كاتب الموضوع :
جمره لم تحترق
المنتدى :
روايات احلام المكتوبة
اندس أنف مبلل في عنقها فذكرها أنها ليست الوحيدة التي تدفع
الثمن , وقالت مرتجفة :
- حسناً يا صديقي .. قلت إنك تريد أن تتوقف .
وهي ترتجف داخل السيارة التي تبرد بسرعة, دست ذراعيها في كمي
سترتها ووضعت القيد في عنق براوني .. وكانت الريح قد بدأت تهب بقوة
فاحتاجت كاندرة إلى جهد كبير لتفتح الباب. أخيراً نجحت, وتفاجأت
بسماكة طبقة الثلج التي تغطي الأرض , ولم يُعجب براوني بالثلج غير
المألوف ورفض مغادرة السيارة بالرغم من شدها العنيف على قيده ..
وتوسلت :
- هيا براوني .. رحلة صغيرة حول السيارة ثم نعود إلى الداخل .
في حركة مفاجئة أدهشت كاندرة , قفز الإيرلندي من السيارة بنشاط
كبير , فرماها رأساً على عقب في الثلج, وانتزع قيده من يدها وركض مختفياً
في الظلام .
تعثرت كاندرة وهي تقف , وراحت تنفض دون جدوى الثلج الذي
علق في ثيابها ثم صاحت بأعلى صوتها كي يعود الكلب .. لكن الريح بدت
وكأنها تنتزع الصوت من حنجرتها وتبتلع صيحاتها .. أصغت لتستمع إلى
نباح براوني لكنها لم تسمع سوى صفير الريح .. وتملكها خوف رهيب ..
ماذا لو أن براوني لم يعد ؟
نظرت إلى الثلج ... كانت آثار أقدام براوني تقود إلى الغابة مباشرة ..
فأي نوع من المخلوقات المتوحشة ينتظره فيها؟ لقد قرأت كاندرة عن
الأفخاخ التي يضعها الصيادون للدببة والقندس , وارتعبت من فكرة وقوع
براوني في فخ كهذا , فدفعت بقوة مضافة إلى صوتها .. لكن الكلب لم
يظهر , وبدأ وقع أقدامه يختفي تدريجياً تحت الثلج المتراكم..وقفت كاندرة
محتارة ترتجف برداً وخوفاً , فسرعان ما ستمحو العاصفة كل آثره وكأنها لم
تكن . يعتمد براوني عليها في معيشته ولو حدث له شيء فلن تلوم سوى
نفسها .. لماذا لم تلف قيده جيداً حول معصمها ؟منتديات ليلاس
أصبحت آثار براوني أقل بروزاً .. بعد وقت قصير سيصبح من
المستحيل ملاحقتها. نظرت بقلق إلى السيارة التي تمثل الأمان, وعلى الأقل
القليل من الدفء . أما الغابة.. هناك قصص عن أشخاص ضاعوا فيها إلى
أن تجمدوا وماتوا ... وقفت إلى جانب السيارة , ثم ترددت ويدها على مقبض
الباب .. لا يمكنها التخلي عن براوني .. بإمكانها تقفي آثار أقدامه ولو إلى
مسافة قصيرة في الغابة, و إن لم يسمع نداءها ويظهر فستتبع آثار قدميها
وتعود إلى السيارة .
خطت خطوتين إلى الأمام قبل أن تتذكر المزلاجين المثبتين على ظهر
السيارة .. أكد لها المدرس الذي أعارها إياهما أن التزلج لمسافات طويلة هو
بسهولة السير على القدمين .. وقال يعطيها التعليمات: (( ارفعي قدماً إلى
الأمام ثم الأخرى متوازنة على العكازين )) وبدا لها الأمر في سهلاً في غرفة
جلوسها .. نظرت كاندرة إلى الثلج المتساقط بسرعة وقررت أن بإمكانها
قطع مسافة أطول إن ارتدت المزلاجين . أمضت دقائق طويلة قبل أن تتمكن
يداها الباردتين من تثبيت الحذاء الخاص بالزلاجتين الطويلتين الدقيقتين ..
وانزلقت مرتبكة نحو الغابة .
بعد ساعة من هذا عرفت أن ارتداء الزلاجتين لم يفدها بشيء ..
أصبحت ثيابها مبللة تماماً من الثلج المتساقط وبدأ جسمها يرتجف بشدة دون
أن تستطيع السيطرة عليه , ولم تعد تهتم بمسح البلل عن عينيها وأنفها . لقد
ثبت لها استحالة تقفي أثر براوني عبر الغابة السوداء بأشجارها الكثيفة التي
كانت تهاجمها بأغصانها كالسياط .
حين اعترضت طريقها كومة ثلج سمكية اعترفت كاندرة بالهزيمة
واستدارت لتعود إلى سيارتها, لكن بضع خطوات إلى الوراء جعلتها تدرك
بلاهة العمل الذي قامت به .. فقد محى الثلج المتساقط , إضافة إلى بطء
تحركها , آثار خطواتها تماماً , ولم يعد لديها أدنى فكرة عن الاتجاه الذي تقف
سيارتها فيه . استندت إلى عكازي التزلج, وبدأت تشهق بقوة لتتنفس برئتين
لم تعودا قادرتين على تحمل قلة الأوكسجين في ارتفاع غير مألوف لهما . كان
رأسها يؤلمها بشكل لا يحتمل .. وكانت متعبة جداً .. ليت براوني لم
يهجرها .. واخترق صوت أمها الخفيف المازح أفكارها ... كانت تقول :
- أيتها الإوزة السخيفة , لمَ تقفين هكذا في البرد ؟ ادخلي ! لقد صنعت
لك بعض البوب كورن ووالدك على استعداد لقراءة الفصل التالي من قصة
(( نداء البراري )) .
- أكره هذه القصة فجميع من فيها يموت .
قال والدها :
- يجب أن يموت المرء في وقت ما وتعرفين هذا كاندرة .
صاحت بعد أن أغمضت عينيها بشدة وغطت أذنيها بيديها :
- لا ... لا أريد سماعها !
ولم تسمع الرد, ففتحت عينيها لترى أن الباب اختفى وأبواها معه :
ماما .. أبي .. عودا .. لا تتركاني أرجوكما .. وبدأت بالبكاء .
قالت (( تاتا )) بصوت أجش :
- ليس لديك وقت للأسى على نفسك .. بوجود الأولاد لتعتني بهم .
رفعت كاندرة رأسها بدهشة .. كانت (( تاتا )) تقف هناك .. كتلة أمان
بمريلتها البيضاء كالثلج , حتى أن كاندرة استطاعت أن تشم رائحة
البسكويت في فرن المطبخ خلف جدتها : تاتا !
ورمت نفسها إلى الأمام بشكل أخرق .. لكن جدتها اختفت تاركة
مكانها شجرة سرو صغيرة مكسوة بالثلج :
- تاتا ... لا تتركيني أنت أيضاً .. أرجوك .. أنا أشعر بالبرد .
وتلاحقت الدموع على وجهها .
- لماذا تبكين كاندرة ؟ أنت لا تبكين أبداً ! هل آذيت نفسك ؟
تناهى إليها صوت كاتيا الهامس رغم صفير الريح وعويلها .
- لا .. أنا أشعر بالبرد فقط وبالتعب أيضاً .
- لم لا تستلقين قليلاً وتأخذين غفوة ؟
وربتت كاتبا على فراش مرتفع مليء بالوسائد البيضاء .
أدارت كاندرة المزلاجين نحو أختها , وضحكت كاتيا .. مبتعدة عن
الفـــــــراش .
صاحت كاندرة : لا ! وقاومت لتمسك بأختها قبل أن تختفي .. فعلق
المزلاجين في الثلج وجمدت ساقاها ككتلتي جليد .. وما إن وصلت إلى
الفراش الذي يلوح أمام ناظريها حتى تحول شكله إلى صخر ضخم مليء
بالثلج . وقبل أن تدرك خيبة الأمل الأخيرة هذه انزلق مزلاجها في حفرة
قريبة من الصخرة, ووقعت إلى الأرض فاصطدم المزلاج بقوة بتلك
الصخرة.. وأصبحت ساقها اليمنى مع المزلاج تحت الساق اليسرى .. ولم
يكن لديها القوة لإصلاح وضعها المزعج .. لذا سترتاح قليلاً وبعدها ..
فتحت كاندرة عينيها .. كانت كاتيا تقف على الفراش تنظر إليها :
- تشعرين بالبرد ؟
ولم تعد تستطيع فتح عينيها أكثر من هذا .
أنف حاد , ساعة المنبه .. حان وقت النهوض والاستعداد للعمل ..
لكنها متعبة جداً .. فتحت عينيها متأوهة , كان بروني يقف قربها وينبح
بحــــــدة .
- براوني .. لا تحتاج إلى الخروج الآن.. لا زال الوقت ليلاً .. انتظر
حتى الصباح .
إنها تشعر بالبرد كثيراً .. وأطبقت عينيها مجدداً. سيهتم أدجر بإخراج
براوني .. وستنام هي بضع دقائق أخرى .
- أي شيء مكسور ؟
لمَ يصيح أدجر ؟ لقد أيقظه براوني بلا ريب .. إنها لا تتأخر في النوم كل
يوم !
- أيمكنك الوقــوف ؟
. اذهب عني أدجر .. دعني أنام -
- ماذا تفعلين هنـــــا ؟
ضحكت كاندرة :
- لا تكن سخيفاً .. أين يمكن أن أنــام غــير هنا ؟
- ما اسمك ؟
لمَ يتغابى أدجر هكذا ؟ أهو غاضب لأنها بقيت في البيت لتدهن المطبخ ؟
ضحكت ثانية :
. اسمي الدجاجة الحمراء الصغيرة ... سأفعل هذا بنفسي -
. مهما تقولين يا حمراء ... لا أظن أن شيئاً كُســر -
لماذا يستمر أدجر في الكلام عن الكسر؟ آه .. طبعاً .. شجارهما !
- كنت على حق , هاك, لقد اعترفت لك . هل لي أن أعود إلى النوم
الآن ؟
. بعد دقيقة حمراء -
حمراء ؟ لن تدهن المطبخ باللون الأحمر ! قاومت لتفتح عينيها , كان
أدجر يدير ظهره لها يحرك ناراً متأججة .. كانت تعرف أنه سيوقد ناراً , ما
الذي فكر به ساعة دقت الباب عليه ؟ قالت ناعســة :
. أراهن أنك دهشت لرؤيتي -
ستشرح له في الصباح .. أما الآن فهي متعبة .. وبردانة جداً .
***
الدفء .. الدفء نعيم ! فتحت كاندرة جفنين مترددين ونظرت حولها
لتجد غرفة معتمة غير مألوفة .. ولاح لها نور خفيف يتسلل عبر شق في
نافذة مغطاة بالستائر .. وتحركت الستائر ثم سمعت الريح .. ريح مخيفة
معولة بدت وكأنها تهز أساس الغرفة , واضح أن العاصفة اشتدت كثيراً
وأصبحت عاصفة ثلج عابثة .. ما من أحد يتوقع منها أن تتزلج في عاصفة
ثلجية ... وبإمكانها النوم طوال النهار.
دست كاندرة نفسها في الأغطية الدافئة بعد أن وصلت رائحة احتراق
الحطب إلى أنفها البارد .. وأملت أن يكون أدجر قد تذكر إغلاق صمام
السحب فوق الموقد .. كانت تسمع صوتاً مصفراً قريباً من أذنها .. لا بد أن
الريح تحاول غزو الغرفة عن طريق المدخنة .
وكيف لها أن تتذكر ما إذا كان أدجر قد دهش لرؤيتها ليلة أمس ..
فبعد شجارهما , كانت آخر شخص يتوقع أن يراه .. من المضحك كيف أنه
ظنها ستدهن المطبخ باللون الأحمر؟ ربما لا ... لقد كان غاضباً لرفضها
المجيء معه إلى كولورادو .. دائماً الشهيدة .. كما صاح ساخراً . لم يفهم أن
على شخص ما أن يدس أنفه باستمرار في سير الأمور .. ولو لم تفعل هي ما
كان سيحل به وبـ كاتيا ؟ لا .. لن تبدأ بالتفكير بمثل هذه الأفكار المشفقة على
النفس .. إنها هنا لتمرح .. أدجر على حق . إنها تأخذ كل شيء على محمل
الجد كثــــيراً .
إنها لنعمة من السماء أن تبقى مستلقية في السرير .. دون ساعة منبه ,
دون وخز ضمير يحثها على النهوض ويدفعها إلى المطبخ لتحضير الفطور..
تمددت في الفراش الدافئ وحاولت التمطي .. لكن منعتها عن الحركة كتلة
صلبة جاثمة على معدتها .. ولأول مرة سمعت صوت تنفس إلى جانبها .. لم
يكن الصوت المصفر صادراً عن الريح.. بل عن كائن حي يشخر قرب
أذنها .
|