لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القسم الادبي > البحوث الاكاديمية > التاريخ والاساطير
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

التاريخ والاساطير التاريخ والاساطير


هنري الثامن ( بحث كامل و مفصل من تجميعي )

هنري الثامن هنري الثامن والكاردينال ولزي 1509 - 1529 1- ملك واعد 1509 - 1511 لم يكن أحد ممن رأوا الفتى الذي ارتقى عرش

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 25-01-12, 12:56 AM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2011
العضوية: 224965
المشاركات: 17
الجنس ذكر
معدل التقييم: معتصم غزال عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
معتصم غزال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : التاريخ والاساطير
افتراضي هنري الثامن ( بحث كامل و مفصل من تجميعي )

 

هنري الثامن

هنري الثامن والكاردينال ولزي

1509 - 1529

1- ملك واعد

1509 - 1511

لم يكن أحد ممن رأوا الفتى الذي ارتقى عرش إنجلترا عام 1509 يتنبأ بأنه هو البطل والغد معاً في أكر حكم درامي في التاريخ الإنجليزي. وعندما كان غلاماً في الثامنة عشرة من عمره كانت بشرته الرقيقة وتقاطيعه المنتظمة تجعله جذاباً كالفتاة أو يكاد، بيد أن ما يتمتع به من قوام رياضي وجرأة سرعان ما قضى على أي مظهر للأنوثة فيه. وتبارى السفراء الأجانب مع المادحين والطنيين في الثناء على شعره الأصحم، ولحيته الذهبية و "ربلة ساقه الفائقة الجمال" وفي تقرير كتبه جيوستنياني إلى مجلس شيوخ البندقية قال: "إنه مغرم بالتنس، وإن أجمل شيء في الوجود أن تراه وهو يلعب، وبشرته الجميلة تتألق من خلال قميص نسيجه جد رقيق(1)"، وكان في الرمي بالسهام والمصارعة يضارع أحسن الأبطال في مملكته ولم يكن يبدو عليه في الصيد قط أي تعب، وكان يخصص يومين كل أسبوع للمبارزات، ولم يكن في وسع أحد أن ينافسه إلا الدوق سفولك. وكان موسيقياً مثقفاً أيضاً، و "غنى وعزف على كل ضروب الآلات وأظهر موهبة نادرة"، (كما كتب القاصد الرسولي للبابا) ولحن قداسين لا يزالان باقيين، وكان يعشق الرقص وحفلات المساخر ومظاهر الأبهة والثياب الجميلة. ويروقه أن يكسو نفسه ثياباً من فرو الفاقوم أو أردية أرجوانية، وكان القانون ينص على أن له وحده الحق في ارتداء الديباج الأرجواني أو الذهبي، وكان يأكل بتلذذ، ويصل أحياناً مآدب الغذاء الرسمية إلى بع ساعات، ولكنه في السنوات العشرين الأولى من حكمه كبح جماح شهيته. وكان كل الناس يحبونه ويعجبون بسماحة أخلاقه اللطيفة وسهولة الوصول إلى قلبه ومرحه وتسامحه وحلمه. ورحب الناس بارتقائه العرش وكأنه إيذان بفجر عصر ذهبي.

واغتبطت الطبقات المتعلمة أيضاً لأن هنري في أيام السكون تلك كان يطمح أن يكون عالماً بطلاً رياضياً على السواء وموسيقياً وملكاً، ولما كان قد أعد في الأصل ليكون من رجال الدين فقد أصبح على دراية بعض الشيء باللاهوت، وكان في وسعه أن يستشهد بآيات من الكتاب المقدس لأي غرض. وكان له ذوق جميل في الفن، واقتنى مجموعة تدل على درايته، وكان حكيماً في اختياره هولبين لتخليد كرشه. وقام بدور فعال في أعمال الهندسة وبناء السفن والتحصينات والمدفعية. وقال عنه سير توماس مور: "إنه أعلم من أي ملك انجليزي قبله(2)" - وليس هذا بالثناء العظيم. وتابع مور كلامه قائلاً: "ما الذي لا نتوقعه من ملك غذي بلبان الفلسفة وربات الفنون التسع(3)؟" وكتب مونتجومري مبهوتاً إلى أرازموس، وكان حينذاك في روما، يقول: "ما الذي لا تعلل به نفسك من أمير تعلم جيداً ما فطر عليه من موهبة خارقة وخلق يكاد يكون إلهياً؟ ولكن عندما تعرف أي بطل يقيم الآن الدليل عليه، وكيف يتصرف بحكمة، وأي محب للعدالة والخير، وأي مودة يحملها للمتعلمين، فإني أتجاسر وأقسم لك بأنك لن تكون في حاجة إلى جناحين تطير بهما لتشهد هذا النجم الجديد السعيد.

أواه يا أرازموس العزيز. لو أنك استطعت أن ترى كيف أن العالم بأسره هنا مبتهج لأن عنده أميراً عظيماً كهذا، وكيف أن حياته هي كل ما يبتغون فلن تتمالك نفسك من أن تذرف دموع الفرح. إن السموات لتضحك والأرض لتبتهج(4)".

وجاء أرازموس وشارك في هذا الهذيان لحظة. وكتب يقول: "فيما مضى كان قلب المعرفة بين مَن يزعمون أنهم من رجال الدين، والآن بينما ينصرف هؤلاء في الأغلب الأعم إلى شهوات البطون والترف والمال فإن حب العلم ذهب منهم إلى الأمراء العلمانيين والحاشية والنبلاء وإن الملك لا يقبل في بلاطه رجالاً مثل مور فحسب، بل إنه يدعوهم ويجبرهم - على أن يرقبوا كل ما يفعل وأن يشاطروه تبعاته وملذاته. وهو يفضل صحبة رجال مثل مور على صحبة الأغبياء من الفتيان أو الفتيات أو الأغنياء(5)". وكان مور أحد أعضاء مجلس الملك وليناكر طبيب الملك وكوليه واعظ الملك في كنيسة القدّيس بولس.

وفي السنة التي ارتقى فيها هنري العرش، أنفق كوليه الجانب من الثروة التي ورثها عن أبيه لتأسيس مدرسة القدّيس بولس. واختير نحو 150 طبيباً لكي يدرسوا هناك الأدب الكلاسي واللاهوت المسيحي وعلم الأخلاق، وخالف كوليه التقاليد بتعيين مدرسين علمانيين في المدرسة، وكانت أول مدرسة غير أكليروسية في أوربا. وعارض "الطرواديون" الذين كانوا ينددون في أكسفورد بتدريس الكلاسيات، برنامج كوليه بحجة أنه يؤدي إلى الشك الديني، بيد أن الملك حكم ضدهم ومنح كوليه تشجيعه الكامل. وعلى الرغم من أن كوليه نفسه كان محافظاً في عقيدته ومثالاً للتقوى، فإن أعداءه اتهموه بالهرطقة، فأخرسهم وارهام كبير الأساقفة وأذعن هنري. وعندما رأى كوليه أن هنري يميل إلى الحرب مع فرنسا ندد علناً بسياسته وأعلن، كما فعل أرازموس، أن سلاماً ظالماً خير من أعدل الحروب. وندد كوليه بالحرب، حتى وهو مجتمع بالملك في الصلاة، باعتبارها صفعة في وجه تعاليم المسيح، ورجاه هنري على انفراد ألا يضعف معنويات الجيش، ولكن عندما حرض الملك على أن يخلع كوليه أجاب قائلاً: "ليكن لكل إنسان قسيسه الخاص... إن هذا الرجل هو قسيسي(6)". واستمر كوليه يفسر تعاليم المسيحية تفسيراً جاداً. وكتب إلى أرازموس (1517) يقول بروح توما أكمبي: آه يا أرازموس لا حد هناك لكتب المعرفة، وليس هناك أفضل من أن نعيش حياة طاهرة مقدسة في هذا الأجل القصير الذي كتب علينا وأن نبذل جهدنا في حياتنا اليومية، وأن نتطهر ونتثقف... بالحب المتأجج والاقتداء بيسوع. ولهذا فإن أعظم رغباتي إلحاحاً هي أن نسير قدماً، معرضين عن كل السبل غير المباشرة مؤثرين بطريقة قصيرة توصل إلى الحقيقة. وداعاً(7).

وفي عام 1518 أعد قبره البسيط ولم ينقش عليه إلا اسم جوهانس كوليتس ودفن فيه، بعد عام، وأحس كثيرون أن قديساً قد مات.
2- ولزى

كان هنري، الذي قدر له أن يصبح تجسيداً لأمير مكيافيلي، لا يزال بعد حدثاً بريئاً في السياسة الدولية. وعرف حاجته إلى الإرشاد وجعل من الرجال حوله نماذج. وكان مور ذكياً بيد أنه لم يتعدَ الحادية والثلاثين، وكان يميل إلى الطهارة والتقوى. وكان توماس ولزى يكبره بثلاثة أعوام فحسب، وكان قساً إلا أن اتجاهه بأكمله للسياسة، والدين عنده جزء من السياسة. وقد ولد توماس في ابسوتش من "أصل وضيع ودم خسيس" (هكذا وصفه جويكيا رديني المعتز بنفسه)(8). وقد استوعب مقرر شهادة البكالوريا في أكسفورد وهو في الخامسة عشرة من عمره، وعندما بلغ الثالثة والعشرين عمل صرافاً في كلية مجادلين، وأظهر كفاءته باستخدام مبالغ مناسبة، تتجاوز السلطة المخولة له، لإتمام البرج الرائع لتلك القاعة. وعرف كيف ينجح. وأظهر فطنة في الإدارة والمفاوضة فقام بالوعظ في سلسلة من الكنائس ليخدم هنري السابع بتلك المقدرة والدبلوماسية.

وعندما ارتقى هنري الثامن العرش عينه موزعاً للصدقات - مديراً للبر والإحسان. وسرعان ما أصبح القس عضواً في المجلس الخاص. وأفزع واهرام كبير الأساقفة بدفاعه عن عقد حلف عسكري مع أسبانيا ضد فرنسا، وكان لويس الثاني عشر يغزو إيطاليا، ومن المحتمل أن يجعل البابوية تابعة لفرنسا من جديد. وعلى أية حال فإن فرنسا لابد أن تصبح قوية جداً. وخضع هنري في هذا الأمر لولزى وحميه فرديناند ملك أسبانيا، وكان هو نفسه يجنح في هذا الوقت للسلم. وقال لجيوستنياني: "إني راضٍ بما أملك، ولا أود أن أحكم إلا رعاياي، ولكني من جهة أخرى لا أقبل أن يبلغ أحد من القوة ما يجعله يتحكم في"(9)، ويكاد هذا يلخص حياة هنري السياسية. فقد ورث ادعاء الملوك الإنجليز أن لهم الحق في تاج فرنسا، ولكنه عرف أنه ادعاء أجوف. ووهنت الحرب سريعاً في موقعة المهاميز (1513). ودبر ولزى للسلام وأغرى لويس الثاني عشر بالزواج من ماري شقيقة هنري، وسر ليو العاشر لنجاته فعين ولزى رئيساً لأساقفة يورك (1514). وكاردينالاً (1515)، وعينه هنري، المنتصر، حاجباً (1515). وفاخر الملك لأنه حمى البابوية، وعندما رفض أحد البابوات أن يتولى فيما بعد تيسير زواجه عد هذا جحوداً.

وكانت السنوات الخمس الأولى التي قضاها ولزى في منصب الحاجب من أعظم السنوات توفيقاً في سجل الدبلوماسية الإنجليزية. وكان يهدف إلى تنظيم السلام في أوربا باستخدام إنجلترا وسيلة لحفظ التوازن في القوى بين الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة وفرنسا، وكان المفروض أن مما يدخل أيضاً في دائرة سلطانه أن يصبح حكماً لأوربا وأن يكون السلام في القارة في مصلحة تجارة إنجلترا الحيوية مع الأراضي المنخفضة. وتفاوض كخطوة أولى، لعقد حلف بين فرنسا وإنجلترا (1518)، وخطب ماري ابنة هنري البالغة من العمر عامين (أصبحت ملكة فيما بعد) إلى ابن فرانسيس الأول البالغ من العمر سبعة شهور، ولا شك أن ميله للضيافة الكريمة قد كشف عنه ما حدث عندما حضر المبعوثون الفرنسيون إلى لندن لتوقيع الاتفاقيات، فقد أقام لهم وليمة في قصر وستمنستر، قدم لهم فيها عشاء، قال عنه جيوستنياني: "أن مثيله لم يقدم قط، على مائدة كليوباترة وكاليجولا، وأن قاعة المأدبة بأسرها زينت بزهريات ضخمة من الذهب والفضة(10)". غير أن الكاردينال المحب للدنيا يلتمس له العذر، فقد كان يقامر ليكسب رهاناً عظيماً، فكسب. وأصر على أن يكون الحلف مفتوحاً لينضم إليه الإمبراطور مكسمليان الأول وشارل الأول ملك أسبانيا والبابا ليو العاشر، ودعوا للانضمام إليه فقبلوا، وابتهج أرازموس ومور وكوليه، إذ داعبهم الأمل في أن يكون فجر عهد للسلام قد أشرق على العالم المسيحي بأسره. وتلقى ولزى التهاني حتى من أعدائه. وانتهز الفرصة لرشوة المندوبين الإنجليز(11) في روما لكي يضمن تعيينه قاصداً رسولياً للبابا في صف بريطانيا والعبارة تعني "في صف" وموضع ثقة، وكان أرفع تعيين لمبعوث بابوي. وكان ولزى وقتذاك الرئيس الأعلى للكنيسة الإنجليزية وحاكم إنجلتري - مع ولاء استراتيجي لهنري.

وعكر صفو السلام بعد عام تنافس فرانسيس الأول وشارل الأول على العرش الإمبراطوري. بل إن هنري رأى أن يقذف بقلنسوته في الحلبة غير أنه لم يجد رجلاً مثل فوجر. وزار الفائز، وهو وقتذاك شارل الخامس، انجلترا زيارة قصيرة (مايو سنة 1520) وقدم إحتراماته لعمته كاترين الأراجونية، الملكة زوجة هنري، وعرض أن يتزوج الأميرة ماري (التي كانت مخطوبة بالفعل لولي عهد فرنسا)، إذا وعدت إنجلترا أن تؤيد شارل في أي نزاع بينه وبين فرنسا، وهكذا السلام، أمر غير طبيعي، فرفض ولزى ولكنه قبل من الإمبراطور مرتباً قدره 7.000 دوكات، وانتزع منه تعهداً بأن يساعده على أن يصبح بابا.

وحقق الكاردينال الذكي أعظم انتصار باهر له بتدبير لقاء بين العاهلين الفرنسي والإنجليزي في ميدان كلوث أف جولد (يونيو 1520). وهناك في أرض فضاء مكشوفة بين جين وآردر قرب كاليه برز فن العصر الوسيط والفروسية في روعة الغروب. وانطلق أربعة آلاف نبيل إنجليزي، اختارهم الكاردينال وعينهم، وكانوا يرتدون الملابس الحريرية والمزركشة والمخرمات من أزياء القرون الوسطى المتأخرة، في صحبة هنري بينما امتطى الملك الشاب ذو اللحية الحمراء صهوة فرس صغيرة لملاقاة فرانسيس الأول. وأخيراً وليس آخراً، أقبل ولزى نفسه مرتدياً ثياباً قرمزية من الأطلس ينافس بها أبهة الملوك. وقد شيد على عجل قصر لاستقبال صاحبي الجلالة ومرافقيهما من السيدات والموظفين، وأقيمت سقيفة يكسوها قماش تتخلله خيوط ذهبية، وتتدلى منه طنافس ثمينة ليظلل المؤتمر والمآدب، وكانت هناك نافورة يسيل منها النبيذ، وأخليت مساحة لألعاب الفروسية الملكية، وتدعم الحلف السياسي والعسكري بين الأمتين، وتبارى العاهلان السعيدان في المبارزة بل تصارعا، وخاطر فرانسيس بسلام أوربا بطرحه الملك الإنجليزي، وأصلح خطواته الخاطئة بكياسة فرنسية لا نظير لها بالذهاب مبكراً ذات صباح وهو مجرد من السلاح مع بعض الأتباع غير المسلحين، لزيارة هنري في المعسكر الإنجليزي - وكانت لفتة تدل على الثقة الودية فهمها هنري. وتبادل الملكان الهدايا الثمينة والأيمان المغلظة.

والحق أن أحداً منهما لم يستطع أن يثق بالآخر، لأن التاريخ علمهم درساً مفاده أن الرجال يكذبون كثيراً عندما يحكمون دولاً. وبعد سبعة عشر يوماً أمضاها هنري ينعم بالولائم مع فرانسيس، انطلق ليمضي ثلاثة أيام في مؤتمر مع شارل في كاليه (يوليه سنة 1520). وهناك أقسم الملك والإمبراطور، في حضور ولزى، على الصداقة الأبدية واتفقا على ألا يقدما على خطوات أخرى لتنفيذ خطتيهما للزواج من الأسرة المالكة في فرنسا. وكانت هذه الأحلاف المنفصلة أساساً أشد قلقلة للسلام الأوربي من الاتفاق الودي متعدد الجوانب الذي كان ولزى قد دبر له قبل وفاة مكسمليان. وإن كان قد ترك إنجلترا في وضع الوسيط، والحكم في الواقع - وهو وضع أسمى بكثير من أي وضع يمكن أن يعتمد على ثروة الإنجليز أو سلطانهم. وكان هنري راضياً. وأمر رهبان سانت البانز باختيار ولزى رئيساً لديرهم ومنحه صافي دخلهم، وذلك مكافئة لحاجبه، لأن "سيدي الكادينال قد تحمل الكثير من التكاليف في هذه الرحلة". وأذعن الرهبان ووصل دخل ولزى إلى ما يقرب من احتياجاته.

وكان، على نطاق أوسع بكثير من معظمنا، مزيجاً من الفضائل والنقائض المركبة، وكتب جيو ستنياني يقول: "إنه وسيم جداً، فصيح للغاية، واسع المقدرة، لا يكل ولا يمل(12)". وكانت أخلاقه لا تخلو من الشوائب، فقد انزلق مرتين إلى الأبوة غير الشرعية، وكانت تعد من الهفوات التي تغتفر في ذلك العصر الطروب.

ولكن إذا صدقنا ما قاله اسقف، فغن الكاردينال كان يعاني من "الزهري(13") وقبل ما يمكن، أو ما لا يمكن أن يسمى بالرشا - هدايا عظيمة من المال تلقاها من فرانسيس وشارل على السواء، وحرص على أن يجعلهما يتنافسان على أن يأمرا له بمرتبات وهبات سخية قدماها، وكانت هذه من آداب مجاملة العصر، وأحس الكاردينال المبذر، الذي شعر بأن سياسته تخدم أوربا بأسرها، بأن أوربا كلها يجب أن تخدمه. وليس من شك في أنه كان يحب المال والترف والأبهة والسلطان. وكان جانب كبير من دخله يصرف في الحفاظ على مؤسسة قد يكون تبذيرها السطحي أداة من أدوات - الدبلوماسية، صممت لكي تعطي السفراء الأجانب فكرة مبالغاً فيها عن الموارد الإنجليزية. ولم يدفع هنري أي مرتب لولزى ولهذا كان على الحاجب أن يعيش ويولم لضيوفه على حساب موارده الكنسية ومرتباته التي يتقاضاها من الخارج. وحتى لو كان الأمر على هذا النحو فإننا قد نعجب لأنه احتاج لكل الدخل الذي كان يحصل عليه باعتباره صاحب الحق في دخل أبرشيتين، وست رواتب للقسس، ومرتب رئيس جامعة، ومرتب باعتباره رئيساً لدير سانت البانز وأسقفاً لباث وولز، ورئيساً لأساقفة يورك ومديراً لأبرشية ونشستر وشريكاً لأسقفي ورسستر وسالزبوري الإيطاليين الغائبين(14).

وكان له تقريباً الحق في الرئاسة الدينية والسياسية بأسرها في المملكة والمفروض أنه كان ينال مكافئة عن كل تعيين يتم. وقدر مؤرخ كاثوليكي أن ولزى كان يتلقى في أوج مجده ثلث دخول الكنيسة في إنجلترا(15). كان أغنى وأقوى الرعايا في الأمة. ومن رأي جيوستنياني أنه كان "أقوى من البابا- بسبعة أضعاف(16)" ويقول أرازموس: "إنه الملك الثاني" ولم يبقَ أمامه إلا خطوة واحدة- يقوم بها- البابوية. وحاول ولزى الحصول عليها مرتين، ولكن شارل الداهية فاقه في تلك اللعبة، متجاهلاً وعوده.

واعتقد الكاردينال أن التمسك بالمراسيم دعامة القوة، ويستطيع المرء بالقوة أن يبوأ السلطة ولكنه لا يستطيع أن يدعمها بثمن بخس وفي هدوء وسلام إلا بالتعود عليها أمام الجمهور، والناس تحكم على سمو المرء بمقدار تمسكه بالرسمية التي يحتمي بها. ولهذا فإن ولزى كان يظهر في الحفلات العامة والرسمية مرتدياً أفخر الملابس الرسمية التي خيل إليه أنها مناسبة لمثل كل من البابا والملك. قبعة كردينال حمراء، وقفازين حمراوين، وأردية من التافتاه القرمزة وحذاء من الفضة أو مموهاً بالذهب، ومرصعاً باللآلئ والأحجار الكريمة - ها هو ذا أنوسنت الثالث وبنيامين دزرائيلي وبروفل الجميل اجتمعوا معاً في شخص واحد. كان أول مَن لبس الحرير(17) بين رجال الدين في إنجلترا. وعندما كان يردد القداس (وهو أمر نادر) كان شمامسته من الأساقفة والرهبان، وفي بعض المناسبات كان النبلاء من حملة ألقاب دوق وايرل يصبون الماء الذي يغسل به يديه المقدستين. وأذن لتابعيه أن يركعوا وهم يخدمونه على المائدة. وخدمه في مكتبه وبيته خمسمائة شخص(18)، كثير منهم من ذوي النسب العريق. وكانت قلعة هامبتون التي شيدها لتكون مقراً له باذخة جداً إلى حد أنه أهداها للملك (1525) ليتقي شر حسده.

ومهما يكن من أمر فإنه نسي أن هنري كان ملكاً. وكتب جيوستنياني إلى عضو شيوخ من البنادقة: "لدى وصولي لأول مرة إلى إنجلترا اعتاد الكاردينال ان يقول لي إن جلالته سوف يفعل كذا وكذا". وبعد ذلك - بالتدريج نسي نفسه وبدأ يقول: "سوف نفعل كذا وكذا" أما الآن يقول: "سأفعل كذا وكذا"(19)، وكتب السفير مرة أخرى يقول: "إذا كان لابد من إغفال أمر الملك أو الكاردينال فمن الأفضل التغاضي عن الملك، فالكاردينال قد يستاء من السبق الذي يسلم به للملك(20)" وقلما كان الأشراف والدبلوماسيون يحصلون على الأذن بالمثول في حضرة الحاجب قبل تقديم الالتماس الثالث. وكلما مر عام كان الكاردينال يحكم صراحة حكماً مطلقاً يشتد يوماً بعد يوم، واستدعى المجلس النيابي مرة إبان رئاسته، وكان قليل الاهتمام بالأشكال الدستورية، وقابل المعارضة بالاستياء والنقد والزجر. وكتب المؤرخ بوليدر فرجيل يقول: "إن هذه الوسائل سوف تؤدي إلى سقوط ولزى" فأرسل فرجيل إلى البرج، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن تشفع له ليو العاشر مراراً. واشتدت المعارضة.

ولعل مَن عزلهم ولزى أو أدبهم هم الذين اعتصموا بآذان التاريخ، ونقلوا آثامه كما هي بلا غفران، إلا أن أحداً لم ينازع في مقدرته، أو انصرافه في مثابرة لكثير من مهامه. وقال جيوستنياني لعضو الشيوخ من البندقية المعتز بنفسه "إنه ينجز من العمل قدر ما يشغل كل القضاة وموظفي المكاتب والمجالس في البندقيو، في المحاكم المدنية والجنائية على السواء، وهو يدير كذلك كل شئون الدولة مهما كانت طبيعتها(21)".

وكان محبوباً من الفقراء، مكروهاً من الأقوياء بسبب عدم تحيزه في تطبيق العدالة. وفتح بلاطه لكل مَن يشكون من الاضطهاد، ولا تكاد توجد سابقة لهذا في التريخ الإنجليزي بعد الفرد. وكان ينزل العقاب بالجاني الأثيم، مهما كان رفيع القدر(22)، دون خوف ولا وجل. وكان كريماً مع العلماء والفنانين وبدأ إصلاحاً دينياً بإحلال كليات محل أديار عديدة. وكان بصدد القيام بإصلاح مثير في التعليم الإنجليزي عندما تآمر ضده كل الأعداء الذين خلقهم اندفاعه في أعماله وقصر منظم كبير رائع، فتآمروا بخلق قصة خيالية ملكية لتدبير خطة لسقوطه.

3- ولزي والكنيسة
وأدرك المساوئ التي لا تزال باقية في حياة رجال الدين في إنجلترا، ضرب لها مثلاً عظيماً: أساقفة غائبين ورجال دين متعلقين بالدنيا، ورهباناً كسالى، وقساوسة وقعوا في شرك الأبوة. وكانت الدولة التي طالما دعت إلى إصلاح الكنيسة، مسئولة إلى حد ما عن الشرور، لأن الملوك كانوا يعينون الأساقفة. وكان بعض الأساقفة من أمثال مورتون، وواهرام وفيشر رجالاً على خلق رفيع، ذوي مقدرة عظيمة، وكان كثير من الآخرين منغمسين جداً فيما تتيحه لهم الأسقفية من حياة وادعة، فلم يستطيعوا أن يدربوا اتباعهم من رجال الدين على الكفاءة من الناحية الروحية، وكذلك على المثابرة في تدبير المال. وربما كانت أخلاقيات الجنس عند القساوسة أفضل مما هي عند زملائهم في ألمانيا، ولكن لم يكن ثمة مفر من وجود حالات من التسري بين رجال الدين، ومن الزنا والسكر والجريمة في الأبرشيات البالغ عددها 8.000 في إنجلترا - وهي حالات - كثيرة دفعت كبير الأساقفة مورتون إلى أن يقول (1468): "إن ما يقترن بحياتهم من فضائح يعرض للخطر استقرار نظامهم(23)"، وأبلغ رتشارد فوكس، حوالي عام 1519، ولزى بأن رجال الدين في أسقفية ونشستر كانوا قد تردوا إلى هاوية كبيرة من الفسق والفساد، إلى حد أنه يئس من أن يشهد في حياته أية محاولة لإصلاح ديني(24). وارتاب القساوسة بالأبرشيات في أن ترقياتهم تتوقف على مقدار مقتنياتهم، فأخذوا يغتصبون ضرائب العشور أكثر مما فعلوا في أي وقت مضى. وكان البعض يستولي كل عام على عشر دجاج الفلاح وإنتاجه من البيض واللبن ولجبن والفاكهة، بل حتى من كل الأجور التي كانت تدفع لمعاونته، وكل إنسان لا يترك في وصيته ميراثاً للكنيسة يتعرض لخطر عظيم بحرمانه من الدفن طبقاً للطقوس المسيحية مع ما يترتب على ذلك من نتائج متوقعة مروعة إلى حد لا يمكن التفكير فيها. وبعبارة موجزة فرض رجال الدين مكوساً لتمويل مصالحهم في إصرار مثل الدولة الحديثة. وما أن حل عام 1500 حتى كانت الكنيسة تملك، وفقاً لتقدير كاثوليكي محافظ، حاولي خمس الأملاك بأسرها في إنجلترا(25). وحسد النبلاء هناك كما في ألمانيا رجال الدين على هذه الثروة وتلهفوا على استعادة الأراضي والدخول التي تنازل عنها لله أسلافهم الأتقياء أو الخائفون.
وأجمل دين كوليه حالة رجال الدين العلمانيين مع مبالغة واضحة في خطاب وجهه إلى جمعية رجال الكنائس عام 1512 فقال: "أود أخيراً وأنا عالم بشهرتكم ومهنتكم، أن تفكروا في إصلاح أمور الكهنوت لأنه لم يحدث من قبل أن كان الأمر محتوماً كما هو الآن... لأن الكنيسة - زوجة المسيح - التي تمنى ألا تشوبها شائبة أو تدب فيها الشيخوخة قد أصبحت دنسة مشوهة"، وكما يقول إشعيا: "كيف صارت القرية الأمينة زانية ". وكما يقول أرميا: "أما أنت فقد زنيت بأصحاب كثيرين" . وقد حملت بكثير من بذور الظلم وهي تنجب كل يوم أعظم الذرية دنساً. ولم يشوه شيء وجه الكنيسة مثل ما شوهته المعيشة العلمانية والدنيوية لرجال الدين... أي لحفة وجوع يشيعان في هذه الأيام بين رجال الدين بعد الشرف والوقار. وأي سباق تنقطع فيه الأنفاس من صدقة إلى صدقة ومن منفعة أقل إلى منفعة أكبر.
ألم تغرق الشهوة إلى الجسد، ألم تغرق هذه الرذيل الكنيسة بالفيضان... ولهذا فليس هناك ما يسعى إليه في حرص الجانب الأكبر من القساوسة أكثر مما يهيئ لهم اللذة الحسية؟ إنهم لينصرفون إلى المآدب والولائم... ويقفون حياتهم وينصرفون إلى القنص والصيد بالصقور، وهم غارقون في مباهج هذه الحياة الدنيا.
وقد تملك الجشع أيضاً... قلوب كل القسس... إلى حد أننا اليوم لا نرى شيئاً سوى ما يخيله لنا أنه كفيل بأن يعود علينا بمغنم، ونحن نعاني في هذه الأيام من الهراطقة - وهم رجال يتصفون بحماقة عجيبة، إلا أن هرطقتهم ليست وبائية خبيثة بالنسبة لنا وللناس مثل حياة رجال الدين الفاسدين الغاوين. ولابد أن يبدأ الإصلاح الديني بكم(26).
وصاح نائب الأسقف مرة أخرى وهو يتميز غيظاً: "أيها القساوسة... يا طائفة القسس... أواه! إن الضلال المقيت الذي يسدر فيه هؤلاء القساوسة التعساء، الذين يضم منهم عصرنا عدداً كبيراً لا يخشون الاندفاع من أحضان بغي دنسة إلى حرم الكنيسة، وإلى مذبح المسيح، وإلى أسرار العشاء الرباني(27)".
بل إن رجال الدين النظاميين أو الرهبانيين تعرضوا لاستنكار شديد، فقد اتهم كبير الأساقفة مورتون عام 1489 الراهب وليام من دير البانز بـ "الاتجار في المقدسات والرتب والوظائف الدينية والربا والاختلاس والعيش علناً وباستمرار مع ال****** والعشيقات داخل أرياض الدير وخارجه" واتهم الرهبان بأنهم يحيون حياة داعرة... كلا بل يدنسون الأماكن المقدسة، حتى كنائس الرب بالذات مضاجعة الراهبات الممقوتة، ويحولون ديراً ثانوياً مجاور إلى "ماخور عام"(28).
وترسم سجلات الجولات التفتيشية الأسقفية صورة أقل إكفهراراً. فمن بين اثنين وأربعين ديراً تم التفتيش عليها بين عامي 1517 و 1530 وجد خمسة عشر ديراً لم تقترف فيها خطيئة كبيرة، وفي معظم الأديار الأخرى كانت جرائم التعدي على النظام أكثر منها على العفة(29). وكانت بعض الأديار لا تزال تمارس نظام الصلاة في القرون الوسطى والإقبال على العلم والضيافة والبر وتعليم الشباب. واستغل بعضها السذاجة وجمعت النقود من العامة لمخلفات وهمية نسبوا إليها شفاء معجزاً من الأمراض، وشكا أساقفة من "الأحذية المنتنة والأمشاط القذرة... والزنارات الرثة وخصلات الشعر والخرق القذرة المقررة والموصى بها للجهلة من الناس. باعتبارها مخلفات صحيحة لنساء أو رجال مقدسين(30).
وعلى الجملة فإن الأديار الستمائة في إنجلترا أظهرت، طبقاً لتقدير آخر مؤرخ كاثوليكي، سوء سلوك على نطاق واسع وكسلاً متلافاً وإهمالاً يكلف غالياً في رعاية أملاك الكنيسة(31).
وفي عام 1520 كان في إنجلترا نحو 130 ديراً للراهبات. منها أربعة فقط تضم ما يزيد على ثلاثين نزيلة(32). وألغى الأساقفة ثمانية أديار، وقال الأسقف في إحدى الحالات بسبب "الأخلاق الداعرة لنساء البيت وتبذلهن بسبب مجاورتهن لجامعة كمبرج(33)". وتمت ثلاث وثلاثون جولة تفتيشية لواحد وعشرين ديراً للراهبات في أبرشية لنكولن وقدمت عنها تقارير من بينها ستة عشر تقريراً مشجعاً، وأربعة عشر تقريراً تضمنت ملاحظات عن الافتقار إلى النظام أو الأخلاق وتقريران تحدثا عن راهبات كن يعشن في الخنا، وتقرير وجد راهبة حاملاً من قسيس(34). وكانت مثل هذه الانحرافات عن القواعد الصارمة تعد طبيعية في المناخ الأخلاقي السائد في تلك العصور، ولعل الخدمات الكريمة في التعليم والبر كانت ترجحها.
وكان رجال الدين لا يتمتعون بالشعبية. وكتب يوستاس شابويس السفير الكاثوليكي لشارل الخامس في إنجلترا إلى مولاه عام 1529 فقال: "إن كل الناس يكرهون القساوسة"(35). وندد كثير من الناس، من المتشبثين بعقيدة المحافظين تماماً بقسوة الضرائب التي فرضها رجال الدين وتبذير الأساقفة وثراء الرهبان وكسلهم. وعندما اتهم كاتب سر أسقف لندن بقتل هرطيق (1514) توسل الأسقف إلى ولزى أن يمنع المحاكمة أمام محلفين مدنيين "لأني واثق أن كاتب سري لو حوكم أمام أي أثنى عشر رجلاً في لندن فإنهم سوف ينحازون في حقد إلى صف الهرطيق إلى حد أنهم سوف ينبذون كاتبي ويدينونه على الرغم من أنه بريء مثل هابيل"(36).
وأخذت الهرطقة تشتد مرة أخرى. وفي عام 1506 اتهم خمسة وأربعون رجلاً بالهرطقة أمام أسقف لنكولن وتراجع ثلاثة وأربعون عما قالوا، وأحرق أثنان. وفي عام 1510 حاكم أسقف لندن أربعين هرطقياً وأحرق أثنين، وفي عام 1521 حاكم خمسة وأربعين وأحرق خمسة، وتورد السجلات قائمة تضم 342 محاكمة مثل هذه في خلال خمسة عشر عاماً(37).
ومما كان يعد بين الهرطقات الجدل حول القربان المقدس وهل يظل يقدم من الخبز فحسب، وأن القساوسة لا حول لهم ولا قوة أكثر من الآحاد الآخرين من الناس في التكريس أو الحل، وأن القرابين المقدسة ليست ضرورية للحصول على الخلاص، وأن رحلات الحج إلى المزارات المقدسة والصلاة من أجل الموتى لا قيمة لها، وأن الصلوات يجب أن توجه لله وحده، وأن في وسع الإنسان أن يظفر بالنجاة بالإيمان وحده، بغض النظر عما يقدم من صالح الأعمال، وأن المسيحي المخلص فوق كل القوانين ما عدا شريعة المسيح، وأن الكتاب المقدس والكنيسة يجب أن يكونا القاعدة الوحيدة التي يحتكم إليها في العقيدة، وأن كل الرجال يجب أن يتزوجوا، وأن الرهبان والراهبات يجب أن يجحدوا اقسامهم بالتزام العفة.
وكانت بعض هذه لهرطقات أصداء لمذهب لولارد، وكانت بعضها انعكاسات لنفخات من بوق لوثر.
وفي أواخر عام 1251 كان الثائرون الشبان في أكسفورد يتلقفون في لهفة أنباء الثورة الدينية في ألمانيا، وآوت كامبردج في أعوام 1521-25 أثنى عشر من زعماء هراطقة المستقبل، وليام تيندال وكيلز كوفردال وهيولاتيمر وتوماس بلني وأدوارد فوكس ونسكولاس ردلي وتوماس كرانمر... لقد هاجر كثير منهم: وهم يتوقعون الاضطهاد، إلى القارة، وطبعوا كراسات دينية مناهضة للكاثوليكية وبعثوا بها سراً إلى إنجلترا.
وأصدر هنري الثامن عام 1521 كتابه المشهور "قضية المقدسات السبعة ضد مارتن لوثر"، ولعله أصدره كرادع لهذه الحركة أو ربما لإظهار سعة علمه في اللاهوت، واعتقد الكثيرون أن ولزى هو المؤلف الخفي، ولعل ولزى هو الذي اقترح تأليف الكتاب، وصاحب ما ورد فيه من أفكار رئيسية كجزء من دبلوماسيته في روما، بيد أن أرازموس ادعى أن الملك قد فكر في الرسالة من أولها لآخرها وألفها، ويميل الحكم الآن إلى هذا الرأي. وهذا الكتاب له سمات المبتدئ، وهو لا يكاد يحاول تقديم رد عقلي يدحض به الآراء الأخرى، ولكنه يعتمد على فقرات منقولة من الكتاب المقدس والروايات الكنسية والتعسف الشديد، وكتب الثائر المنتظر ضد البابوية يقول: "إي ثعبان سام يصل إلى درجة مَن يصف سلطة البابا بأنها مستبدة؟... وأي جارحة من جوارح الشيطان تحاول أن تمزق أعضاء المسيح وتفصلها عن رأسها". ما من عقوبة يمكن أن تكون جسيمة عندما توقع على مَن يعصى القس الأكبر والقاضي الأعلى على الأرض لأن الكنيسة بأسرها ليست رعية للمسيح فحسب... بل لكاهن المسيح الوحيد، بابا روما(38). وكان هنري يغبط ملك فرنسا على ألقاب التشريف التي تسبغها الكنيسة عليه مثل: "أكثر المسيحيين مسيحية" وفردينان وايزابلا على لقب العاهلين الكاثوليكيين. وعندما قدم وكيله وقتذاك الكتاب إلى ليو العاشر طلب منه أن يمنح هنري وحلفاءه لقب - حامي العقيدة - ووافق ليو ووضع مَن استهل الإصلاح الديني في إنجلترا الكلمات على سكنه.
وتمهل لوثر في الإجابة. ورد عام 1525 رداً فريداً على ذلك "الحمار الأحمق"، و "ذلك المجنون الهائج... ملك الأكاذيب، الملك هيتز، ملك إنجلترا يغضب الله... ولما كانت تلك الدودة اللعينة العفنة قد افترت كذباً بشر مبيت على مليكي في السماء فإنه يحق لي أن ألطخ هذا الملك الإنجليزي بقذره"(39) و "لم يتعود هنري على هذا الرشاش فاشتكى إلى أمير سكسونيا المختار الذي قال له بتأدب جم ألا يتطفل على الأسود، ولم يصفح الملك قط عن لوثر على الرغم من اعتذاره فيما بعد، ونبذ البروتستانت الألمان حتى عندما تمرد تماماً على البابوية.
وكان أعظم رد مفحم للوثر هو نفوذه في إنجلترا ففي ذلك العام نفسه 1525 نسمع عن "جمعية الاخوان المسيحيين"، في لندن التي انطلق وكلاؤها المأجورون يوزعون كراسات دينية لوثرية وهرطقية أخرى وأناجيل بالإنجليزية كلها أو بعضها.
وفي عام 1408 انزعج كبير الأساقفة أروندل بسبب توزيع نسخة الكتاب المقدس التي ترجمها ويكلف، فمنع القيام بأي ترجمة له باللغة الوطنية دون الحصول على موافقة من الأسقف، على أساس أن أي نسخة تترجم بدون ترخيص قد يحدث فيها تحريف للفقرات الصعبة، أو تلون التعبير لتأييد هرطقة. ولم يشجع كثير من رجال الدين قراءة الكتاب المقدس بأي صيغة، واحتجوا بأن الترجمة الصحيحة تستلزم معرفة خاصة، وأن المنتخبات من الكتاب المقدس كانت تستخدم لإثارة الفتنة(40). ولم تبدِ الكنيسة أي اعتراض رسمي على الترجمات السابقة لويكلف بيد أن هذا الإذن المفهوم ضمناً لم تكن له أهمية لأن كل النسخ الإنجليزية قبل عام 1526 كانت مخطوطة.
ومن ثم تأتي الأهمية الزمنية للعهد الجديد الإنجليزي الذي نشره تندال عام 1525-26. وكان قد فكر مبكراً في أيام دراسته في ترجمة الكتاب المقدس، لا من النسخة اللاتينية له كما فعل ويكلف، بل من الأصلين العبري واليوناني. وعندما لامه كاثوليكي غيور وقال له: "خير لك أن تعيش بلا شريعة الرب، أي الكتاب المقدس من أن تعيش بشريعة البابا"، رد تندال بقوله: "إذا مد الله في عمري فلن تمضي بضع سنين حتى أجعل الصبي الذي يدفع المحراث يعرف من الكتاب المقدس أكثر مما تعرف أنت(42)". ومنحه أحد معاوني بلدية لندن الفراش والمأوى لمدة ستة شهور عكف الشاب أثناءها على العمل. وذهب تندال عام 1524 إلى فنتبرج واستمر في العمل تحت إرشاد لوثر. وبدأ في كولونيا يطبع نسخة العهد الجديد المترجمة من النص اليوناني كما حققه أرازموس. وأثار وكيل إنكليزي السلطات عليه، ففر تندال من كولونيا الكاثوليكية إلى ورمز البروتستانتية، وهناك طبع 6.000 نسخة، أضاف لكل منها مجلداً منفصلاً ضمنه تعليقات ومقدمات عدوانية، اعتمد فيها على مقدمات أرازموس ولوثر. وهربت كل هذه النسخ إلى إنجلترا وكانت بمثابة الوقود، الذي أشعل نار البروتستانتية الأولى، وزعم كوثبرت تونستال، أسقف لندن أن هناك أخطاءً شنيعة في الترجمة، وتحاملاً مغرضاً في التعليقات، وهرطقات في المقدمات، وحاول أن يمنع تداول الطبعة بشراء كل النسخ المكتشفة وأحراقها علناً في ميدان سانت بول كروس، بيد أن نسخاً جديدة ظلت ترد من القارة، وعلق مور على ذلك بقوله إن تونستال كان يمول مطبعة تندال. وكتب مور نفسه حواراً مستفيضاً (1528)، انتقد فيه النسخة الجديدة فرد عليه تندال، ورد مور على الرد في "تفنيد" يتألف من 578 صفحة من القطع الكبير. ورأى الملك أن يخمد الفتنة بمنع قراءة الكتاب المقدس بالإنجليزية وتداوله، إلى أن تصدر ترجمة معتمدة من ذوي الشأن (1530)، وفي غضون ذلك حرمت الحكومة كل طبع أو بيع أو استيراد أو حيازة للمؤلفات الهرطقية.
وبعث ولزى بأوامره بالقبض على تندال، إلا أن فيليب، حاكم لاندجراف هس أسبغ حمايته على المؤلف، وتابع في ماربورج ترجمته للأسفار الخمسة (1530). وترجم الجانب الأكبر من العهد القديم إلى الإنجليزية في أناة، بجهده الخاص أو تحت إشرافه. غير أنه سقط في أيدي الموظفين الإمبراطوريين في لحظة لم يتخذ فيها احتياطاته وسجن لمدة ستة عشر شهراً في فلفورد (قرب بروكسل)، وأعدم في المحرقة (1536) على الرغم من تشفع توماس كرومويل وزير هنري الثامن. وتحدثنا الرواية أن آخر كلماته كانت: "رباه، افتح عيني ملك انجلترا(43)" وقد عاش ما يكفي لإتمام رسالته، فالصبي الحارث يستطيع الآن أن يسمع المبشرين الإنجيليين الآن وهم يروون له بإنجليزية ثابتة واضحة قوية قصة المسيح الملهمة. وعندما ظهرت النسخة التاريخية المعتمدة (1611) كان 90 في المائة من أعظم ما كتب في الأدب الكلاسي الإنجليزي وأشدها تأثيراً كانت لتندال بلا تغيير(44).
وكان موقف ولزى تجاه هذا الإصلاح الديني الإنجليزي الوليد يتسم باللين، كما يمكن أن يتوقع من رجل على رأس الكنيسة والحكومة على السواء. فاستأجر شرطة سرية لكشف الهرطقة، وفحص الأدب المشكوك فيه والقبض على الهراطقة. غير أنه سعى إلى إغراء هؤلاء بأن يسكتوهم لا أن يعاقبوهم، ولم يصدر أوامره قط بإرسال هرطيق إلى المحرقة. وفي عام 1528 سجن ثلاثة من طلبة جامعة أكسفورد بتهمة الهرطقة، وترك أسقف لندن واحداً منهم يموت في الحبس وأنكر آخر ما قاله وأطلق سراحه، أما الثالث فأخذه ولزى ووضعه تحت رعايته وسمح له بالفرار(45). وعندما ندد هيو لاتيمر، أفصح المصلحين المدينيين الأوائل في القرن السادس عشر بإنجلترا، بفساد رجال الدين وطلب أسقف أيلي من ولزى منعه، منح ولزى لاتيمر ترخيصاً بالوعظ في أي كنيسة بالبلاد.
ورسم الكاردينال خطة ذكية لإصلاح الكنيسة. وفي رواية لأسقف برنت أنه كان يحتقر رجال الدين وبخاصة... الرهبان الذين لا يؤدون خدمة للكنيسة أو الدولة، ولكنهم بسبب حياتهم الفاضحة وصمة عار في جبين الكنيسة وحملاً على الدولة. ومن ثم قرر أن يوقف عدداً منهم ويحولهم إلى مؤسسة أخرى(46). ولم يكن إغلاق دير لا يؤدي وظيفته على ما يرام بالأمر الذي لم يسمع به من قبل، فقد حدث في كثير من الحالات قبل ولزى بأمر صدر من الكنيسة. وبدأ (1519) بإصدار تشريعات لإصلاح القوانين الكنسية نموذجية للغاية. وفوض كاتم سره توماس كرومويل في زيارة الأديار بنفسه أو بواسطة وكلاء له وأن يقدم له تقارير عن الأحوال الموجودة، وأتاحت هذه الجولات التفتيشية مهارة متمرسة لكرومويل في تنفيذ أوامر هنري فيما بعد بتقصي الحياة في الأديار بإنجلترا بشدة. وارتفعت الأصوات بالشكوى من قسوة هؤلاء الوكلاء ومن تلقيهم "الهدايا" أو أخذها كرها، وعن مشاطرتهما كرومويل والكاردينال(47) في هذه الهدايا. وحصل ولزى عام 1524 على إذن من البابا كليمنت السابع بإغلاق الأديار التي تضم أقل من سبعة نزلاء وإنفاق دخول هذه الممتلكات على إنشاء كليات. وشعر بالسعادة عندما مكنته هذه الأموال من فتح كلية في موطنه ابسويتش وأخرى في أكسفورد وراوده الأمل في أن يستمر على هذا المنوال فيغلق المزيد من الأديار عاماً بعد عام ويستبدل بها كليات(48). إلا أن نياته الطيبة ضاعت في غمرات السياسة، وكانت أعظم نتيجة لإصلاحاته المتعلقة بالأديار هي أنه زود هنري بسابقة جديرة بالإجلال لخطة أبعد مدى، وتدر ربحاً أكثر.
وفي غضون ذلك كانت سياسة الكاردينال الخارجية قد أدت إلى نتيجة تدعو إلى الأسى. ولعله سمح لإنجلترا بالانضمام إلى شارل في حربه مع فرنسا (1522) لأنه كان يسعى إلى الحصول على تأييد الإمبراطور لترشيحه للبابوية (1521). ومنيت الحملات الإنجليزية بالفشل وتكلفت أموالاً طائلة، وأزهقت فيها أرواح كثيرة.
ودعا ولزى (1523) أول مجلس نيابي في سبع سنوات، لتمويل الجهود الجديدة وصدمه بطلب إعانة مالية لم يسبق لها مثيل قدرها 800.005 جنيه - أي خمس ما يملكه كل علماني. واحتج أعضاء مجلس العموم ثم صوتوا على سبع فقط، واحتج رجال الدين بيد أنهم سلموا دخل نصف عام من كل الصدقات. وعندما وصلت الأنباء بأن جيش شارل قد تغلب على الفرنسيين في بافيا (1525) وأخذ فرانسيس أسيراً. رأى هنري وولزى أن من الحكمة أن يسهما في تقطيع أوصال فرنسا الذي يوشك أن يحدث. ووضعت خطة للقيام بغزو جديد واقتضى الأمر تدبير المزيد من الأموال وخاطر ولزى بآخر ما تبقى له من شعبية، بأن طلب من كل الإنجليز الذين يتجاوز دخلهم 50 جنيهاً (500 دولار) أن يسهموا بسدس أموالهم في "هبة ودية"، لمتابعة الحرب والوصول بها إلى غاية مجيدة، "ودعونا نتبرع ودياً حتى نمنع شارل من ابتلاع فرنسا بأسرها".
وقوبل الطلب بمقاومة انتشرت على نطاق واسع اضطر ولزى إلى أن يتحول إلى وضع برنامج للسلام. ووقعت معاهدة للدفاع المتبادل مع فرنسا كمحاولة أخرى لاستعادة توازن القوى... ولكن جنود الإمبراطور استولوا عام 1527 على روما وأسروا البابا وبدا أن شارل قد أصبح وقت ذاك سيد القارة الذي لا يقهر، وقضى على سياسة ولزى القائمة على الصد والتوازن. وانضمت إنجلترا إلى فرنسا عام 1528، في الحرب ضد شارل.
وكان شارل ابن أخي كاثرين الأراجونية التي كان هنري شديد الرغبة في الطلاق منها، وكان كليمنت السابع، الذي يستطيع أن يمنحه لأسباب تتعلق بمصلحة الدولة، أسيراً لشارل بشخصه وسياسته.
4- طلاق الملك

جاءت كاترين الأراجونية، ابنة فرديناند وإيزابلا إلى إنجلترا عام 1501، وكانت في السادسة عشرة من عمرها وتزوجت (14 نوفمبر) من آرثر البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، وهو أكبر أبناء هنري السابع. ومات آرثر في اليوم الثاني من أبريل عام 1502 وكان المفروض بوجه عام أن الزوج ذد دخل بزوجته. ومن ثم أرسل السفير الأسباني قياماً بالواجب "أدلة" إلى فرديناند، ولم ينتقل لقب أرثر، أمير ويلز رسمياً إلى شقيقه الأصغر هنري إلا بعد مرور شهرين على وفاة آرثر(49). ولكن كاثرين أنكرت أن زوجها دخل بها. وقد أحضرت معها صداقاً قدره 200.000 دوكات (5.000.000 دولار) وكره هنري السابع أن يدع كاثرين تعود إلى أسبانيا ومعها هذه الدوكات، وتلهف على أن يجدد مصاهرته لفرديناند القوي فاقترح أن تتزوج كاثرين من الأمير هنري على الرغم من أنها كانت تكبر الصبي بست سنوات. وكانت هناك آية في الكتاب المقدس (سفر اللاويين إصحاح 20 : آية 21) تحرم هذا الزواج:

"وإذا أخذ رجل امرأة أخيه فذلك نجاسة... يكونان عقيمين" ومهما يكن من أمر فإن هناك آية أخرى تنص على خلاف ذلك: "إذا سكن إخوة معاً ومات واحد منهم وليس له ابن... أخو زوجها يدخل عليها ويتخذها لنفسه زوجة". (سفر التثنية: إصحاح 25 آية 5). واستنكر كبير الأساقفة وارهام الزواج المقترح ودافع عنه الأسقف فوكس الونشستري إذا أمكن الحصول على محلل من البابا للمانع من المصاهرة. وطلب هنري السابع الحصول على المحلل. فمنحه له البابا يوليوس (1503) وجادل بعض خبراء القانون الكنسي في حق البابا في التحلل من مبدأ نص عليه الكتاب المقدس(50) وأكد البعض حقه في هذا، أما يوليوس نفسه فقد راودته بعض الشكوك(51). وأعلنت رسمياً الخطبة، وهي في الواقع زواج شرعي - عام 1503، ولما كان العريس لا يزال في الثانية عشرة من عمره فحسب فقد أجلت المعاشرة. وفي عام 1505 طلب الأمير هنري إعلان بطلان الزواج، لأن أباه أكرهه(52) عليه ولكنه أقنع بصحة الزواج على أساس أنه مصلحة إنجلترا.

وفي عام 1509، وبعد ستة أسابيع من ارتقائه العرش احتفل علناً بالزواج. وبعد سبعة شهور (31 يناير سنة 1510) أنجبت كاثرين أول طفل لها، وقد مات عند الولادة. وأنجبت بعد ذلك بعام ابناً وابتهج هنري بولادة وريث ذكر يصل به سلسلة نسب تيودور، ولكن الطفل مات بعد بضعة أسابيع وسقط ابن ثان وثالث بعد الولادة مباشرة (1513 و 1514). وبدأ هنري يفكر في الطلاق. أو بعبارة أدق في إعلان بطلان الزواج باعتباره غير صحيح. وحاولت كاثرين المسكينة مرة أخرى وفي عام 1516 أنجبت طفلة قدر لها أن تكون الملكة ماري. وأذعن هنري وقال لنفسه: "إذا كانت هذه المرة ابنة فإن الأبناء سوف يجيئون بعدها(53)" بفضل الله ومنه. وفي عام 1518 أنجبت كاثرين ابناً آخر ولد ميتاً. واشتدت خيبة أمل الملك والبلاد لأن ماري البالغة من العمر عامين، كانت قد خطبت إلى ولي عهد فرنسا، وإذا لم يرزق هنري بولد فإن ماري سوف ترث العرش الإنجليزي، وعندما يصبح زوجها ملكاً على فرنسا فإنه سيكون في الواقع ملكاً على إنجلترا أيضاً، وتصبح بريطانيا مقاطعة تابعة لفرنسا، وكان دوقات نورفولك وبكنجهام تداعبهم الآمال في أن يزيحوا ماري ويضمنوا التاج لأنفسهم، وأطلق بكنجهام لسانه فاتهم بخيانة البلاد وقطع رأسه (1521)، وعبر هنري عن خوفه من أن يكون حرمانه من إنجاب ولد عقاباً من الله لأنه استخدم محللاً بابوياً(54) من وصية واردة في الكتاب المقدس. وأقسم ليقودن حملة صليبية ضد الأتراك إذا أنجبت له الملكة ولداً. غير أن كاثرين لم تحمل بعد ذلك. وما أن حل عام 1525 حتى تخلى عن كل أمل في الحصول على ذرية أخرى منها.

وكان هنري منذ أمد بعيد قد فقد الميل إليها باعتبارها أنثى. وكان وقتذاك في الرابعة والثلاثين، أي في عنفوان الرجولة الفتية، وكانت في الأربعين وتبدو أكبر من سنها. ولم تكن قط مغرية، والحق أن مرضها المتكرر، أو ما صادفها من سوء الحظ، قد شوه جسدها وأضفى إلى روحها قتامة، وكانت تبز النساء بثقافتها ودماثتها ولكن الأزواج قلما يرون أن التضلع في العلم خصلة محمودة في الزوجة. وكانت زوجة صالحة مخلصة، تحب زوجها حباً لا يفوقه إلا حبها لإسبانيا. وكانت ترى نفسها باعتبارها - وكانت كذلك لفترة ما - سفيرة لإسبانيا وكانت ترى أن إنجلترا يجب أن تقف دائما في صف فرديناند أو شارل. وفي حوالي عام 1518 اتخذ هنري أول حظية له عرفها بعد الزواج وهي اليزابيث بلاوتد شقيقة مونتجوي صديق أرازموس، وأنجبت له ابناً عام 1519 وأنعم هنري على الصبي بلقب دوق رتشموند وسومرست، وفكر في أن يقف وراثة الهرش عليه. وفي عام 1524 اتخذ حظية أخرى، هي ماري بولين(55)، والحق أن سير جورج ثروكمورتون اتهمه في وجهه بالزنا مع أم ماري أيضاً(56). وكان هناك قانون غير مكتوب في ذلك العهد ينص على أن الملك إذا ما تزوج لأسباب تتعلق بمصلحة الدولة ولم يكن ذلك باختياره، فإن له الحق في أن ينشد خارج الزواج الغرام الذي فقده في المخدع الشرعي.

وفي عام 1527 أو قبله حول هنري فتنته إلى آن شقيقة ماري. وكان والدهما سير توماس بولين، تاجراً دبلوماسياً حظي منذ وقت طويل بعطف الملك، أما أمهما فكانت من آل هوارد، وهي ابنة الدوق نورفولك. وأرسلت آن إلى باريس لإتمام دراستها فيها، وهناك عينت وصيفة للملكة كلود ثم لمرجريت دي نافار، ولعلها تشربت منها بعض النوازع البروتستانتية. وكان في وسع هنري أن يراها فتاة طروباً في الثالثة عشرة من عمرها في ميدان كلوث أف جولد، وعندما عادت إلى إنجلترا وهي في الخامسة عشرة من عمرها (1522) أصبحت وصيفة للملكة كاثرين. ولم تكن رائعة الجمال، وكانت قصيرة القامة لها بشرة قاتمة وفم واسع ورقبة طويلة، ولكنها خلبت لب هنري وآخرين غيره بعينيها السوداويين البراقتين وشعرها البني المسترسل ورشاقتها وذكائها ومرحها. وكان لها بعض العشاق المولهين بها، ومنهم توماس ويات الشاعر، وهنري برسي، الذي اصبح فيما بعد أيرل نور ثمبرلاند، واتهمها أعداؤها فيما بعد بأنها كانت متزوجة في السر من برسي قبل أن تضع أنظارها على الملك، إلا أن الدليل لم يكن قاطعا(57). ولا نعرف متى بدأ هنري يطارحها الغرام وأقدم رسائل الحب الباقية التي كتبها لها ترجع فيما يرجح إلى يوليه عام 1527.

ما هي العلاقة بين هذه القصة الغرامية والتماس هنري الحكم ببطلان زواجه؟ مما لا جدال فيه أنه قد فكر في هذا الأمر في وقت يرجع إلى عام 1514 عندما كانت آن فتاة في السابعة من عمرها. ويبدو أنه طرح الفكرة جانباً حتى عام 1524، عندما كف عن مباشرة علاقاته الزوجية مع كاثرين، وفقاً لروايته(58). وأقدم إجراءات سجلت ببطلان الزواج اتخذت في مارس عام 1527، بعد تعرف هنري بآن بوقت طويل، وفي الوقت الذي حلت فيه محل شقيقتها في أحضان الملك، والظاهر أن ولزى كان لا يعلم شيئاً عن أي نية للملك في الزواج من آن عندما ذهب في يوليو عام 1527 إلى فرنسا لإعداد العدة للزواج بين هنري ورينيه، ابنة لويس الثاني عشر التي سرعان ما أثارت حركة بروتستانتية في إيطاليا. وأول إشارة لما انتواه هنري وردت في خطاب أرسله يوم 16 أغسطس سنة 1527 السفير الإسباني إلى شارل الخامس يبلغه فيه أن هناك اعتقاداً عاماً في لندن بان الملك إذا حصل على "طلاق" فإنه سوف يتزوج "إبنة سير توماس بولين(59)" ولم يكن هذا يعني ماري بولين لأن هنري وآن كانا يعيشان في شقتين متجاورتين تحت نفس القف في جرينوتش(60) عند حلول نهاية عام 1527. وقد نستنتج من هذا أن هنري سارع بطلب بطلان الزواج على الرغم من أنه يصعب أن يقال إن السبب في ذلك هو افتتانه بآن. وكان السبب الأساسي رغبته في الحصول على ولد يمكن أن ينقل إليه العرش مع شيء من الثقة في خلافة هادئة. وكانت إنجلترا بأسرها تشاطره ذلك الأمل. وتذكر الناس في فزع السنوات العديدة (1454-85) التي نشبت فيها الحرب بين بيتيورك ولانكاستر على التاج، ولك يكن قد مضى على ظهور أسرة تيودور غير اثنين وأربعين عاماً في سنة 1527، وكان حقها قي العرش مشكوكاً فيه، ولم يكن في وسع أحد أن يصل حبل الأسرة الحاكمة دون منازع إلا ولد شرعي ينحدر مباشرة من صلب الملك، ولو لم يلتقِ هنري قط بآن بولين فإنه كان قميناً بأن يرغب في الحصول على طلاق وزوجة ولود بصورة مقبولة. ولا شك أنه يستحق هذا.

واتفق ولزى مع الملك في هذا الموضوع وأكد له أنه يمكن الحصول على قرار من البابا ببطلان الزواج، وكانت سلطة البابا في منح مثل هذا الانفصال أمر مقبول بوجه عام، كإجراء حكيم لتلبية مثل هذه الضرورات الوطنية تماماً، ويمكن تقديم سوابق كثيرة. بيد أن تقدير الكاردينال المشغول لم يعمل حساباً لتطويرين بغيضين: فهنري لم يكن يريد رينيه بل كان يريد آن وبطلان الزواج سوف يصدر من بابا، كان عندما وصلته المشكلة، أسيراً لإمبراطور، كان لديه أكثر من سبب لمناصبة هنري العداء، وربما كان شارل حرياً بأن يعارض بطلان هذا الزواج ما دامت عمته تقاومه، وكان يعارض أكثر لو عقد زواج جديد، كما دير ولزى، بربط إنجلترا بحلف قوي مع فرنسا. ولم يكن السبب الأولي للإصلاح الديني الإنجليزي هو جمال آن بولين الصاعد، بل الرفض العنيد الذي بدا من كاثرين وشارل في إدراك عدالة رغبة هنري في الحصول على ولد. واشتركت الملكة الكاثوليكية مع الإمبراطور الكاثوليكي والبابا الأسير في انفصال إنجلترا عن الكنيسة. ولكن السبب النهائي للإصلاح الديني الإنجليزي لم يكن طلب هنري بطلان الزواج بقدر ما كان من ارتفاع شأن الملكية الإنجليزية وبلوغها درجة من القوة جعلتها قادرة على أن ترفض التسليم بسلطة البابا في التدخل في شئون انجلترا، وتحكمه في مواردها.

وأكد هنري أن رغبته العارمة في الحصول على بطلان الزواج إنما دعا إليها جبربيل دي جرامون الذي أقبل إلى إنجلترا في فبراير عام 1527 لمناقشة الزواج المقترح بين الأميرة ماري والأسرة الملكية الفرنسية. فقد أثار جرامون، كما يروي هنري، سؤالاً عن شرعية بنوة ماري، على أساس أن زواج هنري بكاثرين قد يكون غير صحيح باعتباره مخالفة لأحد نواهي الكتاب المقدس ولا يستطيع البابا أن يمحوها. ظن البعض أن هنري لفق القصة(61)، ولكن ولزى رددها وأبلغت إلى الحكومة الفرنسية (1528)، ولم ينكرها، بقدر ما هو معروف جرامون، وجاهد جرامون لإقناع كليمنت بأن طلب هنري بطلان الزواج أمر عادل، وأبلغ شارل سفيره في إنجلترا (29 يوليو سنة 1527) أنه كان ينصح كليمنت برفض التماس هنري.

وبينما كان ولزى في فرنسا ابلغ على وجه التحديد بأن هنري لا يرغب في الزواج من رينيه بل يريد الزواج من آن. واستمر يعمل للحصول على البطلان، ولكنه لم يخفِ اكتئابه بسبب اختيار هنري. وتجاوز الملك حاجبه في خريف عام 1527، وبعث بكاتم سره وليام نايت لتقديم ملتمسين للبابا الأسير، الأول يتضمن أن كليمنت، إذ يتعرف على صحة زواج هنري الذي تكتنفه الشكوك وافتقاره إلى ذرية من الذكور وكراهية كاثرين للطلاق، يجب أن يسمح لهنري بالاحتفاظ بزوجتين. وأصدر الملك أمراً في آخر لحظة أثنى نايت عن تقديم هذا الاقتراح، وكانت جرأة هنري قد خمدت ولابد أنه ذهل، عندما تلقى، بعد ثلاث سنوات، خطاباً من جيوفاني كاسالي أحد وكلائه في روما، مؤرخاً في 18 سبتمبر سنة 1530 يقول فيه: "منذ بضعة أيام اقترح على البابا سراً أن يأذن لجلالتك باتخاذ زوجتين(62)". وكان ملتمس هنري الثاني لا يقل غرابة، على البابا أن يمنحه محللاً للزواج من امرأة كان للملك علاقات جنسية مع أختها(63). ووافق البابا على هذا بشرط أن يعلن بطلان الزواج بكاثرين إلا أنه لم يكن على استعداد لإعلان بطلان هذا الزواج. وكان كليمنت لا يخشى شارل فحسب بل كان ينفر من القاعدة التي تقضي بأن أحد البابوات السابقين قد ارتكب خطأ جسيماً بإعلان صحة الزواج. وتلقى في نهاية عام 1527 ملتمساً ثالثاً - بأنه يجب أن يعين ولزى قاصداً رسولياً آخر لعقد محكمة في إنجلترا تسمع الدليل وتحكم بصحة زواج هنري بكاثرين. وأذعن كليمنت (13 أبريل سنة 1528)، وعين الكاردينال كامبيجيو لعقد جلسة مع ولزي في لندن ووعد - في منشور بابوي لا يطلع عليه سوى ولزى وهنري - أن يؤيد أي قرار يتخذه المندوبان البابويان(64). وربما كان لانضمام هنري إلى فرانسيس (يناير سنة 1528) في إعلان الحرب على شارل وتعهدهما بتحرير البابا قد أثر في إذعان البابا.

واحتج شارل وأرسل إلى كيمنت نسخة من وثيقة ادعى أنها وجدت في المحفوظات الأسبانيّة، وفيها أكد يوليوس الثاني صحة المحلل الذي اقترح هنري وولزى بطلانه. وتعجل البابا، وهو لا يدر يما يفعل ولا يزال أسيراً لشارل، فأرسل تعليمات إلى كامبيجو بألا ينطق بحكم قبل أن يحصل على تفويض صريح من الآن فصاعداً... فإذا ألحق بالإمبراطور ضرر كبير، فإن كل أمل في السلام العالمي يكون قد تبدد ولا تستطيع الكنيسة أن تنجو من الخراب التام لأنها تخضع خضوعاً كاملاً لسلطات أتباع الإمبراطور... أجل بقدر الإمكان(65").

وعند وصول كامبيجو إلى إنجلترا (أكتوبر سنة 1528) حاول أن يحصل على موافقة كثرين بالاعتزال في دير للراهبات، فوافقت بشرط أن يحلف هنري أيمان الرهبان. ولكن لم تكن هناك أمور أبعد عن ذهن هنري من الفقر والخضوع والعفة، ومهما يكن من أمر فإنه اقترح أن يحلف هذا الأيمان إذا وعد البابا يحله منها عند الطلب ورفض كامبيجيو أن ينقل هذا الاقتراح إلى البابا وأبلغه بدلاً من ذلك (فبراير سنة 1529) بعزم الملك على الزواج من آن. وكتب يقول: "إن هذه العاطفة أمر خارق للعادة أنه لا يرى شيئاً ولا يفكر في شيء سوى حبيبته آن، إنه لا يستطيع أن يستغني عنها ساعة واحدة. وإني لأشعر بالإشفاق عليه عندما أرى أن حياة الملك واستقرار وسقوط البلاد بأسرها تتوقف على هذه المسألة وحدها(66)".

وحدثت تغيرات في الموقف الحربي جعلت البابا يتحول أكثر فأكثر ضد اقتراح هنري. وفشل الجيش الفرنسي، الذي كان هنري قد ساعده بتمويله، في حملته الإيطالية، وترك البابا في حالة اعتماد كلي على الإمبراطور. وطردت فلورنسا حكامها من آل مديتشي - وكان كليمنت مخلصاً لتلك العائلة مثله في ذلك مثل شارل الذي كان مخلصاً لآل هابسبورج.

وانتهزت (فينيسيا) البندقية فرصة عجز البابا لكي تنتزع رافتا من الولايات البابوية، فمن كان وقتذاك يستطيع أن ينقذ البابوية سوى آسرها؟ وقال كليمنت "لقد استقر رأيي تماماً على أن أصبح من أنصار النظام الإمبراطوري، وسوف أعيش وأموت وأنا متمسك بهذا الرأي(67)". ووقع في التاسع والعشرين من يونيه معاهدة برشلونة، وبمقتضاها وعد شارل بإعادة فلورنسا لآل مديتشي ورافنا للبابوية والحرية لكليمنت، ولكن على شريطة ألا يوافق كليمن مطلقاً على بطلان زواج كاترين إلا برضا كاترين وإرادتها الحرة.

ووقع فرانسيس الأول في الخامس من أغسطس معاهدة كامبراي التي سلمت في الواقع إيطاليا والبابا للإمبراطور.

وفي 31 مايو افتتح كامبيجيو مع ولزى المحكمة المختصة بالقاصد الرسولي للنظر في الالتماس المقدم من هنري، بعد أن أجل افتتاحها لأطول مدة ممكنة. واستغاثت كاترين بروما، وأبت أن تعترف باختصاص المحكمة. ومهما يكن من أمر فإن كلاً من الملك والملكة حضرا يوم 31 يونيه.

وخرت كاترين على ركبتيها أمامه وتوسلت إليه بكلمات مؤثرة أن يستأنفا حياتهما الزوجية. وذكرته بأعمالها الكثيرة وإخلاصها التام، وصبرها على لهوه خارج الأسوار، وأقسمت أن الله يشهد على أنها كانت عذراء عندما تزوجها هنري، وتساءلت أي شيء صنعته أساءت به إليه(68)؟ فأنهضها هنري وأكد لها أنه لم يكن هناك ما يتمناه بحماسة أكثر التوفيق في زواجهما وأوضح لها أن الأسباب التي حملته على طلب الانفصال ليست شخصية، بل أملتها عليه مصلحة الأسرة المالكة والأمة. ورفض استغاثتها بروما على أساس أن الإمبراطور يسيطر على البابا، فانسحبت وهي تبكي، ورفضت أن تشترك بعد ذلك في الإجراءات القضائية. وتكلم الأسقف فيشر مدافعاً عنها ومن ثم اكتسب عداوة الملك. وطالب هنري بصدور قرار من المحكمة وتحايل كامبيجيو على المماطلة في إصدار الحكم وأخيراً (23 يوليو سنة 1529) أجل المحكمة إلى العطلة الصيفية. وألغى كليمنت القضية وحولها إلى روما لكي يجعل التردد أشد حسماً.

واستشاط هنري غضباً وشعر بأن كاترين عنيدة بصورة غير معقولة، فرفض أن تربطه بها أية علاقة بعد ذلك، وأخذ يقضي ساعات لهوه علناً مع آن وربما ترجع إلى هذه الفترة معظم رسائل الحب السبع عشرة التي نقلها كامبيجيو سراً من إنجلترا(69) والتي تحتفظ بها مكتبة الفاتيكان بين ذخائرها الأدبية. ويبدو أن آن المجربة التي خبرت أساليب معاملة الرجال والملوك لم تمنحه إلا تشجيعاً ودغدغة تثير عواطفه، وشكت وقتذاك من أن شبابها يضيع في الوقت الذي يتوانى فيه الكرادلة الذين لم يستطيعوا أن يدركوا رغبة عذراء في الظفر برجل ميسور عن اعتراف بحق هنري في أن يتوج الرغبة برباط الزواج. ولامت ولزى لأنه لم يتعجل البت في طلب هنري بعزم أشد وبلاغ أسرع، وشاركها الملك استياءها.

وقد بذل ولزى كل ما في وسعه وإن كان يعارض الأمر بكل جوارحه. وكان قد ارسل بالمال إلى روما لرشوة الكرادلة(70) ولكن شارل كان قد أرسل بدوره مالاً وجيشاً علاوة على هذا. بل إن الكردينال كان قد أغضى عن فكرة التزوج من اثنتين(71) كما فعل لوثر بعد بضع سنوات. ومع ذلك عرف ولزى أن آن وأقرباءها من ذوي النفوذ يقومون بمناورة لإسقاطه. وحاول أن يهدئ من تأثيرها بالأطعمة اللذيذة والهدايا الثمينة، غير أن عداءها كان يزداد كلما طال العهد على إصدار قرار ببطلان الزواج. وتحدث عنها فقال: "إنها العدو الذي لم تكتحل عيناه قط بالنوم، ولم يكف عن الدرس والتصور معاً، في النوم واليقظة على السواء، للقضاء المبرم عليه(72)". وتنبأ بأن البطلان لو منح فغن آن سوف تصبح ملكة وتقضي عليه، وأنه لو لم يمنح ذلك القرار فإن هنري سوف يستغني عنه باعتباره رجلاً فاشلاً. ويطلب محاسبته على ادارته، حساباً مالياً دقيقاً مفصلاً.

وكان لدى الملك أسباب كثيرة لعدم الرضى عن حاجبه، فقد فشلت السياسة الخارجية وأثبتت أن التحول من صداقة شارل إلى الحلف مع فرنسا قد أدى إلى عواقب وخيمة.

ولم يكن في إنجلترا وقتذاك أمرؤ يقول كلمة طيبة في صالح الكاردينال الذي تمتع يوماً بسلطة مطلقة، فقد كان رجال الدين يكرهونه بسبب حكمه المطلق، وكان الرهبان يخشون أن يشهدوا مزيداً من حل الأديار، والعامة يبغضونه لأنه أخذ أبناءهم وأموالهم لشن حروب لا طائل من ورائها، والتجار يمقتونه لأن الحرب مع شارل عاقت تجارتهم مع الفلاندرز، والأشراف يكرهونه بسبب ما انتزعه منهم ظلماً، ولكبريائه الطارئة وثروته التي تضاعفت سريعاً. وأبلغ بعض الأشراف السفير الفرنسي (17 أكتوبر سنة 1525) بقولهم انهم "ينوون" عندما يموت ولزى أو يقضى عليه أن يتخلصوا من الكنيسة ويتلقوا أموال الكنيسة وولزى معاً(73). واقترح القماشون في كنت أن يوضع الكاردينال في قارب يتسرب منه الماء، ويترك لتتقاذفه الأمواج في البحر(74).

وكان هنري أشد دهاء. وفي اليوم التاسع من أكتوبر سنة 1529 أصدر أحد وكلائه أمراً قضائياً باستدعاء ولزى للمثول أمام قضاة الملك، للرد على اتهام بأن أعماله كقاصد رسولي قد خالفت قانون الخضوع لسلطة التاج (1392)، الذي يقضي بمصادرة أموال أي إنجليزي يأتي بالكتب البابوية إلى إنجلترا. ولم يختلف الموقف لأن ولزى كان قد كفل سلطة القاصد الرسولي بناء على طلب الملك(75)، وأنه استخدمها بخاصة لصالح الملك. وادرك ولزى أن قضاة الملك سوف يدينونه فأرسل إلى هنري امتثالاً ذليلاً، يعترف بفشله ويلتمس أن يتذكر الملك أيضاً خدماته وآيات ولائه. ثم غادر لندن في نقالة مائية سارت في نهر التيمس. وتلقى في بوتنى رسالة رقيقة من الملك. وجثا على الطين في شكر بائس وحمد الله. واستولى هنري على المحتويات الثمينة في قصر كاردينال في هويتهول إلا أنه سمح له بالاحتفاظ بمنصب رئيس أساقفة يورك وبأموال شخصية تكفي احتياجات 160 جواداً تجر 72 عربة إلى مقره الأسقفي(76). وخلف الدوق نورفولك ولزى في رئاسة الوزارة وخلفه مور في منصب الحاجب (نوفمبر سنة 1529).

واقبل الكاردينال الذي جرد من سلطاته، على عمله، كبير أساقفة، في ورع ومثالية، وأخذ يزور أبرشياته بانتظام ويدبر ترميم الكنائس، ويعمل قاضياً موثوقاً به للتحكيم. وتساءل رحل من يوركشاير: "مَن كان أقل نصيباً من الحب في الشمال من مولاي الكاردينال قبل أن يعيش بينهم؟ ومَن كان محبوباً أكثر بعد أن عاش هناك فترة ما(77)؟" بيد أن الطموح استيقظ في أعماقه مرة أخرى وسكن روعه من الموت وكتب خطابا ليوستاس شابويس سفير الإمبراطور في إنجلترا، وضاعت هذه الخطابات، بيد أن هناك تقريراً من شابويس إلى شارل ورد فيه: "لدي خطاب من طبيب الكاردينال يقول إني سيده... رأى أن على البابا أن يمضي قدماً في إجراءات لوم أشد ويستدعي الجيش العلماني(78)". أي الحرمان من غفران الكنيسة والغزو والحرب الأهلية.

وعلم نورفولك بهذه الرسائل المتبادلة وقبض على طبيب ولزى وانتزع منه، بوسائل لم تعرف على وجه التحقيق، اعترافاً بأن الكاردينال قد أشار على البابا بحرمان الملك من غفران الكنيسة. ولا نعرف هل كان السفير أو الدوق هو الذي ابلغ صدقاً عن الطبيب، أو هل كان الطبيب هو الذي ابلغ حقاً عن الكاردينال، وعلى أية حال فإن هنري أو الدوق أمر بالقبض على ولزى.

واستسلم في هدوء (4 نوفمبر سنة 1530) وودع أسرته وانطلق إلى لندن. وأصيب في شيفلد بارك بدوزنتاريا شديدة ألزمته الفراش. وهناك اقبل جنود الملك يحملون أوامر باقتياده إلى البرج. واستأنف رحلته، ولكن بعد مضي يومين من الركوب بلغ من الضعف حداً جعل حارسه يسمح له بأن يلزم الفراش في دير ليسيستر. وغمغم أمام ضابط الملك سير وليام كنجستون بالكلمات التي نقلها كافنديش واقتبسها شكسبير "لو أنني خدمت الله بإخلاص وجد كما خدمت الملك لما أسلمني في شيخوختي(79)". ومات ولزى بالغاً من العمر خمسة وخمسين عاماً في دير ليسيستر يوم 29 نوفمبر سنة 1530.
هنري الثامن وتوماس مور

1529 - 1535

1- برلمان الإصلاح الديني

في المجلس النيابي الذي اجتمع في وستمنستر يوم 3 نوفمبر سنة 1529 اتفقت الجماعتان الحاكمتان - النبلاء في المجلس، والتجار ومجلس العموم على انتهاج ثلاثة ضروب من السياسة: تخفيض ثروة رجال الكنيسة وأضعاف سلطاتهم، والمحافظة على التجارة مع الفلاندرز وتأييد الملك في حملته للحصول على وريث ذكر. ولم ينطوِ هذا الاتفاق على الرضا عن آن بولين التي كانت تواجه باستنكار عام باعتبارها مغامرة، كما أنه لم يمنع وجود تعاطف عام مع كاترين(1). أما الطبقات الدنيا، وهي عاجزة من الناحية السياسة، فكانت حتى ذلك الوقت لا توافق على الطلاق، ووقفت المقاطعات الشمالية، وهي كاثوليكية شديدة التحمس، مع البابا(2) في إخلاص. وعمل هنري على تهدئة هذه المعارضة مؤقتاً بأن ظل محافظاً في كل شيء اللهم إلا حق البابوات في الهيمنة على الكنيسة الإنكليزية.

وكانت الروح القومية، وهي في إنجلترا وهي في إنجلترا أقوى منها في ألمانيا، تقف في تلك المسألة إلى جانب الملك، وعلى الرغم من فزع رجل الدين من تصور أن يكون هنري سيداً لهم فإنهم لم ينفروا من الاستقلال عن بابوية لا شبهة في خضوعها لسلطة أجنبية.

ونشر سيمون فش حوالي عام 1518 كتيباً من ست صفحات، قرأه هنري، دون أن يبدي احتجاجً فيما نعلم، وقرأه كثيرون بابتهاج صادق، وأطلق عليه اسم "ابتهال الشحاذين" وطالب الملك بمصادرة ثروة الكنيسة الإنجليزية كلها أو جانب منها:

" في العهود الخوالي لأسلافك النبلاء (هناك) تسلل في دهاء إلى مملكتك... شحاذون وأفاقون مقدسون ومتبطلون... أساقفة ورؤساء أديار وشمامسة ورؤساء شمامسة ومعاونو أساقفة وقساوسة ورهبان ورجال دين وكهنة رهبان وبائعو صكوك غفران ومحضرون. ومَن يستطيع أن يحصي هذا الضرب المتبطل المخرب الذي (طرح كل عمل جانباً) ألح في السؤال إلحاحاً شديداً إلى حد أنهم حصلوا في أيديهم على أكثر من ثلث مملكتك بأسرها؟ إن أعظم المقاطعات واجمل الدور والأراضي والأقاليم ملك لهم، وكان لهم إلى جانب هذا عشر محصول الغلة والمراعي والمروج والكلأ والصوف والمهور والعجول والجملان والخنازير والأوز والدجاج... أي نعم وإنهم ليتطلعون في حرص شديد إلى أرباحهم إلى حد أن الزوجات المسكينات لابد وأن يكن مطالبات بأن يحسبن عشر كل بيضة وإلا فإن الزوجة لن تحصل على حقوقها في عيد الفصح... بأن يحسبن ومن التي تشرع في العمل مقابل ثلاثة بنسات في اليوم إذا كان في وسعها أن تحصل على عشرين بنساً على الأقل في اليوم لقاء نومها ساعة مع أخ أو راهب أو قس(3)"؟

ولعل النبلاء والتجار قد رأوا أن هناك شيئاً من المبالغة في هذا الاتهام، بيد أنهم اعتقدوا أنه يؤدي إلى نتيجة سارة - وهي إضفاء الصبغة العلمانية على أملاك الكنيسة. وكتب السفير الفرنسي جان دي بلاي "إن هؤلاء السادة ينتوون... اتهام الكنيسة والتهام كل أموالها، ولا أكاد أجد نفسي في حاجة إلى تسجيل هذا بالشفرة، لأنهم يجهرون به صراحة، وأتوقع ألا يحصل القساوسة أبداً على خاتم الدولة - أي لن يكونوا على رأس الحكومة أبداً، مرة أخرى، وأنهم سوف يتعرضون في هذا المجلس النيابي لمفازع هائلة(4)". وكان ولزى قد منع هذا الهجوم على أملاك الكنيسة، بيد أن سقوطه ترك رجال الدين بلا حول لهم ولا طول، اللهم إلا ما يتمتعون به من إيمان الناس، وهو إيمان كان آخذاً في التقلص، ولعل السلطة البابوية التي كانت قنينة بأن تحميهم بهيبتها أو تحريمها أو بحلفائها كانت وقتذاك الهدف الرئيسي لسخط الملك وكرة القدم التي تتقاذفها السياسة الإمبراطوريّة، وكان العرف يقتضي موافقة المجمع الأكليروسي لرؤساء أساقفة كنتربري ويورك على كل تشريع يمس الكنيسة في إنجلترا أو تأييده. فهل كان في وسع هذا المجمع تخفيف سورة غضب الملك وكبح جماح الحركة المناهضة لرجال الدين في المجلس النيابي؟

وافتتح المعركة مجلس العموم. إذ وجه خطاباً إلى الملك يقر فيه عقيدة المحافظين، وإن انتقد رجال الدين بشدة. وهاجم "قرار الاتهام" المشهور المجمع الأكليروسي واتهمه بأنه سن القوانين، دون الحصول على موافقة الملك أو المجلس النيابي، التي تحدد حرية العلمانيين تحديداً خطيراً، وتعرضهم لتعزير شديد، وغرامات باهظة، واتهم رجال الأكليروس بأنهم أعطوا صدقات لـ "جموع من الأحداث، قالوا إنهم أبناء أخوتهم" على الرغم مما يتمتع به مثل هؤلاء المستفيدين من شباب أو جهل، واتهم المحاكم الأسقفية بأنها استغلت في جشع حقها في فرض رسوم وغرامات، وهذه المحاكم بأنها قبضت على أشخاص وسجنتهم دون أن تبين التهم الموجهة إليهم، وأنها اتهمت العلمانيين وعاقبتهم عقاباً شديداً لشبهة هرطقة طفيفة واختتمت الوثيقة بمطالبة الملك بإصلاح هذه العلل(5)، ولا شك في أن هنري الذي كان على علم بأسرار تأليف هذا الخطاب قدم نقاطه الرئيسية إلى المجمع الأكليروسي وطلب منه الرد.

وأقر الأساقفة وجود بعض الظلم وعزوا هذا إلى أفراد ظهروا إتفاقاً، وأكدوا تمسك محاكمهم بالعدالة، وأنهم يتأسون بالملك الورع الذي زجر لوثر في نبل عظيم، لمساعدتهم على قمع الهرطقة، ثم أخطأوا خطأً فظيعاً وأساءوا فهم المزاج الملكي فأضافوا كلمات كانت بمثابة غلان للحرب.

"ما دمنا نعلن ونتمسك بسلطتنا في سن القوانين التي تستند إلى ما في كتب الله المقدسة وما قررته الكنيسة المقدسة... فليس لنا أن نتخلى عن أعبائنا وواجباتنا، التي أمرنا بها الله على وجه التأكيد ونتركها لرضاك السامي، ومن ثم نلتمس من مراحمكم بكل خضوع... أن تحافظوا على هذه القوانين والشرائع وأن تدافعوا عنها مثلنا... وأن يعمل بتفويض من الرب إجلالاً له تعالى على دعم الفضيلة والحفاظ على عقيدة المسيح(6)".

وعلق موضوع النزاع. ولم يواجهه هنري في الحال. وكان أول ما اهتم به هو الحصول على موافقة المجلس النيابي على طلب عجيب - أن يعفى من سداد القروض التي قدمها له رعاياه . واحتج أعضاء مجلس العموم ثم وافقوا. وقدمت ثلاثة مشروعات أخرى بقوانين تستهدف كبح جماح سلطة رجال الأكليروس على الوصايا التي تم الإشهاد عليها وتقاضيهم رسوماً على الموتى واحتفاظهم بالصدقات المتعددة، وحظيت هذه المشروعات بقوانين بموافقة أعضاء مجلس العموم، وعارضها بشدة الأساقفة ورؤساء الأديار وأصحاب المقاعد في مجلس اللوردات، وقد عدلت، ولكنها أصبحت في جوهرها قوانين نافذة، وتأجل انعقاد المجلس النيابي إلى يوم 17 ديسمبر.

وتلقى الملك إبان صيف عام 1530 شيئاً من التشجيع الغالي،إذ اقترح توماس كرانمر، أستاذ اللاهوت في جامعة كمبردج، على هنري، أن تبدي الجامعات الكبرى في أوربا رأيها في موضوع هو هل كان في وسع البابا أن يسمح لرجل بالزواج من أرملة شقيقه. وأعقب هذا الاقتراح مباراة مرحة في التنافس على الرشوة: ونثر وكلاء هنري المال للتحريض على إصدار أحكام سلبية، ولجأ وكلاء شارل إلى المال أو التهديد للحصول على ردود إيجابية(7)، وانقسمت ردود الجامعات الإيطالية، ورفضت الجامعات اللوثرية تقديم أي رد مريح للمدافع عن العقيدة، بيد أن جامعة باريس، تعرضت لضغط من فرانسيس(8) فقدمت الرد العزيز المنشود الذي كان يتلهف عليه. ووافقت جامعتا أكسفورد وكامبردج، بعد أن تسلمتا رسائل صارمة من الحكومة، على حق الملك في الحصول على قرار بطلان زواجه.

وعندما شعر بدعم مركزه إلى هذا الحد، أصدر عن طريق وكيله العام (ديسمبر سنة 1530) إعلاناً بأن الحكومة تعتزم رفع دعاوى ضد كل رجال الأكليروس الذين اعترفوا بسلطة ولزى قاصداً رسولياً، وعلى أساس أنهم خالفوا قانون الولاء للتاج. وعندما عاد المجلس النيابي والمجلس الأكليروسي للانعقاد (16 يناير سنة 1531) أعلن وكلاء الملك وهم سعداء أن الدعاوى سوف تسحب إذا اعترفوا بأنهم مذنبون ودفعوا غرامة قدرها 118.000 جنيه (11.800.000 دولار)(90). فاحتجوا بأنهم لم يرغبوا قط في أن يكون لولزى مثل هذا السلطان وأنهم لم يعترفوا به قاصداً رسولياً إلا لأن الملك قد فعل هذا بتقديم التماسه للنظر أمام محكمة ولزى وكامبيجيو. وكانوا على حق كامل بالطبع، بيد أن هنري كان في حاجة ماسة إلى المال، ووافقوا، وهم يولولون، على سداد المبلغ من موارد أبرشياتهم. واستخف الطرب الملك فطالب وقتذاك بان يعترف به رجال الأكليروس "حامياً للكنيسة ورجال الدين في إنجلترا والرئيس الأعلى الوحيد لهم" أي أن ولاءهم للبابا لابد أن ينتهي وعرضوا اثنتي عشرة مصالحة وجربوا اثنتي عشرة عبارة مبهمة، وكان هنري قاسياً لا يرحم، وأصر على أن يردوا بكلمة "نعم" أو "لا". وأخيراً (10 فبراير سنة 1531) عرض رئيس الأساقفة واهرام، وكان وقتذاك في الحادية والثمانين، في تبرم، إقرار صيغة الملك وأضاف إليها عبارة فيها تحفظ "بقدر ما تسمح شريعة المسيح"، وسكت المجلس الأكليروسي، واعتبر السكوت رضاً، وأصبحت الصيغة قانوناً، وهدأت ثائرة الملك، فسمح عندئذ للأساقفة بمطاردة الهراطقة.

وتأجل اجتماع المجلس النيابي والمجلس الأكليروسي مرة أخرى (30 مارس سنة 1531). وفي يوليو ترك هنري كاثرين في وندسور على ألا يراها أبداً مرة أخرى. وسرعان ما نقلت بعد ذلك إلى أمبتهل بينما أقامت الأميرة ماري في رتشموند وطالب هنري بالجواهر التي كانت قد ارتدتها كاثرين بصفتها ملكة وأعطاها لآن بولين(10) واحتج شارل الخامس لدى كليمنت الذي وجه خطاباً قصيراً للملك (25 يناير سنة 1532) يؤنبه فيه لاقترافه الزنا، ويحضه على طرد آن والاحتفاظ بكاثرين ملكة شرعية إلى أن يصدر قراراً في الالتماس المقدم منه لإعلان بطلان الزواج. وتجاهل هنري التأنيب واستمر في غرامه. وكتب حوالي هذا الوقت إحدى رسائله الرقيقة لآن:

حبيبة قلبي، أكتب لكِ هذا لأعرب عن الوحدة التي أعيش فيها هنا منذ فراقكِ، لأني أؤكد لكِ أني أرى الوقت قد أصبح منذ رحيلكِ أطول مما تعودت أن أراه مدى أسبوعين كاملين، وأعتقد أن رقتكِ وحرارة حبي هما السبب... ولكني أفكر الآن وأنا قادم إليكِ، وآلامي قد خف نصفها، في أن يتحقق أملي في أمسية خاصة بين أحضان حبيبتي التي سوف أركن قريباً إلى نهديها الجميلين وأقبلهما. كتبته يد مَن كان ولا يزال لكِ وسوف يظل معكِ على الدوام بإرادته.

وعندما انعقد المجلس النيابي والمجلس الأكليروسي مرة أخرى (15 يناير سنة 1532) حصل هنري من المجالس الأربعة جميعاً على تشريع آخر مناهض لرجال الأكليروس ينص على: أن رجل الدين دون درجة مساعد شماس، يجب أن يحاكموا أمام المحاكم الدينية عند اتهامهم بالخيانة العظمى، وأن الرسوم والغرامات التي تتقاضاها المحاكم الكنسية يجب أن تخفض، وأن الرسوم الكنسية على الموتى ورسوم التثبت من صحة الوصايا يجب أن تخفض أو تلغى، وأن موارد السنة الأولى لأسقف حديث التعيين يجب ألا تدفع بعد ذلك للبابا وأن تحول الأموال الإنجليزية إلى روما من أجل محللات وصكوك غفران وخدمات بابوية أخرى يجب أن يتوقف، وأرسلت إشارة ماكرة إلى المجلس البابوي بأن موارد السنة الأولى للأسقف حديث التعيين سوف ترد إلى البابا إذا أعلن بطلان الزواج بكاثرين.

وفي هذا الوقت انحازت غالبية من الأساقفة إلى الرأي القائل بأنهم لن يفقدوا شيئاً من السلطة أو الدخل إذا استقلت الكنيسة الإنجليزية عن روما. وفي مارس سنة 1532 أعلن المجلس الأكليروسي استعداده للانفصال عن البابوية: "هلا تفضلتم يا صاحب السمو بوقف أعمال الاغتصاب الظالمة المذكورة... وإذا اتخذ البابا إجراء ضد هذه المملكة للحصول على موارد السنة الأولى للأساقفة حديثي التعيين... فلتتفضلوا سموكم بسن قانون من المجلس النيابي الحالي بسحب طاعة سموكم والشعب للكرسي البابوي في روما(12)". وفي 15 مايو قدم المجلس الأكليروسي تعهداً للملك بتقديم كل تشريع تال له إلى لجنة - نصفها من العلمانيين والنصف الثاني من رجال الأكليروس - لها الحق في الاعتراض على أي قوانين ترى أنها ضارة بالمملكة. وهكذا ولدت كنيسة إنجلترا في هذا "الإصلاح النيابي" الأسقفي وهذا المجلس الأكليروسي وأصبحت عضواً للدولة وتابعة لها.

وفي 16 مايو استقال توماس مور من منصب الحجابة بعد أن فشل في الوقوف أمام التيار المناهض لرجال الأكليروس وانسحب إلى بيته. ومات رئيس الأساقفة واهرام في أغسطس بعد أن أملى وهو على فراش الموت رسالة أبدى فيها رفضه لخضوع الملجلس الأكليروسي للملك. واستبدل هنري بتوماس مور توماس أودلي، وبواهرام، توماس كرانمر. ومضت الثورة قدماً. وأجاز المجلس النيابي "قانون الاستئناف" وبمقتضاه كان كل نزاع أرسل سابقاً إلى روما للفصل فيه يحسم "في المحاكم الروحية والزمنية داخل المملكة دون اعتبار، لأي منع أو حرمان من غفران الكنيسة أو تحريم يصدر من جهة أجنبية(13)".

وفي 15 يناير سنة 1533 تزوج هنري من آن التي كانت حاملاً منذ أربعة شهور(14). وكان لدى الملك وقتذاك أسباب ملحة لإعلان بطلان زواجه من كاثرين، ولما كان قد بعث بطلب آخر للبابا دون أن يؤدي إلى نتيجة، فقد حصل من المجلس الأكليروسي على موافقة على "طلاقه" (أبريل سنة 1533) وفي 23 مايو أعلن كرانمر بصفته رئيس أساقفة كنتربري أن الزواج بكاثرين مخالف للشريعة وباطل، وفي 28 مايو أعلن أن آن زوجة شرعية لهنري، وركبت آن بعد ثلاثة أيام وهي ترتدي الديباج وتتزين بالجواهر لكي تتوج ملكة لإنجلترا في احتفال ملكي مهيب، وضعت تصميمه التقاليد وهانز هولبين الصغير. ولاحظت وسط مظاهر الابتهاج صمت الجماهير الدال على الاستنكار، ولعلها تساءلت إلى متى يحمل رأسها القلق التاج؟.

وأعلن البابا كليمنت بطلان الزواج الجديد، وأن الأولاد الذين سيكونون ثمرة له غير شرعيين، وحرم الملك من غفران الكنيسة (22 يوليو سنة 1533). وولدت اليزابث يوم 7 سبتمبر وأبلغ سفير شارل مولاه أن حظية الملك أنجبت ابنة سفاح(15).

واستأنف المجلس النيابي الذي كان قد أجل يوم 4 مايو جلساته في 15 يناير سنة 1534. وكانت موارد الأساقفة الجدد في السنة الأولى والموارد البابوية الأخرى قد خصصت نهائياً وقتذاك للتاج، وأصبح تعيين الأساقفة امتيازاً للملك من الناحية القانونية، كما جرى العمل به فعلاً. ونقلت دعاوى الاتهام بالهرطقة من القضاء الكنسي إلى القضاء المدني.

وفي عام 1533 أذاعت اليزابث بارتون وهي راهبة من كنت أنها تلقت أوامر من الرب بإدانة الزواج الثاني للملك، وأنها قد سمح لها برؤية المكان الذي يعد إستقبال هنري في الجحيم. وعرضتها المحكمة الملكية لاختبار قاس، وانتزعت منها اعترافاً بأن رؤاها الإلهية كانت إفكاً وخداعاً، وأنها سمحت لآخرين باستخدامها في مؤامرة للإطاحة بالملك(16). وحوكمت هي وستة "شركاء في الجريمة" أمام مجلس اللوردات وقضي عليهم بالادانة، ونفذ فيهم حكم الإعدام (5 مايو سنة 1534)، واتهم الأسقف فيشر بأنه علم بالمؤامرة وتقاعس عن تحذير الحكومة، واتهم أيضاً بأنه كان هو وكاثرين مطلعين على أسرار خطة وضعها شابويس ولم يشجعها شارل، لغزو إنجلترا في الوقت الذي يقوم فيه أنصار كاثرين بالتمرد(17). وأنكر فيشر التهم الموجهة إليه، ولكنه ظل موضع الاشتباه بالخيانة.

وكان توماس كرومويل أشد وكلاء هنري العدوانيين في هذه الأمور. وقد ولد عام 1485، وهو ابن حداد من بوتني، ونشأ في فقر ومسغبة، ومضى يضرب سنوات في أرض فرنسا وإيطاليا أفاقاً بالفعل، وعاد إلى إنجلترا واشتغل بصناعة النسيج وأصبح مرابياً وكون ثروة، وخدم ولزى بإخلاص خمس سنوات، ودافع عنه في أيام البؤس، واكتسب احترام هنري بسهب صناعته وولائه. وعين على التوالي حاجباً لخزانة الدولة وأميناً للسجلات وكاتم سر للملك (مايو سنة 1534)، وكان في الفترة من عامي 1531 و 1540 المدبر الأكبر لشئون الحكومة باعتباره منفذاً مطيعاً للإرادة الملكية. واتهمه أعداؤه الأرستقراطيون، الذين احتقروه بوصفه حديث نعمة يرمز لخصومهم الصاعدين، رجال الأعمال، بأنه يطبق مبادئ "أمير" مكيافلي، بقبول الرشا وبيع المناصب وحب الثروة والسلطان حباً يجاوز الحدود. وكان هدفه، الذي سعى جاهداً لإخفائه، هو أن يجعل الملك صاحب الكلمة العليا في كل مجال من مجالات الحياة الإنجليزية، وأن يمول ملكية مطلقة بثروة الكنيسة المصادرة، وأظهر في سعيه لتحقيق أغراضه مقدرة تامة لا تعرف تأنيب الضمير، وضاعف ثروته، وكسب كل معركة خاضها ما عدا الأخيرة، والراجح أن هنري، وقد أزعجه تزايد عداء الشعب له، استدرج المجلس النيابي، بناء على اقتراحه وعن طريق احتياله، إلى الموافقة على قانون وراثة العرش (30 مارس سنة 1534) الذي أعلن أن الزواج بكاثرين غير صحيح، وحول ماري إلى ابنة سفاح، وعين اليزابث وريثة للعرش إلا إذا أنجبت آن ولداً، ونص على أن أي شخص يجادل في صحة زواج آن بهنري يستحق أقصى عقاب. وقضى القانون بأن يحلف جميع الإنجليز رجالاً ونساء يميناً بالولاء للملك. وأخذ مندوبون للملك يؤازرهم جنود، يخترقون البلاد راكبين، ودخلوا البيوت والقصور وأديار الرهبان وأديار الراهبات، وانتزعوا اليمين كرهاً. ولم يرفض حلف اليمين إلا قلة ضئيلة من بينهم الأسقف فيشر وتوماس مور: وعرضوا أن يحلفوا على ما جاء بشأن وراثة العرش على ألا يقسموا على باقي ما تضمنه القانون. وحكم عليهم بالسجن في البرج. وصوت المجلس النيابي آخر الأمر على قانون السيادة الحاسم (12 نوفمبر سنة 1534)، وأكد هذا القانون سيادة الملك على الكنيسة والدولة في إنجلترا، وعمد الكنيسة الوطنية الجديدة باسم الكنيسة

الأنجليكانية، وخول الملك كل هذه السلطات على الأخلاق والتنظيم والهرطقة والعقيدة والإصلاح الكنسي، وكانت حتى وقتذاك من اختصاص الكنيسة. ونص القانون على أن المرء يرتكب جريمة الخيانة إذا تحدث عن الملك أو كتب عنه أنه مغتصب أو طاغية أو انقسامي أو هرطيق أو كافر. وطلب من جميع الأساقفة أن يحلفوا يميناً جديدة بأنهم يقبلون سيادة الملك المدنية والكنسية دون تحفظ "بقدر ما تسمح شريعة المسيح"، وأنهم لن يرضوا أبداً في المستقبل باستئناف السلطة البابوية في إنجلترا. وانتشرت كل قوات الحكومة لشل حركة المعارضة لهذه المراسيم، التي لم يسبق لهذا مثيل، وتظاهر رجال الأكليروس العلمانيون بالخنوع شيئاً فشيئاً، وأحجم كثير من الرهبان والأخوان الرهبان عن حلف الأيمان، نظراً لولائهم للبابا، وأسهمت مقاومتهم في اتخاذ الملك قراره الأخير بإغلاق الأديار.

وأحنق عناد الاخوة الرهبان في تشارنر هاوس، وهو دير كاتوزي في لندن، هنري وكرومويل بخاصة. وجاء ثلاثة من رؤساء الأديار الكارتوزيين إلى كرومويل ليقدموا له إيضاحاً عن إحجامهم عن الاعتراف بأي علماني رئيساً للكنيسة في إنجلترا، فبعث بهم كرومويل إلى سجن البرج. وفي يوم 26 أبريل سنة 1535 حوكموا هم وراهب آخر وقسيس علماني أمام قضاة الملك الذين كانوا يميلون إلى الصفح عنهم، غير أن كرومويل خشي أن يشجع الرفق على المزيد من المقاومة، فطالب بقرار بالإدانة وأذعن القضاة.

وفي يوم 3 مايو جر الرجال الخمسة وكانوا لا يزالون يرفضون قبول قانون السيادة على زحافات إلى تيبرن وعلقوا واحداً وراء الآخر وأسقطوا بقطع الحبال وهم أحياء وقطعوا أرباً(18) وعلقت ذراع مبتورة على مدخل عقد تشارتر هاوس لتلقين الرهبان الباقين درساً، ولكن أحداً منهم لم يتراجع عن رفضه. وسجن ثلاثة في البرج وشد وثاقهم وهم منتصبون بسلاسل من حديد حول أعناقهم وأقدامهم، وأكرهوا على الوقوف في هذا الوضع سبعة عشر يوماً، وقدم إليهم الطعام، ولكن لم يفك وثاقهم لقضاء أي حاجة طبيعية. أما باقي الرهبان الكارتوزيين، وكانوا لا يزالون يبدون عناداً ومشاكسة فقد تشتتوا في أديا أخرى ما عدا عشرة منهم، سجنوا في نيوجيت ومات تسعة من هؤلاء من "حمى السجن وقذره(19)".

وكان هنري وقتذاك هو الحكم الوحيد فيما يتعين على الشعب الإنجليزي أن يؤمن به في مجالي الدين والسياسة. ولما كان لاهوته لا يزال كاثوليكياً من كل وجه فيما عدا السلطة البابوية فقد اتخذ مبدأ مطاردة النقاد البروتستانت للمذهب الكاثوليكي بغير تحيز، والنقاد الكثالكة لسيادته الكنسية، والحق أن مطاردة الهراطقة قد استمرت وظلت طوال مدة حكمه. وفي عام 1531 أحرق توماس بلني بأمر أصدره الحاجب توماس مور، لأنه انتقد الصور الدينية، ورحلات الحج والصلوات من أجل الميت. وقبض على جيمس بينهام لأنه اعتبر أن المسيح لا يكون حاضراً في القربان المقدس إلا بروحه فعذب لكي ينتزع منه أسماء هراطقة آخرين، وتشبث بما قال وأحرق في سمثفيلد في أبريل عام 1532. واحرق آخران في ذلك العام وعرض أسقف لندن أن يمنح في خلال أربعين يوماً صك غفران للمسيحيين الصالحين الذين يحملون حزمة من الحطب لتغذية النار(20).

ووصل عهد الإرهاب إلى ذروته في اضطهاد فيشر ومور، وقد وصف أرازموس أسقف روشستر بأنه "شخص مثقل بكل فضيلة(21") بيد أن فيشر نفسه قد اقترف ذنب الاضطهاد، وقد انضم إلى السفير الإسباني في حث شارل على غزو إنجلترا وخلع هنري(22). وقد اقترف في نظر القانون جريمة خيانة الدولة، وهو أمر لم يشفع له عندما احتج بأنه كان مخلصاً للكنيسة. وارتكب الحبر الأعظم الجديد، بولس الثالث خطأ بتعيين الأسقف المسجون كاردينالاً، وعلى الرغم من أن فيشر أعلن إنه لم يسعَ إلى هذا الشرف، فإن هنري رأى وقتذاك في هذا التعيين تحدياً له. وفي 17 يونيه سنة 1535 قدم الأسقف، وكان وقتذاك في عامه الثمانين، إلى محاكمة أخيرة ورفض مرة أخرى أن يوقع على قسم يعترف فيه بهنري رئيساً للكنيسة الإنجليزية، واقتيد في 22 يونيه إلى كتلة على تل تاور. ووصفه شاهد عيان بأنه "جسد طويل أعجف، لا شيء فيه سوى الجلد والعظام، إلى حد أن معظم مَن شاهدوه دهشوا من رؤية رجل لا يزال فيه رمق من حياة، على الرغم من بلوغه هذا الحد من الوهن(23)".

وتلقى وهو على منصة المقصلة عرضاً بالعفو عنه إذا حلف اليمين فرفض وعلق رأسه المقطوع فوق جسر لندن. وقال هنري: "في وسعه أن يذهب الآن، إذا استطاع، إلى روما ويحصل على قلنسوة الكاردينال(24)".

ومع ذلك فقد بقي هناك مكابر عنيد أشد مراساً.
2- مؤلف المدينة الفاضلة

كان والد توماس مور محامياً ناجحاً وقاضياً بارزاً. وتلقى توماس تعليمه في مدرسة سانت أنطوني بلندن، وعمل وصيفاً لرئيس الأساقفة مورتون، وكان لهذا الفضل في تثبيت عقيدته المحافظة وتكامله وتقواه المرحة. وتنبأ مورتون، كما يقال لنا، بأن "هذا الطفل الذي يخدم هنا على المائدة... سوف يثبت انه رجل عجيب(25)". وذهب الشاب إلى أكسفورد وهو في الخامسة عشرة من عمره، وسرعان ما فتن بالأدب الكلاسي إلى درجة حملت والد الشاب على انتزاعه من الجامعة، لإنقاذه من أن يصبح أديباً خاوي الوفاض وبعث به لدراسة القانون في لندن، وكانت أكسفورد وكامبردج لا تزالان تستهدفان إعداد الطلاب للعمل في سلك الكهنوت. وكانت كلية

نيو إن وكلية لنكولن إن تدربان الرجال الذين كانوا وقتذاك يشرفون بين رجال الأكليروس على الحكومة في إنجلترا، ولم يتلقَ من أعضاء مجلس العموم تعليماً جامعياً سوى ثمانية أعضاء بينما كانت هناك نسبة مرتفعة من المحامين ورجال الأعمال.

وفي عام 1499 إلتقى مور، وكان في الحادية والعشرين من عمره، بأرازموس وافتتن بالمذهب الإنساني. وتعد صداقتهما من أطيب العطور شذى في ذلك العصر. فقد وهب كلاهما مرحاً بقدر ما، وجعلا لدراستهما طعماً مستساغاً بالهجو الضاحك. وكانا يشتركان في كراهية الفلسفة الكلامية التي قال مور إن ما تنطوي عليه من خبث في التفريق بين الأشياء يعود على المرء بفائدة توازي ما يكسبه من حلب تيس في غربال(26). وكانا يأملان في إصلاح الكنيسة من الداخل وتجنب تفكك أواصر الوحدة الدينية والتواصل التاريخي. ولم يكن مور نداً لأرازموس في العلم أو التسامح، والحق أن رقته المألوفة وكرمه كان يشوبهما في بعض الأوقات تطرف في الدين، وكان في الجدل ينحني بين آن وآخر مثل كل معاصريه، ليوجه لخصومه طعناً شديداً مريراً(27). ولكنه كان يفوق أرازموس في الشجاعة والإحساس بالكرامة والإخلاص لقضية. ولا شك أن الرسائل التي تبادلاها تعد شاهداً ثميناً على أفضال عصر فظ. فهناك رسالة لمور يقول في ختامها "وداعاً يا أرازموس الحبيب يا مَن هو أعز علي من عيني(28)".

وكان من أعظم رجال الدين في القرن الذي عاش فيه، أخزى بتقواه - العلمانية تهافت رجال الكهنوت من أمثال ولزى على الدنيا. وفي الثالثة والعشرين عندما تبحر في دراسة القانون فكر في أن يصبح قساً. وألقى محاضرات عامة (1501) عن مدينة الرب التي بشر بها أوغسطين، وجلس بين مستمعيه علماء تحارير أكبر منه سناً مثل جروسين.

وعلى الرغم من انتقاده الرهبان لتقاعسهم عن الامتثال لما يفرضه عليهم نظامهم فإنه أعجب إعجاباً شديداً بنظام الدير المخلص، وأسف أحياناً لأنه لم يختر هذا النظام، وظل وقتاً طويلاً يرتدي قميصاً من شعر الخيل لا يلبس تحته شيئاً، وكان بين آن وآخر يسحب منه دماً يكفي لتلطيخ ثيابه ببقع من الدماء ترى بوضوح. وكان يؤمن بالمعجزات ويصدق قصص القديسين والمخلفات التي تستخدم للعلاج والصور الدينية ورحلات الحج(29). وكتب مصنفات ولائية لها نغمة القرون الوسطى أن الحياة سجن وأن الهدف من الدين والفلسفة تهيئة نفوسنا للموت، وتزوج مرتين وأنجب عدة أطفال أنشأهم على حب نظام مسيحي يتسم بالوقار والانشراح في آن واحد، وتصحبه صلاة متكررة وحب متبادل واتكال كامل على العناية الإلهية. وكانت "دار مانور" في تشلسي التي انتقل إليها في عام 1523 مشهورة بمكتبتها وصالة العرض فيها وحدائقها الممتدة إلى مائة ياردة إلى نهر التاميز.

واختير وهو في السادسة والعشرين من عمره (1504) نائباً بوصفه مواطناً حراً في المجلس النيابي. وهناك ناقش بنجاح ضد إجراء اقترحه هنري السابع مما دفع الملك إلى أن يسجن مور الكبير فترة قصيرة. ويفرض غرامة باهظة كوسيلة منحرفة لتلقين الخطيب الشاب درساً في مواساة المواءمة.

وعند إغلاق ذلك المجلس النيابي عاد مور إلى الحياة الخاصة ونجح في مزاولة القانون. وأقنع عام 1509 بتولي منصب مساعد المشرف في المدينة، أي في لندن القديمة شمالي نهر التيمس. وكان مكلفاً بتبعات تتفق ومزاجه، وهي وظائف لها صيغة قانونية أكر مما تتسم بالمخاطرة. وأكسبته أحكامه شهرة واسعة، لما اتسمت به من حكمة وعدم تحيز، وخالف برفضه المهذب للهدايا من المتخاصمين، سوابق العهد الشائنة التي كانت لا تزال في عنفوانها أيام فرانسيس بيكون. وسرعان ما عاد إلى المجلس النيابي وما أن حل عام 1515 حتى كان خطيب مجلس العموم.

ووصف أرازموس في خطاب بعث به إلى هوتن مور (23 يوليه 1517)، بأنه متوسط القامة له بشرة شاحبة وشعر أصحم لا يهتم بالملبس أو المظهر زاهد في الطعام والشراب، منشرح سريع النكتة حاضر الابتسامة، يميل إلى الدعابات والخدع ويحتفظ في بيته بمهرج وقرد وكثير من الحيوانات المدللة الصغيرة، "وكانت كل الطيور في تشلزيا تأتي إليه ليطعمها". وكان زوجاً مخلصاً وأباً محباً يعبد أولاده وخطيباً مقنعاً ومستشاراً أصيل الرأي ورجلاً شديد الحرص على البر وخدمات الأصدقاء - واختتم هذا الرسم التمهيدي الذي يدل على الوله به بأنه "باختصار ماذا خلقت الطبيعة الطف وأحلى وأسعد من عبقرية توماس مور؟(30)".

ووجد أمامه متسعاً من الوقت لتأليف كتب وبدأ بكتاب "تاريخ رتشارد الثالث"، ولكن نزعته كانت حادة ضد الحكم المطلق، وكان يجلس على العرش حاكم مطلق، ورأى أن من الفطنة أن يتجنب قضاء الكلمة المطبوعة. ونشر بعد وفاته وكتب شكسبير مسرحية تقوم عليه، ولعل السيرة الذاتية التي أذاعتها الدراما تحمل بعض المسئولية عن الخلق الذي يحمله رتشارد، وفي عام 1516 طرح مور باللاتينية، كما لو كان يقوم بدعاية، كتاباً من أشهر الكتب بأسرها، مبدعاً كلمة، وواضعاً سابقة مقدماً على خطوة للمُدن الفاضلة الحديثة ومتوقعاً نصف الاشتراكية، ومعبراً عن نقد للاقتصاد والمجتمع والحكومة في إنجلترا إلى حد أنه تسلح من جديد بالإقدام بعد التروي ونشر المجلد في الخارج في ست طبعات لاتينية قبل أن يسمح بطبعه باللاتينية كذلك في إنجلترا. واعترف بأنه كتبه للتسلية دون أن يقصد نشره على الجمهور بيد أنه شكر أرازموس لإطلاعه عليه في المطبعة بلوفان(31) وترجم إلى الألمانيّة والإيطالية والفرنسية قبل أن تظهر النسخة الإنجليزية (1551) بعد وفاة المؤلف بستة عشر عاماً. وما أن حل عام 1520 حتى كان حديث القارة.

وأطلق عليه مور اسم "ليس في موضع" ولا نعرف من خطر له ذلك الخاطر السعيد بتغيير هذا العنوان وسط الطباعة إلى المرادف اليوناني يوتوبيا أو المدينة الفاضلة(32) وثم إخراج الحكاية بصورة بارعة جداً دفعت كثيراً من القراء إلى الاعتقاد بأنها قصة حقيقية ويقال إن مبشراً دينياً قد فكر في السفر وتحويل سكان المدينة الفاضلة إلى المسيحية(33). وكان هنري الثامن قد أرسل مور سفيراً إلى بروجس (1515) ومن هناك انتقل إلى أنتورب برسالة قدمه فيها أرازموس إلى بيتر جيلس كاتب المدينة. وادعت المقدمة أن جيلس قد قدم مور إلى ملاح برتغالي له لحية، لوحت بشرته تقلبات الطقس، يدعى رافاييل هيثلوداي، وترادف باليونانية "ماهر في الهذر" كان قد سافر بحراً مع أمريجو فسبوتشي عام 1504، ودار حول الكرة الأرضيّة (ست سنوات قبل رحلة ماجلان)، وزار في العالم الجديد، جزيرة سعيدة حل سكانها معظم المشكلات التي كانت تعاني منها أوربا في ذلك العهد. وجعلت طبعة لوفان للسخرية أكثر تقبلاً بأن بدأت بحفر الخشب للجزيرة وعينة من لغة المدينة الفاضلة. ولم يكشف المؤامرة إلا هفوة واحدة: "فهيتلد واي يميل إلى الثناء على رئيس الأساقفة مورتون بكلمات(34) أقرب إلى فطرة مور التي تعترف بالجميل من تجربة الملاح.

ويصف ماجلان الوهمي شيوعية سكان الجزيرة بقوله: "لما كان كل شيء على المشاع، بين سكان المدينة الفاضلة فإن كل شيء متوفر لدى كل إنسان. وأنا أقارن بينهم وبين كثير من الأمم... حيث يقول كل إنسان إن كل ما قد حصل عليه ملك خاص له وإنه أموال خاصة. وأنا أستمسك جيداً بما قاله أفلاطون... إن كل الناس يجب أن يحصلوا ويتمتعوا بحصص متساوية من الثروة والأمتعة... لأنه حيث ينتزع كل إنسان، يتخذ ألقاباً معينة ويتمسك بادعاءات ما، ويختطف أكبر قدر يستطيع الحصول عليه بحيث نجد أن قلة هي التي تتقاسم فيما بينها كل الثروات فلن يترك للباقين سوى العوز والفاقة(35).

وكل إنسان في المدينة الفاضلة يأخذ إنتاجه إلى المخزن العام ويتسلم منه حسب ما تتطلبه احتياجاته. ولا أحد يطلب أكثر مما يكفيه لأن الأمان من الحاجة يصده عن الجشع. ويتناول الناس الوجبات على مائدة مشتركة ولكن للمرء أن يأكل في بيته إذا شاء. وليس في المدينة الفاضلة عملة ولا شراء بثمن رخيص ولا بيع بثمن غال، وآفات الغش والسرقة والنزاع على الملكية غير معروفة. ولا يستخدم الذهب بوصفه عملة، ولكن لصناعة أشياء نافعة مثل الأواني التي نقضي فيها الحاجة. وهي لا تعرف المجاعات أو السنوات العجاف، لأن المخازن العامة تحتفظ باحتياطي للطوارئ. وكل أسرة تشتغل بالزراعة والصناعة معاً، يستوي في ذلك الرجل والنساء. ولكي يتحقق إنتاج مناسب لابد أن يعمل كل بالغ ست ساعات يومياً، ويتحدد اختيار المهنة باحتياجات الجماعة. وسكان المدينة الفاضلة أحرار بمعنى الحرية من الجوع والخوف، ولكنهم ليسوا أحراراً في أن يعيشوا على حساب الآخرين. وفي المدينة الفاضلة قوانين بيد أنها بسيطة وقليلة، ومن ثم ينتظر من كل إنسان أن يدافع عن قضيته ولا حاجة لوجود محامين. ويحكم على الذين يخالفون القانون بالعمل عبيداً للجماعة، ويقومون بأداء المهام الكريهة، ولكنهم يستعيدون المساواة الكاملة بأقرانهم بعد انتهاء دورهم. أما الذين يكدرون صفو الأمن تكديراً خطيراً فيحكم عليهم بالإعدام في بلاد أخرى.

ووحدة المجتمع في المدينة الفاضلة هي الأسرة الأبوية "والزوجات يهيمن على أزواجهن، والأولاد ينسبون لآبائهم(36)". والزواج من واحدة هو الشكل الوحيد الذي يسمح به في مجال الارتباط الجنسي.

وقبل الزواج ينصح الخطيبان بأن يرى أحدهما الآخر وهو مجرد من الملابس، حتى يكتشف العيوب الجسمانية في حينه، وإذا بلغت درجة كبيرة من الجسامة فإن العقد قد يلغى. وتذهب الزوجة لتعيش مع زوجها في دار والده بعد الزواج، ويسمح بالطلاق بسبب الزنا أو برضى الطرفين بشرط موافقة مجلس الجماعة. وتختار كل ثلاثين أسرة زعيم قبيلة كل عام ليحكمها ويختار كل عشرة من زعماء القبائل رئيساً لإدارة مقاطعة بها 300 أسرة. ويكون المائتا زعيم للقبائل مجلساً قومياً ينتخب أميراً أو ملكاً مدى الحياة.

ومن التبعات الأساسية الملقاة على عاتق زعماء القبائل المحافظة على صحة الجماعة بتزويدها بالماء النظيف واتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على الصحة العامة وتوفير العناية الطبية والعلاج بالمستشفيات لأن الصحة أهم النعم على الأرض وينظم الحكام التعليم للأطفال والكبار ويهتمون اهتماماً شديداً بالتدريب المهني ويؤيدون العلم ولا يشجعون التنجيم وقراءة الطالع والخرافة. ولهم أن يشنوا الحرب على الشعوب الأخرى إذا رأوا أن هذا يقتضيه صالح الجماعة: "إنهم يعتبرون أن أعدل سبب للحرب يتوفر عندما يحتفظ أي شعب بقطعة من الأرض فضاء ولا تستغل بأي صورة نافعة أو مربحة، ويمنع الآخرين من الاستفادة منها أو حيازتها، وهم بحكم قانون الطبيعة يجب أن يطعموا ويفرج عنهم(37) (هل كان هذا دفاعاً عن استعمار أمريكا؟). بيد أن سكان المدينة الفاضلة لا يمجدون الحرب، إنهم يكرهونها باعتبارها عملاً وحشياً واضحاً، ومناقضاً لشعور كل أمة أخرى تقريباً. ويرون أنه لا شيء أكثر خسة وتفاهة من المجد المستمد من الحرب(38)".

والدين في المدينة الفاضلة لا يكاد يكون حراً تماماً. وتعامل بالتسامح أي عقيدة، اللهم إلا الإلحاد وإنكار خلود الإنسان. وفي وسع ساكن المدينة الفاضلة إذا شاء أن يعبد الشمس أو القمر. ولكن الذين يلجئون إلى العنف في العمل أو الكلام عن أي دين معترف به يقبض عليهم ويعاقبون لأن القوانين تستهدف منع النزاع الديني(39). والذين ينكرون الخلود لا يعاقبون بل يبعدون عن الوظيفة ويحرم عليهم إبداء آراءهم لأي إنسان اللهم إلا للقساوسة و"أصحاب الشأن". وإلا "فإنه يباح لكل إنسان أن يؤثر ويتبع أي دين يشاء... ويستطيع أن يبذل كل جهده لإقناع آخر برأيه ما دام يفعل هذا سلمياً وفي رصانة، وفي غير ما عجلة وبلا زجر أو قدح يصدران عن نزاع ضد الآخرين(40)". ومن ثم فإن في المدينة الفاضلة عدة أديان بيد أن "أعظم وأحكم دور... هو الإيمان بوجود قوة إلهية معروفة، دائمة، لا تدرك ولا تفسر، أعظم من أن يدركها عقل الإنسان ومقدرته، متفرقة في أنحاء العالم(41)". والرهبانية مسموح بها بشرط أن يشغل الرهبان أنفسهم بأعمال البر والمنفعة العامة، مثل إصلاح الطرق والجسور وتطهير الخنادق وقطع الأخشاب والعمل خدماً بل ورقيقاً، وفي وسعهم أن يتزوجوا إذا رغبوا. وهناك قساوسة، ولكنهم يتزوجون أيضاً. وتعتبر الدولة أن أول وآخر كل شهر وكل عام بمثابة أعياد دينية، ولكن في تأدية الاحتفالات الدينية في هذه العطلات، "لا يرى تمثال أي إله في الكنيسة"، ولا تؤدى صلوات، ولكن في وسع كل إنسان أن يتلو صلاة ما في جرأة دون أن يسيء إلى أي طائفة(42). وفي كل يوم من هذه العطلات تسجد الزوجات والأطفال أمام أزواجهن أو آبائهم، ويطلبون الصفح عن أي ذنب قد اقترفته أو أي واجب يكونون قد أخلوا به، ولا يسمح لأحد بالحضور إلى الكنيسة إلا بعد أن يسود الوئام والسلام بينه وبين عدوه. وهذه لمسة مسيحية، ولكن إنسانية مور الفتية تبدو في قبوله الجزئي لوجهة النظر اليونانية عن الانتحار. إذا عانى الإنسان من مرض عضال غير قابل للشفاء، فإنه يسمح له ويشجع على إنهاء حياته. أما في الحالات الأخرى فإن مور يعتقد أن الانتحار جن، ويروى "أن الجثة يجب أن تلقى دون دفن في مستنقع نتن(43).

ولا نعرف كم من هذه يمثل النتائج التي توصل إليها مور بعد ترو، وكم منها كان من تفكير أرازموس، وكم منها كان من وحي ألاعيب الخيال. وعلى أية حال فإن السياسي الشاب أبعد نفسه في حرص عن اشتراكية سكان المدينة الفاضلة، وهو يتمثل نفسه يقول لهيثلوداي: "أرى أن كل الناس لن يعيشوا في ثراء حيث تكون كل الأشياء على المشاع. لأنه كيف تكون هناك وفرة في السلع... حيث نجد أن نظرة الإنسان إلى مكاسبه الشخصية لا تدفعه إلى العمل، ولكن الأمل يراوده في أن يجد في عناء الآخرين ما يجعله ينعم بالكسل. لا يمكن أن تكون كل الأمور على ما يرام، ما لم يكن كل الناس صالحين، وهو ما اعتقد أنه لن يحدث في هذه السنين العديدة الطويلة(44)". ومع ذلك فإن بعض التعاطف على ضروب الحنين المتطرفة لابد أن يكون قد استلهم بصورة كبيرة المثال الشيوعي. وثمة صفحات أخرى في المدينة الفاضلة تنتقد في غضب قسوة استغلال الأغنياء للفقراء. وفيها تنديد بإحاطة اللوردات الإنجليز لبعض الأراضي العامة بسياج، وذلك بصورة مفصلة وروح لا يتوقعان فيما يبدو، من أجنبي. ويقول هيثلوداي لمور: "إن الطمع الجائر للقلة قد تحول إلى الخراب التام لجزيرتك. إن هؤلاء الأغنياء لا يطيقون إلا أن يشتروا كل شيء ليتلهوا ويستأثروا بكل شيء ويتحكموا في السوق وحدهم كما يشاءون باحتكارهم(45)". وعندما أفكر وأزن بعقلي كل هذه الحكومات التي تزدهر الآن في كل مكان فإني لا أفهم - وليساعدني الله - إلا أن هناك مؤامرة، يدبرها الأغنياء لترويج سلعهم باسم الجمهور. إنهم يخترعون ويتوسلون بكل الوسائل والخدع...

كيف يستأجرون... ويتعسفون... في جهد الفقراء مقابل مبلغ صغير بقدر الإمكان... وهذه الحيل تؤدي إلى سن القوانين(46).

وهكذا يكاد يكون صوت كارل ماركس يحرك العالم من سفح فضاء في المتحف البريطاني، ولا شك أن المدينة الفاضلة هي أقوى ضروب الاتهام وأولها للنظام الاقتصادي الذي استمر في أوربا الحديثة حتى القرن العشرين، وإنها سوف تظل معاصرة مثل اقتصاد يسير وفق خطة معينة ومثل رفاهية الدولة أيضاً.
3- الشهيد

كيف تأتى لرجل تعج في رأسه مثل هذه الأفكار أن يعين في مجلس هنري الثامن في السنة التالية لنشر كتاب المدينة الفاضلة؟ الراجح أن الملك على الرغم مما اشتهر به من علم، لم يستطع أن يتحمل قراءة الكتاب للاتينية ومات قبل أن ينشر بالإنجليزية. واحتفظ مور بخواطره المتطرفة لأصدقائه. وعرفه هنري مزيجاً نادراً من المقدرة والكمال، وقدره باعتباره صلة وثيقة بينه وبين مجلس العموم، ونصبه فارساً وعينه وكيلاً للخزانة (1521)، وعهد إليه بمهام دبلوماسية دقيقة.

وعارض مور السياسة الخارجية التي انتهجها ولزى وقاد بها إنجلترا للحرب مع شارل الخامس، إذ أن الإمبراطور في نظر مور لم يكن داهية خطيراً فحسب، بل كان أيضاً البطل المدافع عن العالم المسيحي ضد الأتراك. وعندما سقط ولزى نسي مور حتى وقتذاك أخلاقياته ليراجع - في المجلس النيابي - زلاته وأخطاءه التي أدت إلى السقوط. وكان، بصفته زعيماً للمعارضة، الخليفة المنطقي للكردينال، وظل يعمل رئيساً لوزراء (حاجباً) إنجلترا واحداً وثلاثين شهراً.

ولكن الملك كان الخليفة الحقيقي لولزى. فقد اكتشف هنري قوته ومقدرته وقال إنه قرر أنه يحرر نفسه من بابوية تكن له العداوة وتقف في طريقه وأن يسبغ صفة الشرعية على زواجه بامرأة أحبها وتستطيع أن تنجب له وريثاً للعرش.

ووجد مور نفسه لا يوجه السياسة بل يخدم الأهداف التي تسير في اتجاه مضاد لأعمق مشاعر الولاء التي يطويها بين جوانحه. وواسى نفسه بتأليف كتب ضد اللاهوت البروتستانتي وبمطاردة زعماء البروتستانت. واتفق في كتاب حوار يتعلق بالهرطقة (1528) وفي كتب متأخرة، مع فرديناند الثاني وكالفن والأمراء اللوثريين على ضرورة الوحدة الدينية لتحقيق القوة والسلام القوميين. وخشي انقسام الإنجليز إلى اثنتي عشرة أو مائة طائفة دينية. ومع أنه كان قد دافع عن ترجمة أرازموس للعهد الجديد إلى اللاتينية فإنه احتج ضد نسخة تندال الإنجليزية باعتبارها تحريفاً للنص بصورة تثبت وجهات النظر اللوثرية، وشعر بأن ترجمات الكتاب المقدس يجب ألا تتحول إلى أسلحة يشرعها فلاسفة الحانة. وعلى أية حال فإنه تمسك بأن الكنيسة كانت أداة ثمينة جداً للنظام والمواساة والإلهام، بحيث لا يجوز تمزيقها إرباً بالاستدلال المتسرع من مجادلين معجبين بأنفسهم.

وانتقل من هذه الحال إلى إحراق البروتستانت على المحرقة. أما الاتهام الذي وجه إليه بأنه أمر بجلد رجل في بيته بسبب الهرطقة(47) فإنه موضع خلاف، ويبدو أن رواية مور عن المذنب بعيدة عن اللاهوت "إذا نظر خلسة لأية امرأة وهي تركع" في الصلاة و "إذا تدلى من رأسها شيء في تذرعاته فإنه عند إذ يتسلل وراءها. يعمل على رفع كل ثيابها ويقذف بها فوق رأسها(48)". ويمكن أن يقال إنه في أحكام الإعدام الثلاثة التي أعلنت في أسقفيته إبان توليه منصب الحاجب، كان يستجيب فيها للقانون، الذي كانت الدولة في حاجة إليه ليكون العضد العلماني للمحاكم الكنسية(49)، ولكن ليس من شك في أنه وافق على عمليات الإحراق(50). ولم يسلم بوجود أي تناقض بين سلوكه والتسامح الكبير في الاختلافات الدينية الذي أبداه في مدينته الفاضلة، لأنه حتى هناك رفض التسامح مع الملحدين والمنكرين للخلود، وهؤلاء الهراطقة الذين لجئوا إلى العنف أو توسلوا بالطعن. ومع ذلك فقد ارتكب هو نفسه جريمة الطعن بمجادلته البروتستانت الإنجليز .

وجاء الوقت الذي رأى فيه مور أن هنري أخطر الهراطقة على الإطلاق. ورفض الموافقة على زواجه من آن بولين ورأى في التشريع المناهض لرجال الدين الذي صدر في 1529-32 اعتداء صارخاً على كنيسة يرى أنها بمثابة قاعدة لا غنى عنها للنظام الاجتماعي. وعندما تقاعد من المنصب وانسحب إلى خلوة بيته في تشلسي (1532) كان لا يزال في عنفوانه، في الرابعة والخمسين من عمره، ولكنه كان يرتاب في أنه لن يعيش طويلاً. وحاول أن يهيئ أسرته للمأساة بالحديث (هكذا يقول زوج ابنته وليام روبر) عن حياة الشهداء الأحرار وعن جلدهم العجيب وعما كابدوه من آلام وعن ميتتهم التي آثروا فيها أن يتعرضوا للعذاب على أن يسيئوا إلى

الرب، فأي شيء أسعد وأكثر بركة من أن يحب الله وأن يتعرض لفقد المال والسجن وضياع الأرض بل والحياة أيضاً. وكان فضلاً عن هذا يقول لهم معتصماً بعقيدته إذا أدرك أن أبناءه سوف يشجعونه على الترحيب بالموت في سبيل هدف سام فإنه سوف يجد في هذا من السلوى ما يملأ نفسه حبوراً ولهذا السبب يهرع إلى الموت مبتهجاً(52).

وتحقق كل ما توقعه، فقد اتهم عام 1534، ووجهت إليه تهمة بأنه كان على علم بمؤامرة تتعلق براهبة كنت، فأقر بأنه التقى بها، وآمن بأنها تتلقى الوحي، ولكنه أنكر أنه كان على علم بالمؤامرة. وتشفع كرومويل، وتفضل هنري بالصفح عنه. ولكن في السابع عشر من أبريل حكم على مور بالسجن في البرج لأنه رفض أن يحلف اليمين على قانون الوراثة، الذي رأى عندما قدم إليه أنه ينطوي على إنكار لسيادة البابا على الكنيسة في إنجلترا.

وكتبت إليه ابنته الأثيرة، مرجريت رسالة ترجوه فيها أن يحلف اليمين، فرد عليها بأن توسلها سبب له ألماً أشد مما سببه له سجنه. وزارته زوجته (الثانية) في البرج وانتهرته (كما يقول روبر) لعناده:

"إني لأعجب لك في هذا العام يا مستر مور، يا مَن كنت أحسبك حتى الآن رجلاً عاقلاً، لماذا تتظاهر بالحمق، فترقد هنا في هذا السجن الضيق القذر، وترضى بأن تحبس بين الفئران والجرذان، بينما في وسعك أن تكون حراً في الخارج، وتنعم بحظوة ورضا الملك ومجلسه، إذا فعلت فقط ما فعله كل الأساقفة وخير المتعلمين في هذه المملكة. وعندما أرى أن لك في تشلسي بيتاً جميلاً لائقاً، وأرى مكتبتك وكتبك وقاعة صورك وحديقتك وبستانك وكل الضروريات الأخرى، تبدو جميلة من حولك، حتى لتستطيع أن تسعد برفقتي، أنا زوجتك، ورفقة أولادك وأسرتك، فإني أتأمل باسم الرب ماذا تعني بمكوثك هنا وكلفك بإطالة أمده(53)". وبذلت محاولات أخرى لزحزحته عن موقفه، بيد أنه قاومها كلها بابتسامة.

وفي أول يوليه سنة 1535 قدم لمحاكمة أخيرة. فدافع عن نفسه جيداً ولكن حكم عليه بالإدانة لخيانة الدولة، وبينما كان عائداً وستمنستر إلى البرج اقتحمت ابنته مرجريت صفوف الحرس، واحتضنته وتقبلت بركته الأخيرة. وفي اليوم السابق لإعدامه أرسل قميصه المصنوع من الشعر إلى مرجريت ومعه رسالة "غداً نلتقي) لكي نذهب إلى الله... وداعاً يا ابنتي العزيزة، صلي من أجلي، وسوف أصلي من أجلكِ، ومن أجل جميع أصدقائكِ، لكي نلتقي في السماء مسرورين(54).

وعندما ارتقى منصة المقصلة (في 7 يوليو) ووجد أنها ضعيفة توشك أن تنهار قال لأحد التابعين: "أرجوك أيها الملازم أن تراعي أن أكون في أمان وأنا في أعلاها، وبالنسبة لنزولي دعني أحتال لنفسي(55)". وطلب منه الجلاد الصفح والمغفرة فاحتضنه مور. وكان هنري قد أصدر تعليمات بألا يسمح للسجين إلا ببضع كلمات. وطلب مور من المشاهدين أن يصلوا من أجله، وأن يشهدوا بأنه تعرض للموت في سبيل عقيدة الكنيسة الكاثوليكية المقدسة، ومن أجلها، ثم طلب منهم أن يصلوا من أجل الملك، وأن ينعم الله عليه بمشير صالح، واحتج بأنه مات وهو خادم صالح للملك، ولكنه خادم الرب أولاً(56)، وتلا المزمور الحادي والخمسين، ثم وضع رأسه على الكتلة، وسوى بعناية لحيته البيضاء الطويلة، حتى لا تتعرض لأي أذى وقال: "مما يؤسف له أنها سوف تقطع، وأنها لم ترتكب جريمة خيانة الدولة(57)"، وعلق رأسه على جسر لندن.

وسرت موجة من الرعب في إنجلترا التي أدركت وقتذاك قسوة الملك، التي أصر عليها، وسرت في أوربا قشعريرة من الفزع. وشعر أرازموس أنه هو نفسه قد مات لأنه، "ليس لنا إلا روح واحدة تتردد بيننا(58)" وقال إنه لم تعد لديه وقتذاك أي رغبة في الحياة. وبعد عام مات هو أيضاً. وعلم شارل الخامس بالحادث وقال للسفير الإنجليزي: "لو كنت سيداً لخادم مثل هذا توفرت لي - أنا نفسي - عن أعماله خبرة غير ضئيلة في هذه السنوات العديدة، فإني كنت أفضل أن أفقد أحسن مدينة في ممتلكاتي ولا افقد مثل هذا المستشار الجليل(59)". وصاغ البابا بولس الثالث نشرة بابوية بحرمان هنري الخارج على القانون من زمالة العالم المسيحي، وتحريم الصلوات الدينية في إنجلترا، ومنع كل تجارة معها، وحل كل الرعايا البريطانيين من إيمانهم بالولاء للملك، وأمرهم هم وكل الأمراء المسيحيين بخلعه فوراً. ولما كان كل من شارل وفرانسيس لا يرحبان بهذه الإجراءات، فإن البابا حجز صدور النشرة البابوية حتى عام 1538. وعندما أصدرها، منع شارل وفرانسيس نشرها في مملكتيهما، إذ لم يرضيا التصديق على الادعاءات البابوية بوجود سلطة له على الملوك. وكان فشل النشرة البابوية إيذاناً بضعف السلطة البابوية، وارتفاع سلطة الدولة القومي.

ورأى دين سزيفت أن مور رجل "يتمتع بأعظم الفضائل" - ولعله يستخدم الكلمة بمعناها القديم الخاص بالشجاعة - "بين الرجال الذين أنجبتهم هذه المملكة(60)". وفي الذكرى الأربعمائة لإعدام توماس مور وجون فيشر أدرجتهما كنيسة روما بين قديسيها.
4- حكاية ثلاث ملكات

فقد هنري ثلاثاً من ست ملكات في خلال ثلاثين شهراً من وفاة مور. فقد تلاشت حياة كاثرين في معتزلها الشمالي، وهي لا تزال تدعي أنها زوجة هنري الشرعية الوحيدة، وملكة إنجلترا صاحبة الحق الشرعي، واستمرت وصيفاتها في إطلاق هذا اللقب عليها. وفي عام 1535 نقلت إلى قلعة كيمبالتون قرب هنتنجدون، وهناك حبست نفسها في حجرة واحدة ولم تكن تتركها إلا لحضور القداس. واستقبلت زواراً و"عاملتهم في كرم زائد(61)" وحجزت ماري، وكانت وقتذاك في التاسعة عشرة في هاتفيلد التي لا تبعد إلا بمسيرة عشرين ميلاً، غير أنه لم يسمح للأم ولا لابنتها بأن ترى إحداهما الأخرى، ومنعا من الاتصال ببعضهما، ومع ذلك فإنهما تراسلا، وتعد رسائل كاثرين من أعظم الرسائل المؤثرة في الأدب بأسره. وعرض هنري عليهما دارين آخريين أفضل من داريهما، إذا اعترفتا بملكته الجديدة، فرفضتا. وعينت آن بولين عمتها مربية لماري وأمرتها بأن تحتفظ "بإبنة السفاح" وتلزمها حدها بـ "لكمة على الأذنين بين آن وآخر(62)". ومرضت كاثرين في ديسمبر سنة 1535 وكتبت وصيتها وبعثت برسالة للإمبراطور تطلب منه حماية ابنتها ووجهت وداعاً مؤثراً لـ "سيدها وزوجها العزيز" الملك.

"إن ساعة وفاتي تقترب ولا حيلة لي إلا أن أنصحك، بحكم ما أكنه لك من حب، بأن تعنى بطهارة روحك التي يجب أن تؤثرها على كل الاعتبارات في الدنيا، أو على أي جسد تشتهيه مهما كان، والذي من أجله قذفت بي في كوارث عديدة، وبنفسك في متاعب كثيرة، ولكني أغفر لك كل شيء، وأرجو الله أن يغفر لك أيضاً، وبالنسبة للباقي أوصيك خيراً بابنتنا ماري، وأتوسل إليك أن تكون لها أباً صالحاً... وأخيراً فإني أردد هذا القسم بأن عيني تريدان أن تبصراك فوق كل شيء وداعاً(63").

وبكى هنري عندما تسلم الرسالة، وعندما ماتت كاثرين (7 يناير سنة 1536) بالغة من العمر خمسين عاماً، أمر الحاشية بإعلان الحداد، فرفضت آن(64).

ولم تستطع آن أن تعرف أنها ستموت أيضاً في خلال خمسة شهور، ولكنها أدركت أنها خسرت الملك، فقد أدى طبعها الحاد وسورات غضبها المتسمة بالصلف، ومطالبها التي تبعث على الضجر، إلى إنهاك هنري الذي رأى أن لسانها السليط يتناقض مع رقة كاثرين(65). وفي اليوم الذي دفنت فيه كاثرين ولدت آن طفلاً ميتاً. وبدأ هنري الذي كان لا يزال يتلهف على ولد يفكر في طلاق آخر - أو في بطلان الزواج كما سوف يفعل، وروي عنه أنه قال إن زواجه الثاني تم تحت إغراء السحر، ومن ثم فإنه باطل(66). وبدأ من أكتوبر سنة 1535 يولي اهتماماً خاصاً بإحدى وصيفات آن وهي جين سيمور. وعندما أنبته آن أمرها بأن تتحمله في صبر، كما فعل مَن هن أفضل منها(67)، ولعله انتهج حيلاً قديمة عندما اتهمها بالخيانة. إذ يبدو إنه مما لا يصدق أن تخاطر حتى امرأة نزقة بعرشها بلحظة تبذل، ولكن يبدو أن الملك كان قد آمن في إخلاص بأنها مذنبة. وأشار إلى الشائعات الدائرة عن غرامياتها التي وصلت إلى مجلسه، فاستقصي الأمر وأبلغ الملك أنها اقترفت الزنا مع خمسة أعضاء من البلاط، هم سير وليام بريتون، وسير هنري نوريس، وسير فرانسيس وستون، ومارك سمينون، وأخيها اللورد روشوورد، وأرسل الرجال الخمسة إلى البرج وتبعتهم آن في اليوم الثاني من مايو سن 1536.

وكتب لها هنري يعللها بالآمال في الصفح عنها والرفق بها إذا كانت صادقة معه. فردت بأنها ليس لديها ما تعترف به. وزعم خدمها في السجن أنها أقرت بأنها تلقت عرضين بتبادل الحب مع نوريس ووستون، بيد أنها ادعت أنها صدمتهما. وفي يوم 11 مايو وبعد أن طلب من هيئة المحلفين الكبرى في مدلسكس أن تقوم بتحقيق محلي في الجرائم التي يقال إن الملكة قد ارتكبتها في تلك البلاد، أبلغت أنها وجدتها مذنبة لاقترافها الزنا مع جميع الرجال الخمسة المتهمين، وقدمت أسماء وتواريخ معينة(68). وفي يوم 12 مايو حوكم أربعة من هؤلاء الرجال في وستمنستر أمام هيئة محلفين، منهم والد آن الإيرل أف ولتشاير. واعترف سميتون أنه مذنب كما اتهم، أما الآخرون فدافعوا عن أنفسهم بأنهم غير مذنبين وحكم بإدانة الأربعة جميعاً. وفي يوم 15 مايو حوكمت آن هي وأخوها أمام جماعة مكونة من ستة وعشرين نبيلاً برئاسة الدوق أف نورفولك وهو عمها، ولكنه عدوها السياسي. وأكد الشقيقان أنهما بريئان، ولكن كل عضو من جماعة القضاة أعلن أنه مقتنع بأنهما مذنبان، وحكم عليهما بأن يحرقا أو يقطع رأساهما كما يتراءى للملك. وفي يوم 17 مايو شنق سميتون، أما الرجال الأربعة الآخرون فقد قطعت رءوسهم كما يليق برتبهم. وفي ذلك اليوم طلب وكلاء الملك من رئيس الأساقفة كرانمر أن يعلن عدم صحة الزواج بآن وأن اليزابث ابنة سفاح فأذعن. ولا تعرف الأسس التي بني عليها هذا الحكم، ولكن يظن أن زواج آن السابق المزعوم بلورد نورثمبرلاد أعلن وقتذاك أنه حقيقي.

وركعت آن عشية وفاتها أمام لادي كنجستون زوجة الحارس وطلبت منها منة أخيرة: أن تذهب وتركع أمام ماري، تتوسل إليها باسم آن أن تصفح عن الأخطاء التي ارتكبت في حقها، بسبب كبرياء امرأة تعسة غير متبصرة(69)، وطلبت أن ينفذ فيها حكم الإعدام فوراً يوم 19 مايو. والظاهر أنها استمدت شيئاً من العزاء من فكرة خطرت لها هي: "لقد سمعت أن الجلاد بارع جداً ولي عنق صغير" - ومن أجل ذلك ضحكت واقتيدت ظهر ذلك اليوم إلى منصة المقصلة، وطلبت من المشاهدين أن يصلوا من أجل الملك "لأنه ليس هناك أمير يبزه في الرقة والرأفة(70)"، ولم يكن هناك أحد يقطع بأنها مذنبة، ولكن قليلين أسفوا لسقوطها.

وفي يوم وفاتها منح كرانمر للملك محللاً بالزواج مرة أخرى في سعيه المتجدد للحصول على ولد، وفي اليوم التالي خطب هنري، جين سيمور سراً، وتزوجا يوم 30 مايو 1536، ونودي بها ملكة يوم 4 يونيه. وكانت سليلة أسرة ملكية، إذ أنها تنحدر من ادوارد الثالث، وكانت لها صلة قرابة من الدرجة الثالثة أو الرابعة بهنري، مما دعا إلى الحصول على محلل آخر من كرانمر المطيع. ولم تكن تتمتع بجمال خاص، بيد أنها أثرت في الجميع بذكائها ورقتها بل وتواضعها، ووصفها الكاردينال بول خصم هنري اللدود بأنها: "ممتلئة بالطيبة"، ولم تشجع محاولات الملك التقرب بها إبان حياة آن، ورفضت قبول هداياه، وأعادت رسائله دون أن تفتحها، وطلبت منه ألا يحدثها إلا في حضور آخرين(71).

وكان أول عمل تم بعد الزواج هو القيام بالتوفيق بين هنري وماري. وقام هنري به بطريقته الخاصة فأمر كرومويل بأن يبعث لها برسالة عنوانها: "إعتراف لادي ماي". وهي تعترف بالملك رئيساً أعلى للكنيسة في إنجلترا وتنكر "سلطة أسقف روما المزعومة"، وتعترف أن زواج هنري بكاثرين "من قبيل سفاح القربى وغير شرعي". وطلب من ماري أن توقع باسمها على كل جملة، ووقعت ولم تصفح عن نفسها قط. وبعد ثلاثة أسابيع أقبل الملك والملكة لرؤيتها وقدما إليها هدايا و 1000 كراون، وأطلق عليها مرة أخرى لقب أميرة، وفي يوم عيد الميلاد لعام 1536 استقبلت في البلاط، وهناك لابد أن شيئاً طيباً كان في هنري وفي "ماري الدموية" - لأنها كادت تتعلم في السنوات الأخيرة أن تحبه.

وعندما اجتمع المجلس النيابي مرة أخرى (18 يونيه سنة 1536) أصدر بناء على طلب الملك قانوناً جديداً بوراثة العرش وبمقتضاه أعلن أن اليزابث وماري على السواء بنتان غير شرعيتين، وتقرر أن يقتصر التاج على الذرية المتوقع أن تنجبها جين سيمور.

ومات الدوق آن رتشموند ابن هنري غير الشرعي، وتعلقت آمال الملك كلها في حمل جين. وهللت إنجلترا معه عندما ولدت "12 أكتوبر سنة 1537" ولداً هو أدوارد السادس في المستقبل. بيد أن جين المسكينة التي ارتبط بها الملك وقتذاك ارتباطاً عميقاً، بقدر ما سمحت روحه، التي تتركز حول ذاته، ماتت بعد ولادة ابنها بأثنى عشر يوم. وظل هنري رجلاً محطماً بعض الوقت. وعلى الرغم من أنه تزوج مرة أخرى ثلاث مرات فانه طلب عند وفاته أن يدفن بجانب المرأة التي ضحت بحياتها في سبيل حمل ابنه.

ماذا كانت ردود الفعل لدى الشعب الإنجليزي بالنسبة لأحداث هذا العهد المضطرب؟ من الصعب أن نقول شيئاً، فالدليل فيه تحامل ويكتنفه الغموض ومشتت. وروى شابويس عام 1533 أن رأي الكثيرين من الإنجليز أن "الملك رتشارد السابق لم يكن قط مكروهاً من شعبه إلى هذا الحد مثل هذا الملك(72)". وقد تعاطف الشعب بوجه عام مع رغبة هنري في الحصول على ولد، وأدان قسوته على كاثرين وماري ولم يذرف دموعاً على آن، ولكنه صدم صدمة عميقة بإعدام فيشر ومور. وكانت أغلبية الأمة السابقة لا تزال تدين بالكاثوليكية(73)، وكان رجال الأكليروس - بعد أن حققت الحكومة وقتذاك لنفسها موارد الأساقفة حديثي التعيين في السنة الأولى - يأملون في التوفيق مع روما. ولكن لم يجرؤ أحد على أن يرفع صوته بنقد الملك. وتلقى نقداً، ومن إنجليزي ولكن مع وجود القتال بينه وبين ذراع الملك.

كان ريجينالد بول ابن مرجريت بلانتا حينت كونتيسة سالزبوري، وهي نفسها ابنة أخ أدوارد الرابع ورتشارد الثالث. وقد تعلم على نفقة هنري، وكان يتسلم مرتباً من الملك قدره 500 كراون كل عام، والظاهر أنه كان يعد لتولي أعلى المناصب في الكنيسة الإنجيلية. ودرس في باريس وبادوا، وعاد إلى إنجلترا، وهو يتمتع بحظوة كبيرة لدى الملك، ولكن عندما أصر هنري على سماع رأيه في الطلاق، رد ريجينالد صراحة أنه لا يستطيع أن يوافق عليه ما لم يصدق عليه البابا. ولم يقطع هنري مرتب الشاب وسمح له بالعودة إلى القارة.

وهناك لبث بول اثنين وعشرين عاماً وارتفع في تقدير البابا باعتباره عالماً ومتضلعاً في اللاهوت، ونصب كاردينالاً وعمره ستة وثلاثون عاماً (1536). وألف في ذلك العام باللاتينية رسالة هجوم على هنري هي دفاع عن وحدة الكنيسة. ورأى أن الأخذ بسيادة هنري على الشئون الكنسية في إنجلترا يدعو إلى الانقسام بين أبناء الديانة المسيحية وتشعبهم إلى قوميات منوعة، وأن التصادم الناتج بين العقائد سيؤدي إلى فوضى اجتماعية وسياسية في أوربا. واتهم هنري بأنه مصاب بجنون حب الذات والحكم المطلق. ولام الأساقفة الإنجليز على تسليمهم بعبودية الكنيسة للدولة. وندد بالزواج من آن باعتباره زنا، وتنبأ (ولم يكن هذا من الحكمة إلى حد كبير) بأن النبلاء الإنجليز سوف يعدون اليزابث "ابنة سفاح ل***** إلى الأبد(74)"، وطالب شارل الخامس بألا يضيع أي ذخيرة حربية في حرب الأتراك وأن يحول القوات الإمبراطوريّة للقتال ضد ملك إنجلترا الكافر. كانت رسالة طعن شديدة، أتلفتها كبرياء الشباب في الفصاحة. واشار الكاردينال كونتاريني على المؤلف بالا ينشر الرسالة، بيد أن بول أصر، وأرسل نسخة إلى إنجلترا.

وعندما نصب بولس الثالث بول كاردينالاً اعتبر هنري هذا عملاً من أعمل الحرب. وتخلى الملك عن كل فكرة تدور حول المصالحة، واتفق مع كرومويل على أن الأديار في إنجلترا يجب أن تحل، وأن تضم أملاكها إلى التاج.
هنري الثامن والأديار

1535 - 47

1- تقنية الحل

كان هنري عام 1535 مشغولاً جداً بالحب والحرب فلم يستطع أن يلعب دور البابا جملة أو تفصيلاً، فعين كرومويل الذي يؤمن بفلسفة اللاأدرية(1) "نائباً للملك في كل قضائه الكنسي". ووجه كرومويل وقتذاك السياسة الخارجية التشريع الوطني والسلطة القضائية العليا والمجلس الخاص والمخابرات وقاعة النجم وكنيسة إنجلترا، ولم يكن لولزى في أوج مجده قط أصابع طويلة متشبثة بفطائر عضة بهذه الكثرة. وكان يراقب أيضاً كل الطباعة والنشر وأقنع الملك بأن يحرم طبع الكتب أو بيعها أو استيرادها إلا بعد الحصول على موافقة وكلاء التاج، وأمر بنشر الكتب المناهضة للبابوية على نفقة الحكومة.

وقام جواسيس كرومويل، وهم لا يحصون، بإبلاغ كرومويل بكل حركات أو بيانات المعارضين لهنري أو له. وكانت أية إشارة تدل على الإشفاق على فيشر أو مور وأي دعابة تدور حول الملك يمكن أن تؤدي إلى محاكمة سرية وسجن طويل(2)، وكان التنبؤ بوفاة الملك يعرض المرء لفقد حياته(3).

وقام كرومويل، في بعض القضايا الخاصة بدور ممثل الاتهام والمحلفين والقاضي ليصل إلى نتائج محققة. وكان كل واحد في إنجلترا يخشاه ويكرهه.

وكانت أكبر معضلة واجهها هي أن هنري كان مفلساً، على الرغم من سلطانه العظيم. وكان الملك يتوق إلى زيادة حجم البحرية والإكثار من مرافئه وموانيه أو تحسينها، وكانت حاشيته تتجاوز الحدود ونفقاته الشخصية باهظة، ونظام كرومويل في الحكم يحتاج إلى نهر عريض من الأموال. فكيف يجمع المال؟ كانت الضرائب مرتفعة إلى الحد الذي تقابل فيه بمقاومة تجعل الجباية تكلف من النفقات أكثر مما تدر من الربح، وكان الأساقفة قد استنزفوا أبرشياتهم لتهدئة سورة الملك، ولم يكن هناك ذهب يتدفق من أمريكا، كما يتدفق يومياً لإغاثة الإمبراطور عدو إنجلترا. ومع ذلك كانت في إنجلترا مؤسسة واحدة ثرية وموضع ريبة وعاجزة لا تجد مَن يدافع عنها وهي الأديار. كانت موضع ريبة لأن ولاءها الأخير كان للبابا، واشتراكها في قانون السيادة يعد من قبيل المداهنة وغير تام، وكانت في نظر الحكومة هيئة أجنبية ملزمة بتأييد أي حركة كاثوليكية ضد الملك، وكانت عاجزة لأنها في كثير من الحالات كفت عن القيام بوظائفها التقليدية في مجالات التعليم والضيافة والبر، وكانت لا تجد مَن يدافع عنها لأن الأساقفة استاءوا من إعفائهم من المراقبة الأسقفية، ولأن الأشراف، وقد أفقرتهم الحرب الأهلية، طمعوا في ثروتها، ولأن طبقة رجال الأعمال كانوا يرون في الرهبان والاخوة من الرهبان متلفين كسالى للموارد الطبيعية، ولأن القسم الأكبر من العامة، ومنهم كثير من الكثالكة الصالحين، لم يعودوا يؤمنون بفاعلية المخلفات التي كان الرهبان يعرضونها، أو بالقداسات التي كان يقيمها الرهبان للموتى، إذا دفع لهم الأجر. وكانت هناك سوابق رائعة لإغلاق الأديار، فقد أغلقها زونجلى في زيورخ والأمراء اللوثريون في ألمانيا وولزى في إنجلترا. وكان المجلس النيابي قد صوت (1533) بالموافقة على تخويل الحكومة سلطة التفتيش على الأديار وإجبارها على تقويم اعوجاجها.

وأرسل كرومويل في صيف عام 1535 ثالوثاً من "المفتشين" كل منهم معه عدد كبير من الموظفين لفحص حالة أديار الرهبان والراهبات في إنجلترا من النواحي البدنية والأخلاقية والمالية وتقديم تقرير عنها، وكذلك للتفتيش على الجامعات والكراسي الأسقفية كإجراء مقبول. وكان هؤلاء "المفتشون" شباناً متهورين، "من المرجح أن يقوموا بتنفيذ عملهم في إتقان أكثر مما يتوسلون في تنفيذه بالرقة(4)"، ولم يكونوا في عصمة من قبول "الهدايا"(5)، وكان "الهدف من مهمتهم الحصول على قضية للتاج، ولعلهم لجئوا إلى كل الوسائل المخولة لهم لحث الرهبان والراهبات على إدانة أنفسهم(6)". ولم يكن من الصعب أن يعثر في 600 دير في إنجلترا على عدد مقنع ويدل على وجود انحرافات جنسية - وأحياناً انحرافات جنسية شاذة(7) - ونظام متحلل واستغلال لمخلفات زائفة هدفه اكتناز المال، وبيع أوعية مقدسة أو مجوهرات مقدسة لإضافة المزيد إلى ثروة الدير، وما فيه من ضروب الراحة(8)، وإهمال الشعيرة أو الضيافة أو البر(9). ولكن التقارير أغفلت عادة ذكر نسبة الرهبان الآثمين إلى الرهبان الجديرين بالتقدير، والتمييز بوضوح بين الثرثرة والدليل(10).

وقدم كرومويل للمجلس النيابي الذي انعقد في 3 فبراير عام 1536 "كتاباً أسود"، ضاع الآن، يكشف عن الأخطاء في الأديار، وينصح، باعتدال استراتيجي، بإغلاق أديار الرهبان والراهبات التي يبلغ دخلها 200 جنيه (20.000 دولار) أو أقل في العام. فوافق المجلس النيابي الذي كان معظم أعضائه قد اختيروا بواسطة معاوني كرومويل(11). وعين الملك محكمة المزايدات لكي تتسلم لصالح خزانة الملك أموال وموارد هذه الأديار الصغرى البالغ عددها 376. وأطلق سراح ألفي راهب ليذهبوا لدور أخرى أو يخرجوا إلى العالم - وفي الحالة الأخيرة كانوا يمنحون مبلغاً صغيراً أو معاشاً يسد رمقهم إلى أن يجدوا عملاً. ولم يكن بين 130 دير للراهبات سوى 18 ديراً يتجاوز دخلها 200 جنيه، ولكن لم يغلق منها وقتذاك إلا نصفها.

وقامت في الشمال ثورة ثلاثية قطعت دراما الحل. وكما نشأت المسيحية في المُدن ووصلت إلى القرويين - الوثنيين - فكذلك نهض الإصلاح الديني في المُدن بسويسرة وألمانيا وإنجلترا، ولقي مقاومة دامت طويلاً في الريف. وتقلص ظل البروتستانتية في إنجلترا وسكوتلندة كلما ابتعدت المسافة من لندن أو أدنبرة، ووصلت متأخرة إلى ويلز وشمالي إنجلترا، ولقيت ترحيباً ضئيلاً في إيرلندة. وفي المراكز الشمالية بإنجلترا أشعل سلب الأديار الصغرى نار الاستياء التي كانت مهيأة للاشتعال منذ وقت طويل بسبب الضرائب المتزايدة والحكم الملكي المطلق على رجال الأكليروس والتحريض الخفي للقساوسة. وانضم الرهبان، الذين جردوا من أموالهم ووجدوا أن من الصعب عليهم الحصول على مرتباتهم أو على عمل، إلى المتعطلين العديدين المكتئبين، أما الراهبات اللاتي جردن من أملاكهن واللاتي كن يتجولن من مأوى إلى مأوى فقد أثرن غضب الجمهور ضد الحكومة. وألهب معاونو كرومويل "نار" الغضب بتزيين أنفسهم بأسلاب المعابد بالأديار وصناعة صديريات من القباء، وسروج من صدرات القساوسة وقرابات خناجر من محافظ المخلفات(12).

وفي يوم 2 أكتوبر سنة 1536 هاجم جمهور في لوث مفتشاً، كان قد أغلق تواً ديراً للراهبات في لجبورن المجاورة لها، وتم الاستيلاء على سجلاته وأوراق اعتماده وأحرقت وصوب إلى صدره سيف وأكره على أن يحلف يمين الولاء للعامة. وحلف كل مَن كان حاضراً بين الجمهور يميناً بأن يكون مخلصاً للملك والكنيسة الرومانية المقدسة. وفي اليوم التالي احتشد جيش ثائر في كايستور على مسيرة بضعة أميال، حرضه قساوسة ورهبان لا مأوى لهم، واضطر أعيان الجهة - ومنهم مَن فعل ذلك باختياره - إلى الانضمام لجيش الثوار. وفي اليوم نفسه تجمع حشد كبير من القرويين في هورن كاسل، وهي مدينة أخرى تقع في لنكولنشاير. واتهم حاجب أسقف لنكولن بأنه عميل لكرومويل، وانتزع من فراشه، وضرب حتى الموت بالهراوات. وصمم الثوار علماً يصور محراثاً وقدحاً وبوقاً، و"الكلمات الخمس الأخيرة" للمسيح، واستخلصوا مطالب أرسلت إلى الملك: يجب أن تعاد الأديار وتخفف الضرائب أو تيسر، وألا يدع رجال الأكليروس ضرائب العشور أو موارد السنة الأولى من التعيين إلى التاج، وأن يبعد "الدم الخبيث" (أي كرومويل) من المجلس الخاص، وأن يقال الأساقفة الهراطقة - وبخاصة كرانمر ولاتيمر - ويعاقبون.

وانضم إلى الثورة مجندون من الأقاليم الشمالية والشرقية. واحتشد في لنكولن حوالي 60.000 رجل، ولبثوا يرقبون رد الملك.

وكان رده عنيفاً لا يقبل التفاهم. واتهم الثوار بإنكار جميل حاكم كريم، وأصر على أن إغلاق الأديار الصغرى إنما تم بإرادة الأمة التي عبرت عنها عن طريق المجلس النيابي، وأمر الثائرين بتسليم زعمائهم، وأن يتفرقوا وينصرفوا إلى بيوتهم، وإلا تعرضوا لعقوبة الإعدام ومصادرة أموالهم. وفي الوقت نفسه أمر هنري أعوانه بحشد قواتهم والزحف بقيادة ايرل أف سفولك لمساعدة اللورد شروسبري، الذي كان قد نظم تابعيه لصد الهجوم، وكتب رسائل خاصة إلى الأشراف القلائل الذين كانوا قد انضموا إلى الثورة. وعندما أدرك هؤلاء وقتذاك أن الملك لا يمكن إرهابه، وأن الثوار المسلحين تسليحاً سيئاً سوف يقهرون وشيكاً، اقتنع الكثيرون منهم بالعودة إلى قراهم، وسرعان ما ذاب جيش الثوار فوق احتجاجات القساوسة. وسلمت لوث خمسة عشر زعيماً وأسر مائة آخرون، وأعلن صدور عفو ملكي عن الباقين. وأخذ الأسرى إلى لندن والبرج وشنق ثلاثة وثلاثون، منهم سبعة قساوسة، وأربعة عشر راهباً، وأطلق سراح الباقين على مهل(13).

وفي غضون ذلك كانت هناك فتنة أشد خطورة قد نمت في يوركشاير. وجد رتشارد آسك، وهو محام شاب، نفسه متورطاً بدنياً وعاطفياً في الحركة. وأفزع محام آخر فتولى قيادة فرقة ثائرة في بفرلي، وأعار اللورد دارسي أف تمبلهرست، وهو كاثوليكي متحمس، الثورة تأييده الخفي، وانضم اثنان من أسرة برسي، وحذا حذوهم معظم أشراف الشمال.

وفي 15 أكتوبر سنة 1536 ضرب الجيش الرئيسي، المكون من 9.000 رجل، الحصار على يورك. وأجبر المواطنون في المدينة العمدة على فتح الأبواب. ومنع آسك رجاله من نهب المدينة، وحافظ بوجه عام على نظام ملحوظ في جيشه غير المدرب. وأعلن إعادة فتح الأديار، وعاد إليها الرهبان في اغتباط، وأدخلوا السرور على أفئدة الأتقياء بحرارة ترانيمهم الجديدة. وتقدم آسك واستولى على بومفريه، واستولى ستابلتون على هل دون إراقة دماء. وانضم آخرون إلى رجال لنكولنشير في تقديم المطالب وأرسلوا للملك: "أن يقمع كل الهراطقة وكتبهم، ويستأنف الروابط الكنسية مع روما، وأن يسبغ صفة الشرعية على ماري، ويعزل مفتشي كرومويل ويعاقبهم، ويلغي كل تسوير للأراضي العامة منذ عام 1489.

كانت هذه أحرج لحظة في عهد هنري. كان نصف البلاد يحمل السلاح ضد سياسته، وكانت إيرلندة في ثورة، وكان بولس الثالث والكاردينال بول يحثان فرانسيس الأول وشارل الخامس على غزو إنجلترا وخلع الملك. واستجمع قواه المتخاذلة، وأرسل أوامر إلى كل الجهات بحشد فرق موالية، وفي الوقت نفسه أصدر تعليمات للدوق أف نورفولك بأن يتغفل الزعماء الثائرين بإجراء مفاوضات. ورتب الدوق مداولة مع آسك وعدة نبلاء وأغراهم بوعد منه بالعفو عنهم جميعاً. ودعا هنري آسك إلى لقاء شخصي ومنحه جواز أمان. فجاء إلى الملك وافتتن بعبير الملكية، وعاد وديعاً، ولم يلحقه أذى إلى يوركشاير (يناير سنة 1537)، وعلى أية حال فإنه قبض عليه هناك وأرسل سجيناً إلى لندن. وانقطعت صلة الجيش الثائر بقواده فانشعب إلى فرق غاضبة وساده اضطراب همجي، وتضاعفت حالات التمرد. وبينما كانت فرق الملك المتحدة تقترب اختفى الجيش الثائر كسراب تبدد (فبراير سنة 1537).

وعندما استوثق هنري من انهيار الثورة والغزو معاً أنكر وعد نورفولك بالعفو العام، وأمر بالقبض على مَن يمكن العثور عليه من الزعماء مثيري الفتنة، وأعدم الكثيرون منهم ومن ضمنهم آسك، وكتب إلى الدوق يقول: "يسرنا أن نراك قبل أن نطوي علمنا مرة أخرى أن تقوم بإعدام مروع لعدد لا بأس به من السكان في كل مدينة وقرية ومحلة تكون قد أجرمت، حتى يكون في هذا عبرة لكل مَن تسول له نفسه أن يقوم بمثل ذلك في المستقبل... ومادامت هذه الاضطرابات كلها قد نتجت من تحريض الرهبان والكنسيين في هذه البقاع ومؤامراتهم الغادرة، فإننا نريد منك في هذه الربوع التي تأمر فيها، ودافعوا عن بيوتهم بالقوة... أن تأمر بلا رحمة أو شفقة بشد وثاق هؤلاء الرهبان رجال الكنيسة الذين ثبت خطؤهم بأية وسيلة دون تأخير أو اجراء رسمي(14).

وعندما رأى كرومويل ما لحق بالمعارضة من رعب شديد مضى قدماً في إغلاق الدور الدينية الباقية في إنجلترا. وحلت يوماً كل أديار الرهبان والراهبات التي كانت قد انضمت إلى الثورة وصودرت ممتلكاتها لمصلحة الدولة. وامتد مجال الزيارات التفتيشية، وأثمرت تقارير عن الخروج على النظام والفجر والخيانة والانحلال. وتوقع كثير من الرهبان سلفاً إغلاق الأديار فباعوا المخلفات والنفائس التي في دورهم إلى أعلى مزايد، وبلغ ثمن إصبع لسانت اندرو أربعين جنيهاً(15). وأدين الرهبان في والسنجهام بتزييف معجزات، وألقي تمثال العذراء، الذي كان يدر عليهم أرباحاً، في النار. وهدم ضريح سانت توماس بيكيت التاريخي في كانتربري، وأعلن هنري الثامن أنه في انتصاره على هنري الثاني لم يكن قديساً حقاً، وأحرقت المخلفات التي أساءت إلى كوليه، وتفكه بها أرازموس، ونقلت التحف الثمينة التي وهبها الحجاج الورعون في خلال 250 عاماً إلى الخزانة الملكية (1538)، ولبس هنري بعد ذلك في إبهامه خاتماً محلى بياقوتة كبيرة أخذت من الضريح. وسعت بعض الأديار إلى خداع القدر بإرسال المال والهدايا لكرومويل، وقبل كرومويل كل شيء وأغلقها جميعاً. وما أن حل عام 1540 حتى كانت كل الأديار وكل الأملاك الديرية ما عدا كنائس دير الكاتدرائية قد انتقلت إلى الملك.

وعلى الجملة فقد أغلق 578 ديراً للرهبان وحوالي 139 ديراً للراهبات، ونشئت 6521 راهباً أو أخاً و 1560 راهبة. وتخلى حوالي خمسين راهباً وراهبتان من هؤلاء عن الرداء الديني، بيد أن الكثيرين توسلوا أن يسمح لهم بمتابعة حياتهم التي ألفوها في الدير في مكان آخر(16)، وفقد حوالي 12.000 شخص، كانت الدور الدينية تستخدمهم فيما مضى أو كانوا يعتمدون عليها في معيشتهم، وظائفهم أو مخصصاتهم من الصدقات، وكانت الأراضي والمباني المصادرة تدر دخلاً سنوياً قدره حوالي 200.000 جنيه (20.000.000 دولار) غير أن عقود البيع التي أبرمت سريعاً خفضت الدخل السنوي للأملاك بعد التأميم إلى حوالي 37.000 جنيه، ولابد أن يضاف إلى هذا المبلغ 85.000 جنيه من المعدن الثمين المصادر، ومن ثم قد يبلغ ما حصل عليه هنري إبان حياته من جملة الأسلاب والدخل حوالي 1.423.500 جنيه(17).

وكان الملك سخياً بهذا الأسلوب. فقد وهب بعض هذه الممتلكات - ومعظمها باعه بأسعار بعد مساومة - لنبلاء صغار أو مواطنين أحرار كبار - تجار أو محامين - ممن أيدوه أو وجهوا سياسته. وتسلم كرومويل أو اشترى ستة أديار لها دخل سنوي قدره 2239 جنيهاً، وتسلم ابن أخيه سير رتشارد كرومويل سبعة أديار تدر دخلاً قدره 2552 جنيهاً(18) وكانت هذه أصل الثروة التي جعلت من أوليفر الحفيد الثاني لرتشارد رجلاً من رجال الثروة المادية والنفوذ في القرن التالي. وذهبت بعض الأسلاب لبناء سفن وحصون وموان وبعضها ساعد في تمويل الحرب وذهب بعضها إلى القصور الملكية في وستمنستر وتشلسي وهامبتون كورت، وفقد الملك بعضها في لعب النرد(19). وأعيدت ستة أديار إلى كنيسة الأنجليكانية لتستخدم كراسي أسقفية، وخصص مبلغ صغير لمواصلة أعمال البر العاجلة التي كان يقدمها فيما سبق الرهبان والراهبات، وأصبحت الأرستقراطية الجديدة التي نشأت بفضل هدايا هنري وعقود البيع التي أبرمها، عضداً قوياً للعرش التيودوري، ودعامة للمصلحة الاقتصادية ضد أي عودة للكاثوليكية. وقد أبادت الأرستقراطية الإقطاعية القديمة نفسها، أما الأرستقراطية الجديدة، التي تأصلت جذورها في التجارة والصناعة، فإنها غيرت طبيعة الأشراف من السلبية المحافظة إلى عمل إيجابي، وصبت دماً جديداً وطاقة جديدة في الطبقات العليا بإنجلترا. ولعل هذا - والأسلوب كان مصدر خصب العهد الإليزبيثي.

وكانت نتائج التحلل معقدة بلا حدود. ولعل الرهبان المتحررين قد أسهموا بدور متواضع أو لم يسهموا في زيادة عدد سكان إنجلترا من حوالي 2.500.000 عام 1485 إلى حوالي 4.000.000 عام 1547(20) وساعدت زيادة مؤقتة في عدد المتعطلين على تخفيض أجور الطبقات الدنيا جيلاً كاملاً، وأثبت ملاّك الأراضي الجدد أنهم أكثر جشعاً من القدامى(21).

وكانت النتيجة من الناحية السياسية هي زيادة سلطة الملكية، وفقدت الكنيسة آخر معقل للمقاومة، وكانت النتائج من الناحية الأخلاقية ازدياد الجرائم والخصاصة والتسول وتقلص الموارد اللازمة لأعمال البر(22). وأغلق ما يزيد على مائة مستشفى تديرها الأديار، وقامت السلطات البلدية بتزويد قلة منها بالحاجة. أما المبالغ التي أوصت بها الأرواح الخائفة أو الموقرة للقساوسة، كتأمين ضد نار جهنم أو نار المطهر، فقد صودرت على أساس أن هناك أملاً في ألا يلحق الموتى أذى، وانتزع الملك(23) 2374 من الهبات الموقوفة على إقامة قداسات للأرواح. وكانت أقسى النتائج في مجال التعليم. فقد كانت أديار الراهبات تهيئ مدارس للبنات، وكانت الأديار والقساوسة المشرفون على الهبات المخصصة للقداسات قد حافظت على مدارس وتسعين كلية للبنين، وحلت كل هذه المؤسسات.

وبعد أن ذكرنا الحقائق بإنصاف لا يشوبه إلا تحامل يصدر عن اللاوعي، فإنه يسمح للمؤرخ بإضافة تعليق افتراضي يعترف به. إن جشع هنري وجور كرومويل هما اللذان ساعدا في مدى جيل على تخفيض حتمي في عدد الأديار الإنجليزية وإضعاف نفوذها. وكانت هذه الأديار قد قامت يوماً بعمل يدعوا للإعجاب في مجالات التعليم والبر والعناية بالمرضى في المستشفيات، بيد أن إسباغ الصفة العلمانية على هذه الوظائف كان يسير قدماً في سائر أنحاء غربي أوربا، حتى في المناطق التي كانت تغلب عليها الكاثوليكية. وكان ضعف الغيرة الدينية والنزعات الدنيوية الأخرى تحتجز تدفق المترهبين على المؤسسات الديرية. وانخفض عدد هؤلاء المترهبين إلى حد بدا أنه لا يتناسب مع فخامة مبانيهم والدخل الذي تدره أراضيهم. ومما يؤسف له أن الموقف قوبل بالاندفاع الفجائي الفظ من كرومويل، بدلاً من خطة ولزى الإنسانية، والأسلم، وتنحصر في تحويل المزيد من الأديار إلى كليات.

وكانت الوسيلة التي لجأ إليها هنري هنا، كما فعل من قبل في سعيه للحصول على ابن، أسوأ من الهدف الذي ينشده. لم يكن هنا بأس في وضع نهاية، إلى حد ما، لاستغلال ورع ساذج بغش يتظاهر بالورع. وإنا لنعرب عن عظيم أسفنا لما حدث للراهبات اللاتي كن في الغالب الأعم يشقين قياماً بالواجب في إقامة الصلوات والتدريس وأعمال البر، بل إن المرء الذي لا يستطيع أن يشاركهن إيمانهن الذي لا يتزعزع يجب أن يكون شاكراً لأن لهن مثيلات يمددن يد العون مرة أخرى، بإخلاص يدوم مدى الحياة، ويلبين حاجة المرضى والفقراء.
يتبع.......

 
 

 

عرض البوم صور معتصم غزال   رد مع اقتباس

قديم 25-01-12, 01:08 AM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2011
العضوية: 224965
المشاركات: 17
الجنس ذكر
معدل التقييم: معتصم غزال عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
معتصم غزال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : معتصم غزال المنتدى : التاريخ والاساطير
افتراضي

 

2- الإيرلندي العنيد

1300-1558

برر الملوك الإنجليز سيطرتهم على إيرلندة على أساس أن قوة معادية في القارة يمكن في أي لحظة أن تستخدم هذه الجزيرة المخضرة للقيام بهجوم جانبي على إنجلترا، وأصبح هذا الاعتبار، بعد حب السلطة، أشد قوة عندما فشلت إنجلترا البروتستانتية في كسب إيرلندة إلى صفها من الكنيسة الرومانية. وكان الشعب الإيرلندي، الذي يعشق البطولة والفوضى والمشهور بالرجولة والعنف، والموهبة الشاعرية، والذي يفتقر إلى النضج السياسي، يقاوم كل يوم خضوعه لدم أجنبي ولغة دخيلة.

وازدادت سيئات الاحتلال الإنجليزي. وعاد كثير من أملاك الأراضي الإنجلو-إيرلنديين إلى إنجلترا في عهد إدوارد الثالث، ليعيشوا هناك في يسر على ما تدره إيجارات الأراضي الإيرلندية، وعلى الرغم من أن المجلس النيابي الإنجليزي ندد مراراً بهذا العمل فإن "ملكية الأرض الغائبة" ازدادت خلال ثلاثة قرون، لتصبح حافزاً أكبر للثورات الإيرلندية. ومال الإنجليز الذين ظلوا في إيرلندة إلى الزواج من فتيات إيرلنديات، وامتزجوا تدريجياً بالدم الإيرلندي، الذي يسيطر عليه المقيمون الإنجليز، ويغلب عليه النفوذ الإنجليزي، تواقاً إلى سد هذه البالوعة السلالية فأجاز قانون كلكتى الشهير (1366) الذي منع، مع بعض النصوص السخية التي لا تخلو من حكمة، الزواج المختلط أو التربيب أو أي علاقات ألفة أخرى بين الإنجليز والإيرلنديين في إيرلندة وأي حديث بالإيرلندية أو تقليد للعادات الإيرلندية أو ارتداء الزي الإيرلندي بواسطة الإنجليز، وإلا تعرضوا للسجن وخسارة الممتلكات، ولم يكن يحق لإيرلندي آنذاك أن يستقبل في أي منظمة دينية إنجليزية، ولا لمنشدين أو قصاصين إيرلنديين أن يدخلوا بيوتاً إنجليزية(24). وفشل هذا الحظر فقد تألقت الورود الإيرلندية، وفاقت سلطة القانون واستمر الاندماج السلالي في تلك المناطق الضيقة مارش أو بوردر أو بيل التي لم يجرؤ الإنجليز على السكنى إلا فيها وحدها .

وكان يمكن لإيرلندة إبان حروب الوردتين أن تطرد الإنجليز، لو أن الزعماء الإيرلنديين اتحدوا، ولكنهم آثروا النزاع الأخوي، وشجعهم أحياناً على هذا الذهب الإنجليزي. ووطد هنري السابع من جديد السلطة الإنجليزية في منطقة بيل، ودفع نائبه الإقطاعي سير إدوارد بويننجز في المجلس النيابي الإيرلندي "قانون بويننج" المذل (1494)، ونص على أنه ليس للمجلس النيابي الإيرلندي أن ينعقد في المستقبل حتى تكون كل مشروعات القوانين المقدمة له قد وافق عليها الملك والمجلس الخاص في إنجلترا.

وأصبحت الحكومة الإنجليزية في إيرلندة، بعد أن أضعفت إلى هذا الحد، أشد الحكومات في العالم المسيحي عجزاً وجوراً وفساداً. وكانت حيلتها الأثيرة هي تعيين واحد من ستين زعيماً إيرلندياً كمندوب لنائب الملك، وتفويضه في شراء أو إخضاع الباقين. وحقق جيرالد إيرل كلدار الثامن، الذي عين على هذا النحو، شيئاً من التقدم في هذا الاتجاه وخفف من حدة التمرد بين القبائل، مما ساعد المظالم الإنجليزية على إبقاء إيرلندة ضعيفة وفقيرة. وعند وفاته (1513) عين ابنه جيرالد فيتز جيرالد ليخلف كنائب. وكان لهذا الإيرل التاسع لكلدار سير حياة جارية نمطية للوردات الإيرلنديين. واتهم بالتآمر مع إيرل أف دزموند بالسماح لقوة فرنسية بالنزول إلى أرض إيرلندية، فاستدعي إلى إنجلترا وحكم عليه بالسجن في البرج، وأطلق هنري الثامن سراحه، وعينه من جديد نائباً لدى وعده بمساعدة القضية الإنجليزية بإخلاص. وسرعان ما اتهم بسوء الحكم وأحضر إلى إنجلترا مرة أخرى وأرسل من جديد إلى البرج حيث مات خلال عام (1534)، وأعلن ابنه المخلص "سلكن توماس" (توماس الحريري) فتزجيرالد على الفور الحرب على الإنجليز، وحارب بشجاعة وتهور أربعة عشر شهراً وقهر وشنق (1537).

وفي هذا الوقت كان هنري الثامن قد أكمل إجراءات انفصاله عن الكنيسة الرومانية. وأمر المجلس النيابي بقحة تميز بها أن يعترف به رئيساً للكنيسة في إيرلندة، وكذلك في إنجلترا، فأذعن، وطلب من جميع الموظفين الحكوميين في إيرلندة أن يحلفوا يميناً بقبول سيادته الكنسية، وفرض أن تدفع كل ضرائب العشور الكنسية مذ ذاك إلى الملك. ودخل المصلحون الدينيون إلى الكنائس في منطقة النفوذ الإنجليزي في إيرلندة وحطموا المخلفات والتماثيل الدينية. وأغلقت الأديار جميعاً ما عدا قلة في مكان قصي، واستولت الحكومة على ممتلكاتها، وطرد رهبانها على أن يمنحوا معاشاً إذا لم يثيروا ضجيجاً، ووزعت بعض الأسلاب على الزعماء الإيرلنديين وقبل معظمهم، بعد أن رشوا على هذا النحو، ألقاب نبلاء من الملك الإنجليزي، واعترفوا بسيادته الدينية وأنكروا قسمهم للبابا (1539)(25). وألغي نظام العشيرة، وأعلن أن إيرلندة مملكة، وهنري ملك لها (1541).

كان هنري ولكنه فان، ومات في خلال خمس سنوات من انتصاره. وبقيت الكاثوليكية في إيرلندة. واعتبر الزعماء مروقهم حادثاً عابراً في السياسة وظلوا كثالكة (كما فعل هنري)، اللهم إلا فيما يختص بتجاهل البابا، وظل القساوسة الذين أيدوهم في خدماتهم الدينية وتقبلوها محافظين تماماً في العقيدة. ولم تتعرض عقيدة الشعب لأي تغيير أو بالحري اكتسبت حيوية جديدة، لأنها حافظت على عزة القومية في وجه ملك ينزع إلى الانشقاق. وفيما بعد أمام ملكة بروتستانتية. وأصبح الكفاح من أجل الحرية أشد مما كان عليه من قبل، لأنه كان وقتذاك يدور لصالح الجسد والروح.
3- ملك من قمة رأسه إلى أخمص قدميه

كان هنري في عام 1540 أعظم ملك يحكم حكماً مطلقاً عرفته إنجلترا، وكان النبلاء النورمنديون القدامى الذين كبحوا جماح وليام الفاتح، يخضعون صاغرين في جبن، ونسوا تقريباً العهد الأعظم (الماجناكارتا) الذي نص على امتيازاتهم. أما النبلاء الجدد، الذين أثروا من التجارة وأنعم عليهم الملك، فقد وقفوا حاجزاً أمام الثورات الأرستقراطية أو الدينية. وأذعن له مجلس العموم الذي كان يوماً الحامي الغيور للحريات الإنجليزية، وكان وكلاء الملك وقتذاك قد اختاروه بعناية، وخول تقريباً سلطات لم يسبق لها مثيل: الحق في مصادرة الأملاك وتعيين مَن يشاء خلفاً له، وتجديد العقيدة المحافظة والهرطقة، وإرسال رجال للإعدام بعد محاكمة مزيفة، وإصدار إعلانات لها سلطة القوانين الصادرة من المجلس النيابي "كانت روح الاستقلال الإنجليزية في عهد هنري تشتعل خافتة في وقبها وحب الحرية غدا فاتراً(26)". وقبل الشعب الإنجليزي هذا الحكم المطلق بسبب الخوف من ناحية، ولأنه خيل إليه أنه البديل لحرب ورد أخرى. كان النظام أهم من الحرية.

وأغرت نفس البديلات الإنجليز بتحمل سيادة هنري على الشئون الكنسية، وعندما رأى هنري أن الكثالكة والبروتستانت على استعداد لأن يمسك كل منهما بخناق الآخر، ورأى أن المواطنين الكاثوليك والسفراء والحكام يتآمرون ضده إلى حد الغزو تقريباً، اعتقد أن النظام لا يمكن أن يستتب في الحياة الدينية في إنجلترا إلا بتحديد الملك للعقيدة والشعيرة، وقبل ضمناً حالة السلطة في الدين التي كانت من صنع الكنيسة. وحاول أن يملي مَن يجب أن يتلو الكتاب المقدس. وعندما صادر الأساقفة ترجمة تندال للكتاب المقدس، أمرهم بإعداد ترجمة أفضل، وعندما توانوا طويلاً سمح لكرومويل بتفويض مايلز كوفردال في اعداد ترجمة جديدة. وظهرت أول نسخة كاملة بالإنجليزية في زيورخ عام 1535. ونشرت عام 1539 طبعات منقحة، وأمر كرومويل بأن يوضع هذا "الكتاب المقدس العظيم" في كل كنيسة إنجليزية. ومنح هنري "بدافع من الكرم والطيبة الملكيين" المواطنين امتياز تلاوة الكتاب المقدس في بيوتهم، وسرعان ما أصبح تقليداً يومياً عند كل أسرة إنجليزية تقريباً. ولكنه كان ينبوعاً للشقاق والإلهام أيضاً، فقد أنبتت كل قرية مفسرين هواة، أثبتوا أي شيء أو عكسه بما ورد في الكتاب المقدس، وتجادل المتعصبون حوله في الكنائس، وتعرضوا لضربات بشأنه في الحانات(27). ومنح بعض الرجال الطموحين زوجاتهم أوامر قضائية بالطلاق، أو احتفظوا بزوجتين في آن واحد، بحجة أن هذا عمل سليم أباحه الكتاب المقدس(28). وأسف الملك لحرية التلاوة التي منحها للناس، وعاد إلى مظاهرة الكاثوليك. وحث المجلس النيابي عام 1543 على سن قاعدة بأنه لا يجوز قانوناً حيازة الكتاب المقدس إلا للنبلاء والملاّك، ولا يجوز لغير القساوسة الوعظ به أو الجدال فيه علناً(29).

وكان من الصعب على الناس - وحتى على الملك - أن يعرف ما يدور في ذهن الملك. واستمر الكثالكة يرسلون إلى المحرقة أو المقصلة بسبب إنكارهم سيادته في الشئون الكنسية، والبروتستانت بسبب جدلهم في اللاهوت الكاثوليكي؛ وعُلِّق فورست وهو رئيس شعبة المتشددين من الفرنسسكان الممتثلين في جرينوتش، رفض أن ينكر سلطة البابا، على نار وهو مكبل بالأغلال، وشوي ببطيء حتى مات (31 مايو سنة 1537)(30).

وقبض على جون لامبرت؛ وهو بروتستانتي بسبب إنكاره وجود المسيح حقيقة في القربان المقدس، وحاكمه هنري بنفسه، وحكم عليه هنري بالموت وأحرق في سمثفيلد (16 نوفمبر سنة 1538) ومع تزايد نفوذ استيفن جاردنر أسقف ونشستر مال هنري أكثر وأكثر نحو العقيدة المحافظة، وفي عام 1539 أعلن الملك والمجلس النيابي والمجمع الأكليروسي بـ "قانون المواد الستة" موقف الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في موضوعات الحضور الحقيقي للمسيح وعزوبة رجال الأكليروس وأقسام رهبان الدير والقداسات من أجل الموتى، وضرورة الاعتراف السرّي أمام قسيس وكفاية تناول القربان المقدس من ضرب واحد. وكل مَن ينكر شفاهاً أو كتابة، الحضور الحقيقي للمسيح، يتعرض للموت حرقاً دون أن تتاح له فرصة لإنكار ما قال أو للاعتراف أو الغفران، وكل مَن ينكر أية مادة أخرى يجب أن تصادر أملاكه عند ارتكابه الذنب لأول مرة وتزهق روحه عند ارتكابه له مرة أخرى.

وأعلن أن كل الزيجات التي عقدها القساوسة حتى وقتذاك باطلة، وأي قسيس يحتفظ بزوجته بعد ذلك يعد مرتكباً لجريمة الخيانة العظمى(31). وكان الناس لا يزالون محافظين من حيث العقيدة، فوافقوا على هذه المواد، غير أن كرومويل بذل جهده لتخفيفها عند التطبيق، وفي عام 1540 تحول الملك مرة أخرى، فأمر بوقف المطاردة بموجب هذا القانون... ومع ذلك فإن الأسقفين لاتيمر وشاكستون، اللذين لم يوافقا على مواد القانون، عزلا وسجنا. وفي يوم 30 يوليو سنة 1540 تعرض ثلاثة من البروتستانت وثلاثة من الكاثوليك للموت في سمثفيلد في وفاق تم رغم إرادتهم، أما البروتستانت فلأنهم حاولوا التشكيك في بعض العقائد الكاثوليكية، وأما الكثالكة فلأنهم رفضوا الاعتراف بسيادة الملك على الشئون الكنسية(32).

وكان هنري قوياً شديداً في الحكم وفي اللاهوت، وعلى الرغم من أنه احتفظ بحاشية كثيرة العدد، وقضى وقتاً طويلاً في التهام الطعام، فإنه تعب كثيراً في الاضطلاع بأعباء الحكم. واختار أعواناً مهرة وجائرين مثله. وأعاد تنظيم الجيش، وجهزه بأسلحة جديدة، ودرس آخر ما توصل إليه الخبراء في التكتيك والاستراتيجية. وبنى أول أسطول بحري ملكي دائم طهر السواحل والقناة من القراصنة، وأعد العدة للانتصارات البحرية التي تمت في عهد اليزابث، ولكنه فرض على شعبه مكوساً إلى الحد الذي يحتمله، وخفض قيمة العملة مراراً، وصادر الأملاك الخاصة بحجج واهية، أو طلب "اشتراكات"، وأنكر ديونه، واقترض من آل فوجر، وروج الاقتصاد الإنجليزي مؤملاً أن يعود عليه بدخل إضافي.

وكانت الزراعة في تدهور، وكان رق الأرض لا يزال منتشراً. ولم ينقطع تسوير الأراضي لترعى فيها الأغنام وضاعف ملاك الأراضي الجدد، الذين لم تصدهم تقاليد الإقطاع، إيجارات الأراضي مرتين أو أربع مرات على مستأجريهم، بحجة إرتفاع الأسعار، ورفضوا تجديد عقود الإيجار المنتهية "وشق آلاف المستأجرين الذين جردوا من أراضيهم المستأجرة طريقهم إلى لندن وطرقوا بشدة أبواب المحاكم لرفع الظلم، وهو أمر لم يستطيعوا الحصول عليه(33)".

ورسم مور الكاثوليكي صورة مؤثرة للفلاحين المتسولين(34)، وندد لاتيمر البروتستانتي بـ "اللوردات الحديثي النعمة الذين يرفعون الإيجارات"، ورأى مثل لوثر ماضياً مثالياً كاثوليكياً. عندما كانت أفئدة الرجال مفعمة بالشفقة والحنان(35). "وفرض المجلس النيابي عقوبات صارمة على الضرب في الآفاق والتسول. وكان قانون 1530-31 يفرض على كل مَن يتسول، ويكون قادراً جسمانياً على العمل، سواء كان رجلاً أو امرأة، أن يشد وثاقه إلى عربة وهو عار ويجلد بالسياط في سائر أنحاء المدينة إلى أن يتلطخ جسده بالدم". وإذا عاد لارتكاب الذنب مرة أخرى تقطع أذنه، وإذا ارتكب مرة ثالثة تقطع أذنه الأخرى، ومهما يكن من أمر فإن ارتكاب الذنب للمرة الثالثة كان يعرض المتسول للإعدام(36). ووجد الفلاحون المبعدون تدريجياً عملاً في المُدن وخففت الإغاثة المقررة للفقراء من وقع الخصاصة. وارتفعت إنتاجية الأرض في آخر الأمر بالزراعة على نطاق واسع بيد أن عجز الحكومة عن تخفيف التحول كان بمثابة فشل إجرامي قاس للحنكة السياسية.

وأسبغت الحكومة نفسها الحماية على الصناعة بالتعريفات الجمركية. وأفاد أصحاب المصانع من رخص أجر العمل، الذي تيسر بهجرة الفلاحين للمُدن، وأعادت الطرق الرأسمالية تنظيم صناعة النسيج، ورفعت طبقة جديدة من الأثرياء، لتقف إلى جانب التجار في مساندة الملك. وحل القماش محل القماش محل الصوف باعتباره أهم صادرات إنجلترا. وكانت معظم الصادرات من الضروريات التي تنتجها الطبقة الدنيا، وكانت معظم الواردات من سلع الترف التي لا يحصل عليها إلا الأغنياء(37).

وأفادت التجارة والصناعة من قانون صدر عام 1536 يغير أسعار الفائدة بواقع 10 في المائة. وكان ارتفاع الأثمان السريع في صالح المشروع وبمثابة عقاب حكم به على العمال والفلاحين واللوردات الإقطاعيين من النمط القديم. وارتفعت الإيجارات إلى 1000 في المائة بين عامي 1500 و 1576(38). وارتفعت أسعار الطعام من 250 إلى 300 في المائة، وارتفعت الأجور بمقدار 150 في المائة(39). وكتب توماس ستار في حوالي عام 1537: "أن الفقر يسود الآن إلى حد يقف فيه أمام أي خير حقيقي و مزدهر للجماعة(40)".

ووجد أعضاء الطوائف الحرفية شيئاً من الفرج في التأمين والمساعدة المتبادلة، زودهم بما يسد رمقهم، أمام الفقر والنار، غير أن هنري صادر عام 1545 أملاك الطوائف الحرفية(41).
4- التنين يتقاعد

أي ضرب من الرجال كان هذا الملك الغول؟ لقد رسم هولبين الصغير، الذي جاء إلى إنجلترا حوالي عام 1536، صوراً شخصية لهنري وجين سيمور. فالكساء الفاخر يكاد يخفي بدانة الملك، والأحجار الكريمة وفرو الفاقم، واليد التي تقبض على سيف محلى بالجواهر، تكشف عن استعلاء السلطة وزهو رجل لم يجد مَن يقاومه، والوجه العريض المكتنز ينم على ميل شديد للذات الحسية، والأنف دعامة قوية، والشفتان المضمومتان والعينان القاسيتان تنم على طاغية مستبد سريع الغضب بارد إلى حد القسوة. وكان هنري وقتذاك في السادسة والأربعين، في أوج مجده السياسي، ولكن بدأ الضعف يدب في جسده. وقدر له أن يتزوج ثلاثاً مرة أخرى، ومع ذلك لم يرزق بعدها بذرية. ولم ينجب من زوجاته الست سوى ثلاثة أطفال، عاشوا إلى ما بعد سن الطفولة. وأحد هؤلاء الثلاثة، وهو إدوارد السادس، كان معتل الصحة، ومات في الخامسة عشرة من عمره، وظلت ماري عاقراً بائسة عندما تزوجت، أما إليزابث فإنها لم تجرؤ قط على الزواج، وربما كان ذلك لشعورها بوجود عائق جسماني. وأصابت لعنة شبه العقم أو العيب الجسماني أعظم الأسر الحاكمة اعتزازاً بنفسها في التاريخ الإنجليزي.

وكان هنري حاد الذهن وحكمه على الرجال يدل على الفراهة، وشجاعته عظيمة، وقوة إرادته هائلة. وكان سلوكه فظاً ووساوسه تبددت مع شبابه، ومهما يكن من أمر فإنه ظل مع أصدقائه شفوقاً كريماً، ولطيفاً بشوشاً، قادراً على كسب ودهم وإخلاصهم. وقد ولد ليكون ملكاً، وأحيط منذ ولادته بالخضوع والملق، ولم يجرؤ على معارضته إلا قليلون، وقد دفنوا بعد أن قطعت رءوسهم. وكتب مور عن سجن البرج: "مما يؤسف له كثيراً ولا شك أن نرى أي أمير مسيحي على استعداد لأن يلبي رغباته بواسطة مجلس يركع أمامه، وبواسطة رجال دين ضعاف... والملق، فاشتط في ظلم الناس بصورة مخجلة(42)"، كان هذا هو المصدر الخارجي لنكوص هنري على عقبيه في الخلق - فقد أدى عدم وجود مقاومة لإرادته، بعد وفاة مور، إلى أن يصبح خائراً معنوياً وبدنياً: ولم يكن أكثر تهاوناً في الجنس من فرانسيس الأول ويبدو أنه بعد حادث آن بولين قد أصبح أشد تحمساً للزواج بواحدة، على التوالي، من شارل الخامس. ولم يكن الانحلال الجنسي أسوأ نقيصة فيه. وكان نهمه للمال لا يقل عن نهمه للسلطة، وقلما سمح لاعتبارات إنسانية أن تقف في زجه استيلائه على الأموال. وليس من شك في أن استعداده المتسم بالجحود لقتل النساء اللاتي أحبهن أو الرجال، أمثال مور وكرومويل، الذين خدموه بإخلاص سنوات طوال، أمر خسيس، ومع ذلك يمكن القول أنه لم يسفك من الدماء عشر ما سفكه شارل التاسع حسن النية، عندما أجاز مذبحة سانت بارتلوميو، أو شارل الخامس عندما صفح عن نهب روما، أو الأمراء الألمان عندما حاربوا ثلاثين عاماً للحصول على حقهم في تحديد المعتقدات الدينية لرعاياهم.

والأصل الداخلي لفساده هو ما تعرضت له إرادته من إحباط متكرر في الحب والأبوة. فقد خاب أمله طويلاً في الحصول على ابن، وصد بطريقة خادعة في طلبه المعقول إعلان بطلان زواجه الأول، وخدعته (كما اعتقد) الزوجة التي خاطر من أجلها بعرشه، وفقد سريعاً الزوجة الوحيدة التي أنجبت له وريثاً، وخدعته في الزواج امرأة أجنبية تختلف عنه تماماً في اللغة والمزاج، وخانته (كما ظن) زوجة خيل إليه أنها ستحقق له آخر الأمر بيتاً تخيم عليه السعادة - ها هو ملك كان يملك إنجلترا بأسرها، ولكنه حرم من المباهج العائلية التي يستمتع بها أبسط زوج في مملكته، وكان يعاني من ألم متقطع بسبب قرحة في ساقه، وكافح الثورات والأزمات في سائر مدة حكمه، واضطر في كل لحظة تقريباً أن يتسلح لصد الغزو والخيانة والاغتيال - فكيف كان في وسع رجل مثل هذا أن ينمو ويصبح سوياً، أو يتحاشا الفساد والتورط في الشك والدهاء والقسوة؟ وكيف يتأتى لنا، نحن الذين نغضب من وخز محنة نتعرض لها، أن نفهم رجلاً جمع في عقله وفي شخصه عاصفة الإصلاح الديني الإنجليزي وثقله، وحرم شعبه بخطوات محفوفة بالمخاطر من ولاء جذوره عميقة، ومع ذلك لابد أنه كان حرياً بأن يشعر في روحه المنقسمة بدهشة مفتتة - أحرر أمة أو مزق شمل المسيحية؟

كان الوسط الذي عاش فيه هو الخطر وكذلك السلطة. ولم يكن في وسعه قط أن يعرف المدى الذي يصل إليه أعداؤه، أو متى ينجحون. وفي عام 1538 أمر بالقبض على سير جيوفري بول شقيق ريجينالد. وخشي جيوفري أن يتعرض للتعذيب، فاعترف بأنه هو وشقيق آخر يدعى لورد مونتاجو، وسير ادوار فيفيل والمركيز والمركيزة أف إكستر كانوا يتبادلون رسائل تنطوي على خيانة الدولة مع الكاردينال. وظفر جيوفري بالصفح أما إكستر ومونتاجو وآخرون عديدون فقد شنقوا وشطروا إلى أربعة أقسام (1538-39)، وأما ليدي اكستر فقد سجنت، ووضعت الكونتيسة أف سالزبوري، والدة بول واخوته الأشقاء تحت الحراسة. وعندما زار الكاردينال شارل الخامس في طليطلة (1539) يحمل له طلباً لا طائل تحته من بول الثالث يرجو فيه من الإمبراطور أن ينظم إلى فرانسيس في تحريم التجارة مع إنجلترا(43)، انتقم هنري بالقبض على الكونتيسة، التي كانت وقتذاك في السبعين من عمرها، ولعله كان يأمل بالاحتفاظ بها في البرج، أن يكبح جماح الكاردينال للغزو. كان كل شيء عادلاً في لعبة الحياة والموت.

وبعد أن ظل هنري عامين دون أن يتزوج أمر كرومويل أن يبحث له عن حلف بالمصاهرة يقوي سلطانه ضد شارل. فنصح كرومويل بالزواج من أخت زوجة الأمير المختار لساكسونيا، وشقيقة الدوق أف كليفس الذي كان وقت ذاك على خلاف مع الإمبراطور. وآلى كرومويل على نفسه أن يتم هذا الزواج الذي كان يعلق عليه آمالاً بتكوين حلف من الولايات البروتستانتية آخر الأمر، وبهذا يجبر هنري على إلغاء المواد الست المناهضة للوثر. وأرسل هنري المصور هولبين لرسم صورة للسيدة، ولعل كرومويل أضاف بعض التعليمات للفنان، وجاءت الصورة، ورأى هنري أنها محتملة، فهي تبدو حزينة، لا تشجع في الصورة التي رسمها هولبين، والمعلقة في متحف اللوفر، ولكن تقاطيعها ليست أقل وضوحاً من جين سيمور التي رققت لحظة من قلب الملك.

وعندما جاءت آن بشحمها ولحمها، ووقعت أنظار هنري عليها (أول يناير سنة 1540) مات الحب لدى أول نظرة. وأغمض عينيه وتزوجها، وتضرع مرة أخرى أن يرزقه الله بإبن يوطد به وراثة العرش في آل تيودور إذ كان مظهر الأمير إدوارد وقتذاك يدل على ضعفه الجسماني. ولكنه لم يصفح قط عن كرومويل.

وأمر بالقبض على وزيره الذي أفاده أكثر من أي وزير آخر بعد أربعة شهور زاعماً غلطه وفساده. ولم يكن يعترض عليه، فقد كان كرومويل تابعاً يحظى بأكبر نصيب من الكراهية في إنجلترا - بسبب أصله ووسائله وخسته وثروته. وطلب في سجن البرج أن يوقع بيانات يعارض فيها صحة الزواج. وأعلن هنري أنه لم يكن قد قدم "رضاه الباطني" عن الزواج، وأنه لم يدخل بزوجته قط. واعترفت آن بأنها لا تزال عذراء ووافقت على بطلان الزواج، مقابل معاش يوفر لها سبيل الراحة. وكرهت أن تواجه أخاها، فاختارت أن تعيش وجيدة في إنجلترا، وكان لها عزاء صغير في أنها دفنت في مقابل دير وستمنستر عند وفاتها (1557). وقطعت رأس كرومويل يوم 28 يوليو سنة 1540.

وفي اليوم نفسه تزوج هنري من كاثرين هوارد، البالغة من العمر عشرين عاماً، وهي من أسرة كاثوليكية لا تحيد عن عقيدتها قيد أنملة، وكان هذا كسباً للحزب الكاثوليكي، وكف الملك عن أن يتقرب من البروتستانت بالقارة، وعقد صلحاً مع الإمبراطور، وعندما شعر بأنه أصبح أخيراً آمناً في ذلك الحمى تحول بفكره شمالاً معلقاً الآمال على ضم سكوتلندة، وبذلك يكمل دائرة الحدود الجغرافية لبريطانيا ويضمن لها الأمن. وصرفته عن هذا ثورة أخرى في شمالي إنجلترا. وقبل أن يرحل لقمعها وإخماد مؤامرة دبرت وراء ظهره، أمر بإعدام جميع المسجونين السياسيين في البرج ومنهم الكونتيسة أف سالزبوري (1541). وانهارت الثورة وعاد هنري إلى هامبتون كورت يتخبط في الهموم، لينشد السلوى عند ملكته الجديدة.

وكانت كاثرين الثانية أجمل زوجاته، وتعلم الملك كيف يحبها تقريباً، وهو يعتمد أكثر من قبل على الخدمات الجديرة بزوجة، وحمد الله على الحياة الطيبة التي كان يعيشها، والتي راوده الأمل في أن يحققها تحت إشرافها، ولكن في اليوم الذي ردد فيه تسبيحة الشكر هذه (2 نوفمبر سنة 1541) سلمه رئيس الأساقفة كرانمر وثائق تدل على أن كاثرين كانت لها علاقات سابقة للزواج مع ثلاثة خاطبين متعاقبين. واعترف اثنان من هؤلاء وكذلك اعترفت الملكة. وقال السفير الفرنسي في تقرير له: أن هنري تملكه حزن شديد، حتى ساد الاعتقاد بأنه جن(44). وأمضه الخوف من أن تكون لعنة الله قد حلت بكل زيجاته. وكان يميل إلى الصفح عن كاثرين، ولكن قدم إليه دليل على أنها اقترفت الزنى مع ابن عمها بعد زواجها بالملك. وأقرت بأنها استقبلت ابن عمها في جناحها الخاص في ساعة متأخرة بالليل، ولكن حدث هذا في حضور الليدي روشفورد، وأنكرت أنها ارتكبت أي ذنب وقتها، أو في أي وقت منذ زواجها، وشهدت ليدي روشفورد بصحة هذه البيانات بقدر ما وصل إلى علمها(45). بيد أن المحكمة الملكية أعلنت أن الملكة مذنبة. وفي يوم 13 نوفمبر سنة 1542 قطع رأسها في نفس البقعة التي سقط فيها رأس آن بولين قبل ذلك بست سنوات، أما عشاقها فقد حكم عليهم بالسجن مدى الحياة.

وكان الملك وقتذاك رجلاً محطماً. وأعيت قرحته طب عصره، وكان الزهري الذي لم يشفَ منه تماماً ينتشر ويعيث فساداً في هيكله(46).وبعد أن فقد لذة الحياة سمح لنفسه بأن يصبح كتلة ضخمة من اللحم، وكان خداه متهدلين ويكادان يغطيان فكيه، وكادت عيناه الضيقتان أن تختفيا في تلافيف وجهه. ولم يكن في وسعه أن يسير من غرفة إلى أخرى دون أن يستند إلى أحد. وأدرك أنه لن يعيش إلا بضع سنوات فأصدر (1543) مرسوماً جديداً يحدد فيه وراثة عرشه: يتولاه أولاً إدوارد ثم ماري ثم اليزابث، ولم يذهب إلى أبعد من ذلك، لأن مَن تليهم في سلسلة النسب هي ماري ستيوارت ملكة أسكوتلندة. وقام بمحاولة لكي ينجب ولداً صحيحاً معافى، بعد أن حثه مجلسه مراراً فبنى بزوجة سادسة (12 يوليو سنة 1543). وكانت كاثرين بار قد عاشت بعد وفاة زوجين سابقين، ومع ذلك فإن الملك لم يعد يصر على الزواج من عذارى. وكانت امرأة على حظ من الثقافة والفطنة، فقامت برعاية مريضها الملك في صبر، وصالحته مع ابنته اليزابث، التي طال إهماله لها، وحاولت أن تلطف لاهوته، وتخفف حماسته للاضطهاد.

ولم تنقطع المشاعل اللاهوتية حتى نهاية حكمه، فأحرق ستة وعشرون شخصاً بتهمة الهرطقة في الثماني السنوات الأخيرة من عهده. وفي عام 1543 أبلغ الجواسيس الأسقف جاردنر أن هنري فيلمر قال: "إذا كان الرب موجوداً حقاً (في القربان المقدس) فإني أكون قد أكلت في حياتي عشرين رباً". وأن روبرت تسوود حذر القسيس عند رفع القربان المقدس، من أن يترك الرب يسقط، وأن أنتوني بيرسون وصف كل قسيس يعظ الناس بأي شيء سوى "كلمة الله" - أي الكتاب المقدس - يكون لصاً. وأحرق كل هؤلاء الرجال تنفيذاً لأوامر أصدرها الأسقف الأنجليكاني، في مرج أمام القصر الملكي في وندسور. وانزعج الملك لأنه وجد أن الدليل الذي قدمه شاهد في هذه القضايا كان قسماً زوراً، وأرسل الجاني الأثيم إلى سجن البرج(47). وفي عام 1546 أدان جاردنر أربعة آخرين، وأرسلهم إلى المحرقة لإنكارهم وجود المسيح حقاً في القربان المقدس. وكانت إحداهم امرأة شابة تدعى آن أسكيو تشبثت بهرطقتها طوال خمس ساعات من الاستجواب وقالت في محاكمتها: "إن ما تسمونه ربكم قطعة من الخبز، والدليل على ذلك أنكم لو تركتموها في صندوق لمدة ثلاثة شهور لتعفنت". وعذبت حتى أشرفت على الموت لكي تكشف عن أسماء هراطقة آخرين، وظلت صامتة لم تنبس ببنت شفة، وهي تتوجع، وسارت إلى حتفها وهي تقول: "إنني سعيدة كواحدة كتب عليها أن تتجه للسماء(48)". ولم يكن للملك دور فعال في هذه المطاردات غير أن الضحايا استغاثوا به دون جدوى.

واشتبك عام 1543 في حرب مع أسكتلندة و"أخيه المحبوب" فرانسيس الأول، وسرعان ما وجد نفسه متحالفاً مع عدوه القديم شارل الخامس، ولكي يمول حملاته طالب رعاياه بتقديم "قروض" جديدة، وامتنع عن سداد قروض عام 1542 وصادر الهبات للجامعات(49). وحمل إلى ميدان القتال ليشترك فيها شخصياً وأشرف على حصار بولونيا والاستيلاء عليها. وغزت جيوشه أسكتلنده، وهدمت أديار ملروز ودرايبورج وخمسة أديار أخرى، ولكنها هزمت هزيمة منكرة في انكرم مور (1545)، وأبرم اتفاق فيه فائدة مع فرنسا (1546)، واستطاع الملك أن يموت في سلام.

وكان وقتذاك ضعيفاً واهناً إلى حد أن الأسر النبيلة أخذت تتنازع فيما بينها على مَن تكون له الوصاية على إدوارد الصغير. وكان إيرل أف سوري، وهو شاعر، واثقاً أن أباه الدوق أف يورك سوف يكون وصياً إلى حد أنه اتخذ درعاً وضع عليه شارة لا تصلح إلا لولي العهد، وقبض هنري عليهما معاً فاعترفا بأنهما مذنبان وقطع راس الشاعر في التاسع من يناير عام 1547، أما الدوق فقد سجل في قائمة انتظار الذين ينفذ فيهم حكم الإعدام بعد السابع والعشرين فوراً.

ولكن الملك مات في اليوم الثامن والعشرين، وكان في الخامسة والخمسين من عمره، ولكنه عاش عمره عشرات المرات. وترك مبلغاً كبيراً، يدفع لإقامة قداسات لكي ترقد روحه في اطمئنان.

وقد دام عهده سبعة وثلاثين عاماً، حول إنجلترا إلى بلاد أخرى أعمق مما كان يتصور أو يشتهي. وفكر في أن يخلف البابا، ويترك العقيدة القديمة التي عودت الناس على القيود الأخلاقية والخضوع للقانون دون أن يمسها بتغيير، ولكن تحديه للبابوية الذي صادفه التوفيق، وتشتيته السريع للرهبان والمخلفات، وإذلاله المتكرر لرجال الأكليروس، ونزعه لملكية الكنيسة وإسباغ الصفة العلمانية على الحكومة، كل ذلك أضعف الهيبة الكنسية والسلطة الدينية إلى حد كبير، مما أدى إلى حدوث التغييرات اللاهوتية التي أعقبت ذلك في عهدي إدوارد وإليزابث. كان الإصلاح الديني الإنجليزي أقل اعتماداً على العقيدة من الإصلاح الديني الألماني، ولكنهما أثمرا نفس النتيجة البارزة - وهي انتصار الدولة على الكنيسة. ونجا الشعب من براثن بابا معصوم ليقع في أحضان ملك مستبد.

ولم يغنم شيئاً من الناحية المادية. فقد دفع ضرائب العشور كما دفع من قبل، غير أن صافي الفائض عاد إلى الحكومة. وكان كثير من لفلاحين يزرعون وقتذاك أراضيهم المستأجرة "للورداتهم المحدثين"، وكانوا أشد قسوة من الرهبان الذين اتخذ منهم كارلايل مثالاً في كتابه "الماضي والحاضر".

ومن رأي وليام كوبت أن "الإصلاح الديني الإنجليزي" كان في الحقيقة من وجهه الاجتماعي، ثورة قام بها الأغنياء ضد الفقراء(50)، وتشير سجلات الأسعار والأجور إلى أن العمال الزراعيين وعمال المُدن كانوا أحسن حالاً عندما ارتقى هنري العرش منهم عند وفاته(51).

وكانت المظاهر الأخلاقية لهذا العهد سيئة، فقد ضرب الملك للأمة مثلاً يدل على فساد خلقه بانغماسه في علاقات جنسية وبانتقاله الفظ في خلال بضعة أيام من مصرع زوجة إلى فراش الزوجة التالية وبقسوته الهادئة وعدم أمانته المالية وجشعه المادي. وأشاعت الطبقات العليا الفوضى في البلاط والحكومة بما دبرته من مؤامرات فاسدة. وتبارى الأعيان مع هنري في الاستحواذ على ثروة الكنيسة وابتز رجال الصناعة عمالهم وابتزهم الملك. ولم تكمل الصورة باضمحلال البر لأنه بقي هناك الخضوع الحقير لحاكم مطلق أناني من شعب يرتجف هلعاً. ولم ينقذ الموقف سوى شجاعة الشهداء البروتستانت والكاثوليك وأشرفهم فيشر ومور قد اضطهدا في دورهما.

وإذا تأملنا بمنظور واسع هذه السنوات المريرة نجد أنها كانت تحمل بعض الثمار الطيبة. ولم يكن هناك بد من الإصلاح الديني. ولابد أن نذكر أنفسنا مراراً وتكراراً بهذا ونحن نسجل شيطنة القرن الذي ولد فيه، كان الانفصام عن الماضي عنيفاً ومؤلماً ولم يكن في الإمكان زعزعة قبضته على أذهان الناس إلا بتوجيه ضربة وحشية. وعندما أزيل الكابوس أصبحت روح القومية، التي سمحت في أول الأمر بالاستبداد، حماسة شعبية وقوة خلاقة. وأدى تخلص الشئون الإنجليزية من البابوية إلى ترك الناس تحت رحمة الدولة حيناً من الزمن، ولكنه أجبرهم في المدى الطويل على الاعتماد على أنفسهم في كبح جماح حكامهم والمطالبة، عقداً وراء عقد، بقدر من الحرية يكافئ ذكائهم. ولن تكون الحكومة قوية دائماً كما كانت في عهد هنري الرهيب، بل سوف تكون ضعيفة في عهد ابن عليل وابنة تطوي جوانحها على مرارة شديدة، ثم تنهض الأمة بعد أن تتفجر طاقتها المنطلقة من عقالها في عهد ملكة مذبذبة، ولكنها ظافرة، وترفع نفسها إلى مرتبة زعامة الفكر الأوربي. ولو لم تكن إنجلترا قد تحررت على يد أسوأ وأقوى ملوكها فربما كان قدر للعالم ألا يرى إليزابث وشكسبير.
***************
ايام هزت العالم - قناة المجد الوثائقية :-
http://www.youtube.com/watch?v=z0CB1_8CmJU
***************
تم بحمد الله

 
 

 


التعديل الأخير تم بواسطة ΑĽžαεяαђ ; 25-01-12 الساعة 10:40 PM سبب آخر: تم حذف الروابط يمنع اضافة روابط لمواقع أخرى
عرض البوم صور معتصم غزال   رد مع اقتباس
قديم 25-01-12, 10:29 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2011
العضوية: 224965
المشاركات: 17
الجنس ذكر
معدل التقييم: معتصم غزال عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
معتصم غزال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : معتصم غزال المنتدى : التاريخ والاساطير
افتراضي

 

ولا رد واحد

 
 

 

عرض البوم صور معتصم غزال   رد مع اقتباس
قديم 25-01-12, 10:45 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو فخري
✿ باذِخَةُ الْعَطَاءْ ✿


البيانات
التسجيل: Jun 2009
العضوية: 146680
المشاركات: 19,397
الجنس أنثى
معدل التقييم: ΑĽžαεяαђ عضو ماسيΑĽžαεяαђ عضو ماسيΑĽžαεяαђ عضو ماسيΑĽžαεяαђ عضو ماسيΑĽžαεяαђ عضو ماسيΑĽžαεяαђ عضو ماسيΑĽžαεяαђ عضو ماسيΑĽžαεяαђ عضو ماسيΑĽžαεяαђ عضو ماسيΑĽžαεяαђ عضو ماسيΑĽžαεяαђ عضو ماسي
نقاط التقييم: 4020

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ΑĽžαεяαђ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : معتصم غزال المنتدى : التاريخ والاساطير
افتراضي

 




ما شاء الله موضوع كبير وجهد تشكر عليه

الله يعطيك العافية أخوي

لكن يا ريت تنتبه ممنوع اضافة اي روابط خارجية بالمواضيع ..

زوزو


 
 

 

عرض البوم صور ΑĽžαεяαђ   رد مع اقتباس
قديم 26-02-12, 11:12 PM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: May 2009
العضوية: 145644
المشاركات: 656
الجنس أنثى
معدل التقييم: nagwa_ahmed5 عضو على طريق الابداعnagwa_ahmed5 عضو على طريق الابداعnagwa_ahmed5 عضو على طريق الابداعnagwa_ahmed5 عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 379

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
nagwa_ahmed5 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : معتصم غزال المنتدى : التاريخ والاساطير
افتراضي

 

هذه من يقال عنها حياه حافله

 
 

 

عرض البوم صور nagwa_ahmed5   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مفصل, الثامن, تجميعي, هنري, كامل
facebook




جديد مواضيع قسم التاريخ والاساطير
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 12:55 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية