من إحدى روائع الكاتب مصطفى صادق الرافعي
من كتابه "حديث القمر"
الحب إحدى كلمتين هما ميراث الإنسانية وهدية التاريخ ..والطرفان اللذان تلتقي عندهما السماء والأرض ..." فيا أيها القمر الذي أشرق لآدم وحواء ليلة هبوطهما ..بابتسام يشبه نورا انبعث من قمرين ثم ما زال يشهد في كل عاشقين "آدم وحواء..."
" لقد نادمتك فهل ثملت ..فملت؟"
" لقد ساهرتك أيها القمر لأحادثك ..وناجيتك لأستخرج الفكر من نفسي .وانتضيت الفكر لأجلي منه الحقيقة النفسية....وتأملت الحقيقة لأرى ذلك الشعاع الإلهي الذي رأيناه في حبة القلب ..فسميناه الحب..."
***
أيها القمر الآن وقد أظلم الليل وبدأت النجوم تنضخ وجه الطبيعة التي أعيت من طول ما انبعثت في النهار برشاش من النور الندي يتحدر قطرات دقيقة منتشرة كأنها أنفاس تتثاءب بها الأمواج المستيقظة في بحر النسيان التي تجري به السفن الكبيرة من قلوب عشاق مهجورين برّحت بهم الآلام والزوارق الصغيرة من قلوب أطفال مساكين تنتزعها منهم الأحلام تلك تحمل إلى الغيب تعبا وترحا وهذه لعبا وفرحا. والغيب كسجل أسماء الموتى تختلف فيه الألقاب وتتباين الأحساب والأنساب وتتنافر معاني الشيب من معاني الشباب وهو يعجب من الذين يسمونه بغير اسمه ولا يعلمون أنه كتاب في تاريخ عصر من عصور التراب.
والآن وقد بدأت الطبيعة تتنهد كأنها تنفس بعض أكدارها أو هي تملي في الكتاب الأسود أخبار نهارها وبدأ قلبي يتنفس معها كأنه ليس منها قطعة صغرى . بل طبيعة أخرى ....
....والآن وقد رقّت صفحة السماء رقة المنديل أبلته قبل العاشق في بعاد طويل أو هجر غير جميل وتلألأت النجوم كالابتسام الحائر على شفتي الحسناء البخيلة حيرة القطرة من الندى إذ تلمع في نور الضحى بين ورقتين من الورد وأقبل الفضاء يشرق من أحد جوانبه كالقلب الحزين حين ينبع فيه الأمل ومرت النسمات بليلة كأنها قطع رقيقة تناثرت في الهواء من غمامة ممزقة وأقبلت كل نفس شجية ترسل آمالها إلى نفس أخرى كأن الآمال بينهما أحلام اليقظة ونظر الحزين في نفسه والعاشق في قلبه ونام قوم قد خلت جنوبهم فليس لهم نفوس ولا قلوب ولبس الكون تاجه العظيم فأشرق عليه القمر .
....والآن وقد طلعت أيها القمر لتملأ الدنيا أحلاما وتشرف على الأرض كأنك روح النهار الميت ما ينفك يتلمس جوانب السماء حتى يجد منها منفذا فيغيب فهلم أبثك نجواي أيها الروح المعذب وأطرح من أشعتك على قلبي لعلي أتبين منبع الدمعة التي فيه فأنزفها .إن روحي لا تزال في مذهب الحس كأنها تجهش للبكاء ما دامت هذه الدمعة فيه تجيش وتبتدر ولكن إذا أنا سفحتها وتعلقت بأشعتك الطويلة المسترسلة كأنها معنى غزلي يحمله النظر الفاتر فلا تلقها على الأرض أيها القمر فإن الأرض لا تقدس البكاء وكل دموع الناس لا تبلّ ظمأ النسيان ولو انحدرت كالسيل يدفع بعضها بعضا.
***
أريد أن أبكي بكائي الطبيعي أيها القمر لأنه يخيل إليّ أن حقائق كثيرة تغتسل بدموعي وأني لا أكون في حاجة للبكاء إلاّ حين تكون هي في حاجة للدموع ولقد شعرت مرارا بحركة عقلي في تصفح الأسفار واضطراب نفسي في متاحف الآثار واختلاج قلبي في معابد الطبيعة التي قامت الجبال في بنائها لأنها أحجار فما أفدت من كل ذلك ما أفدته من دمعة تفور في صبيبها كأنها روح عاشق يطاردها الموت بين يدي حبيبها فإن في هذه الدمعة ثواب كل آلامي ويقظة كل الحقائق من أحلامي.
وآه إن في " ضمير الطبيعة"وفي المعنى المستتر في الهاء والياء لسرا من الحب تتجدد في الناس معانيه المعضلة كأن فيه حياة غريبة تغذوه بتلك المعاني فهو في علم الروح كالروح نفسها في علم الإنسان .
وإذا تناولته نفس المحب وطفقت تعالجه رأيت المحب ذاهلا كأنه حي بلا نفس وآنست من نظره عمقا بعيد الغور كأنه الطريق الذي مرت منه نفسه فهل يمكن أن يكون في يقظة هذا الإنسان نوع من الحلم ؟
ولعمري أيها القمر إني لأشكو إليك بثّي وحزني وأناجيك بأحلام النفس الإنسانية وإنك لتجيبني الجواب الصامت البليغ فتطرح أشعتك في قلبي آخذ من بعضها قولا وأرجع إليك بعضها قولا كالعاشق يرى في ألحاظ حبيبته بالنظرة الواحدة ما في نفسه وما في نفسها.
ولقد أرى لك في جانب من قلبي شعاعا غريبا قد استبهم عليّ فلست أعلمه وكأنه ينبعث من أبعد سمت في السماء إلى أعمق غور في القلب وإنما انحدر في أشعتك ليمتزج بشيء من الغزل يستأذن به على هذا القلب الذي فيه من الحب أكثر مما فيه من الجمال.
وما أدري ما أمر ذلك الشعاع غير أني أحسّ أنه ينير في حلك الظلمة الخالدة التي فصلت بيني وبين أيام ولدت فيها الدنيا معي فأراه يقابل نفسي بمعان رقيقة كأنها أرواح تلك الأيام الماضية كأنه اتّسق أسطرا نورانية أقرأ بها فصلا من تاريخ الطفولة الذي تضحك كلماته لأنه من لغة الضحك.
تلك اللغة الخاصة بالأطفال والتي يضحك منها الرجال أحيانا إذا استمعوا لها لأنّ في أنفسهم بقية من أثرها.
تلك اللغة الموسيقية التي تفيض ألحانا حتى في الحزن والتي توقّع أنغامها على كل شيء تصادفه كأن كل شيء ينقلب في يد الطفل أوتارا مرنّة ولو كان العصا التي يضرب بها…
بل تلك اللغة التي يوفّق بعض القلوب السعيدة إلى الاحتفاظ بشيء منها على الكبر فتكون فيه ينبوعا للفلسفة الحقيقة يشرب منها الحب الظمآن وتستريح إليه الحياة المجهودة التي ما تكاد تتنفس وتبترد عنده الأحزان الملتهبة وتصغر لديه كلّ المصائب فتخرج عن طبيعتها إلى طبيعته حتى ليستحيل بها دموعا حارة وهو في الإنسان بقية الريّ من ماء الجنة قبل أن يخرج منها ويوم كان لا يظمأ فيها ولا يضحى.
ولشدّ ما اجتهد العلماء والفلاسفة في تعريف السعادة ولكنهم عرّفوها بتنكيرها إذ ألبسوها من لغة البؤس كانت لها كثياب الحداد التي هي أكفان الحيّ المتصل بالموت أو الميت الذي لم يمت فإذا أردت السعادة من تعريفاتهم وابتغيتها من أوصافهم فإنك تكون سعيدا جدا بل أسعد الناس كافة لأن كل واحد منهم يتوهّمك سعيدا متى ما لبست تعريفه فتسعد بعشرين أو ثلاثين سعادة متباينة ولا ضير أن تبقى بإزاء كل هذا النعيم بائسا في يقينك الذي لا دليل عليه إلا ما تحسّ به أنت وما يقينك هذا أيها الأحمق بجانب ثلاثين ظنا من ظنون الفلاسفة؟؟
إنهم لا يعتدّونك شقيا ألبتّة حتى تشقى بثلاثين نوعا من البؤس كما سعدت بثلاثين نوعا من السعادة…*
كلمتان هما تعريف السعادة التي ضلّ فيها ضلال الفلاسفة والعلماء وهما من لغة السعادة نفسها لأن لغتها قليلة المقاطع كلغة الأطفال التي ينطوي الحرف الواحد منها على شعور النفس كلّها. أتدري ما هما؟ أفتدري ما السعادة طفولة القلب..
ذاك أيها القمر وإني لأحس كذلك أن قلبي يطرح على ساحل أشعتك بقايا ما فيه من الآمال المتحطمة التي طال مثواها في لجج الهم كبقايا الغرقى في أعماق اليم وليت شعري ما عسى أن تجدي هذه البقايا؟ إنها أثر من رجاء ماض في زمن وقع وانقطع أو كلمة طيبة قد مات أهلها أو شعاع ابتسامة أخلدها الحب في قلبي لأنها روح شبابي والأرواح خالدة أو معنى حزين تعشقه الدموع فلا تزال تنازع إليه أو قطعة مثلّمة من الذكرى تمرّ الأحزان من صدوعها أو آمال في المستقبل البعيد كأنها أحلام يعد بها النائم نفسه قبل أن ينام.. ويكسوها الهمّ البليغ ثوب الاستعارة فيتخيلها ابتسامات من السعادة كما يرى المدمن في عناقيد الكرم سحابة من الخمر أو بقية من حياة معذّبة.
يقول فلاسفة البؤس:إن القدر أبقى عليها لأنها من حصة القضاء ويقول حكماء الإيمان: إنها بقية معلومة لغاية مجهولة متى انتهينا في طريق العذاب إليها ( أي الغاية) رأينا ثمّة عناية الله..
فدعني أيها القمر أحمل بقايا عمري إني كلما قطعت مرحلة في سبيل الحياة وضعت عندها أحمالي وعدت أدراجي لأجمع ما يكون قد تناثر مني.. فاقطع كل مرحلة ثلاث مرّات أما إحداهما فأكون فيها كالشيخ الفاني يدلف مثقلا بأيامه وأما الثانية فامضي فيها خفيفا لا أحمل إلا النوم في أجفاني وأما الأخرى فأعود منها بأثارة [معناها الفعل الحميد] من الأحلام تخفّ على نفسي لولا ما يخالطها من ثقل الفكر في قطع مرحلة النهار الجديد