المنتدى :
المنتدى الاسلامي
في حديثه عن العقل
القرآن الكريم في حديثه عن العقل، وعن الذين يعقلون والذين لا يعقلون، وعن أولي الألباب، وعن الذين يفكرون، والذين لا يفكرون وما إلى ذلك، باعتبار أن الفكر هو حركة العقل،
ما يجعلنا نخرج بقاعدة إسلامية وفق مفهوم القرآن، بأن العقل هو الأساس في كلِّ ما يريده اللّه سبحانه للإنسان أن يتحرك به في جانب العقيدة والعمل ومختلف جوانب الحياة،.
ونحن نرى في بعض حوارات الأنبياء مع قومهم، أنهم حينما يطلقون الفكر ضد ما يعتقده قومهم، فإنهم يركِّزون في نقدهم لقومهم على نقطة أساسية، وهي أنهم يتحرّكون بمنطق غير عقلي، ولو أنهم عقلوا القضايا المطروحة عليهم، لما وقفوا ضد دعوة الأنبياء
وهذا ما نلاحظه في دعوة النبي إبراهيم (عليه السلام) عندما كان يتحدّث مع قومه بعد أن قام بتكسير أصنامهم، فلما سألوه عن سبب تكسير الأصنام، اتّهم النبي إبراهيم (عليه السلام) الصنم الكبير بأنه هو الذي قام بعملية تكسيرها، وتحدّث إلى قومه بمنطق وعقلانية، كما حدّثنا القرآن الكريم.. {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ}(الأنبياء/63)، فعندما واجههم بهذا صُعِقوا، فكان جوابهم، وحسب سياق الآيات{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ}(الآية/65) معترضين على النبي إبراهيم طلبه لهم بأن يستنطقوا الأصنام وهم يعلمون بأنها صمّاء لا تنطق ولا تتحرك ولا تسمع. فبادر النبي إبراهيم (عليه السلام) مستنكراً لهم بقوله: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}(الآيتان 66-67).
وهذه هي القاعدة التي أراد لهم أن يرجعوا إليها، لأن الإنسان ـ يعتزّ بعقله، وبما يملكه العقل من إنتاج الفكر الذي يلتقي بالحقيقة، ولهذا فإن إبراهيم ـ وكما يقال في التعبير العصري ـ قد وضع الكرة في ملعبهم، بقوله لهم إن عبادتهم للأصنام التي لا تنفعهم شيئاً ولا تضرّهم هي عبادة غير عقلانية، وإن عليهم أن يرجعوا إلى عقولهم ليعرفوا معنى الألوهية وبأن الذي يستحقّ الألوهية، لابدّ أن يكون كلّي القدرة والمهيمن على الكون كله، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}(الأنعام/61) .. وهكذا أراد النبي إبراهيم (عليه السلام) أن يوقظ في قومه طاقة العقل، وإن كانت التعقيدات الخرافية المتخلفة التي درجوا عليها لا تجعلهم يطمئنّون إلى منطق النبي (عليه السلام)، أو يناقشونه فضلاً عن أن يقتنعوا بكلامه، ولذلك كان ردّهم ـ على لسان القرآن ـ {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ}(الأنبياء/68)، أي استعملوا القوة ردّاً على منطق العقل الذي جابههم به النبي (عليه السلام)، والذي يحاكم الأشياء على أساس الحسابات الفكرية الدقيقة..
وإذا كنّا قد قرأنا تلك التجربة للنبي إبراهيم (عليه السلام) مع قومه في مسألة عبادة الأصنام، فإننا نرى أن أهل الحق عندما يقدّمون الفكرة بطريقة موضوعية، ويناقشون الفكر الآخر بمنطق علمي، فإنهم يُواجَهون بأسلوب القوة الضاغطة التي تحاصر الداعية في جسده، فتقوم بقتله أو سجنه، أو تحاصره في سمعته، وذلك بإثارة الأساليب التي يُستغلُّ فيها جهل الناس، وعدم وعيهم للقضايا الفكرية الحقيقية.
وفي صورة أخرى، نجد حوار النبي موسى (عليه السلام) عندما دعا فرعون إلى عبادة ربّ العالمين، ويبدو أن فرعون لم يسمع بكلمة (رب العالمين)، إما لأن المجتمع الذي كان يعيش فيه فرعون لم ينفتح على معنى التوحيد بالمعنى الذي انطلقت فيه الرسالات، وإما لأنه كان مستغرقاً في ادّعائه للربوبية بالطريقة التي كان لا يريد معها أن يتصوّر وجود إله غيره، فقال فرعون لموسى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}(الشعراء/23).. ما هذا المصطلح الجديد الذي لا نعرفه؟ فقال موسى (عليه السلام):{قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ}(الشعراء/24) ليتطلّع إلى السماء من فوقه، وإلى الأرض التي يعيش فيها، ويتطلّع إلى ما بين السماوات والأرض، وفي كلِّ هذه المخلوقات التي تطير في الفضاء، ليفكِّر من الذي خلقها وأبدعها وخلق قوانينها، وبذلك سيعرف أن ربّ العالمين هو ربّ كل هذا الكون، ربّ السماوات والأرض وما بينهما.. فقال فرعون لمن حوله من قومه ليثيرهم ضد موسى (عليه السلام)، وهم القوم الذين خضعوا لفرعون بطريقة عمياء، كما يخضع بعض الناس للطغاة في أفكارهم وأوضاعهم، فقال فرعون لقومه: {أَلا تَسْتَمِعُونَ}(الآية 25)، أن لكم رباً ولآبائكم، فما هذه البدعة الجديدة؟ ثمّ {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}(الآية 27).
وهذه بداية تشكيك من فرعون بدعوة موسى، فلم يناقشه في من خلق السماوات والأرض وما بينهما، ولم يدخل في أي جدل علمي عقلاني مع موسى (عليه السلام) كأيّ محاوِر، كالكثيرين من الناس الذين عندما يريدون إثارة الجماهير حول بعض الأفكار المضيئة والمشرقة، فإنهم يأتون ببعض الجهّال الغوغاء، ليقولوا لهم تعالوا انظروا ماذا يقول فلان في القضية الفلانية، وكأنه ينكر الحقيقة! من دون أن يفسح المجال للناس لأنْ يناقشوا القضية موضوعياً وعلمياً.. فذلك هو شأن الطغاة في كلِّ زمان ومكان، سواء كانوا طغاةً سياسيين أو دينيين وما إلى ذلك، لأن لكل موقع طغاته في الحياة. وعلى كل حال، فلم يردّ النبي موسى (عليه السلام) على فرعون شتيمته، وإنما خاطبه بالعقل قائلاً مكمِّلاً عن صفة رب العالمين:{قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}(الآية 28)، فأراد موسى (عليه السلام) أن يبلّغهم أن ما يتحدّث به هو حديث العقل للعقل، محاولاً بذلك تحريك عقولهم لكي لا يستعبدوا عقولهم للآخرين، ولا يستسلموا لمنطق العصبية، ولا يأخذوا بعناصر الإثارة، ولا ينطلقوا بما يسمعونه، بل بما يعقلونه، وأن يفكِّروا بعقولهم وليس بغرائزهم؛ لأن العقل هو سرّ كرامة الإنسان، وهو الطاقة التي تبصِّر الإنسان كلّ ما يتعلق بحياته في الدنيا والآخرة.
من هذه الدعوة النبوية نستفيد أنّنا عندما نواجه مثل تلك الأساليب التي قد يتحرّك أصحابُها بطريقة سلبية وبأساليب التكفير والتضليل والسُباب والشتائم، وبأسلوب إثارة الجماهير انفعالياً وعاطفياً، فإنّ علينا أن نذّكر الناس بالعقل، وهذا ما حدّثنا عنه اللّه سبحانه وتعالى في بيانه للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، عندما كان قومه في مكّة يثيرون الغوغاء حوله، فينطلق أحدهم في مكّة ليقول عنه إنه مجنون، فتنطلق بذلك الهتافات. فاللّه سبحانه وتعالى علّم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الأسلوب العقلائي الذي يحاول به إثارة التفكير بعقل هادئ.. فهناك قضيّة واحدة تُمثِّل المنهج في فهم الأشياء، المنهج الذي يستطيعون من خلاله أن يفكِّروا باستقلالية وموضوعية وبطريقة علمية، فقال لهم ـ على لسان القرآن ـ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يديْ عذاب شديد}[سبأ/46]، فأراد لهم أن ينفصلوا ويتفرَّقوا فرداً، فرداً واثنين اثنين، عن ذلك التجمّع المحموم الذي ينطلق بوحي العصبية العمياء، والذي يتحرّك فيه الأفراد من خلال الحُمّى التي تسود كل مشاعر المجتمع وأحاسيسه، ليتفكّروا ما بصاحبهم من جُنّة، ولكنّه النبيّ الذي يريد لهم الهداية لطريق الخير في الدنيا والآخرة.
وهذا المنهج هو ما نحتاج إليه في كلِّ واقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ إذ هناك ما يسمى في علم النفس بمصطلح (العقل الجمعي)، ويقولون إن الفرد عندما يكون ضمن الجماعة، فإنّه يتحرّك بشكل يختلف عمّا لو كان فرداً، بحيث يتأثر الفرد بالجماعة، لأن الجماعة عندما تُسيطر على الساحة، فإنها تجعل الإنسان ينجذب غريزياً إلى ما تطرحه، فيفقد بذلك استقلاله الفكري، ويصبح جزءاً من الحمى الجماهيرية.. وعلى هذا، فإننا قد نلاحظ أنّه إذا ما هتف شخص في مظاهرة ـ مثلاً ـ فإن الآخرين يهتفون معه من دون أن يعرفوا مغزى الهتاف، وعندما تكون في مجتمع تلقى فيه قصيدة أو يطرح فيه شعار ما، ترى أن الناس تصفق ربما تجاوباً، ولكن كثيراً من الناس يصفّقون لأن الآخرين يصفقون، وقد تجد نفسك ـ في بعض الحالات ـ تبْكي في مجتمع بكّاء من دون أن تعرف السبب.. وإذا كان البعض يناقش ـ علمياً ـ في العقل الجمعي أو تأثيراته، فإنّ هذا التأثير أمر نعيشه في الواقع المحيط بنا.
وعلى كل حال، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى علّم رسوله أن يقول لهم: إنكم لا تستطيعون التفكير باستقلال، سواء قلتم إني مجنون أو عاقل، ما دمتم تعيشون الحُمّى العصبية والعدوانية التي تسيطر عليكم من خلال بعض الأشخاص، فتنطقون كما ينطقون، وتهتفون كما يهتفون، فارجعوا إلى عقولكم.. {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} يعني أن تنفتحوا على الحقيقة أمام اللّه سبحانه وتعالى بعيداً عن أي مؤثرات عاطفية أو انفعالية وما إلى ذلك، {مَثْنَى} اثنين اثنين، {وَفُرَادَى} واحداً واحداً، {ثمّ تتفكّروا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} لأن الفرق بين العاقل والمجنون، هو أن العاقل يتكلم بطريقة عقلانية منطلقة من قاعدة فكرية وخط توازن، ويتحدّث بحسب دراسة الظروف المحيطة والقضايا التي تثار في المجتمع، فيختار ما ينفع المجتمع.. والنبيّ (صلى الله عليه وسلم) يقول ـ بحسب القرآن ـ ادرسوا كلماتي وطريقتي في التعامل والدعوة دراسةً موضوعيةً هادئة، لتعرفوا أن {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}؛ فكل ما فعلته هو أنّي أنذرتُكم في شرككم وكفركم وفي تمرّدكم على اللّه وفي عبادتكم للأصنام {إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ
وهذا الأسلوب هو من أروع الأساليب القرآنية في الدعوة الإسلامية، وهو الأسلوب الذي ينطلق من خلال الفكر الهادئ في سبيل الدعوة إلى اللّه؛ لأنّه لا يكفي أن تكون لدينا فكرة الحق، بل لابد أن يرافقها الأسلوب الذي تتحرّك معه الفكرة على أساس الحكمة،
لكي تدخل إلى عقول الناس من أقرب طريق. ولذلك نلاحظ أن اللّه سبحانه وتعالى تحدّث عن أسلوب الحوار مع الآخرين في أكثر من آية قرآنية: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(الإسراء/53)، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل/125)، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(فصِّلت/34). فلا يكفي أن تعطي الفكرة، ولكن لابد أن تعطي المناخ والأسلوب والكلمات التي يمكن من خلالها أن تخاطب قلب الإنسان لتحرك فيه عقله. وعلينا أن نأخذ بهذا الأسلوب في كل ما نواجهه، لأننا نواجه الكثير مما حصل للرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولكن بطريقة أخرى وبوجه آخر..
وهذا ما نلاحظه في حوار النبي (صلى الله عليه وسلم) مع المشركين الذين كانوا يتحرّكون بأسلوب تسجيل النقاط على النبي (صلى الله عليه وسلم) من دون أن يرتكزوا على أية قاعدة من تلك النقاط أو من الفكر ومما يحترم الإنسان به نفسه.. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ}(يونس/15) فعندما يتلو عليهم النبي (صلى الله عليه وسلم) الآيات البينات التي تعبّر عن الحقيقة، فإن هؤلاء المشركين الذين لا يعتقدون بالآخرة يجابهون النبي (صلى الله عليه وسلم) بقولهم {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} من باب التحدي للنبي (صلى الله عليه وسلم)، وهو طلبٌ غير عقلائي، فهل تأملوا في آيات القرآن؟ وهل درسوها؟ فلو كانوا يرون نقاط ضعف في القرآن، لكان عليهم أن يدخلوا في حوارٍ مع النبي (صلى الله عليه وسلم) حول هذه المسألة أو تلك، ولكنهم يطلقون بغباء كلماتٍ ليس لها أي معنى وليس لها أية حجة.
وهنا يرعى اللّه سبحانه وتعالى نبيَّه ويوجّهه بالكلمات التي يردّهم بها بقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}، فلم يدّع الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن القرآن هو جهده الشخصي كما شأن المؤلف الذي يؤلف كتاباً فيقال له بدّل أو ألّف غير هذا الكتاب. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} فالرسول هو عبد مأمور أكرمه اللّه بأن جعله موضع وحيه، فهو يتبع وحيَه، وكل ما جاء به هو من اللّه، وهم يطلبون منه شيئاً لم يدّعِه. وهنا نجد أن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهو سيد الكائنات، عندما يقف بين يدي اللّه، فهو يقف في موقع الخوف من عصيان اللّه ـ تواضعاً للّه، وإعلاناً بأن أي إنسان في مستوى النبوَّة لا يمكن أن يجامله اللّه في معصية، فاللّه يعاقب كل من عصاه - وفرض المحال ليس بمحال، أو كما أراد اللّه أن يبيّن للنبي أنه يعذبه إذا عصى، فكيف ببقية الخلق؟! ولذا ورد في بعض الآيات القرآنية {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(النساء/123). .
والنبي (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يؤكد هذا المعنى، لئلا يعيش الناس بالأماني {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم}(يونس/15)، فأراد النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يقدّم خطورة الفكرة من دون أن يكون لها مدخلية في شخصه وممارساته، ولذا يقول سبحانه وتعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل ِ* لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}(الحاقة/44-47) فأراد اللّه سبحانه وتعالى أن يبين للآخرين أنه حتى لو أن النبي أراد أن يحرّف القرآن - وحاشاه - أو أن يشرِّع بغير ما شرّع به اللّه لعذبه اللّه، فكيف بكم أنتم؟.. ويتابع قوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ})(يونس/16)، فلولا أنّ اللّه قد نزّله على النبي لما تلاه على الناس، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لا يملك القدرة على مثل هذا القرآن المعجز {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي لا تستطيعون أن تعرفوا ذلك، {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا من قبله} فلم يصدر من النبي (صلى الله عليه وسلم) أي آية أو أي شيء خلال أربعين سنة، فلو كان لديه شيء شخصي لظهر منه ذلك، وهو يعيش داخل المجتمع ولم ينعزل عنه، وهو، وإن كان يجاور غار (حراء) للتعبد في كل سنة، إلاّ أنه كان يعيش في المجتمع كما يعيش الناس وله زوجه، فلو كان ذلك ينطلق من الحالة الشخصية لكان غير ذلك. {أَفَلا تَعْقِلُونَ}، فقد أراد النبي (صلى الله عليه وسلم) لهم أن يستخدموا عقولهم من أجل أن يواجهوا الحقيقة في خطابهم له أو في حوارهم معه، وهو الأسلوب الهادئ العقلاني الذي لا ينفعل، ولكن يوجّه الناس إلى أن يتعقلوا حتى يدركوا الحقيقة .
|