المنتدى :
الافلام الوثائقية - Documentary films
[اعلان ] الفيلم الوثائقي في بيروت
بصمت وهدوء، يزدهر في بيروت إنتاج الأشرطة الوثائقية. فمحدودية فرص العمل رغم الفورة التلفزيونية اللبنانية المستمرة من تسعينات القرن الماضي، وازدياد عدد الخبرات سواء أكان في صناعة الشاشة الصغيرة أو الكبيرة أو في الإعلام عموماً، يدفعان كثيرين إلى خوض مغامرة الإنتاج الوثائقي ويوفران قاعدة قادرة على تلبية طلب الفضائيات العربية والتقدم إليها بعروض واقتراحات وأفكار تتجاوز لبنان أحياناً.
تنتشر في العاصمة اللبنانية ظاهرة الشركات التي تنتج الأشرطة الوثائقية. بعض هذه الشركات التي يبادر شباب إلى تأسيسها برأسمال محدود عماده الخبرة البشرية، يعمل باتفاق مسبق مع الفضائيات العربية الإخبارية والمتخصصة وثائقياً، لا سيما «الجزيرة» و«العربية»، وبعضها الآخر يتكبد أعباء الإنتاج من دون اتفاق مسبق مع الفضائيات، وبعد إنجاز الأشرطة يطرحها في السوق.
قوة 11 سبتمبر
يتجمع هنا وهناك ثلاثة شباب أو أكثر، بين مخرج ومدير تصوير ومهندس صوت وكاتب باحث ومدير إنتاج، ويؤسسون شركة أو خلية عمل. يبدأون باستثمار علاقاتهم مع الفضائيات، إذ عمل أو يعمل بعضهم فيها أو في منافذ وأبواب إليها. يحضّرون اقتراحاً لشريط أو أكثر وينطلقون.
هذه القصة رائجة وتُتَداول بكثافة وتمنح الأمل لكثيرين. وتحتاج أي شركة أو خلية عمل إلى ستة أشرطة كي تستمر، وأحياناً تصمد بما هو أقل، لا سيما إذا ما كان أفراد المجموعة مرتبطين بوظائف وأعمال أخرى. فـ«الشريط الوثائقي ليس رابحاً»، يقول المنتج والأستاذ الجامعي هادي دكّاك، مما يجعل «الشركة بحاجة إلى سلسلة كي تواصل عملها وتحفظ وجودها».
يعيد دكّاك بدايات قصة ازدهار الشريط الوثائقي إلى أحداث 11سبتمبر، «آنذاك ازداد عالمياً الطلب على الوثائقي الذي أثبت أن لديه قوة لكون الواقع أقوى من الروائي. فالأفلام الأميركية تخيلت وأبدعت لكن الواقع كشف أنه يخفي مفاجآت تفوق الخيال». ويتذكر أن عدداً كبيراً من طلاب السينما والفنون البصرية اهتمّ بالوثائقي منذ تلك اللحظة المصيرية.
حد أدنى وطموح
يتقاطع مع رأي دكّاك هذا ما يقوله المنتج والمخرج علي شكرون «الفيلم الوثائقي بالنسبة إلينا هو وسيلة تعبير ويوازي قدراتنا الإنتاجية المحدودة المحكومة بالسوق، فلولا وجود الفضائيات لما كان يمكننا العمل والإنتاج، إذ لا بنية إنتاج سينمائي أو تلفزيوني تستوعبنا وتساعدنا وتحضننا».
وإذا كان رأي شكرون المتخصّص بالوثائقيات يحمل في طيّاته ما يشبه الإقرار بأن ميول العاملين ليست دائماً إلى الوثائقي، وإنما ثمّة اضطرار واستجابة للظروف والممكن، يعتبر المصوّر حسن دوغمان، بطموح وأمل، أن العمل في الإنتاج الوثائقي يوفّر «فرصة كبيرة لذوي الإمكانات المادية المحدودة. فالمعدات باتت أرخص ومتاحة، وهي غالباً موجودة لدى العاملين». ويكاد يختصرها بالكاميرا والكومبيوتر وبرامج المونتاج والخبرة والطاقة البشريتين.
وظيفة وإنتاج مستقل
ليس لدى الكاتب الباحث محمد الضيقة هذه الهواجس التأسيسية، إذا جاز القول، فهو يعمل في الإنتاج الوثائقي منذ ما قبل 11سبتمبر، وبات مقصوداً في «مكتبه» بالهواء الطلق في مقهى على شاطئ بيروت، من دون أن ينفي صعوبات واجهته في مسيرته، إذ شهد فترات من دون عمل. فالعامل في الإنتاج الوثائقي نادراً ما يجد وظيفة في هذا القطاع، ويحتاج دائماً إلى عمل آخر. هذا ما يؤكده أيضاً هادي دكّاك الذي يعمل مدرّساً للفن الوثائقي في إحدى الجامعات. ويطل من خلال هذه المعادلة إلى بُعدٍ آخر «هناك دائماً لدى هذا المخرج أو ذاك الكاتب، أفكار وثائقية خاصة، إبداعية، لا تجد منتجاً، أو يحب صاحبها أن تُنْتَج مستقلّة... ولا يمكنه تحقيق ذلك إذا لم يكن لديه مصدر دخل دائم، علماً بأن هناك مهرجانات تموّل مثل هذا النوع من الأعمال». ويكشف دكّاك أنه يستثمر مدخوله من العمل في الإنتاج الوثائقي لإنتاج أعماله الخاصة، وآخرها فيلم «درس في التاريخ» الذي عُرض في صالات السينما البيروتية وشارك في عدد من المهرجانات.
دخلاء وسياسة
وسط الزحمة هذه، وكثافة الأفكار والاقتراحات لأعمال وثائقية، يجد محمد الضيقة أن هذه الصنعة الفنية الثقافية والإعلامية يدخلها أشخاص غير جديرين ومن دون خبرة. وإذ يروي العديد من الأحداث التي مر بها خلال عمله مع هذه الشركة وتلك المجموعة، يعترف بأنه لا يقبل العمل في أشرطة بعيدة من خبرته ومجال اختصاصه ومزاجه الشخصي.
يُفضي هذا الأمر إلى البحث في الموضوعات والعناوين التي تُنتَج في بيروت. يتّفق الضيقة ودكاك وشكرون ودوغمان على أن الموضوعات والعناوين التي تقبلها الفضائيات العربية الإخبارية والوثائقية يجب ألا تخرج عن اهتمام المشاهد العربي والاستراتيجيات الإعلامية للفضائيات. وفي حين يلاحظ الضيقة أن الاهتمام الحالي منذ اندلاع ثورتي تونس ومصر يتركز على الأنظمة والجيوش العربية، يلفت دكاك إلى أن الرائج هو الفيلم ذو البعد السياسي. ويشير كلٌّ من شكرون ودوغمان إلى أن الهوية الوطنية والسياسية تلعب دوراً مهمّاً في خيارات الفضائيات، فمحطّة فلسطينية أو عراقية تنتقي ما يناسبها وما يجذب جمهورها إليها. ويُستثنى من هذا قناتا «الجزيرة» و«العربية» اللتان تتوجهان إلى جمهور عربي.
بروباغندا ورقابة
يرتبط اختيار الوثائقي بموقعه في جداول برامج الفضائيات. فالمحطات غير المتخصصة لا تنتج أو تشتري وثائقياً مكلفاً وغالي الثمن إلا في ما ندر، و«عندما يكون من صميم هوية القناة واستراتيجيتها السياسية والوطنية»، يقول دوغمان. ويكشف شكرون من خلال تجربته في محطة فلسطينية أن «المعتمد هو شراء أفلام سبق ان عُرضت على فضائيات أجنبية أو عربية، لأن أسعارها تكون قد تدنّت». وبالرغم من «مصداقية» الأشرطة الوثائقية إلا أن بعض المحطات تجري تعديلات عليها، لا سيما متى تعلّق الأمر بالسياسة والدين والجنس. فالرقابة موجودة حتى على الوثائقيات التي يعتبر شكرون أنها ما زالت صالحة في البروباغندا والسياسات التوجيهية.
لا تقتصر الرقابة في الفضائيات على تهذيب الأشرطة بعد إنجازها أو شرائها. يلاحظ عدد من العاملين في هذا القطاع أن القنوات الفضائية التي تنتج الوثائقيات مباشرة وعبر الشركات، باتت تطلب تعريفات تفصيلية بالأشرطة قبل الموافقة عليها، وتدقّق في كل التفاصيل وأحياناً تتدخل في تحديد الضيوف أو استبدال أحد بآخر.
متاهات
عُرف سابقاً أن هناك شركات محظيّة محظوظة، تحتكر تقريباً العلاقة بالفضائيات العربية ولا سيما «الجزيرة» و«العربية». فكانت تلك الشركات محدودة العدد تفوز بعقود إنتاج البرامج والأشرطة الوثائقية لمصلحة الفضائيات، ثم تقوم تلك الشركات بتلزيم إنتاج البرامج والأشرطة لشركات أخرى. ونتيجة هذه العملية تحصل الشركات المحظية المحظوظة على قسم لا بأس به من الأرباح، ووفق البعض هي تحصل على القسم الأكبر. هذا ما وفّر البيئة الخصبة لولادة الشركات الصغيرة التي تلتزم تعهدات الإنتاج، سواء أكان عبر الشركات المحظية المحظوظة، أم من خلال علاقة مباشرة بإدارات الفضائيات، فالشكلان ما زالا قائمين، وربما أضيفت إليهما أشكال أخرى. فصاحب أي اقتراح لشريط وثائقي لا يجد أمامه للوصول إلى الفضائيات سوى متاهات وما يشبه السباق الماراتوني الذي ينتزع منه كل شخص الراية ممّن سبقه ليحملها هو ويتابع بها المسيرة، سعياً للوصول إلى أقرب نقطة إلى الفضائيات. ولا يقتصر الأمر على الوافدين الجدد إلى عالم الإنتاج الوثائقي. فالكاتب المخضرم في الوثائقيات لا يخفي قلقه على أي فكرة ينتجها ويعدُّ تعريفها التفصيلي الذي يقدمه إلى الشركات والفضائيات سعياً لقبولها، «لكن علينا أن نعمل، فلا ضير من بعض المغامرة والثقة»، يقول.
تحوّلات نوعيّة
يتلمّس دوغمان تحولات أساسية في الإنتاج الوثائقي. ففي حين يصر الضيقة على «وحدة المنتج» من الناحية الفنية، لا يرى شكرون أن هذا مهم. يقول دوغمان «عرض الفضائيات صوراً ومشاهد متدنية النوعية، مصوّرة عبر الهاتف أو كاميرات محدودة سيؤثر ولعلّه فتح الباب أمام تحولات رئيسية». ويسأل «مَن كان يتخيّل أن تقبل الفضائيات هذه النوعية المتدنية من الصور والمشاهد؟». يضيف «ستضطر أشرطة وثائقية عديدة إلى اعتماد هذه الصور والمشاهد، مما يعني أن النوعية ستتدنّى أو ستهضم تلك الصور والمشاهد وتعيد إنتاجها بقالب جديد يستفيد من التقنيات العصرية وفي الوقت نفسه يترجم القدرات المحدودة، وربما هذا يناسب الفضائيات التي تشجع الإنتاج الوثائقي غير المكلف».
مستقبل الإعلام
يلتقط الصحافي بسام القنطار هذه الفكرة ليدعم ما يعتبر أنه «مستقبل الإعلام، أو جزء مهم منه». فهو يعتبر أن «الصحف ومواقعها الالكترونية بحاجة إلى دمج الأشرطة الوثائقية مع المكتوب». وهو يبذل الجهد للترويج للمواقع الالكترونية التلفزيونية، وقد صمّم عدداً منها بدأت عملها ولاقت جمهوراً. وتنتج هذه المواقع أشرطة خاصة بها، محدودة الكلفة. وهو بدوره سجّل غير شريط بثّه على موقع صحيفته ضمن تحقيقات أعدّها.
لعلّ هذه النظرية تجد صداها وما يؤكد صحتها في الإنتاج الوثائقي، حيث يؤكد العاملون في هذا القطاع أن معظم الإنتاج لا يعتمد الدراما وإعادة تمثيل المشاهد. والسبب وراء ذلك هو الكلفة العالية لهذا النوع، الذي رغم وجود قناة «الجزيرة» الوثائقية و«ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي»، ما زال منتجو الأشرطة الوثائقية والعاملون فيها يتمنّون عرضها على قنوات إخبارية... لتصل إلى جمهور أوسع.
|