-شخصيتان متشابهتان! أخبريني عن شخصيتك سنيوريتا!
والتفت نحو المقعد و دعاها للجلوس:
-هل نجلس؟
وتوقفت مترددة:
-أظن انني يجب ان أعود..
-لا, ليس بعد.
وكانت لهجته آمرة رغم رقتها, ووجدت لورين نفسها تسعل بعصبية لتنظيف حنجرتها قبل الكلام:
-لا أظن...
و تهدج صوتها تحت سيطرة سواد عينيه المحدقتين بعينيها بنظرة ثاقبة . ما هي هذه القوة التي يملكها؟ هذه القوة التي بدأت فعلا تؤثر على قرارها بالعودة إلى المنزل؟ مع ذلك, لا يجب عليها أن تبقى مع هذا الرجل هنا! لا. . لا يجب!
-سوف يستفقدوني, سنيور, يجب ان تفهم أنهى ليس من اللائق أن أبقى بعيدا عن الضيوف لهذه المدة.
وأجاب بهدوء:
-لم يمض عليك سوى دقائق في الخارج. سنيوريتا, لقد شاهدتك تغادرين القاعة, لذلك أعرف الوقت تماما.
-هل كنت تراقبني؟
-منذ اللحظة التي التقت فيها عيوننا عبر الغرفة.
وهزت رأسها بذهول, بالكاد تعرف كيف تتصرف إزاء هذا الوضع الذي هبط عليها. لقد شعرت, عميقا في نفسها إن هذا الإسباني الأسمر الخطر لن تكون معرفته مجرد عابرة دون أن تلتقيه بعد الآن, بل سيكون له تأثير على حياتها له مفعول طويل المدى. فكرت بإسهاب بهذه الخواطر, ومال تفكيرها فورا لصرف النظر عنها. فالرجل لا يمكن ان يؤثر على حياتها؟ فمن الواضح أنه يقصد العبث ومن دواعي سروره أن يعود إلى منزله وقد غازل فتاة مخطوبة لرجل آخر وفي نفس حفلة خطوبتها! ووجدت الأمر لا يطاق, حتى الرجل نفسه لا يطاق, وقررت أنه من الأفضل أن توقفه عند هذا الحد.
-أجد اهتمامك مسليا سنيور.
-مسليا؟
ولاح في أعماق عينيه بريق فيه خطورة, وأضاف:
-هل لي ان أستفسر, سنيوريتا, عما إذا كنت تسخرين مني؟
-ربما أكون كذلك.
-أنت تأخذين موقفا خطيرا.
وشعرت بالإحباط, عندما وقعت عيناها تحت التأثير المباشر لنظرته المحدقة. واستطرد:
-أنا لست بالرجل الذي يقبل بالسخرية منه من أي كان... وليس من امرأة بالتأكيد.
وقالت له بتعبير جامد:
-لقد نسيت يا سنيور أنك أنت قد تسببت بهذا.
و برقت عيناه, وهو ينظر إلى أبعد من وجهها. وسألها أخيرا:
-بأية طريقة؟
ولأنها لم تستطع أن تقول بصراحة أنها تعتبره يتودد إليها, هزت كتفيها بنفاذ صبر و قالت مضيفة عن قصد نبرة من الضجر إلى صوتها:
-ألا نستطيع إيجاد موضوع غير شخصي للنقاش, بينما نسير عائدين إلى البيت؟
-إننا لن نعود إلى البيت الآن, اجلسي سنيوريتا و لنتحدث لبضع دقائق.
وبدأت تهز رأسها, ثم توقفت. واختلطت أفكارها وارتبكت وهي تنظر إليه في حيرة. ووقف بطوله واستقامته و ضوء القمر على وجهه. ومن حوله النسيم المعطر و منظر الحديقة الهادئة, و الأشجار تموج بهدوء و أوراقها متلونة بفضة مسروقة من القمر. وكان كمن ينتظر, وتكلم اخيرا طالبا منها الجلوس مرة أخرى وصوته يحمل كل درجات الجدية. فلماذا هو واثق هكذا؟ ولماذا يجب عليها أن تكون مسلوبة الإرادة؟ لتقول دون تردد أنها ستعود إلى المنزل؟ و كأنما هي بالفعل تريد أن تبقى هنا مع هذا الغريب الأسمر... أم أن الأمر هكذا حقا؟
الشكوك صدمتها. و جلبت لها شعورا أكيدا بالخوف المفاجئ, و أدركت أنه يجب أن تهرب منه, ولكنها بدلا من ذلك وجدت نفسها تتفوه بكلمات بدت و كأنها تخرج دون إرادتها:
-لا بأس... إذا كنت تريد الجلوس و التحدث برهة.
وجلس إلى جوارها مديرا رأسه الأسمر حتى يستطيع مراقبة جانب وجهها, و قالت بصوت مرتعش:
-لا أستطيع البقاء طويلا. فقط خمس دقائق.
وأحست بتوتر غريب, وتقلص حول قلبها. لقد كانت تلعب بالنار ولكن على الرغم من أن الأمر أزعجها كثيرا فقد كانت غير قادرة على أن تقوم بأية مقاومة أمام جاذبية الرجل الجالس صامتا بقربها. وكررت قولها متظاهرة بالشجاعة:
-خمس دقائق فقط, وبعدها يجب أن نذهب.
-يبدو أنك لا تتمتعين برفقتي.
-لم أرافقك لمدة طويلة لأعرف ما إذا كنت أتمتع أم لا.
و أجاب بهدوء:
-في هذه الحالة, سنبقى هنا حتى تتأكدي.
وتوترت أعصابها, فتيقظت, وبكل أعصابها المرتعدة حاولت الوقوف, ولكن يدا على معصمها منعتها من ذلك, وجلست دون مقاومة, ولكن لمجرد لحظة, و بجهد مفاجئ, وقوي سحبت يدها من قبضته ووقفت على قدميها. وقالت ببرود:
-سنيور, هل تسمح؟ اعذرني يجب أن أعود إلى خطيبي.
ووقف دون رامون, وقفة من يضبط أعصابه. و كان هناك شيء ما حوله يحيرها و يوتر أعصابها. فقد بدا و كأنه يعتزم القيام بعمل ما, وهو منتصب فوقها, ينظر إلى وجهها بتعبير غامض, ولم يقل سوى:
-إذا كانت هذه رغبتك, سنيوريتا.
وقطبت جبينها وتذكرت ان هذا الرجل هو شريك لشقيق زوجها, ولن يسامحها بول لفظاظتها معه. وبدأت تقول وقد شاب صوتها خضوع لم تلحظه:
-أنا آسفة إن كنت أزعجتك, ستفهم بالتأكيد أنني لا أستطيع البقاء معك, في...في...
و توقفت فجأة عن الكلام, و احمرت وجنتاها و أملت أن لا يخمن ما كانت تنوي قوله. ولكن وأسفاه على آمالها! فقد سمعته يقول و نبرة السخرية في صوته:
-في ضوء القمر... سنيوريتا؟
-أنت تسيء فهمي عن قصد.
و أجابها بهدوء:
-لا اظن هذا... إنه فعلا وضع رومانسي, أليس كذاك؟
وارتدى طابع صوته نوعا من التسلية, فقالت له بلهجة تعمدت أن تكون مركزة:
-دون رامون, يبدو أنك نسيت أنني سوف اتزوج روجر بعد فترة قصيرة, و بأنك ضيف في منزله, و بأنك مدعو إلى حفلة خطوبتنا.
ورد عليها بصوت مليء بالمشاعر:
-أنسى أنك مخطوبة؟ لا يا سنيوريتا. من غير المعقول أن أنسى. على كل أستطيع أن آخذ ما اشتهيته من لحظة أن وقعت عيناي عليك!
وقبل أن تدرك حتى ما ينوي أن يفعله, وجدت نفسها بين ذراعيه ولم يكن بمقدورها التخلص, و قاومته بشجاعة, و لفها الخجل و الشعور بالذنب لعلمها بضعفها, وتورد وجهها, فأطلق ضحكة انتصار مزقت هدوء الجو, ونظر إلى عينيها الحزينتين بقوة. وجدت متنفسا لغضبها بأن تضرب صدره بقبضتها وصرخت:
-اتركني أيها المخلوق المقرف! سيرميك روجر إلى الخارج لفعلتك هذه.
-وهل ستخبريه؟
-بالطبع سأخبره!
وحاولت تحرير نفسها, لتهرب منه. ولكن قبضته على رسغها كانت كفكي الكماشة وبدأ يهز رأسه قائلا:
-لن تخبري خطيبك بهذا أبدا!
و أصبحت لهجته قاسية فجأة, ومليئة بالانفعال. وحدقت في وجهه الأسمر و ارتعدت, فقد كان التعبير عليه مليئا بالشر.
-لا يا سنيوريتا ستبقين صامته حول هذا الفاصل الرومانسي.
والتقت عيناها بعينيه واستحوذتا عليهما بحيث أصبحت دون إرادة.
-إنه سر بيننا سنيوريتا, إنه سر بيني و بينك!
-أظن أنك مجنون!
وبرقت عيناه.
-مجنون.. سنيوريتا؟
-اتركني!
وحاولت مرة أخرى تحرير يديها منه. ولكنه شد قبضته حتى صرخت من الألم. وتمتم:
-لنعد الكرة مرة أخرى.
و عاد تعبير الانتصار إلى عينيه واقترب وجهه من وجهها, ولكنها نفرت منه, فأمسك بها بقساوة فأصبحت مرة أخرى غير قادرة على الهرب, و علمت علم اليقين مدى قدرته على السيطرة عليها.
وهمست عندما أمسك بها على بعد ذراعيه:
-اتركني.
و أطلق ضحكة منخفضة وقال بتهكم و إصرار:
-أنت راضية بالبقاء معي...
و بالرغم من إنكار سريع اندفع إلى شفتيها إلا أنه لم يتم, لأنها لم تستطع أن تقول له انه كاذب. و كان الدم يندفع في كل شرايين وجهها لمجرد التفكير أنها قد تكون راضية فعلا بالبقاء معه. و أدارت وجهها نحو الظلام و سألت نفسها عن هذا الجاذب الذي يدفعها إليه؟ فهي تستطيع أن تصرخ, أو تدافع عن نفسها بضراوة بحيث يضطر إلى تركها! ولكنها لم تفعل شيئا ولم يكن لديها الرغبة لتفعل. وهمست:
-يجب أن أعود إلى المنزل... إلى الضيوف؟
-و إلى خطيبك؟
وبدا صوته مرة أخرى قاسيا, ولكنه تغير بعد ذلك عندما سألها بعد توقف قصير:
-هل تستطيعين أن تقولي أنك تريدين فعلا العودة إلى المنزل؟
وهزت رأسها بالإيجاب, و لكن بضعف وقالت:
-يجب ان أذهب.
فقال ساخرا:
-وهل ستخبرين روجر المسكين بالأمر؟ هل تعتقدين أنك قادرة؟
-روجر المسكين؟ ماذا تعني بذلك؟
-أنت لا تحبينه!
وصرخت بارتياع:
-بالتأكيد أحبه! بأية وقاحة متغطرسة تستطيع قول شيء كهذا؟
ورد عليها بهدوء:
-من تجاوبك معي سنيوريتا!
-أنت... لقد فرضت علي ذلك بالقوة...
وتهدج صوتها وهي تشعر بالعار. فلماذا تحتج وهي تعلم أن عذرها هذا بحاجة للدعم؟ وضحك بنعومة ومرر يده على شعرها الحريري وقال:
-لقد استمتعت. بنفس القدر الذي استمتعت به أنا. لذلك كوني صادقة مع نفسك سنيوريتا. و اعترفي أنك لا تحبين ذلك الرجل الذي الرجل الذي وافقت على الزواج منه.
-بل أحبه! انا أعرف أنني أحبه!
و اكتست شفتاه بابتسامة ساخرة و سألها:
-من تحاولي ان تقنعي؟
و أخذ خصلة من شعرها وجذبها إلى الخلف و أجبرها أن تنظر إلى وجهه. ماذا يفعل هذا الرجل بها؟ إن قدرته على السيطرة لا يملكها إنسان, بل شيطان؟ واستمر يقول:
-أتحاولين إقناع نفسك أم إقناعي سنيوريتا؟
-أنا أعرف أنني أحبه! أنا متأكدة من ذلك!
-لقد كنت متأكدة, حتى التقيت بي.
ولم تقل شيئا ولكنه أضاف بعد فترة من الصمت:
-لم تعودي متأكدة أبدا. فهناك شكوك رهيبة تملأ رأسك هذه اللحظات. وانت محتارة و مرتبكة. أنت ترغبين بي سنيوريتا!
-كيف تجرؤ على قول مثل هذا الافتراض؟
وزم شفتيه مجددا:
-مسكينة يا لورين!
-لا تتجرأ مرة أخرى على دعوتي باسمي الأول.
-مسكينة يا لورين! أنت خائفة مني, و لكنك خائفة من نفسك أكثر. فأنت راغبة في البقاء معي هنا, ولكن الحذر يحثك على وضع مسافة بيني و بينك قدر المستطاع.
و توقف للحظات ولكنها لم تتكلم.
-ابقي معي يا حبيبتي...
-أنا لست حبيبتك!
و دون أن تخطئ مضامين ما تفعل, وقد اجتاحها الغضب, رفعت يدها لتصفعه, ولكنه أمسك يدها بقوة مسيطرة, ووضعها خلف ظهرها و أجبرها على إبقائها هناك على الرغم من معرفته إنه يؤذيها. وقال محذرا:
-لقد كان هذا عمل غير حكيم سنيوريتا! لو كنت نجحت بفعلتك هذه لاضطررت عندها أن أعاقبك.