دنكن واتس في " كل شيء بديهي " :
السوبر معرفة في مواجهة السوبر جهل
حسن عجمي
ليس من المهم أن نملك معرفة بل المهم طبيعة تلك المعرفة ؛ فثمة معرفة تحررنا و ثمة معرفة تسجننا. نرصد في هذه المقالة الصراع بين المعرفة التقليدية والسوبر معرفة لنشهد المواجهة الحاسمة بين السوبر معرفة من جهة والسوبر جهل من جهة أخرى. نبدأ بشرح مفهوم الحس البديهي المشترك كما يقدمه عالِم الاجتماع دنكن واتس في كتابه " كل شيء بديهي ".
نجاح الحس البديهي و فشله
يوضح واتس أن حياتنا محكومة بقوانين غير مكتوبة مصدرها الحس المشترك الذي يحتوي على البديهيات التي توجّه مسار أفعالنا و معتقداتنا. من هذه القوانين اليومية مثلاً قانون أن التلميذ يجب أن لا يتجادل مع معلّمه. فمن البديهي أن التلميذ يجب أن يحترم معلّمه. نواجه في حياتنا اليومية ظروفاً ومشاكل مختلفة تستلزم منا القيام إما بهذا الفعل أو ذاك. لذا نحتاج إلى آلية ناجحة في حلّ المشاكل واتخاذ القرارات واختيار الأفعال التي يجب فعلها. هذه الآلية هي الحس البديهي المشترك أي مجموعة البديهيات التي تتمكن من حلّ مشاكلنا اليومية. لذا الحس المشترك ضروري في الحياة اليومية فمن خلاله نعلم كيف يجب أن نتصرف في الشارع مثلاً وكيف نحافظ على علاقاتنا مع أصدقائنا و زملائنا في العمل. كما أن الحس المشترك يقول لنا متى يجب أن نخضع لقوانين المجتمع و متى يجب أن نثور عليها. يعرّف واتس الحس المشترك على أنه مجموعة المعلومات و المشاهدات و التجارب التي نكتسبها من جراء التفاعل مع الحياة اليومية. ويختلف الحس البديهي المشترك عن العلوم النظرية كالفيزياء والرياضيات بسبب أن المعرفة المزعومة المترتبة عن الحس المشترك معرفة عملية تركز على حالات جزئية بينما المعرفة المترتبة عن العلوم الطبيعية والرياضية معرفة نظرية تركز على القضايا العامة والشاملة. من هنا , يظهر لماذا لا ينجح الحس البديهي المشترك في حلّ القضايا الاجتماعية والإنسانية العامة رغم نجاحه في حلّ مشاكل الفرد اليومية. فالمشاكل الاجتماعية والإنسانية العامة كتغير مناخ الأرض تحتاج إلى نظريات علمية عامة لحلّها بينما الحس البديهي المشترك لا يصوغ مثل تلك النظريات لكونه معرفة عملية مفيدة في قضايا خاصة و جزئية ( Duncan Watts : Everything Is Obvious. 2011. Crown Business ).
لكن المفكر واتس ينتقد الحس البديهي المشترك بشدة و يعتبر أنه ليس مصدراً موثوقاً للحصول على المعرفة رغم أنه مفيد اجتماعياً. و يورد أسباباً عديدة على صدق موقفه منها : أولاً , مجموعة البديهيات التي تشكّل الحس البديهي المشترك تختلف من فرد إلى آخر و من زمن إلى آخر. ولذا يستنتج واتس أن بديهياتنا غير ناجحة في إيصالنا إلى المعرفة. فمثلاً , من بديهيات المؤمن أن الدين هو مصدر المعرفة بينما من بديهيات عالِم الفيزياء هو أن الاختبار العلمي هو مصدر المعرفة. ثانياً, بديهياتنا متنوعة ومتعارضة ومتناقضة , وبذلك لا تشكّل معرفة حقيقية. فمثلاً , نعتبر أن من البديهي أن كل فرد يملك الحق في أن يحتفظ بكل ما يملك لنفسه فقط , لكن في الوقت نفسه نعتبر أنه من الضروري أخلاقياً أن نساعد بعضنا البعض من خلال التنازل عن بعض مما نملك للآخرين. ثالثاً , يؤكد واتس على أن حسنا البديهي المشترك يطرح تفاسير تعاني من الدور المرفوض منطقياً أي أن الحس البديهي يفسّر هذه الظاهرة أو تلك من خلال الظاهرة ذاتها كتفسير الماء بالماء. فمثلاً , تفكيرنا البديهي يدفعنا إلى أن نفسّر نشوء هذه الثورة الشعبية أو تلك من خلال القول إن هذا ما أراده الشعب , ويضيف تفكيرنا البديهي قائلاً إن بالفعل هذا ما أراده الشعب لأنه فعلاً قام بالثورة. هذا دور مرفوض ما يجعل تفكيرنا البديهي فاشلاً في تحقيق المعرفة. على ضوء هذه الاعتبارات يستنتج واتس أن البديهيات لا تكوّن معرفة و أنها ليست مصدراً للمعرفة ( المرجع السابق ). من هنا , لا بد أن نسأل : ما هي المعرفة ؟
جدل المعرفة و الجهل
ثمة فرق أساسي بين المعرفة التقليدية والسوبر معرفة. بينما المعرفة التقليدية هي مجموعة المعتقدات الصادقة التي تتصف بميزات معينة كأن تكون مالكة لأدلة وبراهين على صدقها أو مُسبَّبة من قبل العالم الخارجي , السوبر معرفة هي التحرر من المعرفة التي بحوذتنا مهما كانت ميزاتها. السوبر معرفة تتفوق على المعرفة لكونها دعوة إلى الاستمرار في البحث عن المعرفة والعلم. فبما أن السوبر معرفة كامنة في أن نتحرر من معارفنا , إذن السوبر معرفة تضمن استمرارية البحث المعرفي من أجل استبدال ما نعلم من معارف بمعارف جديدة تنتظر أن نكتشفها. هكذا السوبر معرفة تُحفِّز على صياغة معارف مبتكرة كي نستبدل معارفنا التقليدية بمعارف جديدة علماً بأن السوبر معرفة هي عملية تحرر مستمرة من معارفنا التي اكتسبناها في الماضي. بكلام ٍ آخر , السوبر معرفة هي عملية التخلي عن معارفنا الماضية واستبدالها بمعارف مستقبلية أي بمعارف من الممكن معرفتها في المستقبل. لذا السوبر معرفة هي التحرر مما نعلم لنكتشف ما لا نعلم ما يضمن بدوره عدم تعصبنا لما نعتقد بأنه معرفة. أما المعرفة الخالية من التحرر منها فتسجننا فيما تدعي أنه معرفة , وبذلك تمنع عنا الاستمرار في البحث المعرفي واكتشاف معارف جديدة. المعرفة التقليدية هي المعرفة الفاقدة لعنصر التحرر منها لأنها تعتبر أن مجموعة المعتقدات التي تشكّل معرفة لا تتغير ولا تتبدل. من هنا , المعرفة التقليدية وجه آخر للجهل. المعرفة التي لا تحررنا من ذاتها معرفة مغلقة وقاتلة للفكر الإنساني لأنها توقف التفكير والبحث عن معارف من الممكن الحصول عليها. فالذي يعتقد أنه يملك المعرفة لن يبحث عنها. لذا المعرفة التي لا تبدّل مضمونها خالية من المعرفة الحقيقية. فالمعرفة ليست حالة نملكها أو لا نملكها بل المعرفة عملية بحث مستمرة عن الحقائق والمعتقدات الصادقة. هذا لأن المعرفة عملية تصحيح دائمة لما نعتقد و إلا ما جرى استبدال النظريات العلمية بنظريات علمية أخرى عبر التاريخ وما كانت البشرية لتكتشف علوماً جديدة مختلفة تماماً عما كانت تعتبره معرفة في تاريخها الماضي.
بالإضافة إلى ذلك , من الضروري أن نميّز بين الجهل و السوبر جهل. بينما الجهل هو غياب المعرفة و عدم امتلاكها , السوبر جهل هو استخدام المعرفة من أجل التجهيل. و بذلك السوبر جهل يتضمن امتلاك المعرفة ومعرفة كيفية استغلالها من أجل تدعيم الجهل ونشره. هكذا يختلف الجاهل عن السوبر جاهل. فالجاهل لا يملك معرفة بينما السوبر جاهل يملك معرفة لكنه يستغلها كي يطوّر الجهل. من هنا , الجاهل غير مضر للآخرين فهو مضر لنفسه فقط بسبب عدم حصوله على المعرفة. لكن السوبر جاهل مضر للآخرين رغم أنه قد يكون مفيداً لنفسه. هذا لأن السوبر جاهل يستخدم المعرفة من أجل التجهيل فيضر بذلك الآخر , لكنه قد يفيد نفسه بما يفعل خاصة إذا كان يحيا في زمن كزمننا حيث يُكافَأ ناشر الجهل من قبل أنظمتنا و طوائفنا الديكتاتورية. لقد تمكنت البشرية من التخلص من الجهل إلى حد كبير من خلال الثورات المعرفية و العلمية المتعاقبة , لكنها وقعت رغم ذلك فيما هو أسوأ من الجهل ألا و هو السوبر جهل. فازداد عدد المتعلمين و المتخرجين من المدارس والجامعات في كل دول العالم , لكن هذا لم يمنع من استخدام العلم والمعارف لتوطيد الجهل والتعصب العرقي والطائفي. بل ازداد الجهل مع زيادة أعداد المتعلمين. والمثل الواضح على ذلك يظهر في عالمنا العربي ؛ فلقد تضخمت أعداد المدارس والجامعات وتضخم عدد المتعلمين في أمتنا و رغم ذلك تفاقم جهلنا و تزايد تعصبنا العرقي والطائفي. فمثلاً , حين كانت نسبة المتعلمين قليلة وعدد المدارس والجامعات أقل مما هي عليه اليوم , كان الاتجاه العلماني هو السائد وكان بشكل عام يخجل العربي أن يتكلّم بكلام طائفي أو عرقي بينما اليوم مع زيادة المعاهد العلمية والمدارس والجامعات في عالمنا العربي ازداد تعصبنا العرقي والطائفي فتضخمت عنصريتنا وطائفيتنا إلى حد غير معهود.
وضعنا متناقض ؛ فمن جهة اكتسبنا علوماً ومعارف لم يملكها أجدادنا , و من جهة أخرى انتصرت فينا كل من العنصرية والطائفية واستعبدتنا. كيف من الممكن أنه مع زيادة عدد المؤسسات العلمية والتربوية ومع ازدياد نسبة المتعلمين بيننا تحوّلنا إلى سوبر عنصريين و سوبر طائفيين؟ يكمن الجواب على هذا السؤال في أننا استخدمنا العلوم والمعارف من أجل تطوير جهلنا بدلاً من تطوير حضارتنا. فمثلاً , معظم وسائل إعلامنا المكتوبة والمسموعة والمرئية هي في خدمة هذه الطائفة أو ذاك المذهب و وظيفتها الأساسية قائمة في محاربة الطوائف والمذاهب الأخرى. لقد وصلنا إلى هذا المستوى من السوبر تخلف لأننا اعتبرنا أن المعرفة كامنة فيما نعرف بينما الحقيقة أن المعرفة كامنة فيما لا نعرف أي أن المعرفة هي عملية تحرر دائمة من معارفنا كما تقول السوبر معرفة بالضبط . فعندما تكون المعرفة هي ما نعرف بدلاً من أن تكون تحرراً مما نعرف , حينها نتعصب لما نعرف فنرفض الآخر و إن لم يختلف عنا كثيراً. ومن خلال تعصبنا لما نعرف وما يتضمن هذا التعصب من رفض للآخر أصبح من الطبيعي أن نستغل المعرفة من أجل التجهيل و أن نشن الحروب الطائفية والمذهبية ضد بعضنا البعض من خلال وسائل إعلامنا. الآن , بما أن السوبر جهل هو استخدام المعرفة من أجل التجهيل بينما السوبر معرفة هي التحرر من معارفنا , إذن المواجهة حاسمة و دامية بين السوبر جهل والسوبر معرفة , و فقط من خلال قبول السوبر معرفة واعتبار المعرفة عملية تحرر من معارفنا سنتمكن من الخروج من سجون المعرفة والتحرر من التعصب لمعارفنا و الخلاص من رفضنا للآخرين.
جدل العلم و البديهيات
من المفترض أن يغربل العلم بديهياتنا لكنه بدلاً من ذلك يغتالها. بكلام آخر , العلم يعارض الحس المشترك المتضمن لمعتقدات بديهية بالنسبة إلينا. فمثلاً , بينما نتفق في الحياة اليومية على اعتبار أنه من البديهي أن العالم يتكوّن من ظواهر وحقائق مختلفة كهذا الماء و ذاك التراب , نجد أن العلم يوحّد بين الظواهر والحقائق المتنوعة كافة فيختزلها مثلاً إلى أوتار وأنغام تلك الأوتار. بالنسبة إلى نظرية الأوتار العلمية , الكون أوتار وأنغامها و مع اختلاف تذبذب الأوتار تتنوع المواد والطاقات لكنها تبقى جميعاً مجرد سمفونية موسيقية تعزفها الأوتار الكونية. هذا يعارض تصورنا البديهي بأن الكون يتشكّل في الأساس من مواد وطاقات. لكن العلم أوضح لنا أن كل مواد الكون و طاقاته ليست سوى نتائج لحقائق أخرى لا نراها من حولنا ولا نعتبرها جزءاً من بديهياتنا التي نحيا على ضوئها. وتتشعب النظريات العلمية وتتنوع في تحديها و رفضها لحسنا المشترك أي لبديهياتنا اليومية. مثل ذلك أن بعض العلماء أنتجوا نظرية علمية مثيرة مفادها أن العالم لا يتكوّن من مادة وطاقة بل يتشكّل من معلومات وتدفق تلك المعلومات بينما كل ما نراه من حولنا مجرد نتائج تلك المعلومات و ارتباطاتها (:Editors Paul Davies and Niels Gregersen : Information and the Nature of Reality. 2010. Cambridge University Press ). هكذا يوهمنا الكون بأن هذه الظواهر والحقائق مكوّنة من مادة وطاقة , لكن الحقيقة هي أن كل الكون يتكوّن من معلومات. ليست هذه النظرية هي التحدي الأكبر لحسنا البديهي المشترك بل هي أضعف في رفضها لبديهياتنا من غيرها من النظريات العلمية. فثمة نظرية علمية قاسية جداً على ما نعتبره بديهياً ألا و هي النظرية العلمية القائلة بأن الكون صورة ثلاثية الأبعاد , ولذا العالم ليس سوى وهم. بالنسبة إلى هذه النظرية, كل معلومات الكون قائمة على سطح العالم بدلاً من أن توجد في داخله وتتوزّع بين أمكنته المتنوعة كما نراها موزّعة. من هنا , يستنتج بعض العلماء بأن الكون مجرد وهم ( Leonard Susskind : The Black Hole War. 2008. Little, Brown and Company ). هذا ينسف كل بديهياتنا ويقتلها بشكل نهائي. كل هذا يرينا أن المعرفة المتمثلة في العلم المعاصر تتحدى بديهياتنا وتقاتلها بشدة , وبذلك من المتوقع أن يتقاعد الحس البديهي المشترك في موت أبدي.
من جهة أخرى , الحس البديهي المشترك أي مجموع المعتقدات التي نعتبرها بديهية هو الأساس المُعتمَد من أجل الحكم على صدق أو كذب النظريات أكانت نظريات علمية أم فلسفية أم غير ذلك. الطريق الوحيد للحكم على النظريات كامن في النظر إلى نتائج تلك النظريات. فإذا أدت نظرية ما إلى نتيجة كاذبة حينها لدينا الحق المعرفي في اعتبارها كاذبة أو غير مقبولة. أما إذا أدت نظرية ما إلى نتائج صادقة فحينها نملك الحق المعرفي في اعتبارها صادقة أو مقبولة. هكذا نحكم على النظريات و نقيّمها على أساس نتائجها وما تتنبأ به. لكن الطريقة الوحيدة لاكتشاف ما إذا كانت نتائج النظريات صادقة أم لا كامنة في مقارنة نتائج النظريات مع بديهياتنا ؛ فقط إذا انسجمت واتفقت نتائج هذه النظرية أو تلك مع ما نعتبره بديهياً يحق لنا معرفياً الحكم بأن تلك النتائج صادقة و بذلك يحق لنا الحكم على أن النظريات التي أدت إلى تلك النتائج هي نظريات صادقة. من هنا , المنهج الوحيد الذي يسمح لنا في الحكم على صدق أو كذب النظريات معتمد على بديهياتنا. لكن وجدنا سابقاً أن العلم المعاصر يتحدى بديهياتنا و يقتلها. على هذا الأساس , لدينا نزعة معرفية مفادها أن بديهياتنا صادقة و هي المرجع في تقييم النظريات بينما من جهة أخرى نملك نزعة معرفية أخرى مناقضة للأولى مفادها أن بديهياتنا كاذبة و لا تصلح لتقييم النظريات. من هنا , من غير المحدَّد ما هي المعرفة كما من غير المحدَّد أية معتقدات هي التي تشكّل معرفة. هذا لأن لدينا حجة قوية على أن بديهياتنا تكوّن معرفة و هي الآلية في الحكم على ما هو معرفة و ما ليس بمعرفة بينما من جهة أخرى لدينا حجة قوية أيضاً على أن بديهياتنا لا تكوّن معرفة أبداً. الآن , بما أنه من غير المحدَّد ما هي المعرفة كما من غير المحدَّد أية معتقدات و بديهيات تشكّل معرفة , إذن المعرفة الحقيقية كامنة في التحرر من معارفنا. وهذا هو موقف السوبر معرفة. فبينما المعرفة التقليدية تحدد المعرفة في هذه المعتقدات أو تلك فتسجننا فيما تدعي أنه معرفة , السوبر معرفة تجعل المعرفة غير محدَّدة فتحررنا من سجوننا المعرفية لننطلق إلى البحث المستمر عن المعارف التي تنتظرنا في المستقبل.
لا بد من البرهنة على مسلّمة سابقة مفادها أن البديهيات تكوّن المنهج الوحيد للحكم على صدق أو كذب النظريات و نتائجها. يظهر صدق هذه المسلّمة من خلال النظر إلى ما يقوم به الفلاسفة والعلماء؛ فهُم يفحصون نتائج النظريات فإن كانت غير متفقة مع بديهياتنا يتم رفض النظريات أو تعديلها أو تأويلها لكي تتفق مع البديهيات. فمثلاً , إذا أدت نظرية ما إلى أن الصخور تملك عقولاً أو أن الكون متناقض , فهذا يعارض ما نعتبره بديهياً وبذلك يدفع الفلاسفة والعلماء إلى رفض تلك النظرية أو إلى تعديلها أو تأويلها بشكل يجعلها منسجمة مع بديهياتنا. تشكّل نظرية ميكانيكا الكم العلمية مثلاً واضحاً على ذلك. بالنسبة إلى ميكانيكا الكم , من غير المحدّد سرعة الجسيم و مكانه في آن كما من غير المحدَّد ما إذا كان الجسيم كالألكترون جسيماً أم موجة فالجسيم نفسه يتصرف على أنه جسيم وعلى أنه موجة في الوقت ذاته. من هنا, تتضمن ميكانيكا الكم نتيجة أن قطة شرودنغر حية و ميتة في الوقت نفسه أي أنه من غير المحدَّد ما إذا كانت تلك القطة حية أم ميتة. لكن هذه النتيجة تعارض معتقداً بديهياً لدينا ألا وهو أن أية قطة هي إما حية و إما ميتة. لذا سعى العلماء إلى تأويل ميكانيكا الكم لكي لا تعارض ما هو بديهي بالنسبة إلينا , فقالوا مثلاً إن قطة شرودنغر حية في عالم ممكن بينما هي نفسها ميتة في عالم ممكن آخر مختلف عن العالم الأول , و بذلك يزول التناقض ضمن النظرية ويسمح لها في أن تكون منسجمة مع ما نعتبره بديهياً. هكذا البديهيات هي الأساس الوحيد لتقييم النظريات ونتائجها؛ ففي المثل السابق اعتمد العلماء على ما هو بديهي من أجل تأويل نظرية ميكانيكا الكم ونتائجها كي يجنبوا ميكانيكا الكم الوقوع في معارضة بديهياتنا ؛ فمن البديهي أنه يستحيل أن تكون القطة حية و ميتة في الوقت نفسه ولذا تحتاج ميكانيكا الكم إلى تأويل يجعلها منسجمة مع ما نعتبره بديهياً. من هنا , الاختبار العلمي وحده لا يكفي للحكم على النظريات ونتائجها بل نتائج أي اختبار علمي تحتاج إلى تأويلات لجعلها متفقة مع بديهياتنا الأساسية في حال ناقضت بديهياتنا تماما ً كما حدث مع ميكانيكا الكم. على هذا الأساس , تبدو أن البديهيات هي المصدر الأساسي للحكم على صدق أو كذب النظريات و نتائجها. لكن بديهياتنا متنوعة و مختلفة و متعارضة كما أنها نسبية تختلف من فرد إلى آخر. لذا تبقى المعرفة غير محدَّدة ما هي.
لقد قدّم الفلاسفة نظريات عديدة في تحليل المعرفة , لكنها تواجه مشاكل مختلفة ما يشير بقوة إلى أن المعرفة غير محدَّدة. فمثلاً , بالنسبة إلى التحليل التقليدي للمعرفة , المعرفة هي اعتقاد صادق مُبرهَن عليه. لكن هذه النظرية تنهار بفضل إمكانية أن يملك الفرد اعتقاداً صادقاً مُبرهَناً عليه من دون حصوله على المعرفة على نقيض مما يدعي التحليل السابق. مثل ذلك أنه من الممكن أن أنظر إلى ساعتي و أرى أنها الساعة الواحدة واعتقد ذلك, و أن تكون فعلاً الساعة هي الواحدة بالصدفة رغم أن ساعتي اليوم معطلة. هنا لدي اعتقاد صادق مُبرهَن عليه بأن الساعة هي الواحدة , لكني لا أعرف أنها الساعة الواحدة لأن اعتقادي بأنها الواحدة تكوّن اعتماداً على ساعة معطلة. فبما أن ساعتي معطلة , إذن من غير الممكن أن تنجح ساعتي في تقديم معرفة لي , وبذلك في المثل السابق أنا لا أعرف أنها الساعة الواحدة. نظرية أخرى تحلّل المعرفة على أنها اعتقاد صادق مُسبَّب من قبل العالَم الخارجي. فمثلاً , أعرف أن الثلج أبيض لأني اعتقد بأن الثلج أبيض و بالفعل الثلج أبيض كما أن حقيقة أن الثلج أبيض سببت اعتقادي بأن الثلج أبيض. لكن تعاني هذه النظرية من مشكلة أساسية ألا وهي عدم نجاحها في التعبير عن معرفتنا بالأشياء والحقائق المجردة. فمثلاً , العدد خمسة مجرد لكونه عدداً وليس شيئاً مادياً كالأشجار و الكراسي. وبما أنه مجرد إذن لا قدرة سببية له , وبذلك لا يستطيع أن يسبب اعتقادنا بأنه يوجد شيء مجرد هو العدد خمسة وله هذه الصفات أو تلك. من هنا , بالنسبة إلى التحليل السابق للمعرفة, سنغدو غير قادرين على معرفة العدد خمسة وصفاته بسبب أن العدد خمسة غير متصل بنا سببياً. وهذه نتيجة خاطئة لأننا نعرف العدد خمسة جيداً. على هذا الأساس , تفشل هذه النظرية في المعرفة في التعبير عما نعرف ( John Pollock : Contemporary Theories of Knowledge. 1986. Rowman & Littlefield Publishers ). كل هذا يدل على أن المعرفة غير محدّدة ما هي ؛ فلو كانت محدَّدة لتمكنا من تحديدها في تعريف أو تحليل معين. أما إذا حلّلنا المعرفة من خلال الانسجام القائم بين المعتقدات بحيث أننا نعرف قضية ما فقط في حال أن اعتقادنا بصدق تلك القضية منسجم مع باقي معتقداتنا , فحينها نحصل على النتيجة التالية : المعتقدات مختلفة من فرد إلى آخر, وبذلك إذا كانت المعرفة هي الانسجام مع ما نعتقد إذن ستختلف المعرفة من فرد إلى آخر ما يتضمن أن تكون المعرفة غير محدَّدة ما هي.
تحيّرنا المعرفة ولا تمكنا من تحديد ماهيتها لأنها غير محدّدة أصلاً . رذيلة المعرفة فضيلتها لأن لا محددية المعرفة تدفعنا إلى البحث الدائم عن تحديدها فاكتشاف معارف جديدة باستمرار. فبما أنه من غير المحدَّد ما هي المعرفة وأية معتقدات وبديهيات تشكّل معرفة , إذن المعرفة قائمة في البحث الدائم عنها و بذلك المعرفة تحيا في التحرر مما نعرف ؛ فإذا لم نتحرر من معارفنا سنكتفي بها وبذلك لن نسعى لاكتشاف ما نجهل. المعرفة المحدَّدة و الجهل زوجان لا فراق بينهما لأنه متى تحددت معارفنا في هذه المعتقدات أو تلك حينها لن نبحث عن معارف جديدة تغتال جهلنا. الذي لا يتحرر من معرفته المحدَّدة لا يتحرر من جهله اللامحدّد. من لا يستطيع التحرر من معارفه لا يستطيع الحصول على أية معرفة.