:
- هل رباكما والدكما -رحمه الله- علي ترديد عبارات وحكم قديمة فحسب.
مطَّ رياض شفتيه، دون أن يجيب، في حين هزَّ راضي راسه نفيا، دون أن يتخلى عن هدوئه، وهو يقول:
- ما أريد قوله هو: إن خصمكم من طراز خاص جدا، ويمتلك كومة من المهارات والقدرات، تجعل الإيقاع به، بالوسائل النمطية، أمرا أشبه بالمستحيل.. ليس فقط بسبب قدراته، ولكن بسبب عبقريته وسعة حيلته، في وضع الخطط غير المعتادة، والإفلات من كل مأزق أو حصار، بوسائل ثعلبية غير متوَّقعة.
بدا رئيس رياض نافذ الصبر، وهو يقول:
- ما الذي تريد قوله بالضبط؟!
قادهما راضي إلي شاشة كبيرة، قائلا:
- شاهد هذا أوَّلا.
ضغط زرا صغيرا في الشاشة، عليها صورة أكرم صدقي، وهو يثب من طائرة بدون مظلة، خلف رجل يرتدي مظلة نجاة، ثم يشتبك معه وهما يهويان من حالق، بسرعة الجاذبية الأرضية* (* سرعة الجاذبية الأرضية: هي الطاقة التي تجذب بها الكرة الأرضية كل من عليها، وينص قانون الجاذبية على أن جميع الأجسام تجذب بعضها بعضا تجاذبا تبادليا، أما سرعة السقوط بسبب الجاذبية الأرضية، فهي 32 قدما في الثانية الواحدة 9,7536 مترا في الثانية)، قبل أن يفقده الوعي، ثم يفتح مظلته، وهو يتشبث به في قوة، ليهبطا معا بالمظلة إلي حقل أخضر واسع..
وبكل انفعاله، هتف رئيس رياض:
- إنه مجرم القرن.. كيف حصلت علي هذا الفيلم؟!
ابتسم راضي ابتسامة هادئة، وهو يقول:
- إنه ليس من تتصوَّره.
هتف الرئيس في انفعال:
- إنه هو.. أكرم صدقي.. كل رجل أمن هنا يحفظ ملامحه عن ظهر قلب.
تبادل راضي نظرة صامتة مع شقيقه الأصغر، قبل أن يقول، في زهو لم يستطع كبحه:
- إنه أكرم صدقي بالفعل، ولكن ليس هذا الذي تعرفه.
ثم مال عليه، مضيفا بابتسامة:
- هذا أكرم صدقي آخر، كل ما يربطه بالذي تعرفه، هو الاسم والملامح فحسب.. وربما البصمة الجينية أيضا.
حدَّق الرئيس في وجهه لحظات في استنكار، قبل أن يقول في حدة:
- ولكنه رجل آخر؟! أي عبث هذا؟!
أجابه راضي في سرعة، وبابتسامة أكبر:
- عبث علمي مائة في المائة يا رجل.. ما تراه هو حدث سجلته، عبر جهاز خاص، من عالم آخر..
ثم مال نحوه بشدة، مضيفا:
- عالم مواز.
حدَّق فيه رئيس رياض بمنتهى الدهشة، وعجز لسانه عن النطق، وراضي يعتدل، متابعا في اهتمام، وهو يشير إلي الشاشة:
- في ذلك العالم، ما زال أكرم صدقي يعمل في جهاز المخابرات، ولكنهم يطلقون عليه هناك اسم المخابرات العامة، وليس العمومية، كما نطلق عليها هنا.. بل هو يعد من أفضل رجالهم هناك.. ولقد تابعت بعض عملياته، علي شاشة جهازي هذا، ولست أبالغ لو قلت: إنه شخصية فذة، لم أر مثيلا لها في حياتي كلها من قبل، ولا حتى علي شاشات السينما.
انتزع رئيس رياض نفسه من ذهوله، وهو يقول في عصبية:
- لم أستوعب فكرتك بعد.
شدَّ رياض قامته مرة أخرى، وتنحنح في توتر، في حين أشار راضي إلي شاشة جهازه، وهو يجيب:
- وفقا لكل ما أخبرني وأطلعني عليه شقيقي الأصغر.. الشخص الوحيد، الذي يمكنه مواجهة أكرم صدقي، مجرم القرن عندنا، هو الشخص الذي يمتلك نفس مهاراته وقدراته، والوحيد الذي يمكنه فهم أساليب تفكيره بنسبة مائة في المائة.. لا يمكن اقتناص أكرم صدقي العالم الآخر.
قالها، فران علي معمله الكبير صمت عميق، استغرق ما يقرب من دقيقة كاملة، قبل أن يقاطعه رئيس رياض في عصبية:
- هل تتوَّقع الحصول علي جائزة زويل مرة أخرى، بهذه النظرية الخرقاء؟!
ارتفع حاجبا راضي في دهشة، وحملت ملامحه كل الاستنكار، الذي انتقل إلي صوته، وهو يهتف:
- خرقاء؟!
صاح رئيس رياض في حدة:
- لا يمكن أن توصف إلا بأنها كذلك.. إثبات وجود تلك العوالم المتتالية شيء، والمزج بينها شيء آخر.
هتف راضي معترضا:
- متوازية وليست متتالية.
لوَّح رئيس رياض بذراعه كلها، صائحا:
- أيا كانت.. إنها مجرَّد نظرية، وربما شاشة تنقل إلينا أحداث تدور في أحد تلك العوالم فحسب، ولكن الحديث عن التعاون بين العالمين، هو أمر أقرب إلى الخرافات.
بدا راضي محتدا، وهو يصيح فيه بدوره:
- كل ما كانوا يعتبرونه مجرَّد خرافات في الماضي، صار اليوم حقيقة علمية معروفة.. السفر عبر الزمن.. رداء الإخفاء.. تصغير البشر، و..
قاطعه رئيس رياض في حدة:
- وماذا؟! السفر عبر الأبعاد لم يصبح بعد حقيقة، حتى..
بتر عبارته، مع يد رياض التي أمسكت بكتفه، واستدار إليه بحركة حادة، فتنحنح رياض وكأن هذا يلازمه دوما، وقال في توتر:
- الواقع يا سيدي أنه قد صار كذلك بالفعل.
واتسعت عينا رئيسه عن آخرها بدهشة..
بكل الدهشة.
***
يُتبع