المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
الرخام الاسود
رواية.....الرخام الأسود
* رواية
* الرخام الأسود
* الفصل الأول
* تلك هي ليالي الشتاء عندنا في الهضاب العليا ، باردة و ممطرة ، يكشف البؤس فيها عواراتنا وتجاهرنا أيامها بالحرمان ، على ارتفاع 800 م عن سطح البحر، كأننا نتصعد الى السماء ، وسط الجبال الشامخات التي أقسمنا بها في نشيدنا الوطني ، الأودية الموسمية ، كالوشم الجميل على جسد الحسناء و الغابات الجميلة التي تتحدى حرائق البحث العبثي عن الارهاب ، هجرتها القواطع و الأوابد.، و فرضت النزوح على الأهالي ، في هذه الولاية التي أهملت معالمها التاريخية و تجاهلت صانعيها ببديهية حمقاء ، لما تسيس البدو فيها و تحكم الأعراب في رقاب الناس و زمام الأمور، تقود أعراف الموالين القافلة ، و يعرفنا جغرافيوها بأننا في منطقة رعوية لا تجمعنا الا القرى الاشتراكية في المناطق النائية ، حيث يغتال التمدن و تنتهك قيم الحضارة بمفهومها العصري ، و تحول العصرنة المستوردة الى شريط الساحل و الى ولايات تسلط أبناؤها على الرقاب و احتكروا التاريخ و استعبدونا بشرعيات مختلفة ...اما بالحديد و النار ، و اما بالدين ، و اما باللغة ...هكذا تعددت أربابنا لنعيش مسخ الخلاف و الاختلاف تحت لواء الشعب العظيم الذي قتلوه بتهمة الرجعية ، ثم بتهمة الكفر ، و سيقتلونه بتهم آتية كسواد الليل المدلهم ...
فقلت له : سودتها يا صاحبي ، و كاد الكبد أن يتفجر فعد بنا الى بيت القصيد
فقال: ان مأساة خضراء ، صنعها هؤلاء الوحوش ، حتى الصدف كانت ضدها ، أصبر ستتمزق أكثر يا صاحبي ....
سميت ولايتنا ...شقية ..، نسبة الى عاصمتها المدينة الشقية ، أحداث هذه المأساة تجري في ..عين القسوة ..قرية من قرى هذه الولاية ، و ما أكثر العيون في بلدنا ، بداية من عين الفوارة الشهيرة ، وحدها هذه العين التي لا يرتوي منها هذا الشعب ،انها رمز الحضارة و التفتح ، و شهادة مرور التاريخ من هنا ، هكذا يقدس الفن عندنا و يتغير المفهوم الأخلاقي ، هكذا يجب أن نمارس الحضارة و التفتح و نخلد القيم الانسانية و آثارها و مآثرها...هكذا يجب أن نكون... أو لا نكون ...
عين القسوة منطقة زراعية رعوية ، كانت اراضيها كلها تحت مزارعي الاستعمار الفرنسي اخصب الأراضي و أجملها ، يسكنون القرية و لهم في كل مزرعة مساكنا على الطراز الريفي الأروبي أنذاك ، مزينة بأشجار السرو ،رمز الخلود و البقاء و التحدي و فرض الذات ، و كان الأهالي كلهم اما يعملون من طلوع الفجر عندهم الى غسق الليل ، على فرنكات البؤس و الفقر ، أو رعاة تبتلعهم السهوب و الفيافي طوال السنة ، هؤلاء هم من أسس بعد الاستقلال لنظام حول قاطرة النتائج كلها، لتصب في هاوية بعيدة عن كل هوية ، سكنوا مساكن المعمرين و سلكوا مسلكهم في تسيير الريع بعصيهم و عفيون جديد..الشقاء يا صديقي لا يصنعه شيء واحد ...هي ذي الظروف التي تترعرع فيها معاناة خضراء ، ضحية هذه القصة بحوادثها المؤلمة ، و قدر أريد له أن يسقي الضعفاء المرارات ، و تدفع الذات البشرية ثمن بقاءها ، و بقاءها فقط ، آلاما و آهات ، و دموعا ، ذنبها الوحيد أنها جاءت الى الحياة في الوقت الغير مناسب ..هنا في هذا البيت الذي كان يسكنه المسيو صونديرو ، بدأ الشقاء يوما يؤسس لمعاناة انسانية يعجز اللسان عن وصفها ...
كان الليل حينها قد غمر الكون و خيم السكون و هجعت الحياة ، و في مثل هذه الساعة دائما ، ساعة مولد خضراء ، يرتفع ذلك النداء الذي ينبعث من أدغال الصمت ، من عمق ظلام النفس ،يتشكل منه سواد شبح قادم من كل جهة ، كأنها مقيدة فوق هذا السرير الموحش ، المسكون بلعنة شرسة تترصدها ، لا تمل و لا تغفل و لا تيأس ...منكمشة تحت الغطاء تحاول اسقاط تلك السنوات من العمر ، حديدية الأطراف ، في صراع مع هذا الأرق ، يحول الارهاق زفراتها الى أنين ، يخرجها من الخيال الى مسرح الاحتمالات الرهيبة ...فتحت عينيها ، تنفست الصعداء ، نبضات قلبها تكاد تطغى على دقات المنبه التي تطارد الزمن لبلوغ ساعة الاستنفار ، كانت الغرفة مظلمة ، ترد جدرانها صدى الآيقاع بطريقة عجيبة تثير الأعصاب ، مزج فيها السكون بضوضاء النفس اللوامة و حركات العقارب التي تطوي المسافات من العمر في عجالة مفرطة ، تخفي سذاجتها الحدث بالحدث و تنتقل من حال الى حال ، يتداول كل شيء في نفسها و تتعاقب الزوابع ...النقاط اللامعة المضيئة و سط الظلام على شكل دائرة مفرغة ، ينبعث من مركزها شعاعان ، تشير بهما الى الساعة الثانية صباحا ، انها لم تنم أكثر من ساعة واحدة ، و لم يتخلف ذلك الكابوس الذي يطاردها في النوم مثل اليقظة . و بدأت من جديد ساعات العذاب و التأنيب ، يمزق الندم بمخالبه المفترسة الطوية الكتوم ، تتقلب يمينا و شمالا ، تدس رأسها تحت الوسادة ، تتوسدها ، تشد رأسها بين يديها ، تعض على شفتها ، محاولة بذلك أن تدفع تلك الفكرة الجنونية بعيدا بكل ما تملك من قوة ، تصاعدت وتيرة تنفسها وامتزج خفقان القلب بريبة سكون المحيط الذي يحرك النوابض في كل شيء ، استحوذت الروح الشريرة على مجمع الحواس، فانسلت من فراشها كأنها حية انسلخت ، و تسربت من غرفتها الى المطبخ ، حملت خنجرا و خرجت تشد بين أنيابها على ارادة كانت تخونها دائما ، ارادة تكاد تنفلت من حين الى حين ، تمشي على دقات قلبها و الدموع متحجرة في عينيها التي تكاد ان تتفجر من شدة الاختناق ، تشق الرواق تحت ضوئه الشاحب في اتجاه غرفة خضراء ...و لما وصلت أمام الباب التفتت يمينا و شمالا ، انتظرت قليلا ، ثم دخلت و أغلقت باحكام ، أسندت ظهرها اليه تتحسس و تستجمع قواها ، وهي تحدق فيما حولها بدافع غريب، وقع بصرها على صورة خضراء في عيد مولدها الأول ، تحفة فنية صغيرة من متاحف أفريقيا السوداء وسط اطار مذهب على طاولة السرير ، يعكس زجاجه الضوء المتسرب من فجوات النافذة ، فتقدمت و هي ترتعش ، تطوي بخطوات مترددة خمسا و عشرين سنة من العمر في لحظات ، تريد القضاء على ذلك الكابوس الذي يطاردها ، تريد أن تجعل له نهاية في هذه الليلة...أشاحت بوجهها عن الصورة لتقطع شريط الذاكرة ، فوجدت نفسها أمام واقع يتحدى ...انها ممدودة تتوسد ذراعيها ، تعانق ببراءة حلم الحياة ،على ضوء الشارع الذي يتخلل الفجوات و ينعكس على بياض السرير ، تظهر صورة من الظل الأسود ،انها مستلقية على الفراش ...أروع ما أبدعت يد الخفاء في رسم غرفة نوم لملكة الجمال عند الزنوج ، و أمام هذا المشهد المستسلم الآمن الذي تزينه الطمأنينة ، صرخ الواقع في وجه سترة ، صرخة البراءة يتحدى القدر المزيف الذي أريد له ، فبدأ مفعول القلب يحل محل تفكير العقل ، و كأن جسدها تلقى حقنة من منبع العاطفة ، فأحيا مشاعر الأمومة الصادقة التي أريد لها الاغتيال ، و رفضت اليد الانقياد ، فشلت و سقط الخنجر ، وارتشق النصل في قدم سترة فصرخت ، انه سهم الحقيقة التي تستيقظ دائما في آخر لحظة للحسم حتى لا تكون ضحية التزوير ، وانتشلت خضراء من نومها ، و هبت واقفة مستجمعة تستر جسدها باللحاف و تزلزل بصرختها أركان كل البيت ، سقطت سترة على الأرض و قفزت خضراء نحو الزر فأوقدت المصباح ..
* خضراء: أمي ؟!!! ماذا حصل ؟.. ما بك ؟..
* سترة : لا شيء ...لا شيء ، ناوليني الكحول ،أسرعي بعلبة الدواء ...انها في الحمام ..أسرعي ..
* استيقظت كل العائلة على هذا الصراخ الذي مزق الصمت المطبق و تناسقه مع سكون الحركات ، هبوا جميعا نحو غرفة خضراء التي كانت دائما مسرحا للشغب و المناوشات .... هكذا بدأ النزيف يوما في هذه الأسرة ، أحدثته الحقيقة التي ترفض الاغتيال و لا تؤمن بالموت حتى تقتل الافتراء...
* التف حولها الجميع ، وجلست خضراء أمامها ، مرتبكة ، تنظف الجرح و تضمده ،محاولة عبثا ايقاف النزيف ، و لما أغمي عليها حملوها على السرير ، واكتشف الجميع الخنجر الذي كان تحتها ، وساد الموقف نوعا من الريبة و الاستياء ، فأحست خضراء بأنها محل شك و محط نظر، فانتبهت لنفسها ، حملت ملابسها و ذهبت الى الغرفة المجاورة ، و لما عادت و جدتهم قد نقلوها الى المستشفى...
حملت سفطها و خرجت ، وانصفق الباب وراءها ،كأنه طبل قرع للاعلان عن نهاية فصل من عمرها و بداية فصل آخر ...
كانت الشوارع خالية ، تمتد أمامها نحو المجهول ، نحو الضياع الذي تصنعه الليالي الموحشة ، متعبة تتقدم و هي تلعن نظام التبني الذي يصطنع الأمومة و الأبوة الكاذبة، تلعن المنطق الفلسفي الذي يؤمن بالأصل في الأشياء كلها ، و يفرضه حتى على الذات التي ترتكب الجرائم و الحماقات و تتنصل منها ...و خرج من عمقها السؤال الملعون ، السؤال الخزي ، سؤال العار ، سؤال البؤس ...من أنا ؟...كأنني ليلها المظلم ، انها تكرهني لأنني لقيطة !.. لأنني سوداء !.. انها تمارس علي زمن النخاسة و العبودية ...أم لأن ابنها كريم أحبني و يريد أن يتزوجني ؟..ما أتفهني و قد صدقت ...
التفتت ، عبوسا كان الشارع ، تتقدم وسط لسعات البرد القارص ، و زخات المطر اللاذعة ، شارع معظم مصابيحه احترقت و من يصلحها ؟.. ، برك الماء على الرصيف تتلألأ ، تعكس أشعة الضوء الشاحب ، غمامات من الضباب تسوقها ريح القر نحوها ، قالت في قرارة نفسها ..حتى أنت ؟..عندما تأتي أيها الشقاء تأتي بالكل ..
تحاول خضراء اختراق مخازن الذاكرة و ملامسة ما وراءها ، لعلها تسترجع ذلك اليوم الذي صنع بؤسها مقابل لحظات متعة ، ربما بثمن بخس ، أو بدافع حب غموس ، يوم النزوة التي قذفتها في رحم عاق ، جعلها الرقم المجهول في معادلة خبيثة و دنيئة ...و لكن ..
تودع بعيون همعة تلك القرية الهاجعة التي كانت تحتضنها فيها الجدران برفق انبجاس الحجر ، امام اجحاف البشر .. هنا كانت تأوي حينما تكتسحها رغبة البكاء ، أو تعاقب لآتفه الأسباب ، هنا كانت تخفي دميتها لما كانت صغيرة خشية عليها منهم ، هنا دفنت قطتها لما سمموها لأنها سرقت عظما سقط من المائدة ، في هذه الحديقة أشياء كثيرة لا تزال تتذكرها ...و هذه دار عمي المبروك الأسود ، يلقبونه ببامبرا ، ذلك الرجل الرحيم ، آآآه ، عمي بامبرا و هذا السواد الحاني الذي كان يجمعنا ، وكلبه ركس صديقي الوفي ، كلما دخلت عليهم يصعد معي و يلعقني ، يلعب معي كأنه طفل مشاغب ، من هنا كنت أمر الى المدرسة ، زجاجها مكسر و بدون مدفأة يعلمنا جلاد لا يرحم ...المدللة الوحيدة كانت بنت رئيس البلدية ، الحاج قادة ، لا يعرف حتى المكان الذي يجب ان يمضي فية على الوثائق الادارية ... تذكرت عامر، كانوا ينادونه بابن السوداء ، تضحك ، آآآه منه كان هو كذلك ماكر و شيطان ، مغامراته مع المعلم لا تعد و لاتحصى ، صديقاتها البدويات كن يقضين أوقات الفراغ أمام المدرسة ،يأكلن الخبز و اللبن البارد، كانت تتمنى أن تأخذهن معها الى البيت ولكن ...في بعض المرات تفقد شهيتها و تخنقها الرحمة بهم
هذا دكان السنوسي مغلق بخمسة أقفال ، مسكين عمي السنوسي رغم كل هذا الحرص و اليقظة و سرقوه عدة مرات ، دائما أبناء الشافي ، حياتهم كلها سجون ، يقودون جماعة أشرار ، و يا ويح من يبلغ عنهم ، و حتى اذا دخلوا السجن ، هم أول من يخرج..فقدت قدرة مقاومة البرد ، و جرى في جسدها دم بارد ، و بدأت ترتعش من الخوف ، تلتفت يمينا و شمالا ، راودتها فكرة الرجوع الى البيت ، لكن الجرح كان أعمق من معالجته بالعودة ، بالعكس المجهول أرحم ، و من يدري ... تذكرت و هي التي أفنت عمرها في خدمتهم ، تطبخ ، تغسل ، و تنظف ..حملت شقاء البيت منذ طفولتها ، هكذا نشأت ، يحبونها أفرادا و يمقتونها جماعات ، تعرف كل شيء عنهم و لا تعرف عن نفسها شيئا ، يلقبونها باليابسة و هي أخصبهم بدنا و أجملهم رسما ، تضحك غير مبالية بهم ، يكرمهم الأهالي خوفا من أذاهم و لنفوذهم ، يأتونهم بالسمن و الصوف و اللبن و الخضر و الفواكه و خرفان المناسبات ، يتوسطونهم للرشاوي و قضاء حوائجهم ، كان أبوها بالتبني رئيس قسمة الحزب الحاكم ، وحده في القرية تصحو على يديه و تمطر ، انه من قبيلة اولاد سيدي ساد ، التي تمثل الأغلبية في هذه المنطقة ، تعصب الآباء و تشيع الأبناء بالشيوعية الحمراء التي لا ترحم حتى من يخالفهم في اللباس ، أسسوا لعقلية فرنسية بمراس أعرابي ، ظاهره رحمة و باطنه عذاب ، و طال عليهم المثل القائل ..فارس من ركب اليوم ..
انها الآن في بوابة القرية تنتظر القدر الآتي متحدية كل الأعراف ، تتصور مغامرتها مشاهد مختلفة من فصول هذا المجتمع المعوق ، حين يمثل مسرحية اختفائها، و هي كذلك حتى أيقظها ضجيج محرك شاحنة لشركة سوناطراك، شركة البترول الذي يراه الجميع والغاز الذي لا تراه العين المجردة ، أشارت الى السائق فتوقف ، فأسرعت تتسلق السلم ...ألقت نظرة أخيرة على قرية القسوة...
السائق : الى أين أيتها الجميلة ؟
خضراء : الى مدينة أروان .. وتوقفت تنتظر الاذن ..
السائق : أدخلي ، وأغلقي الباب جيدا .. مرحبا بك في عالم الطريق
خضراء : شكرا
كان السائق ضخما ، يتجاوز الأربعين من العمر ، أبيض بشنب أسود كثيف ،و شعر طويل ، عريض الوجه صغير الأنف بمناخر الثعلب و دقيق الشفتين ، يرتدي معطفا أسود من الجلد الخالص ، تحته قميص أزرق بمربعات سوداء ..
أنطلقت الشاحنة تنتفض من عالم السكون و قيود المكان ، كأنها وحش يهاجم الزمن ، مقارنة بالذات البشرية بدت لها الشاحنة كبيرة جدا و مدبر أمرها صغير جدا ..كانت رائحة التبغ الممزوجة برائحة المازوت تعكر الجو الداخلي ، ففتحت خضراء الزجاج دون اذن ، و فتح السائق الراديو..
السائق : القرآن ..صح نومكم في المحطة..
أطفأه ، و أشعل سيجارة ، كثرت حركاته و نظراته و فهمت خضراء أنه يبحث عن رأس حبل للثرثرة ، فبادرته قائلة
خضراء : هل عندك أولاد ؟..
السائق : لست متزوجا ، أفضل حياة العزوبية ، لأنني وجدت في تنقلي هذا عبر هذه المسافات الطويلة متعة ما بعدها متعة ، و الزواج مسؤولية والتزام كبير ، و قيود لا أتحملها ، الحرية عندي أغلى من أن أتقيد برابطة لست واثقا من نجاحها ..
في هذه الأثناء كانت خضراء قد غادرت الشاحنة ، متحدية سرعتها ، تحوم تلك النفس كاليرقاء في عمق التفكير الذي يحاول عبثا اختراق الماضي ، لم تتوصل الى شيء ، سراب و ضبابية ، و لا نهاية تمتد من كل جهة ، تدفع الى الضياع .. و بدت للسائق على تقاسيم وجهها تغيرات الصراع الذي تعيشه فقال
السائق :هل أنت مريضة ؟..
الا أن تناسق اجترار المحرك الذي كان يأكل بعضه بعضا ، و احتكاك الأفكار المتصارعة في نفسها حال دون وصول السؤال الى مداه.. فهمزها..
السائق : هل عندك مشاكل ؟..
خضراء : لا ، لا شيء ، مجرد غفوة من حزن الفراق ..
و حتى تبعد الحديث عن نفسها ، تابعت تقول
خضراء: ما هي الأماكن التي تعجبك في وطننا الحبيب ؟
السائق : تعجبني زيتونة سيق ، و وردة البليدة ، و مياه سعيدة ، و ملأة قسنطينة ، و سروال العاصمة ، و جلباب تلمسان ، و حايك وهران ، و وشم الصحراء ، انني وطني محافظ حتى النخاع ...أهوى كل شيء يربطني بالماضي بالأصل ، بالتاريخ ، حتى الأسطورة أعشقها ...
خضراء : الماضي ؟.. الأصل ؟.. التاريخ ؟.. هذه كلمات عجزت معاجم العالم عن شرحها ،و اثبات حقيقتها و شرعيتها ، أنا لا أومن بها ، لأنها مزورة ، مفبركة ...الحياة هي المستقبل و الماضي هو متعة الحلم عند الأقوياء والكابوس المزعج عند الضعفاء ، المزعج ، نعم المزعج و المفزع .
السائق : رغم هذا أنت تسأليني عن الماضي ، و كل حاضر وليد ماض معين ، و حاضرنا تاريخ المستقبل ، هكذا علمتني مدرسة الحياة ، مدرسة السفر ، مدرسة الطريق الطويل الذي يصل الزمان بالمكان ..
خضراء : الطريق ؟.. الطريق مدرسة المشردين ، و المنبوذين ، و بقايا هذا المجتمع الذي لا يرحم ..
السائق : أظن أن النكران و الجحود قد أصاب منك حظه و أصابك في الصميم ، لا يتعفن الماء الا في البرك ، أما المياه الجارية تمخر الأرض و تشق طريقها في الصخر و منثنى الرابية ،تبقى دائما أطهر و أنقى ..
خضراء : يذكرني كلامك بسبخة وهران و واد الحراش ، انها فضلات أهلها لا غير ، انهما التاريخ الحقيقي لمخلفات البشر ، لأمة تبلع دون هضم ، أمة متنكرة لأفعالها و أقوالها ، هكذا التاريخ الذي تمجده أنت أيها المحافظ ، لا تحاول، لن يصلك صافيا نقيا ، التاريخ يا سيدي فضلات الأمم الحية ، تقتات منها الأجيال الميتة ، و صدق من قال ، ان صدق التاريخ فأنا أكذوبته الكبرى ... خيم الصمت من جديد و انقطع تيار الكلام ، وانفرد كل منهما باجترار كلام صاحبه ..
و قال السائق في نفسه ...ان هذه القلعة السوداء شرسة في النقاش ، لا أظن أنها تفتح أبوابها الحقيقية لأحد ، ذكرته بزنوج أمريكا ، يقال أنهن يتميزن بالأنفة و الزهو ، و الافراط في الكبرياء ...لا شك أنها في حالة متوترة ، أو أنها تعاني من عقدة نفسية ..
السائق: موظفة أنت أو طالبة ؟..هل لي أن أعرف أسمك ؟
خضراء : اسمي بنية ، أعمل ممرضة
السائق: عمل انساني مشرف
خضراء : في وسط الوحوش ، بل أفظع من ذلك ، انها انسانية آلية تطورت فيها آليات الظلم و الجحود ، و..
فقاطعها قائلا
السائق : كفى ، كفى ..توقفي قليلا ، ما هذا التشاؤم يا سوداء الباطن ، انك تعانين من عقد كثيرة ، و كأني بك في عهد النخاسة و العبودية...ألست كالريح المرسلة ، حرة طليقة ، لا يقيدك مكان ولا يحاصرك زمان ؟..
خضراء : آه لو كنت ريحا ... لعصفت بهذه المجتمعات ، و قذفت بها الى الجحيم ، أي حرية هذه التي تتكلم عنها ، حرية الذباب و الحشرات و البهائم ، هذا المفهوم للحرية هو الذي صنع نخاسة العصر واستعبد الجميع ..
السائق : هذه فلسفة و كلام لا يعكس الواقع ، لو كنت فلاحة لمات الناس جوعا ، تشاؤم وانهزام كلي ، أمام تحديات بسيطة و طبيعية يصادفها الجميع و في كل المجتمعات
خضراء : لست فلاحة والناس يموتون جوعا ، و لست حاكمة والناس يموتون مئات المرات ظلما ...و الناس ...و الناس...أما أنت لا شك أنك ابن ما وراء العصر ، أرجوك لا تجعلني أسجل أسفارك في سجلات العبثية ، بالله عليك بأي عين تنظر أنت الى هذا المجتمع ؟..أبهرتكم السطحيات ... خنقها الدمع فسكتت...
و عاد الصمت ليخيم من جديد و يترك المجال لسمفونية الاجترار ،اجترار النفس و الحديد ...يستوي الطريق أمامها و يمتد حتى يدرك الأفق ، ثم تأتي المنعرجات ، الأشجار تمر كأنها تقتلع و يرميها الزمن الى الوراء بكل ما أوتي من قوة ...هكذا تنظر خضراء الى الأشياء ، الزمن في نظرها لا تقهره الا القوة ، قوة السرعة ، و سرعة الحركة ، رغم أنها تقدمنا الى الموت ، و تحدث الاصطدامات و الانكسارات ، الا أن الانسان عازم على الوصول بسرعة على حساب العمر ...هكذا التحمت نفس خضراء بالمسافة و شجون السفر، و دون سابق انذار قفز تفكيرها الى حادثة البارحة ، ماذا سيقولون بعدها ، سيقولون هربت المجرمة ، و يقول آخرون اراحنا الله منها و يقول ...آآآه ،كريم هو الوحيد ، نعم هو الوحيد ... و بدأت مراسم الندم تتشكل في كل مدارك ذاتها ، اغرورقت عيناها و كادت تنهار بالبكاء ، تصارع فكرة العودة الى البيت بأيد فارغة وقلب جريح ...حينها كان البيت مسرحا للتساؤلات ، و حقلا للظنون و الاتهامات ، الكل في الغرفة حول سرير الأم الطريحة ،رؤوس منحنية أثقلتها التساؤلات ، و شفاه تأكلها أسنان الغضب الذي تغذيه الكلمات الملتهبة ، التي تتطاير كالشظايا من كل جهة ...
كانت حينها نونة الشبح ، هكذا ينادونها ، هذه العمة العانس ، واقفة أمام الباب ، تطارد بنظراتها عيون الأم ، كأنها تريد أن تقول لها شيئا ... امرأة طويلة ، بوجه عريض تملأه عيون البوم ، تتابع مجريات الحديث في صمت مريب ، كأنها تخفي وراءها منبع الحدث ، فضولية الى أقصى درجة ، لا تفوتها صغيرة ولا كبيرة ، تساعدها شساعة البيت وكثرة أجنحته على تحركاتها المريبة ، تجدها دائما حيث لا تتصور أن تكون ، وحيث لا يجب أن تكون ، كأنها السراب ، تتصرف ببرودة ، تمر أمامك مر الكرام ، أينما كانت يثير تواجدها اسئلة الشك ، لا تتكلم كثيرا ، عندما تنظر اليها تشعر وكأنك أمام شبح تتصارع في عمقه أرواح متناقضة وملامح الوعيد ، تزرع في نفسك رهبة ممزوجة بنوع من الشفقة والحذر ، ليلة الحادث شاهدتها خضراء في آخر الرواق ، واختفت فجأة ، ولما خرجت كانت تراقبها من شباك الطابق العلوي ... لا يعرف عنها سوى أنها العمة الشقيقة ، كانت هي اللبنة الأولى في تشكيل هذه الأسرة ، تحتفظ بجميع أسرار البيت وماضيه ، لا تقوم بأي شغل ، كأنها السيدة الشرفية للعائلة ، لا يدخل غرفتها أحد ، تعيش في عزلة وهي محور البيت ، تظهر وتختفي بسرعة ، لا يحدد أحد مكانها ... في هذا البيت لا تستطيع أن تجزم أنك وحدك الا وهي معك ، الجميع يتحفظ ، صورة لظل ليس له جسد ...
ثورة : هذا أقل ماكنت أتوقعه ، ان لعنة اللقطاء تطاردها حتى الموت ، سترون ذلك ..
الأم : لقد انتهى كل شيء ، لن يكون لها المكان بيننا أبدا ، قالها الأولون ًالمربي اليه ربي ً هي ذبحت الكلب لا تسلخيه أنت .
ثورة : كنا نحنو على أفعى ، لم أكن أكرهها الا لسواد أفعالها ، انظرو الى ذلك الأبله ، أراد أن يتزوجها ، كم كنت غبيا وساذجا ، وهكذا يعيرون أبناءك بأولاد اللقيطة
الأب : يتزوج من ؟
ثورة : يتزوج خضراء
الأب : خضراء ؟! .. هذا هراء كيف يحصل هذا في بيتي ؟! لماذا أنا آخر من يسمع في هذا البيت ؟
الأم : هون عليك يا حاج مجرد كلام أطفال ، لم يكن من الأهمية بمكان ، وأنت يا ثورة كفى !..لا تزيدي .. كفي عن أذى أخيك
كريم : سأبحث عنها لعلها تكون عند عمي بامبرا
الأم : لا تحاول يا بني ، انها كابوس العائلة وانزاح ، دعنا منها ..فقط لا أريد أن يسمع أحد بهذه الفضيحة ... خضراء سافرت
ظهر نوع من الارتياح على وجه الأم ، كأنها أحطت رحلا ثقيلا ، نسيت جرحها وهمت بالوقوف ، فأعادها الألم الى وضعيتها ، تنهدت وهي تنظر الى السقف وهمهمت ، وأخيرا جاءت النهاية وبتكلفة أهون ...
كريم : ماذا تقولين ؟
الأم : لا شيء أراحنا الله منها
نظر اليها كريم مستغربا كيف تحولت أمه بين عشية وضحاها الى وحش لا يرحم ، ماكان يظن أن أمه تحمل كل هذا الكره لخضراء
الأب : اتركوها ترتاح قليلا ، لقد تعبت كثيرا ، أما تلك اليابسة ، يعني بها خضراء ، فالى الجحيم
انصرف الجميع وبقي كريم ، ولما استوت أمه على فراشها ، وضع على صدرها الغطاء ، وهمس في أذنها قائلا ...
لماذا كل هذه القساوة يا أمي ؟!.. لماذا كل هذا البغض ؟! لماذا ؟ لماذا ؟
الأم : كم أنت طيب يا كبدي ، ليت الناس كلهم كريم ، يسامحون مثلك ، ولكن هيهات هيهات يا بني الدنيا آكل ومأكول ...
خرج كريم يجر الخطى ، وهي تنظر اليه بعين الشفقة ، تنهدت وقالت .. من أجلك ، ومن أجلها ، ليس لي خيار آخر ، لعل هروبها يكون قد حمل معه كل الافتراضات المأساوية التي كانت من المحتمل أن تصيب هذه العائلة ..
وصلت الشاحنة الى محطة الوقود ، تزودت ثم انطلقت ولا يزال السائق يلتزم الصمت وأحست خضراء بنوع من الحرج وهي تنظر الى صاحب المعروف الذي وضعته في قفص ، وبدى على وجهه الانهزام وشعرت في نفس الوقت بقوة تدفعها الى خوض المغامرة بكل ثقة ومواصلة الطريق ، لعلها تكون قد تزودت هي كذلك بعزيمة أقوى ..
الآن انهما على مشارف مدينة أروان ، هذه المدينة الساحلية التي سلبت بشوارعها ومحلاتها وساحاتها ، ومآثرها التاريخية ومراكزها الثقافية وشواطئها الذهبية ، سلبت بهذا الارث الذي تركه الاستعمار الفرنسي عقول مريديها ، هنا ، في هذه المدينة كل منشغل بنفسه ، هنا تذوب كل الفوارق الا فوارق العلم والمال ، لكي تعيش هنا يجب أن تندمج ، ويبقى هذا الوجه الظاهر لهذه المدينة العريقة التي تعاقبت عليها عدة حضارات واحتوت مختلف الثقافات
من هنا تبدأ رحلتي ، هكذا قالت في قرارة نفسها .. لا يزال شيء من الخوف يدفعها الى التردد ، الا أن الأمر قد تجاوز حد التراجع ..
سأعيش الغربة ، أستنجد بالعيادات ولا شك سأجد عملا ، ولا ربما في المستشفى ، لا أحتاج الى سكن .. المهم سأكافح من أجل البقاء ولو بالانحراف ، ليس لي من ألام عليه ، لا ، لا يا خضراء ، سيحميك الرب وليس لك سواه ، ومن بعد ، ذنبي على من أوجدني وضيعني ، سأحاول ..
السائق : ها نحن في مدينة أروان ، مدينة اللهو والطرب والخمر والنساء ، هنا يا آنستي يتنفس التاريخ بثقافاته المختلفة ، ترين موزايك من البشر حسب الأصول ، الروماني ، والبربري ، والبيزنطي ، والتركي ، والعربي ، والفرنسي ، والاسباني ، واليهودي ، و ، و ... كلهم محسوبون على العرب الا القبائل لا يزالون رومان وانظري الى فيزيولوجيتهم بالمقارنة ، الأفارقة يتميزون بالشفاه الغليظة و أنوف عريضة ، المصريون مثلا رغم أنهم بيض الا أنهم أقرب في الوصف الى أغلبية الأفارقة ، أما القبائل هم من بقايا الضفة الأخرى ، ولا يزالون لأنهم لم يندمجوا ...
كثيرة هي الأشياء التي ستكتشفينها خلف الممارسات الغريبة ، مثلا العبيد لايزالون في رقصاتهم الفولكلورية يستعيدون ظاهرة الجلد ، سجلها التاريخ بهذه الطريقة على شكل شطحات روحانية الى يوم الدين ...
دخول البيض معهم تكفير عن هذا الذنب واقتصاص
انها مخلفات الأمم التي مرت من هنا وشكلت النواة الأولى لكيان جديد ، يجمعهم في آخر أعمارهم عند سن التقاعد الاسلام ، انه العربة الأخيرة في قطار الحياة التي تنقل الى القبر ، فلا تتعجبي ، ربما ترين أشياء أخرى وتكتشفين عوالم خفية وطقوس أغرب من الخيال ، فلا تتعجبي ، انك في مدينة أروان ....
خضراء : لأول مرة آتي الى هنا
السائق : اذن كوني حذرة ، هنا يعروك والبوليس ينظر ولا ينقذك أحد ، لأن ماوراء نجاتك فائدة ، واذا كانت باريس مدينة الجن والملائكة ، فمدينة أروان مدينة الجن فقط ، منهم ومنهم وقليل ما هم ...
ستتذوقين التاريخ وتستلذين معانيه وتتحولين من المحافظين ، فاذا كنت من أصول افريقية هنا تستمتعين بذلك ، فأنا مثلا من أصول تركية ، لا نزال تركيبة أساسية في هذا البلد .
على كل حال اسمي سلطان ، تحصلت على شهاد الليسانس في التاريخ من جامعة الجزائر ، وأعمل كسائق في سوناطراك لأنني أحب السفر ، وأحب المال ... ربما يجمعنا الطريق مرة أخرى ونعزف حينها على وتر واحد .
توقفت الشاحنة وقال السائق : لا يسمح لمثل هذه الشاحنات بالدخول الى المدينة ، لا بد أن تنزلي هنا ، هذا أقرب مكان لوسط المدينة ، هناك النقل بأنواعه لكل وجهة تريدين .
لم تجد خضراء ما تكافئ به السائق ، فأهدته ابتسامة خاصة جمعت فيها كل معاني الشكر والامتنان ، نزلت ولما استوت واقفة على الرصيف ، نزعت خاتمها ومدته اليه
خضراء : خذ ، انه من الذهب الخالص
فنظر اليها ، هز رأسه ، ابتسم وتحركت الشاحنة بكل قوة ، أعادت خاتمها في اصبعها ومسرعة ارادت أن تمر الى الرصيف الآخر ، وبمجرد ما ظهرت خلف الشاحنة ، فاذا بسيارة قادمة بسرعة جنونية ، اراد السائق أن يتحاشاها فاصطدم بسيارة اسعاف قادمة من الاتجاه المعاكس وارتطمت بهم سيارة الشرطة التي كانت تطاردها ... كوم من الحديد ولحوم البشر ، لم ينج في الحادث الا خضراء ، نقلت الى المستشفى في غيبوبة تامة ، وضعوها في غرفة منعزلة تحت حراسة مشددة ...
كان النوم برزخيا عميقا ، فضاء أزرقا ، لا بداية له ولا نهاية ، مجرد من الاتجاهات ، ضياع ، سباحة في عمق الماء دون مقاومة ، سكون مطلق حيث يتوقف مفعول الشعور واللاشعور ، يندمج فيه الأنا والذات بالفراغ ، انه اللاشيء ، انه الذوبان والفناء ، كأن هذا الجسد وجد ضالته ، اغتسال وتطهير من الماضي وموت السؤال ...
فجأة هبت نسمة هواء ، ثم أخرى ، وبدأت الأشياء تتشكل ، تتركب ، والحواس تستعيد وظائفها ، وقد تلقى الجسد البارد نفحة من دفء الحياة ، انه يعود من بعيد ، من عمق السفر الآخر
خضراء : آآه .. آآه .. آآه
الشرطي : ألو .. ألو .. سيدي المحافظ ، لقد استيقظت المتهمة
الممرضة : لم تستيقظ بعد ... لقد خرجت من الغيبوبة فقط ، ولا تزال تحت تأثير الصدمة ، لا ندري كيف تكون حالتها النفسية ، على كل حال لن يراها المحافظ قبل الطبيب .. أنصحك أن تبقى أمام الباب
الشرطي : أبدا ، عندي أوامر ، لن أبرح هذا المكان
خرجت الممرضة ، وبعد هنيهة عادت ومعها الطبيب ، جص نبضها ، تفقد الأجهزة ، ابتسم ونظر الى الممرضة ، ابتسمت ، ولما هم بالانصراف دخل المحافظ
المحافظ : آه ، دكتور .. خرجت من غيبوبتها ؟
الطبيب : لا ، لا تزال تحت تأثير الصدمة ، لم تخرج بعد من مرحلة الانعاش
المحافظ : اني في سباق مع الزمن يا دكتور ، والوضع لا يخدمني
الطبيب : لا أسمح لكم بأي سؤال قبل نهاية مهمتي واخراجها من دائرة الخطر
المحافظ : لن نكون ثقلاء ، سؤالين أو ثلاث
الطبيب : أبدا ، انها تحت مسؤوليتي
المحافظ : أي مسؤولية هذه التي تخدم المجرمين
الطبيب : تعالى معي الى المكتب ونتحدث
فراغ كبير يحيط بها ، كأنها ريشة تسبح في الفضاء ، دوران في الرأس ودافع للقياء ، وأوجاع مع كل نابض ، رائحة غريبة تملأ المكان كأنها تخرج من جوفها ، شبح أبيض تتشكل ملامحه وتختفي خلف الضباب ، رويدا رويدا ، تقوم بمجهود أكثر ، تقاوم ، بدأ يتبدد ، ينقشع ، ويظهر وجه امرأة تبتسم ، نعم انها شابة جميلة بلباس أبيض ، يحول الدمع بينهما ، أغمضت عينيها من شدة الألم ، أرادت أن ترفع يدها ، آآه .. آه ..ماء .. ماء
سقطت قطرات على شفتيها الذابلتين ، تلعقهما وتبتلع بصعوبة ، قطرة أخرى ، ثم أخرى ..
خضراء : أين أنا ؟
الممرضة : أنت في المستشفى ، لا تخافي لقد تجاوزت مرحلة الخطر ، لا تتكلمي كثيرا حبيبتي ، ولا تتحركي حتى لا ترهقي نفسك أكثر ، أغمضت عينيها من جديد واختفت ملامح الحياة ، في نوم عميق .. جصت نبضها ، الأجهزة تعمل عاديا ، ليس هناك أي اشارة لخطر ما .. انه الارهاق فقط..
أغلق الطبيب الباب ، وجلس ودعى ضيفه للجلوس فأبى قائلا
المحافظ : ليس الوقت للجلوس والحديث ، أنا بحاجة الى تصريحات ، الوقت يداهمني يا دكتور ، تعقل قليلا
الطبيب : عندما تنتهي مهمتي وتخرج المريضة من دائرة الخطر
المحافظ :المجتمع كله في خطر ، هذه العصابة ان تمكنت من الفرار ستكون ضحاياها بالآلاف ، يستحيل الانتظار أكثر
الطبيب : هب أنها ماتت
المحافظ : كنا نحول اهتماماتنا الى اتجاه آخر ، وحتى الآن هي أقرب الى الحقيقة من غيرها
الطبيب : أنت يا سيدي لا يهمك الا التحقيق ، انها مهمتك ، تريد أن تقوم بها على أكمل وجه ، ورغم كل الصعوبات يبقى لك هامش التحرك واسعا ، أما نحن فليس لنا الخيار، تهاون بسيط وينتهي كل شيء ، اننا نتحدى الموت يا سيدي ، أرجوك لا تحاول ... ومن يدري لعل المتهمة بريئة
المحافظ : ينظر اليه بازدراء .. سآتيك بأمر من النيابة ، مهما كانت نتيجة عملك ، لن تنجو من حبل المشنقة ، وسأتشرف على ما يبدو أن أضعه حول عنقها ، وان ماتت قبل ذلك ، ستدفع أنت الثمن غاليا ..
الطبيب : ستكون مهمتك صعبة للغاية ، يمكن مستحيلة
المحافظ : سنرى ، سنرى ..
خرج المحافظ وقبل أن يغلق الباب ، نظر الى الطبيب ، تبسم وانصرف بكل هدوء ..
الشرطي: سيدي المحافظ لقد تكلمت مع الممرضة
أدخل يده في جيبه ، ينظر الى الممرضة وهو لا يزال يبتسم
المحافظ : تكلمت ؟
الممرضة: نعم .. تكلمت
ولما رفعت بصرها كأنها تراه لأول مرة ، كان وسيما ، تتطاير شرارات الرغبة من عينيه وهو يقترب ، انه فارس الحلم الذي كان يجوب أفق أحلامها منذ زمن بعيد ... سحرها واستسلم كل شيء فيها كأنها سادية
المحافظ: تكلمت ؟ ماذا قالت ؟ ..
لا تزال تنظر اليه ، خدرها بنظرته الثاقبة وانتصرت خشونته الممتزجة بالرقة المصطنعة على تلك الرقة والروح الملائكية ، تنظر الى شفتيه وهي تتحرك ، انها تقول لها ما تريد وبدأت ابتسامة الاستسلام تكتسح وجهها وترسم على المحيا الشغف والاعجاب ، تنبه المحافظ لذلك وحول ذلك التيار الى عمق الشجون الرومانسية فبهتها .. وقال : أتعبناك معنا أيتها الجميلة ، تحملي خشونتنا ، هي الظروف فقط ، لسنا كما تتصورين ، فقط نخفي مشاعرنا ورقة قلوبنا وراء نصوص القانون ، وأحيانا أمام مثل هذا الجمال تخترقنا الابتسامة وتدرك العمق .. نحن ملزمون برفع التحديات .. ساعديني أرجوك .. وضع يده على كتفها فارتعشت وهمت أن ... ثم قالت :
طلباتك أوامر ، سأخرجها من هذا السكوت عن قريب .. كان صوتها قد غشيته بحوحة وارخت حباله..
الممرضة : أرجوك ، لا تخبر الطبيب ، هذه من أسرار المهنة ..
أخرجت هذه كلمة من عمق المكر ،نظر اليها و ابتسم من جديد
المحافظ : هذا رقم هاتفي الخاص ، انني في انتظارك ، شد على يدها بكل قوة ، نظر اليها بعمق ، أكد في سريرتها موعدا ، وانصرف كعادته بكل هدوء ، كانت الممرضة تتبعه بنظرتها كأنه الشمس نحو الغروب ، ترسم في أفق عمرها كل معاني الرومانسية ودخل قلبها في غيبوبة تامة وما هي الا لحظات حتى دخل الطبيب
الطبيب: كيف حال المريضة ؟
الممرضة: آه .. نعم .. نعم .. إنها .. لا تزال ...
الطبيب: لا تخشي شيئا ، عمل الشرطة مروع ، ومعاملتهم خشنة ، ولكن علينا أن نعلمهم كيف يحولون خشونتهم وعنفهم رحمة في خدمة الإنسانية ، عند الأمم المتحضرة ، الشرطي أرحم وأرق من الطبيب ، الشرطي يا بنيتي في الأمم المتحضرة هو ذلك الجراح الماهر وهو يعالج مجتمعه ، لا جلاد سعيد بقطع الرقاب، والقانون عند الأمم المتحضرة يشرع للمساعدة على العيش الكريم والسلام والحرية والأمن والأمان ، ليس موادا لاضطهاد الأمة وذلها واستعبادها ، ان غاية القانون صنع الجنة فوق الأرض ، ولا يعذب بالنار الا رب النار ... نحن نحيي الناس ونمنح لهم الحرية ،هنا تنتهي مهمتنا ومهمتهم تنتهي في السجن أو تحت المقصلة ، نمنح الحياة وهم يمنحون الموت ، وما أكثر أخطائهم والتاريخ يشهد .. القانون لا يرحم إلا الأقوياء ، والا كان كتابا منزلا ...
فالنكن مدرسة لهؤلاء الذين يلهفون وراء الدرجات على جثث البؤس ، انهم بحاجة الى جرعة عاطفة وكثير منهم نشأ محروما من أدنى لمسة ... وأنت أعرف بهؤلاء ...
الممرضة: بحكم عدم التجربة كان الامتحان اليوم عسيرا ، لم أتعود على هذا النوع من المعاملات ، على كل حال المحافظ يظهر عليه طيب ومتفهم
الطبيب: الا معك أنت ، أما معي فكان العكس تماما ، مثل الوحش الذي حيل بينه وبين فريسته ، انهم يتدربون على ذلك ، لا يتركون للعواطف مكانة في نفوسهم ، الذي يعمل في الأمن يبيع أمه وأبوه من أجل ترقية أو رتبة أو حتى كلمة شكر ، لو تعلمين كيف يتعامل الشرطي السويسري والانجليزي والسويدي مع مواطنيه لا تصدقين .. وشتان ما بين يد انسانية حتى اذا ضربت تضرب برفق ، ويد من حديد ..
سكت الطبيب بعد أن تنهد وكأنه يجتر كلماته ، هز رأسه وقال :
ستخرج الليلة من غيبوبتها نهائيا ، بدأت تتحسن بسرعة ، ابقي بجانبها ، سأتغيب الليلة ، يخلفني دكتور آخر ربما الدكتور مراد ، ذلك الشاب الوسيم ...
الممرضة : حسنا ، سأفعل
انصرف وعاد الوضع في نفسها على ما كانت عليه ، ترتبت الأمور ولم يبق سوى هيامها بالمحافظ ، فقررت أن تعمل كل ما في وسعها لإرضائه ... كان الهاتف في الرواق فأسرعت
الممرضة: ألو ، أنا الممرضة ، ستخرج من غيبوبتها الليلة ، أنتظرك بعد منتصف الليل ، كل الظروف مهيئة ..
غربت شمس ذلك اليوم بصعوبة ، أرهقت يد الأمل التي كانت تدفعها .. كان المحافظ في الموعد متبوعا بمساعديه
المحافظ: كيف حالها ؟
الممرضة تكلمت معي ، شربت الماء ، وسألتني أين هي وماذا حصل ، وعادت الى نومها ولا تزال
المحافظ: هل تجاوزت مرحلة الخطر ؟
الممرضة: على ما يبدو ، ستخرج نهائيا من غيبوبتها الليلة ، هكذا قال الطبيب الذي سيكون غائبا كل الليل ، يخلفه طبيب آخر جديد ، تخرج منذ عدة سنوات وعانى ما عانى من البطالة ، انه طيب فوق اللزوم .. يمكنك أن تبقى بجانبها انها فرصتك
المحافظ : لا أنسى لك هذا أبدا
قال هذا وهو ينظر الى خضراء وكأنه ينقش صورتها في ذاكرته ... لم تعثرو ا على أي بطاقة أو ورقة تثبت هويتها ؟
الممرضة: لا ، لا أظن
جاءت بجانبه تزاحمه المكان وتؤكد النفي
المحافظ: هكذا تعمل هذه العصابات اللعينة ، انها من احتياطاتهم الأولية
الممرضة: بدأت أعيش القصص البوليسية التي كنت أقرأها في الكتب وأراها في الأفلام
المحافظ: الواقع أكثر استغرابا وأفضع ولهذا يجب معالجة المرض بالسم
الممرضة: كل الأمراض ؟ حتى مرض القلوب ؟!! انني أتصور دائما الشرطي بدون قلب ، مجرد من العواطف ، بل أكثر من ذلك ..
المحافظ: قولي آلة
الممرضة : حاشاك ، يقولون أنكم تعتمدون على النظرية التي تقول أن المتهم مجرم حتى تثبت براءته ، أما عند الأمم الأخرى فالمتهم بريء حتى تثبت ادانته ، وحتى في القانون الفرنسي القديم الذي هو المصدر الأساسي للمشرع عندنا ، المتهم بريء حتى تثبت ادانته ، و بهذا ما أخذتم من القانون الفرنسي الا ما تجاوزه العصر ، و ما اسقطته التطورات
المحافظ :هذا فيه شيء من الحقيقة، نحن اليوم نعيش تقريبا المرحلة التي كانت تعيشها فرنسا بعد ثورتها ، و بنفس العقليات ، لا نستطيع أن نسابق الزمن و نتعدى الوضع الراهن ، لكل زمن نصوصه ، و اجراءاته ، شعبنا لم يصل درجة الوعي و النضج الذي يفرض علينا أن نشرع له ما تشرع فرنسا لشعبها اليوم مثلا ، جرعة واحدة من الحرية و يبتلعنا بنكرانه و جحوده ، و تجربة التسعينيات أكبر دليل ، ان مجتمعنا يحتاج الى مدة طويلة تحت قيادة قوية تسيره بالوصاية حتى يبلغ رشده ... لا زلنا نعيش نقصا فضيعا و رهيبا في ثقافة العصرنة و و التفتح و قبول الآخر واحترام الحرية الفردية و الحرية الجماعية ، فالجماعة عندنا أشرار ، و الحرية مقيدة ، و الحكم شمولية و استبداد تحت أسماء و مصطلحات الغواية و الغرار ، هذا هو مفهوم المعارضة عندنا ، فكيف يمكن أن نحكم شعبا بهذا التفكير ؟..عندما تزول هذه الظواهر تزول معها هذه القوانين ، لأنها تظهر بحق أنها جائرة ، أما اليوم لا أظن ذلك ، والثورة الفرنسية حررت كل الدول الأوروبية ، و كانت نموذجا عملت به هذه الدول واستطاعت أن تخرج من دائرة التخلف و الانحطاط ، فلماذا لا نعمل به نحن ، هل نحن مثلا أفضل من هذه الدول ؟..
الممرضة: انكم وبكل احترام تحسنون فلسفة المراوغة و الفخوخ لاسقاط طريدتكم ، أكثر من ذلك أنتم متميزون ، فلماذا يقال أن السجون مليئة بالأبرياء و لا يدخلها أصحاب المال و الجاه و النفوذ ، بالعكس ألغيتم الجرائم الاقتصادية التي حطمت البلاد و فتحت الأبواب على مصرعيها للسلب و للنهب و التبذير و احتكار المناصب والتعسف في استعمال السلطة ...
المحافظ: أتريدين من أن نقطع أيدي الجميع ؟
الممرضة : عندما نسمع بسرقة 3200 مليار دينار مثلا بعقوبة سبع سنوات ، لا نرى أشرف من مهنة السرقة و أرحم من السلطة..
المحافظ :نحن لا ندعي الكمال ، و هذه أشياء موجودة في كل الدول ، و المثل الفرنسي يقول ...ليس الممنوع أن تسرق و لكن الممنوع أن يكتشف أمرك ..
قالها و هو يضحك ، و كأنه يريد أن يضع حدا للنقاش ..
الممرضة : أنا لا أصدق أن الشرطي يحب بصدق ، القلب الرحيم لا يملك يدا من حديد
ألمحافظ: هل هذه عقدة أو حساسية اتجاه الشرطة ؟..
الممرضة بكل خبث : انك تؤكد نظريتي
المحافظ : ماذا تعني ؟
الممرضة : أنظر ، انها تتحرك ، انها تريد أن تقول شيئا ...
وضعت يدها على جبينها و قالت بلطف : انها تتحسس
المحافظ : يجب أن تستيقظ ، يجب ..
الممرضة: لا تقلق ، ستفعل ، فقط التزم الهدوء ، انك في مستشفى
المحافظ: لا أحسن الانتظار في مثل هذه المواقف
الممرضة: عقولكم تشتغل ليلا و نهارا ، لا وقت للقلب عندكم ، جردوكم من كل المشاعر الانسانية .
المحافظ: لولا هذه الآلات البشرية كما تسمينها ، لما وجدت لحظة واحدة للعاطفة ، ولعاد عهد النخاسة و أنت الآن في الأسواق نشتريك بثمن بخس
الممرضة : كلمة حق تجاوزها الزمن..
المحافظ : حكم عاطفة
الممرضة: المرأة أنانية في الجانب العاطفي أكثر من الرجل ، آلية في الحب لا شعورية ، انها تقهر العقل لتحظى بالمستحيل ، في بعض الأحيان تدوس كل القيم لبلوغ ما تريد ، بل لبلوغ المستحيل
المحافظ: لو كنت في الجهاز الأمني لغيرت رأيك
الممرضة: هو الكيد والمكر ، انها الوجه الآخر للعصى والعفيون ، ألم يقال أن المرأة ملاك يسكنه شيطان ؟
المحافظ: هكذا نفيت وجود الرجل في كل المجالات
الممرضة: الرجل خلق من أجل المرأة ، وكل عظيم وراءه امرأة
المحافظ: وكل فاشل وراءه امرأة
الممرضة: بمكرها ودهائها ، وهذا جانب من الذكاء
المحافظ: العمل الأمني لا يميز بين الرجل والمرأة ، الذي يهمه هو النتيجة ، الحقيقة ، ولا تهمه حتى الطريقة
الممرضة: أعظم القضايا ماتت مع أصحابها والمجهول المصطنع لا يزال يفرض نفسه ، أنتم من حول الحقيقة الى قضية فلسفية مبنية على النسبية ، هكذا حولها رجال القانون مثلك ...
يقال اذا أعدت بناء بيتك وجدتها لا تزال مجرد كلمات متراصة في جدران
المحافظ: لا تزالين في النظري
الممرضة: انه مجال العقل والحقل العذري
المحافظ: مجرد فلسفة
الممرضة: أم العلوم يا سيدي
المحافظ: كانت أما ، أما اليوم الكمبيوتر بدأ يفكر
الممرضة: وهكذا فرضت الآلة نفسها على المشاعر .. انها نهاية الروح الانسانية
المحافظ: انها السيطرة المطلقة على الأشياء ، وتسخيرها للوصول للحقيقة المطلقة ، الحقيقة التي أتعبت الانسانية عبر أحقاب التاريخ
الممرضة: نتمنى أن لا تجردنا هذه الحقيقة من عواطفنا
المحافظ: لا تخشي شيئا ، قريبا سيصل العلم الى صنع الآلة التي تبكي وتضحك وتحزن في مكان الانسان
الممرضة: وتحب وتكره ، وتنام .... أليس كذلك ؟
هيا يا سيدي هناك غرفة في الخلف باستطاعتك أن تمتد فيها قليلا ، الليل لا يزال طويلا والكلام لا ينتهي ، فاذا حدث جديد أيقظتك ... اتبعني ..
فتحت الباب أوقدت المصباح وقالت :
تفضل سيدي ، النوم أفضل مهدئ للأعصاب
المحافظ: نصف ساعة فقط
امتد على السرير ، وقفت أمام الباب ويدها على الزر ، أطفأت الضوء ثم أوقدته ، أغلقت النافذة ، وقفت على رأسه
المحافظ: لست مريضا
ضحكت وقالت بمكر .. ما فحصتك بعد ..جلست على حافة السرير ، مالت عليه ... لم يحرك ساكنا ، قامت ، أطفأت المصباح وأغلقت الباب وذهبت ... هل خفق القلب في غير محله ؟ هكذا قالت ، ما أبشع الخطأ العاطفي وما أتفه العبثية ...
كانت حينها المريضة قد فتحت عينيها ، تحاول أن تتعرف على هذا المحيط الذي بدى لها غريبا ، لا تستطيع أن تتذكر شيئا ، تترادف عليها الأسئلة ، وبدأت الحيرة تتشكل على ملامح وجهها وهي تنظر الى الممرضة ...
الممرضة: سلامتك
المريضة: ماذا حدث ؟
الممرضة حادث مرور
المريضة: حادث مرور ؟.. لا أذكر !
الممرضة: ما اسمك ؟
المريضة: اسمي ؟ .. اسمي ؟
بهتها السؤال ، انفتح فمها ، وأخذت تنظر اليها ، فاضت عيناها ، انها تختنق ، كانت يدها مقيدة في السرير ، بدأت شفتها ترتعش ، أرادت أن تصرخ وخانها النفس ، فحولتها أنين
الممرضة: أنا ممرضة ، لست شرطية ولا محققة ... يجب أن تقولي ما اسمك وعنوانك حتى نبلغ أهلك ...
تركتها وذهبت لتوقظ المحافظ ، وقف عند رأسها ، رسم بسرعة ابتسامته الماكرة ، وضع يده على جبهتها وانحنى عليها بكل حنو ، يصطنع الرفق ,قال :
أنت الآن أحسن
المريضة: تهز رأسها
المحافظ: ماهي الا أيام وتعودين الى بيتكم ، بالمناسبة أعطينا عنوان بيتكم حتى نتصل بأهلك
أخرج كناشا وقلما واستوى قاعدا أمامها ينتظر الاجابة
ما اسمك ؟
تنظر اليه المريضة بعيون الحيرة ، غريب انها لا تعرف اسمها ، تتساءل يستحيل أن لا يكون لي اسم ، تنظر الى الأجهزة الطبية ،أشياء كثيرة مبهمة تدور في خلدها
المحافظ: نحن نعلم أنهم أقحموك وغرروا بك .. وما أنت الا ضحية أولئك الأشرار ، ولهذا نعول عليك لمساعدتنا للقبض على هؤلاء المجرمين ، الذين أفسدوا البلاد والعباد ، تعاونك معنا يمكن أن يكسبك البراءة ، فحاولي
المريضة: أين أنا ؟ ومن أنتم ؟ لماذا هذا العذاب ؟ ماذا فعلت لكم ؟
انه الضياع ، انه التيه والاحباط ، تحاول فك يدها ورجليها ، تريد أن تنتفض وتقطع هذه الخيوط التي تربطهما بحبل الحياة ... لا تقدر .. تستسلم ...
أتوسل اليكم ، اقتلوني ، أريحوني ، أرحموني ، أرجوكم ، لماذا تعذبوني ... ماذا فعلت لكم ؟
وبدأت الأجهزة تسجل الاضطرابات والتأثيرات السلبية ، و إشارات الخطر تتزايد
الممرضة: أرجوك سيدي ، كفى ...
مذعورة ، تترجى المحافظ وتتوسل اليه للخروج
المحافظ: هذا الانكار الكوميدي لا يخدمك يا آنسة ، من الأفضل لك أن تعترفي ، الأمر ليس بالبساطة التي تتصورينها ..
فاضت عيناها بالدمع وخنقتها العبرات وأنين الوجع ، تمتخض وكأنها تحت صدمة كهربائية ، وتيقنت الممرضة أن المريضة دخلت مرحلة الخطر ، فبدأت تترجى المحافظ كي يتوقف ولكن أسر على متابعة الاستجواب وكأنه يدفعها الى الموت
فقالت : سيدي المحافظ ، اما أن تخرج واما أنادي الطبيب ، ما اتفقنا على هذا أبدا ، الرحمة يا سيدي
- ماذا يحدث هنا ؟
المحافظ : أنا محافظ الشرطة
- مرحبا بك ، وماذا تفعل هنا ، وفي هذا الوقت ؟
المحافظ: أستجوب المتهمة
-هل أذن لك طبيبها بذلك ؟
الممرضة: لقد خرجت من غيبوبتها وقد تجاوزت مرحلة الخطر ، لا أظن أن هناك مانع ...
-هل أذن الطبيب بذلك ؟
الممرضة: لا ، يا سيدي
- سأحيلك على مجلس التأديب وأنت موقوفة عن العمل ، وأنت يا سيدي المحافظ ، عليك بالانصراف حالا ، أنظر المريضة تعاني من وعكة خطيرة ، اتركوني أقوم بواجبي ... هيا ، أرجوك سيدي ..
المحافظ: هذه سابقة خطيرة ، ستكلفك الكثير
-يا سيدي مهمتنا انسانية نتحمل بكل مسؤولية تبعياتها ، عودة المريض الى الغيبوبة أخطر
المحافظ: لا يهمني ، هذه مجرمة تنتظرها المشنقة ، ستعترف بالرغم عنها ، أما أنت ستدفع الثمن غاليا
-أنظر الى حالتها تتدهور شيئا فشيئا .... من فضلك اتركنا نقوم بواجبنا .. موتها لا يخدمك ، أعرف ذلك .. كفى أرجوك
المحافظ: ولا كلمة ! .. رفع يده في اتجاه الطبيب ، ثم أنزلها وخرج يسب الرب والدين، ولما اختلى بها ، أغلق الباب ، وجلس أمام سريرها يسألها :
ما اسمك ؟
المريضة تنظر اليه
-أنا صديقك ، كيف دخلت الى العصابة ؟ أين الحقيبة ؟ لا تزال المريضة تنظر اليه ، كانت الصدمة أكبر من أختها ، وضع الخنجر في رقبتها وقال لها :
من أنت أيتها اللعينة ؟ قولي والا قطعت رقبتك ، تنظر اليه ، تهز رأسها يعني افعل ، تترجاه بعينيها ، افعل ... هو كذلك موتها لا يخدمه
-سأعود اليك في وقت آخر ... لن تفلتي من يدي ، احسبي لي ألف حساب ...
خرج ، وكأن الأرض ابتلعته ، وماهي الا دقائق حتى عادت الممرضة يتبعها رجال من أمن المستشفى
الممرضة : ماذا قال لك ؟
المريضة : نفس الذي قاله لي الطبيب الأول ، ما اسمك ؟ كيف دخلت الى العصابة ، وأين الحقيبة ؟ وأراد أن يذبحني بخنجر كان في جيبه
الممرضة : ماذا قلت له ؟
المريضة : أقتلني ، ستريحني ، فانصرف ، وقال سيعود في وقت مناسب ، هددني.
خرجت تجري الى الهاتف
الممرضة : سيدي المحافظ ، لقد خدعنا ذلك الرجل الذي ادعى أنه طبيب ، انه شخص مجهول .. ألو .. ألو .. سيدي المحافظ .. هل أنت تسمعني ؟
كان المحافظ حينها يعيد قراءة المعادلة ويرتب احتمالاته الجديدة ..
المحافظ : اني أسمعك ، انتظريني ...
قطع المكالمة وقصد المستشفى
المحافظ : اذن ذلك الرجل ليس الطبيب ، ومن تتوقعين أن يكون ؟
الممرضة : أنا ؟ أتوقع ؟ وكيف لي أن أعرف ؟
المحافظ:أنا ما قلت تعرفين ، قلت تتوقعين
الممرضة : هل أنا متهمة بالتواطؤ مثلا ؟
المحافظ: انك تقولين أشياء خطيرة يا آنستي
الممرضة : أقسم ..فقاطعها قائلا ..
لا ، لا ، أبدا .. فقط ، لا يعقل أن أقدم ممرضة في المستشفى لا تعرف كل الأطباء ..المهم ، سنعود الى حديثنا هذا في الوقت المناسب أما الآن ... ماذا قال لها ذلك المجهول ؟
روت له كل التفاصيل وتأكد من المريضة التي كانت ترد بالاشارة ، كانت حالتها متدهورة جدا ... نظر الى الممرضة ابتسم وخرج ..
الممرضة : أرجوك ساعديني ، أنا الآن في ورطة ، قولي أي شيء ، على كل حال لن تخسري شيئا ، لأنه لم يبق لك شيئا ، الشرطة تعرف عنك كل شيء ، تعرف أنك تابعة لعصابة خطيرة ، وأنك عضو فاعل ونشيط ومتميز ، أفحمتيهم نجوت عدة مرات من الاعتقال بأعجوبة ، ولولا الحادث ما كان يكشف أحد عنك شيئا ... لا شك أن نهايتك حبل المشنقة ... نعم المشنقة ... أنت مجرمة ... مجرمة ... مجرمة ..ماذا ستستفيدين من سكوتك ؟
حينها كانت المريضة في طريقها الى غيبوبة أخرى ، فأرادت أن تهزها ولكن يد الطبيب كانت أسرع ، فأمسكها وأخرجها من الغرفة بكل هدوء ، وعاد يتفقد المريضة ، فحص عادي ، أمر ببعض الحقن ، أعادها الى وضعيتها العادية بمسكنات ولما هم بالخروج دخل المحافظ
المحافظ: أظن أن مهمتك انتهت يا دكتور ، ها قد جئت بأمر من النيابة لاستجوابها
الطبيب : هي لك ، تفضل
تقدم المحافظ فوجدها في غيبوبة تحت رحمة الأجهزة الطبية ، تراجع بغيظه يصبه على الطبيب ، ترك له استدعاء رسمي وخرج
نظر الطبيب باشمئزاز الى الممرضة ، أمر بأخرى لتمريضها وخرج ، بعد نهاية الدوام مر الى القسم ، سمعوه وحرروا له محظرا وذهب ، في اليوم الموالي أتى بامرأة سوداء من قسم الولادة ، دخل على المريضة وقال لها :
أمك تريد أن تراك
المريضة : تنظر اليه والحيرة تملأ وجهها
دخلت المرأة تبكي وكأنها هي ، حضنتها برفق وهي تسألها :
ماذا جرى لك يا بنيتي ، ماذا جرى ؟ من فعل بك هذا ؟ وكيف ؟
لماذا لم تخبريهم ليتصلوا بنا ، بحثنا عنك في كل مكان ..
لا تزال المريضة تنظر الى المرأة ، في حيرة ... وتنظر الى الطبيب
الطبيب : انتهت الزيارة من فضلك ، عودي اليها في المساء أوبعد الدوام ، المهم أنك تعرفت عليها ... لا تزال تحت الصدمة ..
المرأة : سنأتي جميعا في المساء ، هوني على نفسك يا بنيتي ، ارتاحي ...
خرجت المرأة السوداء ، ولا تزال المريضة في عالم آخر ، في غربة ، في دنيا أخرى ليس لها أول ولا آخر ، كأنها ولدت من جديد ...
الطبيب : ماذا بك ؟
المريضة: لا أعرفها يا سيدي ... وانفجرت بالبكاء .. أنا لا أعرف هذه المرأة ... لا أعرف أحدا .. بل لا أعرف حتى نفسي !!! أرجوكم ارحموني
تيقن الطبيب من الأمر الذي كان يشك فيه ، هز رأسه بأسف ، تنهد ، و لما هم بالآنصراف تذكر..
الطبيب : تابعوا نفس العلاج ، بعد أسبوع سنحولها الى القسم المختص ،اذا جاء المحافظ اتركوه يستجوبها ، لقد تجاوزت مرحلة الخطر.
الفصل الثاني
دخل كريم الى غرفة خضراء ، لا تزال صورتها فوق الطاولة تحتفظ بتلك الابتسامة النابعة من عمق البراءة ، تتحدى الراهن ،تملأ بنظرتها فضاء النفس ، أخذها ينظر اليها بعيون الشوق الهمعة ، تعيده الى سن الطفولة ، الى قهقهتها ،غنجها ،دلعها ، صوتها الجميل و هي تنشد ، رقطاتها ،تمايلاتها و هي تمشي ، كيف كانت تجري و تختفي خلف الأثاث و تحت الأسرة ، كانت تملأ البيت بالحياة ،حتى العمة نونة اخترقت سكونها ، و كانت تقطف من ثغرها الابتسامات ، عندما كان يضربها ، تبكي ، فاذا صاح كالديك وانفظ بدراعيه غلبها الضحك ، فتمتزج في محياها الدمعة بالسرور ، لترسم أجمل و أروع صورة للبراءة و التسامح ، فاذا سألوها من ضربها تقول باستحياء و خبث ...ضربني زوجي ...فيضحك الجميع ...
لا يزال يذكر كل التفاصيل ، كانت تكبر بسرعة ، تشكلت فيها مظاهر الأنوثة الحالمة ، كأنها وردة تتفتح كل يوم أكثر و تزداد جمالا ...بعد المراهقة بدأ يكتسحها الشرؤد من حين الى حين ، و أمست تحب الاعتزال ، ازدادت جمالا واختفت حيويتها واندثرت قهقهتها و غارت بسمتها ...لا تعرف الفراغ ، من الثانوية أو معهد الشيه الطبي الى المطبخ ، أول من يقوم من النوم هي و آخر من ينام ، تخدم الجميع ، تهتم بالجميع ، و لا يذكرها أحد ، ما رأى أمه يوما حضنتها أو أرفقت بها ، في حين كانت أخته ثورة مثل الأميرة ، الآمرة في كل شيء ، أطيب الأكل اليها و أجمل اللباس لها ، وحدها لها الحق في النزهة و السفر و الذهاب الى البحر و المخيمات الصيفية ...خضراء لا تطلب شيئا ... الغريب في الأمر أنها لا تشتكي أبدا ، حتى عندما تمرض تختفي ، ولا من يسأل عنها ، وحده هو يذهب اليها و يشتري لها الدواء ، في عيد ميلادها هو وحده أيضا الذي يقول لها عيد ميلاد سعيد ، و يقدم لها هدية ، كان بهذا يستعيد لها شيئا من بسمة زمان ممزوجة بدموع أخرى ، تأخذها و تجري كالطفلة الى غرفتها ، الشيء الوحيد الذي كانت تحافظ عليه هو مظهرها ، رغم بساطة ملابسها ، كانت تظهر كعارضة أزياء ، تؤجج نار الغيرة في ثورة التي كانت مثل السلك ،بيضاء بلقاء و حديدية الوجه ، صورة طبق الأصل للأم بلسان أطول و أحد ، توقفت عن الدراسة في الطور الابتدائي لغياباتها المتكررة و تستر ألأم عنها فطردوها ...
الصمت هنا سيد الموقف ، لأن السكون يروي قصيد مآثر خضراء ، ينشدها الوجدان و يعزف لحنها ألم الفراق على ايقاع الزفرات المتتالية ...آآآه و آآآه ..لقد أخذت معها كل معاني الفء و نبضات الأمل ، حتى الساعة توقفت متحدية مسيرة الزمن لتسجل أثر ما كان هنا . لم تأخد من أمتعتها شيئا و هي في مقام العزاء ...فتح الدولاب ،ملابسها مطوية على الرفوف و معلقة ، كانت خياطة بارعة و طباخة ماهرة ، يتصورها في كل بدلاتها ، رشيقة القد ممشوقته ، واسعة العينين ، طويلة الرقبة ، ناهدة الصدر ، ضيقة الخصر ....يوم جاءت بها أمه ، كان لا يزال طفلا ، استغرب لكونها سوداء ، يهز بها المهد و يشد لها الرضاعة ، يساعده على ذلك عمي المبروك بامبرا ، صديق العائلة ، يمزح دائما و يقول ، أنا اليوم شريك معكم بخضراء ، كان هذا الكلام يربك الأم ويتلون وجهها ، ما شعر بانسحابه من العائلة وانقطاع زياراته التي كانت يومية أنذاك ... و تبادرت الى ذهنه فكرة ..و من يدري لعلها تكون عنده ، أو يكون عل علم مكان وجودها ، فخرج مسرعا ...
عمي المبروك رجل أسود ،طويل ، عريض الصدر ، بيضاوي الرأس ، أبيض العينين ، و اسع الفم ، عريض الأنف ، صغير الأذنين ...اجتمعت في وجهه علامات الشقاء ، تغطيها الطيبة و براءة الأطفال ، سهل المراس ، لين الاندماج، طليق اللسان كثير التنكيت ، بارع في رواية الأساطير و كرامات الأولياء و الصالحين ، هكذا كان ريحا مرسلة بكلماته الطيبة طوال حياته ، عندما يتكلم عن نفسه كأنه يسلخ ذاته أو يجلدها و هو يبتسم ، انه الهم الذي يضحك ...
لما دخل كريم عليه كان جالسا ، فقام اليه و أجلسه في مكانه و هو يغمره بالترحيب و يحتويه بتلك الابتسامة اللطيفة التي تبعث في النفس الارتياح و الأنس ، كان عمي المبروك يحضر شاي المساء ، تراه و كأنه الفنان أو الساحر ، يمارس حركات تحت تأثير الهام روحاني لصناعة متعة الفرجة في تحضير الشاي ...
جلس أمام ضيفه و واصل عمله بنفس الوتيرة دون اهمال حفاوة الاستقبال و كرم الضيافة ، هذا الهدوء زرع في نفس كريم بدرة أمل ، فأسرع يفرغ جعبته مرة واحدة و دون مقدمات ...
كريم : هربت خضراء يا عمي مبروك ..
المبروك و بكل هدوء : أعرف ذلك
كريم: أين هي ؟..
المبروك : أردت أن أقول لك ، كنت أنتظر ذلك ، كثر عليها الضغط ، مسكينة خضراء ، لا ظهر لها و لا عصا ، كأنها غصن طفيلي في شجرة وجب قطعه ، صدق أبوك لما يسميها اليابسة ، لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي جاءت بها أمك ، حز في نفسي سؤال و لم أجرأ ، لماذا جاءت بهذه السوداء المسكينة ، كان يظهر لي انذاك تافها ، قالوا أنها وضعت مخلوقا مشوها و مات ، فعوضوها بهذه السوداء ، وكتموا عنها ذلك حتى استعادت عافيتها فاخبروها بالحقيقة ، لم تتقبل في أول الأمر ، الا أن معاملتها لها كانت عكس ذلك ، و الأغرب كانت ترتحصنها بحنو الامومة الحانية ، كنت أحب خضراء كثيرا كأنها ابنتي ، أحن اليها و أذهب اليها كل يوم ، و من كثرة اهتمامي بها شعرت بنمو بذرة البغض و الكره عند سترة أمك اتجاهي ، و لم يهدأ لها بال حتى دبرت مكيدة ، و أحدثت ، سامحها الله القطيعة بيني و بين الحاج ، فأسمعني ما لم أكن أتوقعه منه ، عيرني و هددني ، فانقطعت صيلتي بكم .. كبرت خضراء و توظفت في المستشفى حيث كنت أعمل بوابا ، و تجددت صلتي بها ، فكانت لا تفارقني ، تمنيت أن أخطبها لابني رابح ، لكنني خشيت ردة فعل الحاج ، و صارحتني بتعلقها بك ...كانت تحبك كثيرا ،بقاؤها الى اليوم كان بسببك ، تحملت من أجلك الكثير ولكن ..
كان كلامه يقرع قلب كريم قرعا ، و حف المجلس بهيبة الاخلاص و عظمة الوفاء و صدق التضحية ... كان العطاء كبيرا حتى أعجز الوفاء على مجاراته ، واستصغر كريم كل مواقفه ،و طابت الجلسة واشتد الحنين ، و تدفقت الذكريات كمياه الشلال الباردة تغسل الظن من الشك ، وكانت جرعات الشاي تنزل ساخنة ، تشق في طريقها مهجة الصدر ..
كريم: كأني غريب في هذا البيت ، يحدث كل هذا و لا أحد يعلم !!...
المبروك: انها أرسرار البيوت يا بني ، للنساء فيها شؤون و للرجال خلفيات ...وفي رأي لا تحاول ، لن تصل الى شيء أبدا ..خضراء عقدة القدر لا يعرف حلها الا الله
كريم: لا أستطيع يا عمي ، البحث عنها أصبح بالنسبة لي ضروري و أكيد ، ينتابني شعور غريب و أريد أن أكتشف هذا المجهول الذي يدفع الحدث ، أتمنى فقط أن لا تكون قد انتحرت
المبروك: لا أتوقع هذا ، انها أقوى بكثير
كريم: هل يمكنها ان تذهب الى الخارج مثلا ؟
المبروك : الذي أعرفه أن ذهابها لم يكن ارتجالي
كريم: استسمحك ، أتركك بخير
المبروك: ماذا حدث ، لا بد و أن هناك قطرة أفاضت الكأس
كريم: نعم يا عمي المبروك ، طعنت أمي بخنجر
المبروك : لا !!.. أبدا غير ممكن ، لم تفعلها ، و لا أصدق ..
كريم: انها الحقيقة رأي العين
المبروك: أبدا ، هناك سر خلف الحدث ، خضراء لا تقتل حتى الذبابة ..
كريم: انها الحقيقة المؤلمة يا عم ، و لهذا أنا مقيد و لا أستطيع أن أغامر الآن ، أرجوك لا تفشي هذا السر حتى لا يسمعه أهل القرية فينقلب كل شيء
المبروك : أبدا ..أبدا .. ليتني أستطيع أن أفعل شيئا ..
ذهب كريم و عاد المبروك يبحث عن الحلقة المفقودة ، يسترجع تفاصيل الماضي و مكائد سترة ، حتى ما تساقط منها على هامش المواجهات ...كانت الغرفة واسعة ، مفروشة بالزرابي الصحراوية الحمراء ، بعض الوسائد من الصوف بيضاء كأنها خراف جميلة هنا و هناك ، على الجدار صورة للكعبة الشريفة ، حلم ما أستطاع تحقيقه ، فوقها ساعة قديمة من عهد والده ، تنبهه كلما مر من العمر نصف ساعة ، تتزاحم الذكريات في عمقه و تصارع الابتسامات الكآبة على وجهه ، هو كذلك ذهبت زوجته مرغمة ،توفيت منذ أربع سنوات بالرغم من هذا لا يزال يصنع لأحفاده الفرحة من ألمه و وحدته ، يحكي لهم همومه المضحكة ،أراد أن يقول لكريم الحقيقة ، لكنه أدرك أن الزمن قد تجازها ، و ربما تفسد أكثر مما تصلح و لا تساعد في شيء ، فكتمها ، و من يدري ربما يأتي القادم بنفخ في الحدث جديد ..شق عليه وضعه .
في طريقه الى البيت ، كان كريم مبعثر الأفكار ، يهدده اليأس من جهة ، و يدفعه العزم الى خوض المغامرة ، يحاول أن يجمع ما استطاع من حصى لتمهيد الطريق الذي يوصله الى ما وراء الحدث...ما أقساك يا أمي خلف ذلك الستار .
دخل يجر ذيل الخيبة ..
الأب : أين قضيت يومك ، ما رأيتك طوال النهار
كريم: أبحث عنها
الأب : تتحداني يا كريم ؟..أم هي السذاجة التي ستورطك ...كم أنت أحمق و مغفل ، يا بني لو كانت اليابسة تحبك كما تدعي، ما كانت لتفارق البيت أبدا ، و حتى لو عثرت عليها اليوم ، كيف تثبت براءتها أمام الناس ؟..أين هي الآن ؟.. لقد أصبحت من بنات الشارع
كريم في نفسه : و متى كان للبائسة أب أو أم ، منذ عرفتها و هي تدفع ثمن خطيئة الآخرين ..
ثم قال : الغائب حجته معه ، و من يدري يا أبي يمكن أن يكون قد أصابها مكروه أو انتحرت ...الغضب أوله جنون و آخره ندم
الأب : لا زلت تعيش بالنية الحسنة ، بنات الليل كألسنة الحمير يأكلن الشوك بلذة ..
نظر كريم الى أبيه وكأنه يراه لأول مرة ، يحاول الولوج أكثر الى ذخيرة الشر في ذاته ...
كريم : لا علاقة للزمن بهذه الأمور
الأب :المرأة كالدجاجة تطعمها كل العام ولا تشبعك ليلة ، هكذا قال جدك يرحمه الله
كريم : على كل حال ، أمي ليست كذلك
الأب: أمك من نساء زمان ، كن أمانة في أعناق الرجال ، أما اليوم المرأة حبل في عنق الرجل ، هذه الأصيلة ، أما اللقيطة مثل اليابسة فحدث ولا حرج
كريم: رغم هذا لا تزال المرأة هي الأم والأخت والزوجة و.... وليست خضراء كل النساء وليست النساء كلهن خضراء
الأب: أشغل نفسك بما هو أهم ، واترك هذه التفاهات ، أستاذ مثلك على أبواب المستقبل ومحامي في مقتبل العمر ينتظره الكثير : لما كنت في سنك رغم جهلي ..
وبدأ يعيد سرد حكايات مغامراته وتحايلاته وحيله ، حينها كان كريم قد انتقل الى عالم الافتراضات يحاول الوصول الى المجهول في كل طرح ، وفهم الأب أن ولده لم يعد يستمع اليه فسكت ..وساد الصمت ، فتنهد كريم ، وقام مستترا بابتسامة مجزاة ، وترك الوالد يجتر في نفسه أيام شبابه وزهوه ، يلعن كعادته شيبته وضعفه وهوان أمره ونواهيه ، يلعن وجوده على الهامش بدعوة الحفاظ على صحته ، وهو يعرف أنه لم يبق فيه الا اللسان السليط ، ولكن لا يهم كما يقول المثل ، أقلقهم فقط حتى لا ينامون .. وقبل أن يخرج التفت اليه قائلا
كريم : عمي المبروك يبلغك السلام
الأب : المبروك ؟!
كريم: نعم ، عمي المبروك بامبرا
الأب: أسود القلب لا يتحرك الا في الظلام ... خفاش ، لاشك أنه هو من أفسدها
كريم : ما علاقته بها ؟ ولو كان الأمر كذلك لذهبت عنده
الأب : أنت لا تعرف هذا الصنف من البشر ، يحرقون البيت ، ويبكون مع صاحبه
كريم: هكذا اذا ، هي علاقة أطفال ؟ هذا كان صديق الأسرة ، كنا نعده عما لنا ، شاركنا المسرات والمكاره ، أنا لم أر فيه ما ينافي الأخلاق الفاضلة ، وقد استقبلني بحفاوة بالغة ، كان أطيب ما يكون
الأب: طيب الله لحمه بالنار ، كاد يحطم أسرة بكاملها لولا فطنة أمك
كريم : ماذا فعل ؟
الأب : لا تحاول
كريم : عمي المبروك ؟!
الأب: لا بارك الله فيه وأعماه
كريم: لم نسمع بهذا
الأب: قلت لك لا تحاول
خرج كريم وهو يحاور الأنا ولاتزال خيوط الماضي تتعقد ، وهذه الأسرار جزأها القدر وعسر جمعها ، وفكك الحدث ووضع في كل منعطف نفسي سببا يبرر خلفيات سكوت ضاعت دوافعها ، ولا أظن أن السؤال هو مفتاح هذه الأبواب الموصدة .. ينظر الى أخته ثورة من بؤر الذاكرة بقدر ماضاقت عينيها بقدر ما ضاقت بصيرتها تتطاير منها شرارات الكره محرقة ، الأم كأنها تمثال نحت من الصم لا تؤثر فيه فصول الذوات ، باطنه كظاهره ، يتعامل مع الجميع برطوبته وبريق ظاهره ، العمة حية تسكن دهاليز البيت تتلون بلون الحدث ولا تقول شيئا ، انها العلبة السوداء ، حتى ترتيب الأثاث وألوان والستائر والصور على الجدران كانت تصنع نوعا من القلق وكأن اليد التي مرت من هنا كانت تخفي وراء كل لمسة سر ، ووراء كل شيء ظن ، هذا البيت العتيق من عهد المعمرين تجاوز المائة سنة تظنه لا يزال يحتفظ بظل أصحابه الى اليوم ، تزرع التنافر لتفرض وجودها في وسط هؤلاء الأحياء لتنتقم ، كأننا لسنا نحن ، كم من مرة تحدث بعض الخوارق يستحي أحدنا أن يعيدها ، خوفا من اتهامه بالجبن أو الجنون ، نسر بها الى بعضنا البعض حتى يعرفها الجميع ولا يذكرها أحد .. عندما ننزل الى القبو وكأننا في قبر ، يشعر الداخل كأنه يعيش تلك الأفلام المرعبة التي تسيل العرق البارد في البدن ، نستعجل الخروج متسائلين ماذا حدث هنا ؟ .. غريب ، كثيرة هي خبايا الحدث بين أفراد أسرة لا يتجاوز عددهم أصابع اليد ، رغم كل الفضول ، لا نزال نجهل الكثير ... هكذا حتى وجد نفسه أمام غرفة مكتبه ، كانت العمة نونة في آخر الرواق فاختفت ، لم يراها منذ ليلة الحادث ...
دخل ، جلس على حافة المكتب ليواصل ذلك المنولوج ، الا أن الحبل الذي كان يربطه بفلسفة هذا الاكتظاظ انقطع مرة واحدة ووجد نفسه يدور في دائرة مفرغة حلقاتها من صنع الصمت الذي يحاصر هذا البيت ، الشيء الوحيد الذي يخشاه الانسان عندما يخوض أي مغامرة أو يريد أن يرفع أي تحد هو عامل الصمت ، لأن وراء كل سكون عاصفة كما يقول المثل ...
يعود الى حديث أبيه عن المبروك وعن خضراء ، يستحظر تلك العدوانية التي تمكنت من نفسه اتجاههما
-ماذا تريد أن تجني من امرأة أنتجتها الخطيئة ؟
-ماذا سيقول الناس عنا ؟
-ماذا تنتظر من امرأة خبيثة الا ثمار خبيثة !
-المفروك ، لابارك الله فيه وأعماه !
-ذلك الأسود ، أسود القلب !
-انها اللعنة التي لا تزال تطاردنا !
كانت هذه الكلمات تتردد في عمق كريم كأنها انفجارات لألغام قديمة زرعتها النيات المبيتة لتفجير ما تبقى من الحقيقة ... تذكر العمة نون فقام يبحث عنها ، في آخر الرواق كان سلم الطابق العلوي ، صعد ، في آخره نافذة تطل على الحديقة ومدخل البيت ، حيث كانت تقضي العمة أكثر وقتها ، هنا لا يأتي أحد ، لا الأب ولا الأم ، مرض الروماتيزم وأوجاع الظهر تحول دون المغامرة ، وثورة لها كل ما تريد في الجناح الأرضي ، بل أكثر من ذلك هي من سمت العمة نونة بالشبح ، انهما لا تتواجدان في مكان واحد أبدا ، تقول لهم دائما لو يموت أبي سأطردها شر طردة ، عندما تسمعها نونة تضحك ملأ فاها ، ثم تنظر اليها بمقت قبل أن تنصرف ، تقول لها دائما. . سنرى من ؟ ..
ذهب الى غرفتها يدق ، لا أحد يرد ..
كريم : عمتي ! عمتي .. ! عمتي ..!
ولما هم بالانصراف ، هاهي ذي قادمة من هناك ، من منعطف الرواق المظلم ، لعلها تكون قد تعمدت هذا الظهور المفاجئ من حيث لا ينتظرها أحد ، فتحت دخلت ، شرعت أبواب النافذة وعادت ، أشارت اليه فدخل ... كانت صورة الجد بين النافذتين أمامه ، بشنبه الطويل وعمامته المبرومة كرزمة حبل فوق رأسه ، برداء قياد فرنسا والسوط في يده ، جوارب حمراء ووسام الشرف الفرنسي على صدره تزينه الأعلام ...
تدفع شفته السفلى العليا ، ترفعها كهامته في كبرياء وعزة ،بجانبه كلب صيد أبيض ، هناك واحد يشبهه ، يا سبحان الله ، كأنه هو ، و لكن لا يذكره ، يحاول ...غير ممكن ،على كل لا يهم ، سيفكر فيه من بعد ..
نسي أنه رأى هذه الصورة بالذات ، على اليمين طاولة من خشب اللوز منقوشة ، أمامها مقعد خشبي بني ، فوقها مرآة كبيرة جميلة ، على يساره سرير ، فوقه صورة صياد بكلابه وبندقيته ينظر الى سرب من الطيور ، ثورية من نحاس ، دولاب كبير يملأ الجدار نقش على الطراز القديم ، هذه الأثاث كلها ، لا يزال يذكرها ، جمعتها العمة نونة في هذه الغرفة ،تركها المعمر الآسباني و كانت في غرفة جده ، صندوق عرائس من الطرازالعربي القديم قيل أنه للجدة يرحمها الله ، متحف يطيل عمر الذاكرة ، جلس على الكرسي ، نظر اليها ويبتسم ..
كريم : لا تزال عمتي تعيش على الزمن الماضي دنيا زمان ، لا شك أن جدي كان يحبك كثيرا ، فأنت الآن تعيشين على ذكراه ، يقول المثل .. عز البنت الا مع أبيها وعندما تفقده عيشها يمرار ... منذ عرفتك وأنت في عزلة كم أتمنى أن أعرف وصية جدي لك ، قال أبي أنك على هذه الحال منذ قتل جدي ، قتله أعراب من أولاد جرجر أمامك من أجل الجزية لفرنسا ، قاتله هجر الى المغرب ولم يعد .. لا زلت تحتفظين بآخر كلماته.. لا يشبهه منا أحد ، اني لأستحي لما أتذكر أن جدي كان عميلا لفرنسا ، خائن أمته ...
قامت ، وقفت أمام الباب وأشارت اليه بالخروج ، ولما قام أدارت وجهها ، خرج وترك الباب مفتوحا ، أحس أنه وضع أصبعه على الجرح .. وقف أمام السلم قليلا ، لم تغلق الباب بعد ... نزل ولا شك أنها لا تزال واقفة في مكانها ، هل هي بداية تدفق الذاكرة ؟! ومن يدري ؟!
عاد الى الصالون وجلس ، أحس بالتعب ، استوى ... ارتخى ، يستمع الى نبضات جسمه ، أغمض عينيه ، فنام .. فتح عينيه ... وجدها قادمة
ثورة: تنام نوم النملة ، أجهدت نفسك يا أخي ولا تزال ، العرق دساس كما يقولون ، والعار عيب على الوجه، يتحدى أيام العمر كلها ، فماذا تريد من دخيلة السوء ، ألا تدري من أي معدن صنعت ، هذه أشياء لا يتسامح فيها الناس ، بهذا تثبت أنك ناقص مروءة
كريم: هل هي التي اختارت أن تكون كذلك ؟
ثورة : وأين ذنبنا نحن ؟
كريم : مادامت هكذا لماذا جاءت بها أمك ؟
ثورة:قال أبي كانت ظروفها قاهرة ، وكادت أمك تفقد صوابها عندما منعوها من رؤية ما أنجبت ، فكانت خضراء الحل الأسرع والأنسب
كريم: فسروا لها التشوه بالسواد
ثورة: هكذا قال أبي ، رغم هذا تأسفت و أصابها احباط ، عاشت مرحلة خطيرة جدا ،رامتها
بصعوبة، و من الفاجعة ما وجدت في ثديها حليب ، لأن الصدمة كانت كبيرة ولم تصدق ، وبعد أن صارحوها كانت خضراء كابوسا ولعنة تطاردها في النوم واليقظة ، زادت حدتها مع مرور الزمن .
كريم: اختلط عندها الحب بالكره ، هكذا كانت تقول دائما ، حسبي الله في المفروك ، تريد المبروك ،كأنه هو من نصح بها ، ثم كانت أمك عنصرية يا ثورة ، هل تعرفين السبب ؟ لأن أجدادك الأوائل كانت خادماتهم سودوات ، كانوا يعاملوهن بقساوة ، انه تواصل الباطل بين الأجيال ...
ثورة : أبدا ، ليس في الوجود أرحم من أمي ، تبكي لأتفه الأسباب ، طيبة تحاصرها الشفقة من كل جهة ، ولولا تسامحها وطيبتها ما كانت تحملت خضراء الى هذا الحد
كريم: أين العيب في خضراء ؟
ثورة : أمي تعرفها أكثر منا جميعا ، هي أقرب الناس اليها ، لا يمكن أن تكرهها بدون ذنب ، مستحيل ، وهل كل شيء يقال ؟
كريم : أكاد أكره كل النساء بما فيهن أمي ، فقد بدأ الشك يساورني حتى في نزاهتها وصون شرفها ، ألا يمكن يا ثورة أن تكون خضراء ...
فقاطعته ثورة : اياك ، واياك ، لا تحاول ، أمك أشرف من كل نساء العالم
كريم: لا ، لا ، أنا أقصد ، بل أريد أن أقول أن وراء خضراء هذه سر كبير ، اني أحاول أن أجمع الشتات والمعلومات حولها ، الا أن لبنات القصة تتنافر وتتناثر قبل بلوغ المراد ، كلما اكتشفت شيئا تعمق معناه والسر لا يزال يخفي السر فأين الحقيقة ؟
ثورة: لا تحاول يا أخي ، هذه طفلة معقدة الأطوار والماضي ، انها لغز منذ ولادتها وستبقى كذلك ، لا تحاول ، لقد عقدها القدر ، من الأفضل لك أن تهتم بما يستحق منك الاهتمام ، انك تضيع وقتا ثمينا من حياتك
كريم: لن أرتاح حتى أصل الى حل عقدة هذا اللغز
ثورة: أنت وشأنك ، لكن ما هو مؤكد أنك لن تجد ما يسرك ، ان مزبلة الماضي انتن مما تتوقع
كريم: هل أنت خائفة ؟
ثورة: ولماذا أخاف ؟ يكفي أني متيقنة أنها ليست أختي
ضحك كريم وقال : تخافين على الميراث ، ذهب أمك ومجوهراتها ، والأرض والمحلات و ...
ثورة : لم أكن أتصور أنك تافه الى هذا الحد ، وبتصرفك هذا ستدفعني الى اغتيالك في نفسي ... أنت .. أنت ..
كانت الشرارات تتطاير من عينيها ، وتصلبت أطرافها وظهرت أسنانها كأنها تشد بها على رقبته ...
فقام ، نظر اليها جيدا وكـأنها تحمل كل عيوب الدنيا ، ثم عاد باشمئزاز الى مكانه وقال لها :
هيا ، اذهبي ...
ثورة: وبعد ، لا أريد أن تشاركني في أمي وأبي لقيطة سوداء
كريم: قولي ، في مال أبي و أمي ، هيا انصرفي خير لي ولك ....
فذهبت بغصتها ، تذكر جده والسوط في يده ، انها لا تشبهه الا في الخلق ، الشيء الذي هو متأكد منه أنه رأى شبيه جده ، ولكن أين ، لا يذكره ، كان جميلا جدا حتى تقول أن أمه من جميلات فرنسا ، يقال عنه أنه كان زير نساء ، يمكن أن يكونوا قد قتلوه من أجل امرأة ، ولم لا ، ماضي عائلتنا مليء بالتناقضات وأول ضحية هي الحقيقة ، ومن كانت ترد طلب القائد آنذاك ، وأي قائد ...
شغلته قصة خضراء عن التحضيرات لفتح مكتبه الجديد ، لقد أدى القسم الأسبوع الماضي وتم تعيينه محاميا لدى المحكمة ، انه الآن الأستاذ كريم .. العباءة السوداء والمحفظة ، انه الآن من المدافعين عن الحق ، المنقبين عن الحقيقة ... يبتسم ، ما أعظمها مهمة لو لم يشوهوها ... كان كريم طويلا لا يعاب وعريضا حد البسطة ، ليس بالجميل الذي يفتن ، ولا بالغليظ الذي ينفر ، اجتمعت في شخصيته الهيبة والطيبة وحسن السلوك ، يعرف كيف يقول الحق وكيف يزهق الباطل بعيدا عن التكلف والتلفيق ، جديته في الدراسة ساعدته على التحكم في سير النقاش ، أبهراللجنة يوم ناقش رسالته ، يتميز بثقة كبيرة في نفسه ، وقرر أن يذهب بعيدا ربما الى منظمة حقوق الانسان العالمية ، ولم لا ... انه العلم والطموح ... هل خضراء هي الباب الأول الذي سيدخل منه الى عالم التحريات ومطاردة الحقيقة ؟ ربما .. انه الآن وسط الدوامة وهو عامل فعال من عواملها ، الى أن يصل اليه أول موكل ، وهذا ليس غدا فسيتفرغ كليا لذلك ، والسؤال المحوري الذي لم يجد له جواب ، لماذا تريد أمه التخلص من خضراء ؟ ولا تريد أن يتذكرها أحد ، نشر صورتها في الجرائد وتبليغ الشرطة عنها هي فضيحة لكل العائلة في وسط هذا المجتمع الذي لا يرحم ، انه شرف العائلة الذي ولا شك ان انتهك ستقتل العصبية العمياء الأب الذي يعاني من عدة أمراض ، السكري ، والقلب ، انها الصفعة التي تضع النهاية له ، وسيقول الجميع وخاصة الأعراب من قبيلتهم ، ذل الحاج ، وقتله ابنه بكلام المدارس ، فماذا أنت فاعل يا كريم ؟ قال الأب ، خضراء سافرت ، هكذا يجب أن يطوى الملف نهائيا ، انها أعظم جريمة يفتتح بها مسيرته القانونية ، ويخون قسمه ، فأين الضمير يا كريم .. ذلك هو الحق يجب أن نضحي من أجله بالباطل حتى ولو كان النفس والنفيس ، مثله مثل الحرية لا يقبل الشريك ولا يحتمل التزوير ... أصبحت خضراء همه الوحيد ، يهيم بها شوقا ، يدخل الى غرفتها كل ليلة ، يجلس ، يستمع الى حديث أشيائها ،ويحمله معه حيثما أرتحل وحل ، وبدأت غمامات الحزن والأسى تغمر البيت ، وكيف لا وكريم هو الولد الوحيد ، ولي عهد الحاج وحامل اسمه والمحافظ على بقائه وخلود ذكره ، وبدأ يعتزل ، ويغيب عن مواعيد الطعام وموائد والسهرات ، مقيد لا يستطيع أن يفعل شيئا ... غارت ابتساماته يقاوم تدفق العبرات وتصلبت عضلات وجهه ، لأن البكاء في عرفهم للنساء ، ونحيب الرجال آهات وتأوهات ، الشيء الوحيد الذي كان يشغله هو تفانيه في عمله ودفاعه عن المظلومين ، أولئك الذين وكلوه للدفاع عنهم ، فكان يرافع ليرفع عنهم ما استطاع من جور وظلم وهضم الحقوق ، يجد راحته في ذلك ، ويتدمر عندما يخسر قضية وراءها رشوة ،أحيل عدة مرات أمام لجنة التأديب لانتفاضه أمامي القاضي عندما تنتهك حرمة القانون ، وتمر بعض الأحكام تحت ابتسامات القضاة ، لحماس هذا الشاب وايمانه بقداسة القانون ، يعجبون به كثيرا ويتمنون له مستقبلا زاهرا ، وذاع صيته واشتد القيد على معصميه أكثر وعندما تعاوده الذكرى ، يذهب الى عمي المبروك لعله ينتزع منه بعض الخفايا ، الا أن المبروك يعرف ذلك ، فكان يتحفظ كثيرا ويحول دائما مجرى الحديث ...
كان في غرفة المكتب دائما كعادته يسهر الى ساعة متأخرة من الليل ، وقبل أن ينام ، يمر على غرفتها تنتعش الذكريات ويتجدد الحدث في ذاته ...
دخلت دون اذن ، جلست أمامه ، لم يرفع رأسه ، لا يزال منهمكا في ترتيب ملفاته ، قال:
مرحبا أمي ، لم تنامي بعد ؟
الأم: وكيف لي أن أنام وأنت في هذه الحالة ؟ هجرتنا ، وجردتنا من الفرحة بك وافتخارنا بك ، وألزمتنا الحزن والآه ، أبوك يئن تحت وطأة تصرفاتك ، يخشى عليك ويخشى أن تتهور وتكشف المستور ، فتضيع هيبتنا ويزدرينا الناس ونتحول أحاديث دنايا القوم وأراذلة القبائل وصعاليكها ، واليوم أنت في العلا يحسب لنا بك ألف حساب ، ما وجدت من وسيلة أواسيك بها سوى أن أعرض عليك فكرة الزواج ، يمكن أن تجد فيها البديل ، بل الأفضل ، ألا تظن أن خضراء انتهى أمرها وأصبحت ذكرى وأثرا لشبح مر من هنا ؟ .. ارحم نفسك يا بني ، أنت لأفضل منها أفضل ، لماذا تريد أن تنزل بالسلالة الى هذا الحضيض ، ما ركع جدك ولا أبوك أبدا ولا ركب الدنايا ، قتل جدك لتصلبه وأنفته وعزته وتحديه الجميع ، وأنت اليوم أكبر ، فأعرض عن هذا واترك الزمن كفيل بتغيير مجاري الحياة ، ان ما نحن عليه اليوم ما توقعناه من قبل أبدا ، كنا نراك وأنت صغير سيد القوم وحكيم الديار ونافذا في السلطة وابن النظام ، فاذا أنت اليوم محام تملأ القضاء همة ، حتى قالوا ، عندما يتكلم الأستاذ كريم وكأن الطير على رؤوس الجميع ، وهذه الهيبة ماصنعتها لك دراستك فقط ، بل هي ميراث وتواصل الأجيال ، كلهم يعرفون ابن من أنت يا كريم ، وما فائدة هذه القراية التي لا تعرفك بنفسك وتنزلك منزلتك ، هؤلاء كلهم أكلوا وشربوا من خيراتنا ، أكرمنا الجميع وساعدنا الجميع ، أينما يدخل أبوك يرفع في الباب وتفتح له الصدور ، يقضي حوائجه ويخرج معززا مكرما ... هناك في البادية لا يتحرك الأعراب الا باشارته ، كل القبيلة تدين له بالولاء ، هو الذي لم يجلس يوما على مقعد ، باستثناء ما قرأه من قرآن في الكتاب وحفظ بعض الأحزاب ، وكان يرافق جدك لكتابة بعض تقارير الأهالي ، فتعلم الكثير ، انها العزة التي نشأت فيها ، فكن في المستوى ...
كان كريم يستمع الى أمه وهي تعيد للمرة الألف مغامرات زوجها ومآثره
كريم: يا أمي ، يا أمي ، كل شيء تغير الا أنت وأبي ، الناس يطيعونكم لأنكم اشتريتم ذممهم ، واكتشفتم أسرارهم ، وتعرفون عنهم مالا يعرفه غيركم ، انه ولاء الخوف يا أمي ، الخوف من الفضيحة ، الخوف من السجن ، الخوف من تصفية الحسابات ، ان نفوذ أبي هو الذي صنع له هذا المجد المزيف وسيزول يوما ونظهر جميعا على حقيقتنا .. المهم لقد تأخر الوقت يا حبيبتي ، غدا نتكلم في الأمر ، أما الآن فهيا بنا الى النوم ، أرافقك الى غرفتك ، ادخلي بهدوء حتى لا يستيقظ أبي
الأم: لا .. أبدا ، لن أخرج من هنا الا بكلمة فصل ! .. يا بني ، يا بني ، أحرقت كبدي والقلب ينزف جرحك ، غير ممكن يا كريم أرتاح وأنت في هذه الحالة ! وكأنك لا تعرفنا ولا نعرفك ، أغيرتك السوداء الى هذا الحد ؟ ، حتى أصبحت تكرهنا !! ، أمن أجل امرأة يا كريم تعاقب والديك وتنتقم منهما ؟ عيب يا كريم ، انها خوارم المروءة وابتذال الشهامة ، أم أنت تمثل علينا لنرحم زلتها ؟ أبدا يا كريم لا تحاول ، خضراء هجرتنا هجر السوء ، لا نريد أن نجاهر به حتى لا نفضحها ونفضح أنفسنا ، وأقول لك أحسن ما فعلت ، و أكيد أنها لن تعود حتى لو وجدناها وحاولنا ذلك .. فابحث عن غيرها ..
كريم: سأفكر يا أمي ، ارتاحي الآن ، زواج الدوام يجب التفكير فيه عام ، كما يقول المثل ..
قامت ، دارت حول المكتب ، وضعت يدها على كتفيه تعانقه ، وفاضت العبرات تتكركب كحبات البرد وهي تقول :
أرجوك يا كبدي ، لا تخذلني ، أتمنى أن أرى ولدك قبل أن أرحل ، انني أقاوم للبقاء والمرض هتك حرمة صحتي ، اني أعاني .. نعم أعاني .. سأموت يا كريم ، وستذكر هذه اللحظة بالذات ...
استوت واقفة ، نظرت اليه ،أراد أن يقوم فأشارت اليه فرجع ، انصرفت ، وغلقت الباب وراءها
أحس كريم بقشعريرة في كامل جسده ، سأموت يا كريم .. سأموت يا كريم ... فزعت كل المدارك ونفخ شعور غريب في نفسه .. فداك نفسي يا أمي ، فداك نفسي ...
الفصل الثالث
المحافظ: أراك اليوم أحسن
المريضة: الحمد لله
المحافظ: هل باستطاعتك الآن الاجابة عن بعض أسئلتنا ؟
المريضة: تفضل
المحافظ: ما اسمك ولقبك وتاريخ مولدك ؟
المريضة: لا .. لا أعرف ؟
وفاضت عيناها بالدمع وخنقتها العبرات ، كانت شفتها ترتعش تحت أسنانها ، واحمر وجهها رغم سواده ، أخذت تمسح دمعها وتقسم له :
أقسم أني لا أعرف من أنا ، الشيء الوحيد الذي أنا متأكدة منه هو أني لست مجرمة
المحافظ: سنعرضك على طبيب مختص وان ثبت عكس ذلك ستكون الجريمة أكبر ، وستتعرضين لأقصى العقوبات
المريضة: ليتني أعرف من أنا وما بعدها أهون
المحافظ: أتركك الآن ، حاولي ، حاولي أن تستعيدي ذاكرتك ، وها هو الشرطي أمام باب الغرفة ، اذا تذكرت أي تفصيل اتصلي به سآتي على جناح السرعة ، ومن الأفضل لك أن تعترفي وتساعدينا في البحث عن العصابة .. هذا يخفف عنك العقوبة ، ربما البراءة ولم لا ، لعلهم يكونوا غرروا بك وورطوك مثل ما ورطوا الكثير من الفتيات مثلك
المريضة: سأحاول ، ليتني أستطيع
المحافظ: من هنا وبعد الفحوصات الضرورية ان لم تعترفي ستحولين الى السجن ولن ينفعك هذا السكوت
المريضة: ما أصبح يهمني شيء غير معرفة من أنا ، السجن ربما أرحم ، اذا خرجت من المستشفى أين أذهب ؟ وماذا أفعل وماذا أقول ؟..
المحافظ: لا تظني أن السجن فندق ، انه السجن يا آنسة
المريضة: أنا الآن في سجن أفظع
المحافظ: لا تدفعينا لاستعمال أساليب أخرى
المريضة: افعلوا بي ما تشاؤون ، فقط أعيدوا لي ذاكرتي
المحافظ: فكري جيدا
دخل الطبيب : صباح الخير سيدي المحافظ
المحافظ: تضحك
الطبيب: ابتسم لك سيدي المحافظ ، الآن انتهت مهمتي ، افعلوا بها ما تشاؤون ، بعد أسبوع سنرغم على اخراجها من هنا ... ربما نحولها للقسم المختص ، فكونوا في اتصال معه حتى تشرفوا بأنفسكم على التحويل ...
سيدي المحافظ ، انها تداعيات المهنة سوء التفاهم بين الأطباء والشرطة أزلي ، وسيبقى ، فقط لخدمة الانسانية ، فضع نفسك في أي صف تريد ، فخور أنا بوصولي الى هذه النتيجة ، لقد أحيينا نفسا وهي الآن بين أيديكم وبرأت ذمتي ... سيدي على المحبة نلتقي ...
المحافظ: هل أنت متأكد أنها فقدت الذاكرة ؟
الطبيب: هذا ليس من اختصاصي ، لقد عالجناها عضويا ، وهي الآن في أحسن حال
المحافظ: هل كنت تتوقع ذلك ؟
الطبيب: ليست مهمتنا
المحافظ: سنحولها بأمر من النيابة الى القسم المختص ، ثم نتخذ الاجراءات المناسبة ... على كل حال أشكرك ، وأستسمحك ، للضرورة أحكام يا دكتور ، حماية المواطنين تدفعنا بعض المرات الى خسارة بعض الأشخاص الطيبين مثلك ، انها هفوات المهنة .. شكرا ...
الطبيب: العفو
وحولت المريضة الى القسم المختص ، وبعد الفحوص والاختبارات تبين أن المريضة قد فقدت الذاكرة ، ووضعت في السجن لمتابعة حالتها ، تعرض مرة في كل أسبوع على الطبيب المختص لمعالجتها ...تحت رقم 69 هذا الرقم الذي كيفما وضعته تقرأه " تسع وستون " وهكذا أصبحت خضراء رقما مجردا من كل شيء ، فسميت بسوداء 69 الرقم المفقود ، وجدت نفسها أوراق بيضاء يكتبون فيها ما يريدون ولا تستطيع أن تعترض ، يرسمون عليها ما يريدون ، يشطبون ويتركون ، منهم من يكتب برفق ومنهم من لا يرحم ، وتناسوا أن هذه الكتابات ستتفاعل و تتراس لبناء معادلة انسانية جديدة من وحي ألسنتهم وأقلامهم وأحكامهم ... هنا يغتال حق الزمن وحق التجربة وحق المراحل ، كثيرة هي الأشياء التي تنبت معوقة في هذه الذات الجديدة ...
وأدخلت 69 الى السجن ورقة بيضاء ...
كانت القاعة مكتظة بالسجينات كلهن وضعن هنا تحت ذمة التحقيق ، عالم آخر يعيش في الخفاء ، وردت الحارسة الباب وراءها ، كأنه انفجار، تشعر بالرعب والخوف ، تشعر أنك في مقبرة الأحياء وأن الحياة قد توقفت ، وأن الزمن سيتراخى لتبقى في جوفه أكبر مدة ممكنة ، هنا تتخلى عن الكثير من الأشياء مرغما ، وتتحمل الكثير من الأشياء ، هنا تختفي البديهيات ، انها ورشة لحدادة البشر ، هكذا بدأت حياة سوداء 69 ... أفرشة على الأرض ، القمل والصراصير ، والبعوض ، نساء في كل الأزياء يغنين ، يرقصن ، يتشاجرن ، يمارسن أشياء لا يتحملها العقل ، انها مشاتل الادمان ، والانحراف ، السجن مدرسة العصابات وعلب الليل ، انه مملكة الغاب ، لأنه آخر محطة قبل الموت ، فكن ما تريد ، لن تعاقب بأكثر من السجن ، أفظعه الزنزانة ، عادي جدا بالنسبة للمدمنات ، كانت لا تزال في مرحلة النقاهة ، مارسن عليها كل أشكال الاهانة والتسلط ، وماذا عساها أن تفعل ؟...
كاميليا ، اسمها الحقيقي نوارة ، تجاوزت الثلاثين ، موقوفة في قضية قتل وسرقة ، مدمنة لها عدة سوابق
مونيا ، اسمها الحقيقي سلامة ، ثلاث وعشرون سنة ، موقوفة في قضية مخذرات وتزوير وثائق ، مدمنة ذات سوابق كذلك
سوسو ، اسمها الحقيقي سلطانة تسع وعشرون سنة موقوفة في قضية دعارة واجهاض ...
تلكم هي الفاعلات والماسكات زمام الأمور في القاعة ، ألقي عليهن القبض عن طريق الوشاية ، وكأن الأمر فيه تفكير وتدبير ، انهن المايسطروات ، الباقي أغلبهن أدخلن من أجل بعض المخالفات والجنح التي ارتكبنها بقصد أو غير قصد دون الانتباه للعواقب ، لم تراعي المحاضر ظروفهن ولا معرفة الأسباب الحقيقية التي دفعتهن الى ارتكاب حماقاتهن ، يمزقهن الندم والخوف ، وجدن في تلك الأقراص السحرية مفرا من جحيم الانتظار والأحكام المجهولة ، منهن الميسرات ومنهن من يدفع عنهن خارج السجن ، الأقراص الأولى تقدم مجانا ، أو توضع في القهوة ، انها مهمة مونيا ، بصفتها متطوعة لتقديم فطور الصباح
كاميليا: انظري اليها انها كالصخرة السوداء ، فوقها غراب
مونيا: يا حبيبتي ، انها شامة السجن ومن أجلها أحببناه ، أنا لا أتمنى أن أخرج من هنا مادامت هي
سوسو: تحفة سوداء من حجر
كانت حينها سوداء 69 قابعة فوق فراشها ، كالحمامة بين الأفاعي ، تحاول السيطرة على أعصابها ، في ذلك اليوم قطعت عهدا على نفسها أن تكون كما أريد لها ، ليس لها جلد آخر .. فتحت الحارسة الباب وقدموا اليهن وجبة الغذاء ، عدس بالزيت والماء بزيادة في الملح ، أخذت طبقها وعادت الى مكانها ، كانت سوسو تنظر اليها بطريقة غريبة ، أثارت نظرتها عصبية مونيا ، فجاءتها ، حملت الطبق وأفرغته فوق رأس السوداء ، فأثارت ضجة وضحك الجميع ، أسرعت الحارسات فتحن الباب ووقف الجميع ينظر اليها ... لم تتحرك .. أغلقن الباب وانصرفن وعادت السجينات الى الأكل ، قامت تنفض العدس عن رأسها ، وضعت رأسها تحت الحنفية ، ولما غمرها الماء احتوتها مونيا وبدأ العراك ، مزقت لها ثيابها تحت التصفيق والنقرات والزغاريد للتمويه ، الا أن في هذه المرة أحست بالاهانة وكأن قوة ما نفخت فيها ، فمسكتها من عنقها وأخذت تشد وتشد ، وتوقف الجميع عن التصفيق ، حتى أغمي عليها وقامت الى كاميليا وسوسو فهربتا وراء الأخريات ، وجدت صحنا أمامها ضربته برجلها ومرت ، جلست في مكانها وقالت :
كاميليا آتيني بطبقك
ناولتها طبقها ذليلة وانصرفت
من هنا وصاعدا لا حركة في هذه القاعة ولا سكون الا باذني ... مفهوم ،
رمين على مونيا الماء فقامت مذعورة وأخذت مكانها دون أدنى كلمة ، وبعد الغذاء قالت : أريد أن أنام حذاري من الازعاج
حينها أخذن أماكنهن وساد الصمت لأول مرة في هذه القاعة ...
في المساء ، جمعتهن وسط القاعة وقالت:
هل هناك واحدة منكن تريد مبارزتي ؟ أنا لا أعرف من أنا ، أصبحت في قائمة الأموات لا ماضي ولا مستقبل ، مستعدة للبقاء في هذا السجن الى الأبد ، قادرة على فعل أي شيء يطيل بقائي هنا لأن الخروج لا يخدمني ، قادرة أن أقتل وبكل برودة أعصاب ... قالوا عني أني أنتمي الى أخطر عصابة وأنا أخطر عنصر ، سأكون كذلك ، فالتزمن حدودكن ، لا مخذرات ولا جنس ولا ورق ، حذاري أنتن الثلاث ستدفعن الثمن غاليا ، هذا مادمت أنا هنا ... مفهوم
سكت الجميع ، ثم انصرفن كل واحدة الى مكانها ، وعادت هي الى فراشها تطارد الصراصير ..نفضته ، وأمرت بتنظيف مكانها ...
انزوت مونيا وسوسو وكاميليا في زاوية القاعة يتحدثن
سوسو: يجب أن نتعشى عليها قبل أن تتغذى علينا ، هذه الشرسة السوداء ، لم أكن أتوقع أنها حيوانية الى هذه الدرجة ، كأن الجن سكنها
مونيا: ماذا نفعل ؟ ، مستحيل الحياة بدون أقراص
كاميليا: سأحدث الحارسة ايناس عنها ، ستحولها الى قاعة أخرى
سوسو: مستحيل ، هذه القاعة الوحيدة الخاصة للموقوفين على ذمة التحقيق
مونيا: أنا ألد أعدائها ، أخشى أن تنتقم مني ، يجب أن نجد لها حلا أو مكيدة لاخراجها من هنا
كاميليا: ابتعدي عنها ، لا أظن انها تحاول ، لو توقعت منها هذا لناولتها الأقراص
مونيا: انها فاقدة الذاكرة ، ولن يستفيد منها أحد ، ومن يدفع عنها ؟
سوسو: لو سمع الرئيس بهذه المهزلة لقدمكن جميعا الى حبل المشنقة بثمن بخس ، فتصرفن في الأقراص التي تأتي بها الحارسة ايناس في انتظار ثورة المدمنات
كاميليا: الا هذه ، سنثير انتباه الادارة ، ويقومون بتحقيق ، ونحن أول من يدفع الثمن مرتين ، يجب المحافظة على الحد الأدنى من الأقراص للمدمنات حتى لا يفتضح أمرنا
مونيا: الأمر ليس سهلا ، والرئيس لن يغفرها لنا ، يجب البحث عن مخرج آخر ، يظهر تبليغ الحارسة ايناس هو الحل الأمثل
تلك الليلة جاءت ايناس ، أخرجت مونيا من القاعة ، غابت أكثر من ساعة ثم عادت ، بمجرد ما عادت هرولوا اليها
-ماذا قالت لك
مونيا: لا يتعرض لها أحد ولا تمسوها بسوء ، وتعاملوا معها بحذر ، هذه كانت مع جماعة الحادث وتدعي أنها فقدت الذاكرة ... سنتصرف ، اننا نتابع أمرها باهتمام كبير وسنبعث اليها من يأتينا باليقين .. هكذا قال الرئيس
كاميليا: ألا يمكن أن تكون من الأمن ؟ ، برودة أعصابها وثقتها بنفسها تريبني ..
سوسو: اذا هو الذل والهوان الآن ، ستنتقم منا شر انتقام
مونيا: أظن أن وراءها ثروة من العملة الصعبة ، يمكن أن تعمل أي شيء لتستحوذ عليها ، من مصلحتها المكوث في السجن .. أطول مدة .. انها مطاردة من طرف البوليس ومن طرف العصابة ،.. حذاري لا تورطونا ..سيتصرف الرئيس وعن قريب ..
كاميليا: سأخضعها وأذلها وأستعيد هيبتي مهما كلفني ذلك
سوسو: وأنا معك ، وماذا بعد السجن ، ونحن فيه، هل هي أشجع منا ، وما فائدة السجن الذي لا يضمن تحطيم جدار الخوف ، ويعلمك المغامرة ، ويلقنك الجرأة ، ويساعدك على العناد ...
مونيا: أنظري انها تجمع الأقراص ، يااه ، انهن يطاوعنها ، سأقتلها ..
نظرت اليها باستهزاء وازدراء وأشارت اليها باصبعها ، فتراجعت الى الوراء ، وتقدمت هي
-هيا ، الي بالأقراص
مونيا: أرجوك ، أتركي لي واحدة فقط
-قلت لا ، ودفعتها حتى كادت أن تسقط ، ثم أخذتها من الصدر وهزتها حتى كادت أن ترفعها ...
جمعت كل الأقراص ، وضعتهم في المرحاض وسكبت الماء
-والآن الرجوع الى الجد ، أي مخالفة لقانون المملكة تعرض الى عقاب شديد ، جدع الأنف أو قطع الأذنين ، اسألوا عني العصابة ، لا أسامح ولا أجامل ..
كاميليا: ستخرجكن من عبودية المخذرات الى النخاسة ، لن ترحمكن ...
وبدأت تستعين بالقويات ضد الضعيفات ، بارزتهن الواحدة تلوى الأخرى ، وكلما دخلت واحدة جديدة تستفزها حتى تتصارع معها وتخضعها ... وأصبحت تترأس القاعة رغم معارضة الحارسات ، تحميها ايناس مرغمة ، وأصبحت تشكل خطرا على الجميع ، يدبرن لها المكائد وتنج منها الواحدة بعد الأخرى بأعجوبة
استيقظ الجميع كالعادة على ضجيج الأقفال وانصفاق الأبواب لتناول فطور الصباح ، بعدها جاءت الحارسة:
السوداء !! السوداء !! أنت مدعوة الى الادارة ، هيا أسرعي ...
خرجت تتبعها ، كثيرة هي الأسئلة التي تبادرت الى ذهنها ، هل هي المكيدة كالعادة ، أم التحقيق ، أم عقوبة ... استأذنت ودخلت وراءها السوداء ، لا تزالا واقفتان أمام المكتب ، رفع رأسه ، نظر اليها ، هز رأسه ، ابتلع ريقه وقال:
اجلسي ، لقد عينت لك الدولة محام ، حاولي أن تساعديه للوصول الى الحقيقة ، وهذا من مصلحتك ، أما نحن بقاؤك أو خروجك لن ينقص أو يزيد من ادارتنا شيئا ، والسجن ليس فندقا ولا هو مأوى ...
لم تقل شيئا ، أخذت تنظر اليه ، وراء عيونه الشرسة شيئا من الحنو ، وكأن الرجل في مسرحية ، يقوم بدور لا يتناسب مع مظهره ، تنتظر منه أن يحتضنها ، ويعترف بطيبته ...
كان المكتب فسيحا واسعا ، مكيفا ، حوله أرائك فخمة ومريحة ، نوافذه واسعة للشمس والهواء ، خلفه مكتبة فيها الكتب مبعثرة ، مجلات ، بعض الملفات ، أرضية المكتب مفروشة ، صورة رئيس الجمهورية زادت هيبة المكان ، انه ينظر اليها ، ليته كان يسمع ، هكذا قالت في نفسها ، فاذا بباب جانبي يفتح
- المحامي هنا ، سيدي
- أشار اليها فقادتها الحارسة ، دخلت ، كانت الغرفة ضيقة جدا كأنها زنزانة ، في وسطها طاولة من حديد وثلاثة مقاعد ، جلست بدون اذن ، لم تبال بابتسامة المحامي ، تنظر حولها ، أغلقت الحارسة الباب وجلست وراء الشباك ، جلس المحامي أمامها ووضع محفظته على الأرض على رجل الطاولة
المحامي: أنت هنا منذ متى ؟
السوداء: لم تقرأ ملفي ؟
المحامي: لا شك أن لك ما تقولين أفضل من الملف
السوداء: أنا لا أذكر شيئا ، ظلام ما قبل السجن ، والسجن ظلام
المحامي: هذا تشاؤم مفرط ، وفي هذا السن !
السوداء: يا سيدي ، أنا لا أعلم حتى من أنا ، حسب أقوال الشرطة ، التي ولدتني من العدم ، أنا مجرمة ، أعمل لصالح جماعة أشرار ، يعني عصابة ، أتاجر في المخذرات ، أنا يا سيدي حسب أقوال الشرطة عنصر فعال وخطير جدا ، لما أدخلت الى السجن كنت أذل المخلوقات ، حاولت أن أكون كما أريد لي ، فكان لا بد لي من استعادة مكانتي ، وحقيقة استطعت أن أصنع من نفسي الصورة التي رسمتها لي مصالح الشرطة القضائية ، فلجأت الى العنف واسترجعت شخصيتي ، وأنا اليوم سيدة القاعة ، لا أخفي عليك ، لقد تجردت من كل معاني الضمير ، أفعل بالسجينات ما يريحني ، لا أفرق بين الخير والشر ، وأدركت أنها الوسيلة الوحيدة لفرض النفس في هذه الغابات .. حتى لو خرجت من السجن ماذا أفعل ؟ أين أذهب ؟ ان السجن بالنسبة لي هو المستقر الوحيد ، أشعر فيه بالأمن لأنه مملكتي ، لن أجد أحسن في الشارع ، ولا شك حسب العينات التي تأتي الينا أن خارج السجن ، الناس يعيشون الوحشية بمعناها الواسع وبمفهومها الحقيقي ، على كل حال أنا لا أحب أن أخرج الآن لأنني لم أتمم التربية التي تساعدني على الحياة خارج السجن ... يا سيدي أنا لا أملك الا هذا الجسد المجرد من الماضي لا مستقبل له ، أنا لا أصلح لشيء ، الشيء الوحيد الذي يمكنك أن تساعدني عليه هو أن تتركني أعيش الحياة التي ألفتها ، ومهما كنت ، أتمنى أن تأتي أنت كذلك لتعيش معنا هنا في السجن حيث تتعلم كيف تتعامل مع هذه الوحوش الطليقة والقائمة على شؤون الناس ، ستتعرف على من يدفع ثمن الأخطاء التي يرتكبها الأقوياء .. السجن يا سيدي بني للضعفاء والمستضعفين كي يتعلموا كيف يتعاملون في الضجيج بعيدا عن السادة ، لأن حق الحياة والعيش الكريم يبقى دائما للأقوى في كل شيء ، أقول في كل شيء ..
القوة تصنع المعجزات يا سيدي ، ان كنت تنظر الى الحياة من زاوية أخرى فأنت مخطىء ، وعليك بمراجعة بياناتك ، هكذا ربانا السجن ، ولا أظن أن الحياة خارجه أرحم .. فقط السجن يعلمك كيف تتسلط على أمثالك وتبتزهم وتزدريهم وتذلهم ليعيش الآخر البحبوحة في أمان ،ان جرائمنا يا سيدي هي الحد الفاصل بين الخط الأسود والخط الأحمر ، لأنها فيما بيننا ، وعندما لا يجد القانون ظهرا يحمله يحملوننا نصوصهم ورسائلهم ... نحن المنبوذون ..
أنظر الى هذا التناقض والنفاق ، صنعوا مني مجرمة ، وهاهم يدافعون عني ، انهم يرحمون ذبيحتهم ، غريب أمر هؤلاء القوم .. ، لا تندهش من كلامي ، انها مدرسة السجن ، تعلمك بالقوة مفعول كل قوة ، اذا أخرجتني لن أرحمك ، لأنك عنصر خطير في معادلتهم ، لأنك توهمني بالعدل وتغرر بي لتبرير أخطائهم .. لن أسامحك
كان المحامي يتابع حديثها باهتمام بالغ ، ليته حمل معه مسجل ، فاذا هي كذلك اليوم وهي فاقدة الذاكرة ، فكيف تكون اذا استعادتها ، سكتت هي وبقي المحامي يتابع حديثها كأنها لم تتوقف عن الكلام ، لم يستطع أن يوقف تدفق هذه الفكرة ولا أن يضع حدا لامتدادها .. صراخ .. أنين .. صياح .. استغاثات ، وفرضت امتدادية الطرح نفسها خارج السجن ، كشفت البؤس في كل مكان ، وأن هذه الوجوه التي تبتسم وتقهقه في الخارج هي أقنعة مجانين ... كادت تنفجر حنجرته من الكبث ، حمل محفظته ، أشار الى الحارسة ، فتحت الباب وانصرف دون أي كلمة ، دخل الى مكتبه ، أغلق الباب باحكام وخلد الى التفكير ، يجتر ما سمع ، وفرضت عليه قراءة جديدة للمجتمع ، ومناقشة هذه القضية بطريقة جدلية مثيرة ، يرافع فيها بطريقة أكاديمية ، انها محاكمة العصر .. الا أن هذا يحتاج الى شركاء من كل مجالات الحياة ، والقضاء عندنا قضاء وقدر .. سيدافع عن س عن هذا المجهول في معادلة غير متساوية الأطراف مهما كلفه ذلك .. وهكذا بدأت مغامرة أخرى ... كتب على الملف س بعد أن رمى كل أوراقه في سلة المهملات .. يجب أن تصنع الفرضيات الحدث الحقيقي ..
عادت الى مكانها ، لم تتفوه بكلمة ، زرعت في نفس الحارسة التي سمعت حديثها نوعا من الحذر ، لم تجرأ أي واحدة على مسائلتها ، لأول مرة تخرج الى الادارة ، وتعود كأنها انسان جديد ، لقد تزودت نفسيتها بشيء ما ، تبحث عنه تلمسه ولا تراه .. مدير السجن ، المحامي ، المكتب ، صورة الرئيس ، عالم آخر ، دنيا أخرى ، كل هذا خلف هذه الجدران العالية وهذه الأبواب الموصدة ، انهم وراء الحاجز تذهب اليهم الأشياء لا يأتون اليها ... تتساءل لماذا لا تكون هي مديرة السجن أو رئيسة الجمهورية ؟ ، ولكن هي كذلك لها مملكتها ، هذه القاعة وشعبها المنحرف الذي تجلت فيه كل تجارب مفهوم الحياة البشرية التي اكتسبها من الحيوان ، ابتداءا من الحرية في القفص ، والحرية من أجل الأكل والأكل فقط ... شيء ما يختلج في صدرها ، هذا المحامي الذي انصرف ولم يقل شيئا ، وهذا المدير الذي كان يخفي في نظرها طيبته ... كلهم يتكلمون خلف الأقنعة لدرجة اختلاط الواقع بالوهم ، الحقيقة بالخيال .. هكذا يضيع الصواب في الذات وخارجها .
خلدت الى قسط من راحة الأقوياء، ويوم ضعفي بينكم لكم أن لا تتنازلوا أيها الضعفاء ، وفي مساء ذلك اليوم جاءت رئيسة الحرس ، كن يلقبنها بالتمساح ، اسمها الحقيقي جميلة ، لكنها بشعة حتى ضاقت منها البشاعة ، متسلطة وعنيدة ، ليس وراءها الا الشر ، دخلت الى القاعة وليس من عادتها ، اختلت بالسوداء ، لأول مرة تظهر على وجهها الابتسامة ، وعم الاستغراب الجميع ، تواصلت ابتسامتها حتى سقطت في العبثية الى حد السخرية ، تحتويها بعين المكر والخبث ، كانت السوداء تستمع اليها بصمت غطى كل المشاعر ، تنظر اليها بعيون تزرع برودة الموت حتى أدركها الصقيع فسكتت ، رفعت يدها ، ردتها الى الخلف وبكل قوة صفعتها ، لم يتعد صداها الوجه ، كانت تنتظرها ، فشدت على نواجدها بكل قوة ، ثم أخرى ، لم تحرك ساكنا .. فانصرفت ، ولما كانت أمام الباب قالت لها سوداء وبكل هدوء ، سأردها عليك في الوقت المناسب
اختفت قليلا ، ثم عادت ، قيدتها تجرها الى الزنزانة..
رئيسة الحرس : سنرى هذه الأعصاب الباردة اذا كانت قادرة على مقاومة البرد والجوع ولسعات الهراوة والمحزمة
رسمت سوداء بسمة الزعماء على شفتيها الخصبة ، فجنت الحارسة ، تتقاذف الشرارات من عينيها وبدى عليها انهزام نفسي فظيع ..
- سأروضك أيتها المتوحشة ، أذلك ، أفركك ، وأذيقك الهوان ، وأسقيك شراب الخزي حتى تركعي ، جميل ، سوداء الملح تستعبد ؟ الا هذا ...
فقالت السوداء: مأجورة على ذلك ؟ افعلي بي ما تريدين ، لن أبلغ عنك أحدا ، فقط سجليها ليوم الحساب ، سأرد لك المعروف مضاعفا ، والسجن أنا فيه وسأبقى ، بعد الحكم نلتقي وسيكون لي معك كلام آخر .. هيا بنا ، الى أين ؟ الى الزنزانة ؟ هيا ... فاذا بايناس تأتي مسرعة ، همست في أذن الرئيسة ، وبدى على وجهها الاستغراب ، سكتت قليلا ، نظرت اليها ، ثم تركتها وذهبت هي والحارسة يتآكل على وجهها الغضب والخيبة والخذلان
عادت السوداء الى مكانها تقاوم رغبة البكاء ، وألزمت كل واحدة منهن مكانها ، زادها الموقف هذا هيبة ، ومكنها أكثر ...
لم تلبث كذلك الا قليلا ، فاذا بالحارسة تعود لتأخذها معها ، في هذه المرة ذهبت مباشرة الى مصحة السجن ، حيث كانت تنتظرها امرأة ، في العقد الخامس ، ليست كنساء السجن ، قصيرة ، عريضة ، تغطي شعرها الأصفر بفولار أزرق فاتح ، ترتدي بذلة كلاسيكية زرقاء ، تحتها قميص أبيض مفتوح ، تظهر في نحرها سلسلة من ذهب ، في أذنيها قرطين صغيرين ، وفي اصبعها خاتم خطوبة لا شك ، جميل ، متزينة بطريقة محتشمة تتأبط سفطا أبيض وتحمل نظارات تظهر خلفها زرقة عيونها كأنها امتداد البحر ، تنظر بعمق ، وتحتوي بابتسامتها القلوب ، بعيدة في حركاتها العبثية ، وكأنها صنعت على المقاس ، وضعت يدها على كتف السوداء ، نظرت اليها جيدا ، تنهدت ، تكاد تضمها اليها برفق ، غمرتها ، فيض من حنان وعطف ورحمة ، دون تكلف ولا اصطناع ... أجلستها وجلست بجانبها وقالت :
أقول لك سر ، ربما لم يقله لك أحد ؟!
رفعت السوداء بصرها اليها ، تكاد تنهار بالبكاء ، تنتظر منها ذلك
-كم أنت جميلة أيتها النحلة الكحلاء ، ما شاء الله عليك ، هل رأيت وجهك في المرآة .. نعم .. نعم أنت فاتنة يا لؤلؤة .. كأنه زواج مختلط ، الأب أبيض والأم سوداء أو العكس ، أولاد هذا النوع من الزواج ، وأكثرهم مثلك ، وخاصة اذا كان عن حب .. نعم .. نعم في الحقيقة أبناء الحب كلهم مثلك ، لأن الحب لا يؤمن بالفوارق والطبقات ... لا علينا ، أنا أنشط في جمعية خيرية اجتماعية تساعد النساء اللواتي عندهن مشاكل ، نحاول معهن اخراجهن من همومهن ، وقد أنقذنا الكثيرات ، منهن من كانت على حافة الانتحار ، سمعنا بك فطلبنا رخصة لزيارتك ، وأعرض عليك صداقتي ، لا شك أنك بحاجة الى التعبير عن أشياء كثيرة تدور بخاطرك ولم تجدي الأذن الصاغية أو الصدر الحاني الذي يسمعك من العمق ، نحن الجمعية الانسانية الوحيدة التي لا تتجسس عليها الادارة ، فكوني مطمئنة أن حديثك مهما كان معلق في ذمتنا ، وهو مجرد الطريق الذي يوصلنا الى منبع الأزمات النفسية والاجتماعية ، ولهذا أتمنى أن تجدي راحتك معي لأنني سأزورك من حين الى حين ، وحتى بطلبك نأتي ، ندردش ، نقول أي شيء ، أعطيك فائدة ، ان الانسان مهما كان لا يتكلم من فراغ ، مستحيل ... ماذا قلت ؟ هل تقبلين بصداقتي ؟..
السوداء: لا أرى مانع
المرأة: جميل ، اذن نحن الآن صديقتان ، ما اسمك ؟
السوداء: السوداء .. الصخرة السوداء
المرأة: هذا اسم السجن ، أريد اسمك الحقيقي
السوداء: لا أعرف ؟ .. نعم لا أعرف من أنا ؟ .. قالت الشرطة القضائية ..
المرأة: لا .. لا .. لا .. لا أريد هذا ، أرجوك ، أعرف كلام الشرطة ، هذا من حقهم لأنهم حماة البلاد والعباد ، ولو صدقوا الجميع لفسد الجميع ، أما أنا وأنت نريدها صداقة بعيدة كل البعد عن المحاضر البوليسية وملفات العدالة ، نريدها انسان مجرد من كل القيود ، لانسان يعيش للانسانية ، نريدها علاقة مبنية على أسس وجدانية بعيدة عن أي هدف الا الهدف الانساني المجرد من كل شيء ... أريدك أنت يا سوداء كما ترين أنت نفسك وكما تعرفينها ، ولهذا أتركك هذه المرة وسأعود اليك لما تجمعين في جعبتك شيئا من القول عن التفكير والتدبير ... أتركك بخير
خرجت المرأة ، وعادت السوداء الى القاعة ، ولا تزال تدفع رغبة البكاء ، أحست بوحشة ما بعدها وحشة ، واكتسحتها غربة الذات .. تبحث في جسدها عن نفسها ، تتوسل اليه ، تترجاه ، توعده ثم تتوعده ... يستحيل أن أكون من العدم ، من الضياع ، لماذا لم يسأل عني أحد ؟ هل أنا مقطوعة من شجرة ؟ من أين أنا والى أين ؟ لماذا نسيت نفسي ؟ وما الذي شغلني حتى ضاعت مني ؟ لماذا تنكرت ؟ أين تلك المرأة التي جاءت الى المستشفى تدعي أنها أمي ؟ .. أين أبي ؟ أين اخوتي وأخواتي ؟ هل تبرأ الجميع مني لأني مجرمة ؟ آه ، نعم .. أدركت الآن ..
كانت دوامة البحث عن الذات تمتطي صهوة كل سؤال فظيع ، يضيع صداه حيث لا تدري ... هي التي لا تعرف الا مدير السجن ، ذلك الرجل الأسود مثلها ، ذلك الأنيق ، في العقد الرابع يبدو من العمر ، ذلك الذي يخفي شيئا من الحنان وراء نظراته ، وبعضا من الحنو خلف كلماته ، ولكن هي مجرمة وهو رجل قانون ، غريب كيف تتناقض الأفعال حيث تتقارب المشاعر ، حتى الآن لا تعرف من أين يأتي ذلك الدافع الذي يسوق مشاعرها الى حضن المدير ، هل هو الحب أم هي قراءة لبوادر رحمة على صفحات البشرة السوداء التي تجمعهما ... أشياء مبهمة تتزاحم في ظلام نفسها ، تدفع عشوائيا جدران الصمت ، تبحث عن منفذ للخروج ، تنصفق ، تتكسر ، تتشكل وتعود ، انها تعيش مخاضا داخليا ، مكبوثا ، يصارع أشياء تراكمت كلها ، تريد الخروج مرة واحدة ، كأنها متفجرات على وشك الشرارة ، تتفاعل حتى تكاد... ثم تجمد الى درجة الصقيع ، ويغمر الذات سكون الموت ، ولا يعود يهمها شيئا ، تكتفي بأنها مجرد جسد تنبض مداركه ، وماذا بعد ؟ .. ربما لو عرفت نفسي أمقتها ..
تعود الى تلك المرأة الطيبة ، ألا يمكن أن تكون ملاك رحمة جاء في صفة بشر ، لأول مرة تحس بذلك الشعور الانساني الذي ينبع من فطرة الخلق والخلق ، لا ينظر اليها من زاوية الذنب ، لا يعرف التوعد ، يعترف بالخطأ ، بل يتجاوزه لأنه من سمة البشر ، لا يفرق بين الأسود والأبيض وبين ...
لماذا هذه السجون ؟ وجرائم الخفاء أفظع ، حيث يدفع البعض عن البعض ، لماذا هذه الأحكام على الظاهر؟.. وما في الباطن أسوأ ، لماذا هي الأشياء الا كما يراها غيرك؟ ... لماذا لا يمكن لي أن أرفض هذا التوظيف لاستكمال مشهدهم ؟... غريبة هي الأشياء تلك و أنا أغرب ! .. كاد رأسها أن ينفجر ... لا تزال القاعة لم تتحرك ، واكتسحت الغرابة وجوه الجميع ، انتبهت ، تنظر اليهم وهي واقفة وسط القاعة ، أسدلت يديها ، بصمت ، أشارت اليهن ، ماذا ؟ ماذا حصل ؟ ... نعم كانت فوق خشبة مسرح الحياة ، لم يكن ذلك مونولوج ، بل كان خطاب راو على الخشبة ... تقدمت احداهن اليها بكل رفق وقالت :
-ما هذا الكلام يا سوداء ؟! قطعت أكبادنا ونزفت القلوب دم الأسى ، انك تعانين كل هذه المعاناة .. ما أتعسك ! وما أتعسنا معك !، كل واحدة منا كانت تشعر وكأنها أنت ، عبرت بما عجزت عنه ألسنتنا ، لقد عايشنا مسرحية من عمق الذات البشرية التي لا تدركها هذه القلوب التي صنعتنا وشوهتنا ودفعتنا ثمن أخطائها وفشل تجاربها ، لتدرك غايتها .. انه الدرس في الانسانية الذي لا ننساه أبدا ... يا حبيبتي نحن معك ...
الفصل الرابع
كان في مكتبه ، يراجع بعض الملفات ليقدمها في جلسة الغد ، فاذا بالهاتف يرن
- ألو .. ألو .. الأستاذ كريم
يحاول أن يتعرف على الصوت .. غير ممكن
كريم: نعم .. من على الخط ؟
-أنا الدكتور مجبر ، رئيس مجلس أطباء المستشفى
كريم: مرحبا دكتور
الدكتور مجبر: سأزورك في مكتبك بعد الدوام ، هل يمكن ؟
كريم: ابتداءا من الساعة السادسة مساءا ، مرحبا بك
الدكتور مجبر: شكرا أستاذ .. شكرا ..
انقطعت المكالمة وعاد كريم يقلب ملفات موكليه ..لا يستطيع أن يركز .. هل الأمر يتعلق بخضراء ؟ .. ! لا ، لا أظن...بعد كل هذه المدة ؟.. اللهم اجعله خيرا ... دفع كرسيه الى الوراء ، مد رجله وطوى الأخرى ، ينظر الى حذائه ، كان عازما على شراء حذاء آخر ، لن يجد فرصة أخرى كهذه ، وقبل أن يقوم قرع أحد الباب ، استوى وأذن له بالدخول ، دخل الرجل ينظر الى كريم بعيون همعة ، وشفة ترتعش ، مرتبك تخنقه العبرات ...
الرجل: شيء فظيع يا أستاذ ، فظيع ، قتلوا زوجتي وابني ، قتلوهما المجرمون ، قتلوهما ببرودة أعصاب وبرودة دم
كريم: من قتلهما ؟ ... تعرف المجرم ؟
الرجل: في المستشفى ، يقتلون فيه بعبثية ... في مصلحة الولادة..
كريم: اجلس ، واروي لي بالتفصيل ماذا حدث ، وأقسم لك أنني سأدافع حتى انصافك ومعاقبة المجرم
الرجل: أدخلت زوجتي في حالة مخاض الى مصلحة الأمومة ، وأنا رجل فقير ، لا أقدر على دفع مصاريف العيادات الخاصة ، والجميع يعلم ما وصلت اليه هذه المصلحة من اهمال وتسيب ، متسببة في الكثير من الوفايات التي بقيت دون عقاب ، وكانت زوجتي وابني ضحيتا تأخر التوليد ، وقد أثبت الطبيب الشرعي أن ابني مات نتيجة خنق وامرأتي من أثر النزيف الحاد ... ها هو ذا الملف الطبي ، حوله الي أحد الممرضين ، ويمكن أن يشهد اذا تأكد من الحماية
كريم: حاضر ، سأقوم بالمهمة بعد أن أطلع على الملف وأتحقق من الجريمة.
أدخل الرجل يده في جيبه ، وأخرج مبلغا من المال ، مده الى كريم فرفضه
كريم: لا ، لا أريد شيئا حتى أتبين وأطلع على محضر الشرطة وأقوال الشهود ، والمتهم ..
أعاده الرجل الى جيبه وقال في أسى :
مابقي للمظلوم سوى الله والمحامي النزيه مثلك يا سيدي ، هكذا قالوا عنك ، وأخشى أن يأتي يوم يفرض على المواطن القصاص لنفسه ونعيش حكم الغاب
كريم: لا ، لا .. لا تخشى ذلك ، هناك قضاء وقوانين وعدالة ... اطمئن ، لا يضيع حق وراءه مطالب ...
خرج الزبون وترك الباب وراءه مفتوحا ، فتح كريم الملف يقلب وثائقه ، عبارة عن شهادات طبية وبطاقة متابعة الحمل ، وأشعة وتقارير طبية للحامل ولظروف الوفاة ، كانت اطلالة روتينية لقضية مكتسبة مسبقا ، لن تقل عقوبة الجاني فيها عن 20 سنة ، هذا بعيدا عن الرشوة أوالمحاباة ، فقط يجب التحري أكثر للتيقن .. وقام لغلق الباب فاذا بمساعده يدخل كالثعلب الماكر ...
كان رجلا قصير القامة ، أنفه كالببغاء بمناخر كفوهتي بندقية صيد ، بعينين ضاحكتين ، طويل الوجه ، أمرد الخدين ، أجعد الشعر أسوده ، رقيق الشفتين تظهر أسنانه قبل أن يبتسم ، يتكلم بسرعة حتى لا يكاد يفهمه الا القليل ، يبتلع الحروف وأواخر الكلمات بلعا ، يبالغ في الادغام ولا يحسن المد ، يبدأ بالساكن ويمضغ المتحرك
المساعد: لا زلت هنا ؟
كريم: نعم ، أنا خارج الآن
المساعد: ما هذا ؟ ، ملف جديد ؟
كريم: نعم ، هذا رجل يدعي أن زوجته وابنه توفيا في مصلحة الأمومة نتيجة اهمال
المساعد: نعم ، سمعت بهذه القضية ، حولت الى العدالة ، المتهم الرئيسي فيها قابلة معروفة ، طالتها الألسنة من كل جهة ، في الحقيقة هي قابلة ماهرة ، تجاوزت سن التقاعد ولا يزالون يحتفظون بها لمهارتها واتقانها واخلاصها في العمل ، قالوا أنقذت الكثيرات من الموت ، يظهر أن ادارة القطاع الصحي ستتولى الدفاع عنها ، لقد أوقفت بالأمس وأدخلت السجن ، ستتصل بك الادارة للدفاع عنها لا شك.
كريم: عندي ميعاد مع الدكتور مجبر في المساء
المساعد: لا شك لأجل ذلك ، ولا مفر لك من الدفاع عنها
كريم: أنا الآن ضدهم ، ولا أستطيع أن أتراجع ،هذا التزام ،سيأتي طلبهم متأخرا
المساعد: لعلك يا أستاذ تمزح
كريم: أمزح ! كيف ذلك ؟ اني أكثر جدية من أي وقت ، وليست من عادتي أن أتخلى عن موكلي
المساعد: أنسيت أننا بصدد التوقيع على عقد مع ادارة القطاع الصحي لتمثيلهم أمام العدالة ؟
كريم: لكن لم أوقع بعد ، وما كان هذا في الحسبان .. الحقيقة أني نسيت هذا الأمر ، انني مرهق في هذه الأيام حد الارتباك ، لقد أجلت كل الملفات التي تحتاج الى دقة وتركيز كبير، تفاديا للهفوات
المساعد: حقيقة ظهر عليك بعض الفتور والتعب في هذه الشهور الأخيرة
كريم: هيا بنا ، الساعة الآن منتصف النهار والنصف ..تتغذى معي ؟
المساعد: لا ، أذهب الى البيت ، عندي ضيوف .
حمل حقيبته وانصرف .
أحس برغبة في الاستحمام ، وليس من عادته ، فدخل غرفة الحمام ، نزع ثيابه ودخل في المغطس ، شعر بنوع من الارتخاء ، يتحسس النوابض في جسده المرهق ، تمنى لو تيسر له الأمر لينام هنا ، ينظر الى شامة سوداء في صدره ... كأنها خضراء في القبيلة ، ابتسم وقال :
أتمنى أن تكوني بخير ، سأعمل المستحيل ... سأعمل المستحيل ، هي قضية وقت فقط وظروف ، يمكن أن يغير الزمن هذه القلوب القاسية وترحمك وترحمني ، فقط تأكدي لن أبدلك ولن أتغيرأبدا ، والأمل نحن نصنعه ، فقط كوني بخير .. كوني بخير ..
لما خرج من الحمام وجد أخته قد أعدت له المائدة ، الا أن الشهية قتلتها رغبة كاسحة للراحة ، أشار اليها بيده أن ارفعي مائدتك ، دخل غرفته ، امتد ، وأغمض عينيه ، يتنفس الصعداء ، أفكاره كالنحل المضطرب ، تلسعه الواحدة تلوى الأخرى ، استوى قاعدا ، شبك أصابعه ينظر من نافذته الى السماء ، كأنه موسم الهجرة ، الطيور تمر أسرابا أسرابا نحو الجنوب ، ونحن لا زلنا في أول سبتمبر ، ظهر له أن كل المخلوقات تحب الهجرة ، تدفعها اليها عوامل مختلفة ، ايجابية أو سلبية ، وتبقى الهجرة رمز الحرية ومغامرة من أجل الأفضل .. قليلة هي الأشياء الجميلة التي تأتي الينا ، ظاهرة البحث عنها في الانسان قضاء وقدر لا مفر منه ، بل حتى في المخلوقات الأخرى، هل خضراء ذهبت من أجل ذلك ؟ ، أم هروبا من الجحيم الذي كانت تعيشه ؟ ...
كانت السماء صافية ، تمر بعض البواسق الصغيرة من حين لآخر ، على أشكال مختلفة ، يحاول أن يقرأها ، أعجزته لمسات هذه اليد المجهولة التي ترسمها ، تسوقها الرياح العليلة ، كالراعي يسوق مواشيه التي تخلفت برفق الى المورد ... لا شك أن السماء ستمطر في هذا المساء ، و لا شك ، و لا شك..و لا شك...
ولما استيقظ ، كانت الساعة الثالثة بعد الزوال ، غسل وجهه ، لبس بذلته ، تعطر وحمل محفظته وخرج في عجالة ، لقد تأخر كثيرا ، دخل المكتب وجد بعض موكليه ينتظرونه ، اعتذر وبدأ يستقبلهم الواحد تلو الآخر ، لما جاء الدكتور مجبر وجده مع آخر زبون ، انتظر قليلا ، لما انصرف دخل ، قام له كريم واستقبله بحفاوة كبيرة أنزله بها منزلته ، الدكتور مجبر ، شخصية في الولاية ، منارة يعرفه العام والخاص ...
هو رجل طويل القامة ، في العقد السادس من العمر ، كبير الرأس غليظ الشفتين ، أسمر ، تحت كثافة حاجبيه عيونا أتعبتها دقة التأمل ، النظر و التروي ، تظهر فيها حدة ذكائه وجديته ، طويل الأطراف ، كأنه يمارس المصارعة الحرة ، لا يزال يحافظ على بنيته ، يعتني كثيرا بمظهره ، حتى لا تكاد تعطيه أكثر من خمسين سنة ، يتحرك بلباقة ورشاقة الكهل ، يتكلم بطريقة الواثق من نفسه وبروح مسؤولية عالية ، الكثير من الناس يقولون أن خروج الدكتور مجبر من المستشفى ضربة قاضية لهذا القطاع ، انه رجل له وزنه ...
كريم: مرحبا دكتور
الدكتور مجبر: أستاذ كريم ، بدون اطالة أومقدمات ، عندنا في مصلحة الأمومة مشكلة كبيرة جدا ، تتطلب منا جميعا تناولها بحذر ، مجرد سقوط سعفة من الطرح ندفع بضحية الى المقصلة ، أعترف لك بأنه خطأ ، ولكنه مهني ، وهذا النوع من الخطأ يقع في جميع المستشفيات ، يعالج بطرق مختلفة حسب الظروف والفاعلين فيه ، الضحية والجاني ، حتى الزمان والمكان لهما نصيب في دفع الحدث ليكون قضاءا وقدرا أوجريمة ، يستحيل يا أستاذ أن قابلة في العقد السادس من العمر ، أفنت عمرها في خدمة صحة المواطنين ، تتعمد خطأ كهذا ، ولهذا أريدك أن تدرس ملف هذه البائسة بطريقة استثنائية ، نساعدك بقناعتنا كمختصين وبشهادتنا التي سنعتمد فيها على المضاعفات والأسباب الحقيقية التي أدت الى الوفاة ، المرأة ليست مجرمة في نظر الطب يا أستاذ ، كل الوظائف والمهن لها هامش أو نسبة مسموح بها من الخطأ
كريم: دكتور مجبر ، مع كل احتراماتي وتقديري لك ولكن أعذرني ، لا أستطيع أن أدافع عن مجرمة زهقت روحين ، مهما كانت الأسباب و الحجج ، هذه المرأة في نظر المجتمع كله مجرمة ، تستحق أشد العقاب ، زيادة عن ذلك ، لقد سبقكم الخصم و وكلني ، سأرافع لصالحه .
الدكتور مجبر: أعرف أن موقفك صعب جدا ، وأعرف أن الأمر أصعب مما يتصوره أي انسان ، ولكن تبقى مسؤوليتنا كبيرة لما نبني أحكامنا على العاطفة أو على ظاهر الأشياء ، ولولا يقيني ببراءتها ما جئتك بنفسي ، وأنت اليوم على موعد بامضاء العقد للدفاع عن القطاع الصحي ، معنى هذا أنت ملزم بذلك طبقا للقانون ، وملزم كذلك كضميرحي لانقاذ روح بريئة من الموت ، أليس القانون جاء لممارسة الحياة مثله مثل الطب ؟ ، أنا وأنت هنا لاحياء الناس ونتحدى الموت الا في قضايا الاجرام ببينة .. أستاذ كريم ، صدقني المرأة بريئة وبحاجة الى رجل مثلك يؤمن بالعدل ويحترم القانون لينجيها من حبل المشنقة ، تخليك عنها جريمة يا أستاذ في حق الانسانية و مهنة الطب ، وسكوت غير مبرر عن حق في الحياة يزهق أمام الجميع ...
كريم: يا سيدي ، أنا لا أتاجر بالأرواح ، و لا بالذمم ، وظيفتي الدفاع لاعادة الحقوق الى أصحابها ، أما الأحكام فهي من اختصاص القاضي ، المهم أن يعوض موكلي عن الضرر ، فاذا ردع المشرع فأين مسؤوليتي في هذا ؟ ، وليس من السهل أن ندافع عن امرأة حكم عليها الجميع قبل محاكمتها ، و أدانها القريب و البعيد ، رغم أن الشارع لا يقيد الشرع الا في مفهوم الجبناء.
الدكتور: لا علينا ، نحن نقبل بتعويض مادي للضرر ، ويمكنكم المرافعة على هذا الأساس ، المهم اسقاط عقوبة السجن ، انها في آخر عمرها و لا نريدها أن تنهي مشورها فيه
كريم: وهذا نصف الاعتراف بالجريمة.
الدكتور: سأكون شاهدا بأدلة طبية ، بأن الخطأ مهني محتمل في كل مستشفيات العالم ، وسأقنع الجميع .. ما رأيك ؟
أدخلت الضحية يوم السبت صباحا ، كان من المفروض أن تلد قبل الساعة الثانية مساءا ، وهي ساعة انتهاء الدوام الأول ، وفي آخر لحظة طرأ عاجل في القاعة الأخرى ، استدعى التدخل السريع للجراح والقابلة ، فاستلزم ذلك وقتا لانقاذها ، في هذه اللحظة بالذات اشتد المخاض على الضحية ، فأسرع الجميع على أنها ولادة عادية ، ولسوء الحظ كان الولد قد حول رأسه الى الأعلى واستوى قاعدا ، مع أنها ولادتها الأولى وجب اللجوء الى عملية قيصرية ، وهكذا كان الجميع في سباق مع الزمن يتحدون المستحيل ، وعملوا ما في وسعهم ، ولكن ويا للأسف حصلت الكارثة ..أعلمك بأننا لا نزال نعمل بامكانيات محدودة جدا ، وهذه القابلة أنقذت العشرات من الأرواح في ظروف أخطر ، ألا يشفع لها هذا ؟.. المهم سأكون حاضرا ، وأتطرق الى الموضوع بتفصيل أكثر .. أستاذ هكذا يكون القضاء والقدر في بعض الأحيان أسرع ..
كريم: أترك لي فرصة لأفكر
الدكتور: الوقت يداهمنا لا تطيل في الأمر
كريم: انني الآن أمام أكثر من اشكاليتين ، التزامي مع الرجل ، العقد معكم ، والمرافعة في قضية ملغمة ، ولست مطمئنا لبراءتها
الدكتور: أتظن أننا نتلاعب بالأرواح ؟ أم ضميركم أعظم
كريم: أبدا يا دكتور ، أنت مطمئن لهذا الطرح لأنه اختصاصك ، أما أنا أتعامل مع النص القانوني الذي لا مكان للعاطفة فيه ، كيف يمكنني أن أجمع عدة عوامل متناقضة للخروج بتركبة منصفة والضحية انسان ؟
الدكتور: وهذا الانسان هو الذي يبقى فوق كل الاعتبارات ، لتوجيه كل العوامل نحو صناعة العدل ، والعدل وحده ... وبعدها كيفما يكون الحكم نكون نحن قد برأنا ذمتنا .. والخطأ سمة البشر ، وحتى القاضي يخطئ في حدود هامش حدده القانون ، والواقع لا يكذب ذلك ، والجريمة هي عندما نتعمد الفعل ، و كثيرة هي النوايا التي لا يعلمها البشر مهما كانوا.
استوى واقفا ، نظر الى الأستاذ كريم بعمق ، مد له يده ، ضغط عليها بقوة وقال: لا تخذلنا ، وستتيقن أنك تدافع عن قضية عادلة أنت أحق بها .. أتركك بسلام
كريم: شكرا دكتور، سأحاول .
خرج الدكتور وبقي كريم ينظر الى مساعده ، وساد صمت تحته اضطراب ... وما وجد كلمة يربط بها ليواصل الحديث ، كان حرص الدكتور على تبرئة المتهمة شديدا ، قبوله الفدية مهما كانت ، انه أرحم من اليقين ، موقفه هذا جعل كريم يعيد قراءة شخصية الدكتور من جديد .. أهذا هو الدكتور مجبر ؟ ، لا شك ان له تركيبة أخرى لم يطلع عليها أحد ، تترادف الأسئلة والأجوبة ... أغلق مكتبه وانصرف ، يجتر كعادته حديث آخر مقابلة .. ويفكر في الحاجة القابلة.
مسكينة تلك الحاجة ،الآن هي في السجن ،على عاتقها جريمتين .. بالمناسبة ألا يمكن أن تكون على علم بماضي خضراء؟.. كيف لم أنتبه لهذا ؟.. أظن أن العقدة أحكمت هنا و بحضورها ، غريب! ، لم يذكرها أحد في كل هذا الذي حدث ، لا شك أن... انها الآن في السجن..
على الحائط كتابات بالعربية والفرنسية ، وتواريخ ورسومات ، النساء جماعات جماعات ، أغلبهن غير مباليات ، بالعكس كأنهن في عرس ، يغنين ويرقصن ، اللهو والمزاح مستمر ليلا ونهارا ، بعضهن يتصرفن أحيانا تصرفات تثير الفضول وتزرع الشك والتساؤل في النفس ، ألفتهن للانتباه ماما ، هي امرأة في العقد الرابع ، قوية البنية ، طويلة الأطراف تبدو أكبر من سنها ، كأنها رئيسة الجوق ، فتيات في مقتبل العمر ، أهملهن المجتمع وأفسدهن السجن ، من كل الولايات ، التفتت الى التي كانت بجانبها وقالت:
- هل لك أهل ؟
الفتاة: مقطوعة من شجرة
القابلة: يعني من الملجأ
الفتاة: نعم .. جريمة ، أليس كذلك ؟على كل حال ليس هناك فرق بيني وبين بنت الأصول ، هنا كلنا سواسية ، وجهين لعملة واحدة
القابلة: انا قابلة في المستشفى أعرفكم جيدا .. ماذا فعلت ؟
الفتاة: قالوا عني بائعة هوى ، و بائعة الخمور بدون رخصة ، تقاتل ثلاثة شبان من أجلي ، مات أحدهم والآخر في غيبوبة والثالث في حالة فرار .. و .. و ..
القابلة: أنت ؟؟؟!
الفتاة: نعم ، أنا ، مستصغرة ؟! هذا وأكثر ، أتمنى أن أكون في يوم من الأيام سيدة قاعة من قاعات السجن ، وأتعلم كيف أدافع عن هوى الشوارع والحدائق ، أقول لك سر آخر ، أتمنى أن أقتل حتى ألمس معنى الجريمة ، لا زلت لا أدرك معناها الحقيقي ، كانت هذه الكلمة ترهبني وترعبني ، أما اليوم والسجن مرقص ، كأني متعطشة للانغماس فيها الى النحر أو أكثر ،.. سأحقق لهم الصورة التي يرسموني فيها
القابلة: لهذه الدرجة تهون عليك نفسك ؟
الفتاة: لست أفضل من ماما ولا ماما أفضل مني ، هي الآن موقوفة للجريمة السادسة ، وخيرة للجريمة الرابعة ، وأم الخير لا تخرج من السجن ، كلنا لنا سوابق ... ومن منا أوفى للسجن وأخلص ؟ .. نشكر الاسلام والثورة على مناسبتهما ، نخرج نتنفس الجريمة ونعود ... أنت ، يظهر أنك لأول مرة تدخلين السجن
القابلة: نعم لأول مرة .. السجن شيء فضيع
الفتاة: قولي الحقيقة ، كم أجرمت من مرة ؟
القابلة: الله أعلم
الفتاة: أنت كذلك تعلمين ، ولكن كنت ذكية جدا ، وهذه المرة خانك شيء ما ، ومن يدري لعلك ستدفعين ثمن كل الجرائم .. على كل حال ستألفين المكان وتتخذين صديقات وتتعلمين أشياء كثيرة ، ان كان في العمر بقية ، أشياء أعماك عنها ما أعمى الحكومة عن جرائمك
القابلة: أنا متهمة بجريمة قتل امرأة ومولودها أثناء الولادة ، ولكن أنا بريئة
الفتاة: الذي يقرر ويعرف هل أنت مجرمة أم لا ، هو الشرطي ، وقاضي التحقيق والقاضي الذي يحكم عليك بالمؤبد أو الاعدام ، كلمتك أمامهم لا تساوي شيئا ، لا زلت أذكر نكتة روتها لنا سجينة خرجت ، قالت أثناء الحرب جاء طبيب يفحص الذين سقطوا في الساحة بعد المعركة ، ومن كثرة الأموات فحص جريحا كان يتألم ويصيح ، فقال الطبيب: خذوه انه ميت ، ضعوه مع الأموات ، فحمله المساعدون فقال الجريح: أنا حي لست ميتا ، فقال المساعدون: وهل تعرف أفضل من الطبيب ، أنت ميت ووضعوه مع الأموات ، والفاهم يفهم ...
انصرفت الفتاة لشأنها تغني وترقص ، تتمايل كأنها جارية في قصر الأمير ، وتركتها في دوامة الرعب والقنوط ، انها في يومها الثالث ، لم تأكل شيئا ، يرقرق الماء وحده في جوفها كالقربة ، وجاء يوم الاستقبال ، كانت في حالة احباط تام وارهاق جسدي زاد في سنها عشر سنوات حتى انحنت ، تقدمت الى الشباك والدموع تنهمر من عينيها ، عائلتها خلف السياج المقابل
الزوج: لا تخشي شيئا ، لقد عينا محاميا بارعا ، انه كريم ابن الحاج لشرف ، ولد سترة صديقتك ، تهز رأسها وتعض شفتها التي ظهرت عليها بوادر الابتسام وقالت تستعطفهم أكثر:
اسمحوا لي ، أتعبتكم ..
الزوج: لا تقولي هذا ، الجميع يسأل عنك
ابتسمت وفاضت عيناها بالدموع من جديد
القابلة: بلغوهم تشكراتي
الزوج: اليك ببعض المأكولات والفواكه ، ستأتيك الحارسة بها ، سنعمل المستحيل لاخراجك من هنا ، وفي أقرب وقت ، عليك بالصبر فقط
رن الجرس وانصرف الزوج والأولاد ، وأدخلت السجينات ، وعادت القابلة الى مكانها تجتر ماضيها ... لماذا لم يأتي المحامي بعد ؟ حتى يطلعني على محتوى ملفي ، أتراهم اقتنعوا باجابتي عن كل تلك الاتهامات التي وجهت الي ؟ ماذا أثبتت التحريات ؟ ما تلك الملفات التي جاء بها رئيس مصلحة الأمومة ؟ ، وماذا قالت القابلة المتقاعدة ؟ ماذا قال المدير ؟ لماذا استجوبوا كل هذا الحشد من العمال ؟ لا شك أنهم سيعذبوني لانتزاع مني ما يريدون من اعترافات ، قالوا أن لهم وسائل جهنمية يعترف بها الجاني عن قتل آدم وحواء ، حتى تتوسع دائرة الرشوة لافقار قارون و ذله ، سيتفطن زوجي لهذا ، ويبذل ما أمامه وما وراءه للافراج عني ، وكريم محامي قدير وشهم ، وما قدمته لهذه العائلة من خدمات لا يعوض بمال منها حادثة خضراء ، وسرها الذي لا يعلمه غيري ، بما بامبرا و نونة الشبح ، سرلا يعوض بثمن ، هذه القنبلة الموقوتة أخشى أنه حان وقت انفجارها ،و ستدفع سترة ثمنا باهضا ، ربما سكتة قلبية ، ذلك هو ثمن الخيانة ، يأتي دائما بآخر الحساب ... سيدافع عني كريم بكل ما يملك من وسائل ونفوذ ، ليس له الخيار ، سترغمه أمه على فعل أي شيء ، نعم ، سيفعل ... كانت تتكلم وتشير بيديها ، فتقدمت اليها ماما ووضعت يدها على كتفيها ، فارتعشت ، حاولت أن تخفي قلقها ، ولكن خانها الصبر ففاضت عيناها وأسندت رأسها على صدرها وهي تشهق .. اني خائفة يا ماما ، اني خائفة
ابتسمت ماما ساخرة ، تنظر الى الأخريات وقالت لها:
لا تخشي شيئا يا ضنايا ، هي أيام قليلة وتتعودين ، الله !! تبكي وأنت في هذا السن يا شيخة !! وماذا يفعل العيال مثلي ؟
القابلة: انه آخر عمري ، هي العاقبة التي تبكيني ، أخشى أن أقضي آخر أيامي في السجن
ماما: لا ، لا تخشي شيئا ، بقاؤك أو خروجك مرهون بحلوة الى القاضي و فدية الى أهل الضحية ، ناس اليوم يتاجرون في كل شيء ، ألم تقولي أنه خطأ مهني ؟! اللهم الا اذا كان هناك قضايا أخرى
القابلة: أخشى من التلفيق ، عائلتنا ميسرة ولم نقع بين أيديهم الا هذه المرة ، سيجردوننا من كل شيء
ماما: لك أن تشتري براءتك بالدينار ، فقط جريمة الكرسي لا تغتفر هنا .
القابلة: المهم أخرج من هنا ، نحن لم نخلق للسجون ، ولا نبخل على أنفسنا بشيء ، نخطئ ونشتري كرامتنا بأي ثمن ، المهم نحافظ عن شرفنا .. السجن شيء رهيب لا يصلح الا للمنحرفين .. أنظري ، أغلبية المسجونات شابات في مقتبل العمر ، ولا فيهن واحدة تجاوزت الخمسين ، لا زلنا نحن نستر عيوبنا ونخشى الفضائح ، أما أنتم تشترون الجريمة وتجاهرون بها بل تفتخرون ، ما كنت أتوقع أن السجن يستر كل هذه العيوب ، وهذه البشاعات .. تجردتم من القيم والأخلاق ، ما كنت أصدق عندما كانوا يقولون لي أن السجن مثل القبر يستر المتعفن ..
ماما: من غيركم فعل بنا هذا ولا يزال ؟ يا أهل الشرف ، هذه التي أمامك اغتصبها طبيب ، وتلك اغتصبها دركي ، والأخرى نافذ والأخرى شرطي ، وحتى كبار المسؤولين ، وكلكم ، تغتصبون الخادمات و تتحرشون بالكاتبات وغيرهن ، نحن يا أيتها الشريفة جرائمكم ، نحن الوجه الحقيقي وراء أقنعتكم ، وعشرات الفتيات اغتصبهن الارهاب الأعمى ، هكذا عندما تنتهون من أكل الفريسة تأكلون بعضكم بعضا ، أنتم من حكم علينا قبل القضاء ، وشوهنا قبل القدر وعوق حياتنا ، ألا تستحي ؟ السجن بنيتموه يا أيتها الشريفة لستر بشاعاتكم وافرازات حماقاتكم ... فلا تحاولي ، يا أيتها السيدة الشريفة ...
بهتتها ، كانت حينها تنظر اليها بعيون الدهشة ... مثل هذه في السجن ! يظهر أنها واعية ومثقفة ، القاضي الذي حاكمها لم يراع أي شيء ولم يأخذ بعين الاعتبار أي عامل ، انهم يحاكمون الناس وكأنهم العبيد والجواري ، بل أكثر من هذا ، أين مسؤولية المجتمع في هذا المصير المفروض؟... لم تعد تسمع كلام ماما ، هي الآن أمامها شفاه تتحرك وأيد ثائرة ، ونظرات تتطاير منها شظايا الغضب وشرارات الكره ... لم تعد تسمع الا أنتم .. أنتم ... أرادت أن تسكتها فدفعتها وواصلت ، كفرنا بكل قيمكم ، وشرعياتكم ، وشرائعكم ، ومقسداتكم ، أنتم من صنع مواطنين من الدرجة الأولى ، وصنع منا العبيد والرجعيين والكفار ، والظلامين ، أنتم وحدكم أبناء هذا الوطن وغيركم طحالب .. أنتم .. اجتمعن عليها وكأنهن أشباح ماضيها ، خرجن من قبورهن لحضور المحاكمة ، وجوه أخرى خلفهن ، أطفال ، نساء ، فتيات، كلهن ملطخات بالدماء ، يحيطون بها ، يتردد صدى كلماتها في عمق رأسها ، وضربات كأنها على الصناجة انتفضت ذاكرتها التي كانت في عمق النوم وأيقظت الضمير ... وضعت يدها على وجهها وانحنت فوق ركبتيها ... لما رفعت ، وجدتهن قد تفرقن ، وحدها ماما أمامها .. نظرت اليها ، ستدفعون الثمن غاليا ، أشاحت بوجهها وذهبت
القابلة: يا هذه ، ما أنا الا حلقة في هذه السلسلة التي تذكرين ، ولو كنت كذلك ما وصلت الى هنا أبدا يا بنيتي ، هوني على نفسك ، لماذا كل هذا الحقد والكره ؟ يكفيني ما أنا فيه ، تريديني أن أدافع عن قدر كتبوا منه بيدي مرغمة ..
ماما دون أن تلتفت: لم نقل لكم أنجبونا ، أنانيتكم هي التي صنعت جيلا تسميه أنت مفككا وغير أصيل لا يؤمن بأي شيء ، لأنكم كذبتم علينا تلك الكذبة ، سميتموها بيضاء في طفولتنا ، وبالغتم حتى أصبحت سوداء ، لم تترك لنا منفذا لرؤية الحقيقة ونتبين ، و الآن نحن على ما نحن عليه ، لن نغفر لكم أبدا ... أبدا ، لقد حكم التاريخ ، فانتظروا لحظة التنفيذ ... انها أقرب ..
انصرفت وتركتها في حالة انهيار عصبي رهيب ، ومن تلك اللحظة اعتزلنها جميعا
وفي اليوم الموالي ، فتحت الحارسة الباب ودعتها ، كانت فرحتها شديدة جدا لما رأت الأستاذ كريم
القابلة: كريم ، ابني ، تأخرت عني كثيرا
كريم: هوني عليك يا خالة وهدئي من أعصابك حتى نستطيع أن نتكلم ، استقرار حالتك النفسية يساعدنا كثيرا على ايجاد مخرج بسلامة ، اجلسي ، لكي أضعك في الصورة
جلست وهي تنظر الى تقاسيم وجهه لعلها تدرك شيئا ... جلس ، نظر اليها ، ابتسم وقال:
مهما تكن التهم الموجهة اليك ، أنت في نظري يا خالتي بريئة ، حقيقة ملفك ثقيل جدا ، واذا لم تساعديني بالصراحة وتخبريني بالحقيقة ، سأقع في متناقضات ، ولا أستطيع أن أدافع عنك لأفتك البراءة مهما عملت
القابلة: أقسم لك أنه كان خطأ مهنيا
كريم: واستبدال المواليد ، والاجهاض ، ووفيات الأطفال ، وموت الوالدات ، وهذه ليست المرة الأولى ، أنت متهمة كذلك بالمتاجرة بالرضع
القابلة:كل هذا ؟! المتاجرة ؟.. من قال هذا ؟
كريم: وأكثر ، اني أنتظر اكتمال الملف ، وبعد مرورك أمام قاضي التحقيق سنتكلم بالتفصيل ، حتى الآن لم تتضح الرؤية جيدا ، سأكون حاضرا في كل الاجراءات ، فكوني قوية ، ودافعي عن نفسك بكل شجاعة ، مر من هنا من هو أكبرمنك تهما وأثقل ، واستطاعوا أن يحصلوا على البراءة لأنهم كانوا حقيقة أبرياء ، سأنصرف الآن وأتركك ترتبين أفكارك حتى نتكلم بدون ارتباك وبموضوعية ، كوني على يقين أني سأدافع عنك حتى آخر نفس، فقط كوني صادقة معي ، وحتى لو حكم عليك سيكون الحكم خفيفا لأننا سنحاول أن نكون صادقين قدر الامكان بعيدا عن التوريط ، وغير متنصلين من مسؤوليتنا .. لا تديني نفسك قبل الحكم بالخوف والقلق
القابلة: سأحاول
كريم: سأعود اليك .. أتركك بخير ..
كعادته ، دخل متأخرا ، جلس على حافة مكتبه يرتب التهم ، ويستجمع أفكاره التي بعثرتها القضية ، قام وجلس على الأريكة ، وضع رأسه على المسند وراح ينظر الى الثريا .. يا لطيف كأنها حبل مشنقة ، هكذا حتى فتح الباب فجأة ، استدار ، انها أمه تحمل طبق العشاء ، وليس من عادتها ، فقام اليها ، أخذه من يديها ، وضعه على الطاولة ، أجلسها وقال:
أنت ؟! لماذا ؟ أين ثورة ؟
الأم: أردت أن أستعيد تلك الأيام الجميلة ، لما كنت في عنفوان شبابي ، أخدمك ، قبل أن أصبح عجوزا .
كلماتها أعادته الى ذلك الزمن الجميل بحضور خضراء ، أراد أن يغتنم الفرصة ، الا أن الوقت ليس مناسبا ، لا يريد تعكير الجو و لفت الانتباه الى هذا العامل الجديد ..
كريم: أبدا ، يا أمي ، لا زالت البركة ، لايزال الحاج يغار عليك .
ضحكت ملأ فاها وابتهجت ، ثم انقلب وجهها فجأة ، وعاد ذلك الوجه العبوس الحديدي ، بلمسات شجونه
الأم: أخبرني ماذا فعلت في قضية القابلة
كريم: هي أول قضية سأخسرها بجدارة ، صدقيني يا أمي اني أشك في براءتها
الأم: لا يا كبدي ، انها أمكم جميعا ، تقف علي دائما في المخاض والوضع ، ساعدتني في ولادتكم جميعا ، يجب أن تفتك لها البراءة مهما كلفك ذلك ، ولا تسمع كلام الناس فيها ، أعرفها ، انها امرأة شريفة ، لكنه الحظ يا بني ، كل تفانيها في العمل لم يشفع لها عندما أخطأت ولأول مرة ... نعم ولأول مرة .
كان يتابع حديثها و الريبة تتزايد ، و الظن يتشكل رويدا رويدا في نظره الى يقين .
كريم: سأحاول يا أمي ، الا أن القضية أصعب مما تتصورين ، لا أخفي عليك انها متهمة بتبديل المواليد الأنثى بالذكر والذكر بالأنثى، مقابل مبالغ مالية باهضة ، زيادة عن الاجهاض وتوليد الأمهات العازبات والتخلص من مواليدهن ، انها تتاجر يا أمي ، أنتظر فقط استكمال الملف حتى أطلع على أقوال الشهود و أقوال الضحايا .. انها جريمة في حق الانسانية ، يعاقب عليها القانون بشدة
الأم: تبديل المواليد ؟ ! الا هذه ، أبدا ، أبدا ، غير ممكن ، لا أصدق .. حسدوها المسكينة ، ولا يزالون يلفقون لها التهم ، وصدقني ليس بيدهم ما يثبت ذلك ..
كريم: يا أمي ، القانون هو الذي يدين أو يبرئ ، شهادتك لا تفيدها أمام القضاء .. أطمئنك أني سأبذل أقصى ما يمكن لاخراجها من هذه الورطة وبأخف ضرر ، هذا اذا كانت بريئة حقا
الأم: أتمنى أن لا تصدق ما يقال عنها يا بني
كريم: حتى الآن هي اتهامات نتمنى أن نجد ما يفندها
الأم: صدقني أنا أمك ، كل ما يقال عنها كذب وافتراء
كريم: أمي أرجوك ، انك طيبة وعلى نيتك
الأم: أتمنى لك التوفيق ، ولكن احرص ، فضلها علينا كبير
كريم: أعدك أنني سأدافع عنها كأنك أنت
الأم: بورك فيك يا بني ، لا تصدق ما يقال عنها ، انها أشرف امرأة عرفتها في حياتي ، نجتني من الموت عدة مرات ، كان المخاض دائما يأتيني عسيرا ، وكانت اصابتي بالقلب تزيد في صعوبة الولادة ، كلكم نجيتم وخرجتم الى الحياة التي تتمتعون بها بفضل تفانيها معي وسهرها علي ، حتى تلك الأفعى السوداء ، و بعد أحمد نصحتني بالتوقف نهائيا عن الحمل ، رغم حرص الحاج عن المزيد .
كريم: الأفعى السوداء ! تعني خضراء ؟
الأم: نعم ، نعم .. آه ..هي قالت لي ذلك ، قالت أنقذتها بصعوبة ، ولما ماتت أمها لم تغفر لنفسها ذلك رغم الأجل والموت الطبيعية ، لقد صامت شهرين وتصدقت بنصيب من المال ، ولا تزال تستغفر الى اليوم
كريم: لو كانت خضراء هنا لساعدتنا كثيرا ، بصفتها كانت تعمل في نفس المستشفى
الأم: ما أعرفه أنا أكثر مما تعرفه خضراء
كريم: لا علينا يا أمي ... سنجد في المستشفى من يساعدنا على كشف الحقائق ، وسنجد من سيشهد لها أو عليها .
الأم: لا تزال الشكوك تساورك ، ولم تقتنع بعد ، أعرفك جيدا ...
كريم: يا أمي ، ملف المرأة ثقيل جدا ، يجب أن أقتنع أنا أولا حتى أعرف كيف أدافع عنها ، هذه قضية تتطلب محامي أكثر مني خبرة وتجربة واطلاعا على خفايا الجرائم ، محام صهرته التناقضات والممارسة الطويلة في معالجة قضايا الاجرام ، ولهذا أفكر منذ الآن في عرض الفكرة على الادارة ، أتمنى أن يعفوني من هذه القضية ، لأنها ستسيئ الى سمعتي ، وفشلي في نظر الناس سيبدأ من هنا ، أنا لا زلت في البداية ، ينقصني الكثير ، والقضاء في وطننا لا يزال برزخا تحت الكثير من الممارسات والمخلفات البائدة ، لا القاضي حر بمفهوم القانون ولا هو مقيد به ، ولا المحامي جريء بالدرجة التي تجعله يعتمد على النص القانوني والدراسات العلمية للمرافعة في قضاياه ... مفهوم الجريمة محدد على الورق فقط ، أما الواقع غير مانتعلمه في الكليات ، هل فهمتي ؟!.. ما أحمقني ! وكأنني أخاطب عميد نقابة المحامين ، أعطيك مثلا بسيطا ، ممكن أنني أتعب وآتي بأشياء كثيرة تثبت براءة موكلي ، ويقتنع القاضي ، ويقدرني في نفسه وتدهشه براعتي ، ولكن يكون قد تلقى شحنة مال أو مكالمة من الأعلى ، فأظهر أمامه دونكيشوتيا أو مهرج أو شبيه ذلك .. بعض المحامين يبرؤون موكليهم قبل الجلسات ، لنفوذهم ومعرفتهم أبواب القضاء الحقيقية التي لا تفتح الا عندما يغلق قصر العدالة أبوابه
الأم: لماذا اخترت هذه المهنة ؟
كريم: وكأنك يا أمي لا تعرفين هذه الأشياء ، انها الهواء الذي يتنفسه أبي في قضاء جوائجه ..
اخترتها يا أمي ظنا مني أنه سيأتي اليوم الذي تحتاج فيه بلادي الى أبناء مخلصين ، شرفاء ، شباب ، أخطأ أباؤهم ، فيأتوا لاصلاح ما أفسدتم لبناء واقامة الدولة ، التي لا تزول بزوال الأشخاص ، انظري أمي الى الشارع ، حتى الأطفال يخربون كل شيء يرمز الى الدولة ، الأشجار ، اشارات المرور ، سياج الحدائق ، مواقف الحافلات ، يكتبون على جدران المراحض العمومية ، على جدران المدارس ، الشباب والمراهقون منهم يمزقون مقاعد الحافلات ،و اللافتات ، يفسدون أي شيء تابع للدولة ، انهم يا أمي يمارسون الرفض بامتياز ، والجميع ينتقم ، من لا يفعل لا ينهي ، هكذا تبدأ الانتفاضات ، كنار التبن ، هذا كله لأن حرب التحرير التي لا تلد ثورة تطهرها من الانتهازيين تبقى ناقصة وتتحول الى وبال على أمتها ... هكذا علمنا التاريخ .. الحمد لله اني أقول هذا الكلام لأمي، والا فمصيري السجن ، حتى لو كان كلامي هذا مجرد انفعال، يعاقب قائله ، لأنه جريمة في نظرهم وخيانة كبرى يحاكم أصحابها في المحاكم الخاصة ، والاعدام هو أخف الأحكام ، جيلكم يا أمي رهيب ، رهيب .. رهيب .. أصعب جيل عرفته البلاد ، زور التاريخ ، سلخ الأمة ، مسح الهوية ، زرع الفتنة التي لا تنام حتى تقسم ظهر الأمة ، وستحتاجين يوما الى جواز سفر للذهاب عند خالك في الشرق أو عمك في الغرب أو صهرك في الجنوب وبتأشيرة ولم لا ؟ زرعتم الحقد والكراهية ودنستم التاريخ ، رفضه هذا الجيل جملة وتفصيلا ، اشتريتم الأيادي والألسنة وقهرتم القلوب وكثرت الخفافيش والفجر بعيد ..
الأم: تقول كل هذا لأمك ؟ سامحك الله يا بني ، سامحك الله
كريم: لأنك أمي ، أقول لك هذا وأكثر ، أقول لك هذا الكلام لأنك في اعتقادي أنت الوطن ، الذي يجب أن يحتوينا جميعا بعيوبنا ونقائصنا ، أتصورك كذلك لأن مصيرك لم يكن أبدا في يوم من الأيام في يدك ولا في أيدينا.
حضنها بكل رفق ، قبلها على الجبين وقال:
مجرد حلم يا أمي ، لا تخشي شيئا ، لا نزال نيام
الأم: فزع قلبي وتكدر ، أخشى عليك حتى من أمك
كريم: أنا أعرف ، لم يسمعني غيرك ، فلا تخشي علي
الأم: شغلتك عن طعامك حتى برد ، أسخنه وآتيك به
كريم: لا ، لا يا أمي ، لا تتعبي نفسك سأفعل وحدي
الأم: أبدا ، دعني ، أحب أن أخدمك بنفسي في انتظار العروس التي ستخطفك مني ، أتمناها محامية مثلك حتى تفهمك
نظر اليها وهي تحمل الطبق وتخرج من المكتب ، كأنها تغادر قاعة عرض ، انغلق الباب وراءها بكل هدوء تدفعه النسمة العابرة من هنا ، وعم الصمت من جديد ، تتساقط شظايا انفجاره على بسيطة العقل باردة ، كأنها قطع من الثلج ، وقف وسط المكتب سارحا يجتر حديثه وينظر الى صورة على الجدار ، ألوان ولمسات يتعدد تشكيلها كأنها السحر ، وتختلف قراءتها من زاوية الى أخرى ..
كريم: سآكل جملا أو فيلا لو قدمتيه لي ، اشتقت الى الأكل من يديك
الأم: تسلم يا بني
وقفت هنيهة تنظر اليه وتحتويه بابتسامتها ثم خرجت ..
تذكر خضراء ، وأطباقها اللذيذة ، تذكر عندما كان يمازحها وهو يقول ، حتى ولو برجلك أنت ماهرة .. وهو يمضغ ويمضغ ..ويمضغ وأبت اللقمة أن تبتلع ، شيء ما سدها ، زاد عليها جرعة ماء وبلعها مستكرها ... أين أنت يا خضراء ... أرجوك كوني بخير اني أقترب ..
في مساء اليوم الموالي ، وكان يوم جمعة ، اجتمعت الأسرة كلها في الصالون ، الأب ، الأم ، ثورة ، كريم ، حتى نونة الغائبة الحاضرة ، لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر شيء على القلب ، ينظر اليها كريم ، يستغرب ، كيف استطاعت أن تجعل الجميع على الهامش ، سكنه هاجس الفضول ، كيف استطاعت أن تطوع هذه السلبية المعلنة ؟ ..
رغم تركيز نظرته اليها ، لم يحرجها ولا ظهر على وجهها شيء ، كأنها تمثال الحديقة ، تحتفظ دائما بنصف ابتسامتها التي تجعلك تقف هنا .. لا تسأل ولا تجيب ، هي رأي الجميع ، يتساءل ، كيف كانت علاقتها مع خضراء ؟ وهل تعرف حقيقتها ؟ وهو كذلك حتى سقط عليه السؤال
الأب: ماذا عن قضية القابلة ؟
كريم: آه .. القابلة ، يحتاج الى شيء من الوقت لدراسته ، ملف متشعب والتهم كثيرة ، يتطلب تحريات وتحقيقات خارج الورق
الأب: ستتحول الى محقق ... بوليس
نظر اليه كريم وقاطعه مواصلا
البحث في ماضي الناس جريمة لا تغتفر ، تصور لو أكتشف أشياء لم يكتشفها البوليس ، هل أسكت عنها لأنها موكلتي ؟ أما شهادة المحيط ، تكاد تتوازن ، الادانة والبراءة لا زالتا بعيدتان
الأب: المحاماة تحتاج الى مكر وخداع وذكاء وجرأة ومراوغة الثعالب ونفوذ .. يا ولدي أدهن السير يسير
فهم كريم قصد أبيه فسكت
الأب: اياك واياك يا ثورة من قراية الحقوق ، يضيع منك كل شيء .. وضحك
ثورة: ما عدت الى الدراسة بالمراسلة لتعلم الثرثرة ، فهذه أنا أحسنها منذ زمان ، الأدبيات كلام فارغ ، سأتحصل على البكالوريوس علمي ، الحقيقة والحقوق في المخابر والورشات ومكاتب الدراسات ، الحقيقة هنا تراها وتلمسها ، ليست سرابا أو تنتظر العالم الآخر لتراها وتلمسها ، نحن العلميون لا ننتظر الآيات بل نصنعها ..
كريم: احذري أن تصنعي صاعقة تدمر العالم فتكون نهاية البشرية قبل أوانها وعلى يدك
ثورة: نستنسخكم ، لا تخشى شيئا ، نصنع مخزونات للخلايا البشرية ، وبعد انتهاء مفعول الصاعقة نستخرجكم
كريم: جميل جدا ، رائع ، أرباب جدد لعصر جديد ، انه جنون البشرية الذي يمكن أن يفسد السماوات والأرض ، وها أنتم بدأتم بطبقة الأوزون ، ما أتفهكم ، وما أعظمك يا ثورة عالمة رسوم متحركة
ثورة: كريم .. يكفي ، تريدني أن أخرج ؟
الأم: يا ثورة ، تأخذين كل هزل جد ، طموحك مشروع ، ولكن للمزاح مكانته في كل جد بين الاخوة
كريم: دعيها ، اذا تعدت المحضور لن أدافع عنها
ثورة: لا أحتاجك ، اختراعاتي تدافع عني وعن نفسها ، واكتشافاتي مهما كانت تخدمني
كريم: وستخسرين الكثير بهذا التفكير ، حتى وأنت في عالم الكارتون ..
الأب: العشاء جاهز يا ثورة ؟
ثورة: نعم ، لا تنتظر الأخبار ؟
الأب: لا ، نتعشى لتنصرف عمتك ونواصل
ثورة: النقاش مع كريم مهزلة ، هو لا يرى المقدس الا في القانون ، أما العلوم الأخرى فهي عبيد لجلالة القانون
كريم: وهذه هي الحقيقة
ثورة: الحقيقة التي يختلف فيها كل الناس
كريم: اذكري لي من خالف من ؟
ثورة: كلام فلسفي لا أطيقه
كريم: ما أطول لسانك وأقصر باع علمك
ثورة: سأدخل الى الجامعة وسترى
كريم: نعم ، جامعة سبيستون .. ابدئي الآن بتقديم العشاء ويومها سنرى ، أنت مملوءة بالحشو الأحمر
نظرت اليه وانصرفت كالزوبعة ، تركت الجميع في حضن الابتسامة الساذجة ، وكأنهم صدقوها
الأب: لا تهدأ حتى تهيج أمواجها
كريم: يا أبي في الثانويات تيارات فكرية ، بقدر ما تفيد تفسد ، هذه التيارات غير مراقبة والصراع الثقافي والاديولوجي يبدأ من هنا ، العلم نور فاذا تجاوز حد العقل يضر أكثر مما ينفع ، فلتكن علمية اذا أرادت ولكن بأفكار نيرة وانسانية بعيدا عن الحديد والنار
الأم: هكذا كنت أنا ، عنيدة ، لكن مع النساء فقط ، أما الرجال فكانت جلساتنا معهم قليلة ، حتى المدرسة في عهد الاستعمار ، واحتراما لديننا وتقاليدنا ، بنوا مدارس للذكور ومتوسطات ومدارس ومتوسطات للبنات ، المعلمون يدرسون البنين والمعلمات يدرسن البنات ، لا زلت أذكر يوم أحرق الحجاب في ساحة الشهداء رمزا لتحرير المرأة ، كان حينها الفاعل يرتدي بذلة صينية ، وكم حز في أنفسنا لما سمعنا بسجن الشيخ الابراهيمي ، رئيس جمعية العلماء المسلمين آنذاك ..
الأب: وبعدها كان ابنه وزيرا للتربية الوطنية
الأم: بعد وفاته
الأب: والله لا أذكر ، المهم كان ذلك
كريم: هذه شهادات يسجلها التاريخ ، يجب أن نحتاط ونتحرى عندما نتكلم في أمور كهذه .
عادت ثورة تحمل الطبق وهي تقول:
تصور أخي كريم لو كان أول رئيس امام ، لكان الوطن كله مساجد
كريم: مساجد أفضل من ثكنات وسجون
ثورة، لا فرق ، الا أن المساجد باقية على حالها والثكنات والسجون تطورت بكثير
كريم: بل تفننت
الأب: يا ثورة ، يا ثورة ، لك الحق في كل ما تقولين الا في شؤون الدين .. مجتمعنا لا يرحم ، لا تجاهري بهذا الكلام ، ذهبت أنا وجدك الى الحج وبذلنا أموالا كثيرة ونحن نتصدق على الفقراء ، ونتوسط للناس في قضاء حوائجهم ، كل هذا لتحافظ أسرتنا على منزلتها ونفوذها ، فلا تضيعي هذا العمل من أجل فكرة أنت غنية عن حملها اليوم
كريم: وربما تتخلين عن هذه الأفكار يوما ، وتتراجعين عندما تتجاوز أفكارك مرحلة المراهقة الثقافية
ثورة: اطمئن لن أتراجع
التفت الأب الى أحمد آخر حبة في العنقود ، وهو يضحك
الأب: وماذا تقول يا أحمد ؟
أحمد: هذه كافرة يا أبي ، كما قال الشيخ حفظه الله ، دهرية ستأكلها النار وهي حية تسعى
ثورة: أدخل وحدك الى الجنة
أحمد: أبي أرجوك ، هذا مجلس نحاسب عليه ، وأنا لا أطيقها .. سفيهة
الأب: لا ، لا يا أحمد ، لا تغضب ، ديننا يحترم حرية الرأي والخلاف ، الدين يا بني يسر ورحمة
أحمد: يا أبي نحن ملزمون بالشرع ، والخوض في مسائل عقائدية يسوقنا الى الكفر عن قصد أو غير قصد ، هي لا تزال لم تتجاوز الثانوية ، وبدأت تؤسس للفكر الجحود ، انها تردد ما لقنها بعض الأساتذة المنحرفين ورفاق السوء ، هذه الدروس الحرة هي في الحقيقة أوكار لنفث السموم .. و
الأب: ثورة يا أحمد ، أنت تعرفها لا تؤمن بما هو فلسفي ، انها تعيش التجربة بالملموس ، تجهل الأدبيات مثل الشعر والقصة والتاريخ ، هذه المواد التي تعتمد على على التلقين والحفظ ، تقول انها مواد يتفوق فيها الأغبياء ، ومن أجل هذه المواد طردوها من المدرسة وأعدناها الى الدراسة بالمراسلة ، واستطاعت أن تثبت جدارتها في العلوم والرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها
أحمد: هؤلاء العلماء الذين نظروا وجربوا ، علماء مخابر الشرق والغرب ، يدخلون الى الاسلام أفواجا أفواجا ، أرجوك يا أبي ألزمها حدها
الأب: احترموا بعضكم بعضا ، الذي يهمني نجاحكم
أحمد: ان شاء الله يا أبي ، دكتوراه في الشريعة الاسلامية من جامعة أم القرى، قالوا انهم يحفزون الطلبة بتسهيلات كثيرة ، ويساعدون طالبي العلم الشرعي ، هذا حلمي يا أبي ولكنه بعيد
الأب: الله ، الله ، هكذا مرة واحدة ... السعودية ، لا تكفيك جامعة قسنطينة
أحمد: أريد أن أرتوي من العنصر ، يا أبي الاسلام جاءنا ، وأنا أريد أن أذهب اليه ، والرجوع الى الأصل فضيلة ، هناك المنبع الصافي ، هناك النص والحس
ثورة: تصبحون على خير ، سأقوم مبكرا لآداء بعض الحركات الرياضية ، يجب أن أرتاح
الأم: أتعبناك يا كبدي ، ليلتك أسعد
ثورة: بركتك يا شيخ أحمد
وانصرفت تضحك ملأ فاها
الأم: عندما تتزوج لا ندري ماذا نفعل ؟
الأب: نبحث عن خادمة
الأم: خادمة في بيتي ! .. أبدا ، الا هذه
أحمد وهو ينصرف: لو بقيت خضراء لكفتكم
الأم: لا تزال هذه اللعنة تطاردنا ، حتى هذا الذي يدعي الاسلام
كريم: لا تقلقي يا أمي ، هذا مجرد كلام
الأم: صرت لا أحتمل حتى اللون الأخضر
ويعود أحمد يتحسر، أعتذر ، لقد نسيت ، هناك فوق المكتبة استدعاء من الشرطة لأبي ، قال انه يخص خضراء ، قلت له أنها ليست هنا ، فقال لي أعرف ذلك ، قل للحاج يأتي الى القسم نحتاجه ...
الأم: الشرطة ! استدعاء ؟ لعلها تكون قد قامت بوقاحة ما ، خذه يا كريم ، الحاج تعبان ، ولا ندري ما وراء هذا الاستدعاء
الأب: هذه هي المهازل التي أخشاها ، والبهدلة ..
أخذ كريم الاستدعاء ، وضعه في جيبه وانصرف ، تركهم في دوامة الأسئلة والتساؤلات ، غريب ، العمة تأخرت الليلة ، وكأنها كانت تنتظر المفاجأة ، ينظر بعضهم الى بعض في مبارزة الظنون .
الأب: لم يبق الا هذا ، الحاج لشرف في مكتب المباحث ، يا فضيحة آخر العمر ، يا بهدلة العاقبة ، أنا ، أنا عند الشرطة ، كل هذا حصيلة حماقتك يا سترة ، ماذا يقول عني الناس ؟
|