:: الفصل السادس ::
نظر تومي بعجب الى الحزمة التي ألقت بها توبنس إليه وسأل :
- هل هي هذه ؟
- نعم..
وتشمم رائحة الحزمة الغريبة فقالت توبنس :
- ابعدها عن ملابسك بقدر ما تستطيع.. والا فلن تقترب منك أية فتاة..
وتوالت الحوادث بعد ذلك فقد ظهرت رائحة غريبة في حجرة مستر ميدوز .. وكان معروفا بين نزلاء سان سوسي أنه رجل قانع قليل الشكوى.. ومع ذلك فانه تحدث عن تلك الرائحة لمسز برينا التي استغربتها ، ثم قالت:
- ربما هناك ثقب في احدى أنابيب الغاز..
وتتبع مستر ميدوز أنابيب الغاز في غرفته دون جدوى وقال:
- لابد ان يكون هناك فأر ميت في الغرفة..
ولكن مسز برينا شكت في الامر.. فان فأرا واحدا لم يسبق له ان دخل سان سوسي .. وتناقش الرجل طويلا مع صاحبة المنزل.. وأخيرا قال:
- انني لا أستطيع أن أبيت ليلة أخرى في هذه الغرفة..
- لك الحق في ذلك.. ولكن يؤسفني جدا أنه لم يبق في المنزل كله غرفة لائقة، فان الغرفة الوحيدة الخالية قد لا تروقك فهي لا تطل على البحر .. ولكن اذا وافقت على الانتقال اليها مؤقتا فتفضل..
ولم يكن لدى مستر ميدوز أي مانع فقبل الانتقال لان غرضه هو الابتعاد بقدر الامكان عن هذه الرائحة الكريهة.. وقادته مسز برينا الى غرفة تصادف انها تقابل غرفة مسز بلنكنسوب ..
أما الحادث الثاني فان مستر ميدوز المسكين أصيب بأعراض الانفلونزا في تلك الليلة ..
وأخذ يعطس ويغير مناديله طول الوقت.. ولم ير أحد طبعا شرائح البصل فيرع اذ كان قد عطر جميع المناديل بماء الكولونيا الذي يستعمله في حلاقة ذقته.. وأخيرا اضطر مستر ميدوز المسكين.. أن يعتكف في غرفته تحت وطأة هذه الانفلونزا الحادة..
وفي الصباح وصل مسز بلنكنسوب خطاب من ولدها دوجلاس.. وقد هلل عندما تسلمت هذا الخطاب الى خد أن علم به كل من كان في سان سوسي.. وكانت قد أشاعت ان هذا الخطاب لم يمر مطلقا على الرقيب فقد سلمه اليها أحد اصدقاء ولدها.. وهكذا استطاع دوجلاس العزيز ان يكتب لها بحرية.. واستطاعت هي بدورها ان تعرف من الحقائق ما لن تصرح به ولن تذيعه.. ان كل ما يقال ويشاع ليس شيئا الى جانب ما عرفت..
وبعد أن تناولت كعام الافطار، صعدت الى غرفتها.. ثم فتحت صندوق الخطابات وأدعته خطاب دوجلاس بعدها رشت عليه قليلا من مسحوق الأرز .. وضغطت عليه بأصابعها .. وخرجت من غرفتها وهي ( تسعل ) .. فسمعت من الغرفة المقابلة سعالا آخر ..
ثم أذاعت في سان سوسي أنها ذاهبة الى محاميها في لندن وأنها ستشتري بعض الحاجات من العاصمة.. فكلفها بعض النزلاء بشراء أشياء لا يجدونها في حوانيت ليهامتن..
وبينما هي خارجة من باب الحديقة قابلت كارل فون دينيم .. واقفا وقد عقد يديه فوق صدره.. وأطرق مفكرا.. ولما رآها انحنى محييا في وجوم وأدب .. فسألته :
- ماذا بك اليوم ؟ هل هناك من مشكلة ؟
- مشاكل كثيرة.. ان مثلي كمثل من يمسك بالنار ولا يريد أن يحترق.. اني لا استطيع الاستمرار على هذه الحال.. والوسيلة الوحيدة .. هي ان انتهي من كل شيء..
- ماذا تعني؟
- انك تفهمين ما أعني.. لقد أظهرت حنانك لي .. وتعلمين أنني هربت من بلادي لانعدام العدالة فيها.. وللقسوة التي يعامل بها الاحرار هناك.. وق اتيت الى هذه البلاد لأجد الحرية .. وحقا اني أكره ألمانيا النازية ولكن .. لا استطيع ابدا ان اتجرد من ألمانيتي .. انني ألماني .. ألماني ..
- يظهر أن هناك متاعب من هذه الناحية .. ؟
- انها متاعب نفسية .. فعندما أسمع عن طائراتكم تضرب مدننا.. وعن الجنود الألمان الذي يقتلون.. وعن الطائرات الألمانية التي تحترق والمصانع التي تدمر .. وهي مصانع أهلي وعشيرتي .. وعندما أسمع ذلك الماجور .. آكل النار .. يقول وهو يقرأ صحيفته .. هؤلاء الملاعين هؤلاء الخنازير .. يصل بي الغضب إلى حد لا أستطيع احتماله .. وعلى هذا ترين أنني أفكر جديا في الانتهاء من كل شيء..
- هذا كلام لا معنى له.. أنا معك من ناحية .. فاحساساتك ملكك افعل بها ما تشاء .. ولكن يجب ان تقاوم .. فلا حيلة لك في تغيير الأوضاع ..
- كم أود أن أعتقل على الأقل.. ان هذا ليريحني كثيرا ..
- ربما .. ولكنك فيما علمت . تقوم بعمل له أهميته .. وهو ليس عملا نافعا لبريطانيا وحدها .. ولكنه نافع للانسانية كلها ..
- نعم .. وأظنني وفقت الى بعض الاكتشافات ..
- هذا جميل مادمت تعمل لخير الانسانية.. أما من ناحية الشتائم التي تسمعها فنحن معذورون في ذلك.. ولا تنس انهم يفعلون نفس الشيء في ألمانيا..
وتناول كارل يدها وقبلها .. ثم قال :
- اني أشكرك .. ان كل ما تقولين حق .. ولا بد لي من الاستعانة بالصبر والجلد..
وسارت توبنس الى المحطة وهي تفكر .. ان اقرب نزلاء سان سوسي الى قلبها هو هذا الشاب.. ولكنه ألماني بكل أسف .. ورغم انها لم تكن راغبة في الذهاب الى لندن الا انها رأت وجوب ذلك .. فقد اذاعت الخبر .. وقد يحدث بالصدفة اذا لم تذهب ان يراها أحد في أي مكان آخر ، فيشاع ذلك فورا في سان سوسي..
فيجب أن تذهب .. وما ان غادرت شباك التذاكر حتى قابلتها شيلا برينا ..
- هالو .. الى اين انت ذاهبة ؟ لقد حضرت لأتسلم طردا,,
- الى لندن..
- اه .. نعم .. نعم سمعتك تذكرين ذلك .. سأتسلم الطرد وآتي لمرافقتك الى القطار..
وذهبت الفتاة ثم عادت لتبقى مع توبنس حتى تحرك القطار .. فجلست توبنس على مقعدها تفكر .. هل كان ذلك مصادفة ! أم أن مسز برينا أرسلت ابنتها خصيصا للتأكد من سفر مسز بلنكنسوب ؟ وأن الامر ليبدو كذلك ..
ولم تستطع توبنس الاختلاء بتومي .. حتى كان صباح اليوم التالي .. وكانا قد اتفقا على الا يتقابلا في سان سوسي . فخرج مستر ميدوز بعد أن خفت عنه وطأة الزكام يتمشى الى جوار الشاطئ ثم جلس على أحد المقاعد الحجرية المنتثرة .. وهناك رأته مسز بلنكنسوب مصادفة .. وقالت بعد أن تأكدت الا رقيب هناك :
- ماذا وراءك ؟
- لقد قضيت يوما من أصعب الأيام اذ كاد عنقي يكسر من طول المراقبة.. ولكني عرفت أشياء لا بأس بها على كل حال ..
- لا بأس على عنقك .. حدثني ما عرفت ..
- دخل الخدم طبعا ليرتبوا غرفتك كما هي العادة.. ودخلت مسز برينا لتعنف الخادمة وتتعجلها في عملها .. كما دخلت بتي..
- ثم من ؟
- ثم شخص آخر ..
- من ؟
- كارل فون دينيم
- كارل أوه .. متى ؟
- في وقت الغذاء .. رأيته يسير متلصصا في الشرفة ثم سار الى غرفتك ، ومكث هناك حوالي رقع ساعة ثم خرج ..
- آه ..
- ان هذا يكفي فيما أظن ..
وأطرقت توبنس .. نعم ان هذا يكفي .. وتذكرت حديثها مع الشاب .. انه ممثل بارع ولا شك ، وكان على حق فيما قال.. انه رجل وطني .. يخدم دولته .. وقد يقدره الانسان لهذا السبب .. ولكنه يحطمه أيضا .. ووجدت توبنس نفسها تقول :
- كم يؤسفني ذلك !
- وأنا أيضا .. انه شاب طيب .. ولكن ..
- ان هذا هو ما نقوم به بالضبط لو كنا في ألمانيا,, ومهما كان الامر فقد عرفنا على الاقل طرف الخيط .. ان كارل يعمل بالاشتراك مع شيلا وأمها.. وربما تكون مسز برينا هي المرجع الاول.. ثم هناك تلك السيدة الغريبة التي كانت تحادث كارل..
- ماذا نفعل الان ؟
- يجب ان نزور غرفة مسز برينا فربما وجدنا بها ما يهمنا .. كما يجب ان نتعقبها لنعرف أين تذهب ومن تقابل .. تومي .. هيا نستدعي "ألبرت" ليساعدنا ..
- آه .. ألبرت .. انها فكرة .. وسأرى اذا كان ذلك ممكنا ,
كان ألبرت يعمل منذ سنوات في أحد الفنادق .. ثم انضم الى ادارة الامن العام ، ثم عمل تحت امرة آل برسفورد طوال السنوات الماضية ، ولما اعتزلوا العمل تركه هو الاخر وافتتح حانة صغيرة في جنوب لندن ..
وقالت توبنس :
- ان ألبرت سيدهش عندما نستدعيه .. دعه يستأجر غرفة في فندق المحطة .. ومن هناك يستطيع أن يقتفي أثر من نريد..
- هذا جميل.. خاصة لأنني ارى استحالة امكاننا مراقبة من نشتبه فيهم من سكان سان سوسي .. أما ألبرت فان أحدا لا يعرفه .. ثم يجب أن نبذل جهدا كبيرا لكشف القناع عن نشاط تلك المرأة البولندية التي تقولين انها كانت تحادث كارل.. اذ يخيل لي انها حلقة الاتصال بين كارل والجانب الاخر من العصابة..
- طبعا .. طبعا .. فهي اما ان تأتي الى هنا لتبلغ الاوامر او لتتسلم رسائل وتقارير .. وأرجو أن نوفق الى اقتفاء اثرها عند رؤيتها ثانية ..
- ثم لا تنسي ان علينا زيارة غرفة مسز برينا والسيد كارل..
- لا أظن أننا سنجد شيئا هاما في غرفة كارل.. ولا تنس انه ألماني.. والمفروض أنه معرض في أية لحظة لمهاجمة رجال البوليس ، والمعقول انه لا يحتفظ لديه بأي شيء يثير الشكوك .. أما دخول غرفة مسز برينا.. فهو من الصعوبة بمكان.. خاصة وأن ابنتها تحتل الغرفة في حالة غياب أمها .. ثم لا تنس أن بتي وأمها تنتقلان طوال النهار في كل مكان من الفيلا.. وكذلك مسز أوروك التي تقضي معظم وقتها في غرفتها وبابها مفتوح على مصراعيه ..
- أظن أن وقت الغذاء هو أنسب الأوقات ..
- كما استغله السيد كارل؟
- نعم .. واستطيع مثلا ادعاء اصابتي بصداع فجائي ثم اذهب الى غرفتي .. ولكن لا .. اذا ربما يتطوع بعضهم لمرافقتي وتمريضي .. اذم يحسن ان انسحب الى غرفتي في هدوء قبيل موعد تناول الغذاء دون أن اكلم احدا.. وإذا سئلت بعد ذلك أقول انه الصداع الذي احتجزني ؟
- من الأصوب أن أقوم أنا بهذه المأمورية، فمن السهل علي أن أدعي البحث عن قرص اسبرين اذا رآني أحد.. أما وجود سيد محترم يعبث في غرفة مسز برينا فانه أمر يدعوا الى الاشتباه..
- تعنين انه يؤدي الى فضيحة .. وهو كذلك .. انما يحب الاسراع فكما علمت اليوم .. يظهر ان هناك انباء سيئة ..
ثم تركها تومي وسار حتى مكتب البريد ومنه اتصل تليفونيا بمستر جرانت وقال له ان العملية الاخيرة تمت بنجاح وان ( ك ) غارق فيها الى اذنيه.. وبعد ذلك كتب تومي الى ألبرت ثم اشترى احدى المجلات وعاد الى سان سوسي..
وبينها هو في طريقة الى الفيلا سمع صوت الكوماندوز هايدوك المرح يناديه من سيارته الصغيرة ويعرض عليه ان يوصله الى حيث يريد.
فصعد تومي الى السيارة شاكرا.. وقال هايدوك:
- سمعت انك اصبت بنزلة برد؟
- كانت مجرد انفلونزا عارضة.. وهي تصيبني في مثل هذا الوقت من كل عام..
- ولكنك أحسن حالا.. هل لك في لعب الغولف؟
- طبعا .
- اذن موعدنا غدا في الساعة السادسة .. اذ اني ذاهب في الصباح لحضور اجتماع مقاومة من يهبطون بالبراشوت.. انه واجبي كما تعلم..
- وهو كذلك.. وشكرا..
وكانا قد وصلا الى ابواب سان سوسي.. فسأله هايدوك:
- ميدوز .. كيف حال شيلا الجميلة ؟
- بخير على ما أظن.. فاني لا أراها كثيرا..
- ها .. ها .. لا تراها كثيرا؟ .. انها فتاة جميلة .. ولكنها نفور.. وأظنها تقابل ذلك الفتى الاماني كثيرا .. ضاعت الوطنية.. ثم لم يبق لها حاجة بالمسنين أمثالي وأمثالك .. ومع ذلك فهناك شباب من رجالنا على كثير من الرشاقة .. يقبلون على الترفيه عنها.. ولكني لست أدري لم تترامى بين أحضان هذا الألماني الفظ..
- على رسلك.. انه قادم ..
- ليس يهمني في كثير أو قليل أن يسمع ما اقول.. وكم اود ان ألهب ظهر السيد كارل بالسياط فان أقل ألماني يدافع الآن عن بلاده ولا يتسكع هنا رعبا من القتال..
وهكذا اتضحت وطنية الكوماندوز هايدوك وهو يدور بسيارته الى استراحة المهربين..
أما توبنس فقد وصلت الى ابواب سان سوسي الخارجية في الساعة الثانية الا عشرين دقيقة وسارت في ممرات الحديقة حتى وصلت الى باب حجرة الانتظار ووقفت لحظة حتى مرت الخادمة عبر الممر .. ثم سارعت فصعدت الدرج بعد ان خلعت حذاءها ولبست خفا وسارت فورا الى حجرة مسز برينا.. وهناك اعتراها ضيق شديد .. فهذه العملية التي تقوم بها ليست محببة الى النفس.. ولكنها عادت فتذكرت انها الحرب.. وسارت قدنا الى منضدة التواليت، وفي سرعة عالجت فتح الادراج الا واحدا وجدته مغلقا ,, لعله هذا .. وكان نعها بضع ادوات استعارتها من تومي لإنهاء هذه المهمة .. وفتح الدرج ..
ووجدت فيه نحو عشرين جنيها ورقا، وبضع نقود فضة وحقيبة بها مجوهرات وحزمة اوراق.. فبدأت تفحصها واحدة واحدة في عجلة .. فليست لديها فرصة للتامين الطويل.. رأت عقد شراء سان سوسي .. فواتير .. حسابات البنك كمية من الخطابات .. ومر الوقت سريعا .. قرأت خطابيين من صديق في ايطاليا .. ليس فيهما شيء .. وخطابا من سيمون مورتيمر في لندن .. وغيره وغيره .. ثم خطابا من .. " بات " قرأت فيه : هذا آخر خطاب اكتبه لك يا عزيزتي ايلين ,, ولم تستطع توبنس متابعة القراءة فأعادت الخطاب كما كان بعد ان طوته في عجلة وردته الى مكانه من الدرج.. وفتح الباب .. ودخلت مسز برينا متجهة الى رف عليه بضع زجاجات..
ودارت توبتس وواجهت صاحبة الغرفة :
- أوه.. مسز برينا .. أرجو ألا تؤاخذيني لقد دخلت حجرتك تحت تأثير صداع عنيف.. لأبحث عن قرص من الاسبرين .. فقد ضاعت انبوبتي .. وكنت متأكدة أن لديك من هذا النوع.. فقد سمعتك تقولين ذلك لمس منتون ..
وشملت مسز برينا الغرفة بنظراتها ثم قالت في حدة:
- طبعا .. لدي منه كثير .. ولكن على أي حال .. لماذا لم تأتي إلي وتطلبي مني؟
- كان ذلك واجبا.. ولكني أعلم أنكم تتناولون طعام الغذاء ,, ولم أر من المناسب أزعجكم ..
فمرت مسز برينا أمام توبنس واتجهت الى أحد الرفوف وتناولت زجاجة الأسبرين وقالت :
- كم تريدين ؟
وأجابت مسز بلنكنسوب يكفيني ثلاث ..
وسارت فورا نحو حجرتها وطلبت من الخادمة بضع زجاجات من الماء الساخن..
وقالت مسز برينا :
- أذكر أن لديك كمية كبيرة من الأسبرين ,, في منضدة الزينة ..
- لست أدري أين وضعت الأنبوبة .. فقد بحثت عنها ولم أجدها ..
- آه .. اذن اذهبي واستريحي حتى موعد تناول الشاي..
وعادت توبنس الى غرفتها واستلقت على سريرها متوقعه دخول مسز برينا بين لحظة وأخرى رغم أن توبنس حسبت حساب الدرج الذي فتحته ولم تجد فرصة لإعادة غلقه .. كما أن الاوراق لم تنظم كما كانت ,, وأخذت توبنس تطمئن نفسها ,, لو شكت مسز برينا في اضطراب حاجاتها فستشك في الخدم لا في مسز بلنكنسوب المحترمة .. وحتى اذا شكت فيها فستعتقد انها ما عبثت في الغرفة الا تحت تأثير حب الاستطلاع المجرد عن الغرض .. ولكن .. اذا كانت مسز برينا هي تلك الجاسوسة التي يرمزون لها بحرف ( م ) فلا بد أنها سترى في مسز بلنكنسوب انها لم تذكر لمخلوق المكان الذي تحتفظ فيه بخطاباتها الخاصة .. اذن .. لابد أن هناك من يعبث بغرفتها .. ودقة بدقة ..!
*
*
* * *
* *
*
:: الفصل السابع ::
سافرت مسز سبروت في اليوم التالي الى لندن وتركت بتي في عناية سكان سان سوسي بعد ان نبهت على الطفلة بعدم ازعاج اهل الدار, وتعلقت بتي بتوبنس لتلاعبها.. ومنعت الامطار الشديدة خروجهما للنزهة، فلجـأتا الى حجرة نوم الفتاة واتجهت بتي الى حيث تحتفظ بلعبها فسألتها توبنس أي هذه اللعب تفضل فقالت بتي:
- احكي لي حكاية..
فجذبت توبنس ونظرت الى عنوان الكتاب ثم سألت بتي..
- هل تعجبك أحلام ساندريلا ؟
- كلا .. انه قذر ..
وتناولت بتي الكتاب وأعادته الى مكانه وسحبت كتابا آخر من نهاية الرف وكان بنفس العنوان.. فأدركت توبنس أن الكتب القديمة أهملت وأن مسز سبروت اشترت مجموعة جديدة للطفلة .. انها من الامهات اللاتي يتطيرن من القذارة .. ويخشين على أطفالهن من عواقبها.. وأخذت بتي تعبث بالكتاب ثم أعادته وتناولت غيره ثم غيره ، وكانت بتي تختطف الكتب من توبنس وتخبئها وتحاول هذه العثور عليها.. وهكذا انقضى الصباح دون ان تشعر بمرور الوقت ..
وبعد الغذاء ذهبت بتي الى سريرها، واستدعت مسز اوروك توبنس الى غرفتها وكانت غرفة ضل النظام طريقه اليها.. تفوح فيها روائح النعناع والنفتالين.. وانتثرت فيها الصور بغير نظام. صور ابناء وأبناء وأخوة وأبناء اخوة مسز أوروك حتى خيل لتوبنس انها في معرض للصور. أقيم في العصر الفيكتوري ..
وقالت مسز أوروك :
- ان لك طريقة عجيبة في معاملة الاطفال يا مسز بلنكنسوب
- ان ذلك يرجع الى طول المدة التي ربيت فيها ولدي
- ولديك ! سمعت انهم ثلاثة ..
- آه طبعا .. انهم ثلاثة .. نعم ثلاثة .. ولكن أعني ولدي المتقاربين في السن فقد كنت أقوم بتربيتهما وهما في هذه السن تقريبا معا .. هذا ما قصدت ..
- آه.. اجلسي يا مسز بلنكنسوب واعتبري نفسك في غرفتك...
وأحست توبنس بنوع من الضيق الذي يحسه المرء وهو في زيارة احدى الساحرات ..
وقالت مسز أوروك أخيرا:
- والآن يا عزيزتي .. ما رأيك في سان سوسي ؟
فأجابت توبنس بكلام عام .. ولكن مسز أوروك قاطعتها بقولها :
- أود أن اسألك ما اذا كنت قد لاحظت شيئا غريبا في سان سوسي؟
- شيئا غريبا! ماذا تعنين ؟ كلا .. لم ألحظ..
- حتى ولا عن مسز برينا ؟ فقد أدركت انك تراقبينها .. بل انك تشددين الرقابة عليها ..
واحمر وجه توبنس ولكنها تمالكت نفسها وقالت :
- انها .. انها .. سيدة حلوة المعشر..
- اذن هي ليست .. أعني انها سيدة مجتمعات .. اذا كان الظاهر كالباطن.. ولكن اذا لم تكن .. أ هذا هو رأيك ؟
- الواقع يا مسز أوروك انني لا أفهم .. سيدة مجتمعات.. تتظاهر.. لم تكن .. ماذا تعنين ؟
- ألم يخطر ببالك يوما ان أية واحدة منا قد تكون فعلا خلاف ما تتظاهر به أمام الناس؟ فالمستر ميدوز مثلا .. يبدو لي أنه رجل غريب التصرفات .. فأحيانا أراه يمثل الرجل الانجليزي الغبي المحدود الأفق وأحيانا أسمع منه كلمة أو أرى منه ما يدل على أنه أبعد الناس عن الغباء.. ألا ترين في هذا غرابة ؟
فأجابت توبنس بحزم :
- أوه . انني لا أرى في مستر ميدوز الا نموذجا للرجل العادي ..
- اذن هناك غيره .. وأظن أنك تعرفين واحدا منهم على الاقل ..
فهزت توبنس رأسها نفيا..
فعادت مسز أوروك تقول :
- ان الاسم الذي أصده يبدأ بحرف ( ش ) ..
ولم تستطع توبنس أن تتمالك أعصابها أكثر من ذلك .. وظهرت عليها أمارات الغضب ، فقد خيل إليها أنها في موقف استجواب .. وأن عليها أن تدافع عن شيء عزيز عليها فقال في حدة :
- ان كنت تقصدين شيلا فهي فتاة طائشة ثائرة,, وقد كنا جميعا كذلك في مثل سنها..
- لا .. لا . لا .. ليست هذه من أقصد .. ألا تعلمين أن اسم مس منتون الأول " شيرلي " ..
- أوه .. اذن تقصدين مس منتون ؟
- لا ,, ليس هذا ما أقصد .. ولكن ..
ولم تقو توبنس على احتمال الموقف أكثر من ذلك .. ان هذه السيدة تتلاعب بها كما يتلاعب القط بالفار.. فقامت توبنس من مكانها واتجهت نحو الشرفة تراقب نزول المطر وقد تضاربت الافكار في رأسها .. فكيف تتخلص من موقفها هذا ؟ وكيف سمحت لنفسها أن تقع في هذا الشرك .. وتوقف تفكيرها لحظة .. رأت خلال النافذة تلك المرأة التي كانت تحادث كارل فون دينيم منذ أيام .. وكانت تتلفت يمنة ويسرة بعينين جامدتين لا حياة فيهما .. حتى خيل لتوبنس انها تمثال يتحرك.. وكانت تتطلع وتتطلع الى نوافذ سان سوسي .. وليس في نظراتها أي معنى.. رباه.. بل هناك معنى واضح كل الوضوح انها نظرات مجنون وطافت برأس توبنس خيالات عديدة . ان هذه المرأة تمثل الاشباح التي تسكن البيوت المهجورة.. واستدارت توبنس لتواجه مسز أوروك وغمغمت ببضعة ألفاظ ثم اندفعت سريعا من باب الحجرة.. ونزلت الدرج .. فالحديقة .. فالطريق .. إلى قمة التل .. فلما وصلت كانت المرأة قد اختفت .. فعادت توبنس من جديد الى الحديقة وأخذت تجول فيها .. بين الشجيرات غير عابئة بما أصابها من هطول الامطار.. وكانت تقتفي آثار أقدام المرأة الغريبة متوقعة أن تقودها هذه الآثار إلى حيث اختفت فجأة .. وقادتها الآثار الى ابواب الفيلا ، فأحست توبنس باختناق لم تدر له سببا وشعرت ان نكبة ما وشيكة الوقوع فقد حدثها انقباض قلبها بذلك .. ولكمها لم تستطع ان تخمن ما هذه النكبة ؟ .. وما كان يخطر ببال مخلوق أن يخمن ..
وبعد أن اعتدل الجو وانقطع المطر ساعدت مس منتون بتي على ارتداء ملابس الخروج استعدادا لنزهة في المدينة القريبة.. ولتشتري مس منتون لبتي إوزة من البلاستيك ، وكانت بتي تصيح في أرجاء الدار جزلة ..
ولاحظت توبنس عندما دخلت باب الدار ان هناك عودين من الثقاب قد ألقيا على المنضدة التي تتوسط الردهة الخارجية في غير عناية ، فعرفت ان مستر ميدوز يقضي الوقت في مراقبة مسز برينا ، فاتجهت توبنس الى حجرة الانتظار ووجدت مستر ومسز كايلي وكان زوجها في حالة يرثى لها .. يشكو الضجيج الذي تحدثه الطفلة ويقول انه لم يأتي الى سان سوسي الى هربا من الضجيج..
فقالت توبنس :
- من الصعب التحكم في الاطفال وهم في هذه السن ..
- هه .. هذا كلام لا معنى له .. انها آفة العصر الحديث .. أن يترك الاطفال يعبثون كما يحلو لهم .
فقالت توبنس تغير مجرى الحديث :
- أود أن تحدثني عن رأيك الخاص في طرق المعيشة في ألمانيا ، فقد سمعت أنك قمت برحلات إلى بلاد كثيرة ..
- انني كما تقولين يا سيدتي العزيزة .. رجل ذو تجارب وخبرة وفي رأيي انه يجب ان تتفاهم بريطانيا وألمانيا .. فالنظام النازي في رأيي هو خير الأنظمة صلاحية للبلدين..
وقطع الحديث دخول مس منتون تتبعها الطفلة حاملة إوزتها الجديدة ..
وما هي الا لحظات حتى أعد الشاي.. وفي تلك الفترة رؤيت مسز سبروت داخلة بعد عودتها من لندن وهي تقول :
- أرجو الا تكون بتي قد أزعجت أحدا..
ثم وجهت الحديث للطفلة :
- كيف قضيت الوقت يا بتي؟
- قذر ..
ولم يعلق أحد على رد الطفلة اذ كان مفهوما أنها لا تعني ما تقول وأخذت مسز سبروت تتحدث عن مشترياتها من لندن خلال احتسائها الشاي.. وانتقل الجميع الى الشرفة فقد بدات الشمس تتسرب من تحت الغمام.. وكانت بتي تملأ الجو بدعابتها وجريها في كل مكان.. واستمر الحال كذلك .. والنزلاء يتحدثون عن الاشاعات وما ينتظر ان يحدث حتى قطعت مسز سبروت الحديث فجأة قائلة :
- انها السابعة اآن .. كان يجب ان تنام الطفلة منذ ساعات ... بتي .. بتي ..بتي ..
ولم يكن أحد يلحظ غياب الطفلة في أثناء الحديث .. وعادت مسز سبروت تصيح وقد تزايد قلقها ..
- بتي .. أين أنت؟
وقامت مسز سبروت تبحث عن الطفلة ..
وقاتل مس منتون ان الطفلة لا بد أن تكون في مكان ما..
وقالت توبنس لا بد انها اختبأت في المطبخ اذ كان أطفالها يختبئون فيه ..
ودار البحث في كل مكان .. ولكن بدون جدوى . فقد اختفت الطفلة اختفاء تاما..
وظهر الغضب على وجه مسز سبروت .. وقالت:
- ربما تكون قد خرجت من الفيلا .. ؟
فخرجت توبنس مع مسز سبروت ووقفتا تتلفتان هنا وهناك، ولكنهما لم يريا سوى صبي على دراجة يحادث خادمة الفيلا المواجهة لسان سوسي .. فتقدمت توبنس نحو الصبي وسألته اذا ما كان قد رأى فتاة صغيرة تخرج من الفيلا فأجابت الخادمة :
- أهي تلبس فستانا قصيرا أخضر اللون ؟ رأيتها منذ نحو نصف ساعة .. تسير في هذا الطريق مع سيدة ..
- سيدة ..! أي سيدة ..!
- انها سيدة .. غريبة الهيئة .. و على كتفيها شال رخيص .. فخيل الي انها احدى المتسولات .. واني اذكر اني رأيتها أكثر من مرة تحوم حول هذا المكان..
وتذكرت توبنس فورا ذلك الوجه الذي رأته يتلصص بعد الظهر في الحديقة ولكنها لم تكن ترى علاقة بينه وبين بتي .. ولم تترك مسز سبروت لها فرصة للتفكير أكثر من ذلك فصاحت :
- بتي .. عزيزتي بتي .. طفلتي.. لا بد أن تكون تلك المرأة احدى الغجريات .. فردت توبنس على الفور..
- لا .. لا .. ان وجهها لا يدل على ذلك.. فهي جميلة . ولا يمكن ان تكون من الغجريات..
فنظرت اليها مسز سبروت في عجب ودهشة مستفسرة ، فقالت توبنس :
- رأيت هذه المرأة بعد ظهر اليوم .. تتلصص خلال شجيرات الحديقة .. كما اذكر انني لمحتها مرة قبل ذلك .. تحادث كارل فون دينيم .. نعم لا بد أن تكون نفس المرأة ..
وقالت الخادمة تؤكد كلام توبنس :
- نعم .. نعم .. انها نفس المرأة .. ان شعرها الاشقر لا ينسى ..
فصاحت مسز سبروت :
- أواه .. يا ربي .. ماذا أفعل؟
فقالت توبنس وهي تضع ذراعها في ذراع مسز سبروت :
- تعالي الى الفيلا .. لنطلب البوليس ..
فسارت مسز سبروت معها وهي تقول :
- لست أدري كيف رضيت بتي أن تسير هكذا مع الغرباء .. دون أن تصيح ..
- انها صغيرة جدا كما تعلمين .. وقد تكون المرأة مخبولة ..
وكانت توبنس تقول هذا لتخفف وقع الصدمة على مسز سبروت اذ كانت تعلم ان المرأة الغريبة في كامل قواها العقلية وقد شكت في ان يكون لكارل علاقة بحادث الاختطاف هذا ، وقد تبددت شكوكها لما أقسم كارل ان لا علم له بأي شيء عن هذا الموضوع ، وقد استغربه كذلك الجميع .. وبعد أن شرحت توبنس كل ما تعلم قال الماجور بلتشلي موجها كلامه لمسز سبروت ..
- لا تقلقي يا سيدتي .. سأذهب حالا الى مركز البوليس ..
فقالت مسز سبروت :
- انتظر لحظة .. فقد تكون هناك ..
ثم جرت مسرعة الى غرفة بتي وعادت وهي تلهث وهجمت على الماجور بلتشلي وخطفت سماعة التليفون من يده وهي تقول :
- لا .. لا .. لا تبلغ البوليس . .يجب الا نبلغ البوليس ..
وتهاوت على أحد المقاعد وهي تبكي ، فالتفت الجميع حولها وقد اشتد بهم العجب يحاولون تهدئتها وبعد لحظة قالت بصوت خنقته العبرات وهي ترفع شيئا في يدها :
- وجدت هذه .. في حجرتي .. كانت مربوطة الى تمثال قطة من الحجر .. انها انذار لي ..
فتناول مستر ميدوز الورقة وقرأ فيه ا:
" لقد وضعنا يدنا على طفلتك وسنخبرك فيما بعد بما تفعلين ولكن .. اذا اتصلت بالبوليس سنقتل الطفلة .. أغلقي فمك وانتظري تعليماتنا والا .. "
وكانت موقعه بجمجمة وعظمتين متقاطعتين ..
وتكلم الجميع في نفس الوقت :
- القتلة المتوحشون .. الوحوش ...
ولكن صوت الماجور بلتشلي علا جميع الاصوات وهو يقول :
- كلام فارغ .. مستحيل .. يجب أن ابلغ البوليس حالا .. فهو وحده الذي يستطيع ان يضع حدا لهذه المهزلة ..
وتحرك ثانية متجها الى آله التليفون .. ولكن مسز سبروت صرخت ، فصاح بها :
- يا سيدتي العزيزة .. لا بد من ذلك .. فما هذا الانذار الا حيلة مبتذلة لمنعنا من اقتفاء اثر الخاطفين السفلة ..
- سيقتلونها ..
- مستحيل .. انهم لا يجرءون ..
- اني لا أسمح .. أنا أمها .. وأنا التي أقرر ..
- أنا أفهم .. فاهم .. ولكن استمعي الى نصيحتي يا سيدتي فتبليغ البوليس هو الحل الوحيد .. ألا توافقني يا مستر ميدوز ؟
فهز تومي رأسه ايجابا .. وعاد بلتشلي يقول :
- وأنت يا كايلي؟ اذن انظري يا مسز سبروت .. ميدوز وكايلي يوافقاني ..
- آه .. نعم .. كلكم رجال .. اسأل السيدات ..
فقالت توبنس على الفور :
- اني مع مسز سبروت ..
وقالت مسز أوروك :
- لن تجد اما واحدة توافقك ..
وعادت توبنس تقول :
- وأنت يا سيد كارل.. ؟ اننا لم نسمع رأيك بعد ..
فأجاب كارل بتؤدة :
- انني اجنبي كما تعلمون .. ولا أعلم شيئا عن نظام بوليسكم .. وما اذا كان جديرا بهذه المهمة ..
ودخلت مسز برينا في تلك اللحظة ، فسألت :
- ماذا حدث؟
وسمعت القصة من الجميع .. فقالت في لهجة آمرة وكأنها سيدة الموقف :
- لا أوافق على الالتجاء الى البوليس مطلقا .. ان له طرقه العقيمة الملتوية ، ولكني أرى ان تبحثوا عن الطفلة بأنفسكم ..
وقال بلتشلي ثانية :
- انها فكرة .. هيا بنا .. ولا أعتقد انهم ابتعدوا كثيرا ...
فقالت مسز سبروت :
- نريد سيارة.. فلنتصل بهايدوك هوفن.. فلديته سيارة هيا بنا .. وسنستطيع اقتفاء اثر تلك المرأة بلا شك.. وسآتي معكم .
- لا يا سيدتي.. لا لزوم لمجيئك .. اتركي الامر لنا ..
- مستحيل ..
وما هي الا ثوان حتى كانوا قد اتصلوا بهايدوك .. فحضر بسيارته على الفور وجلس تومي الى جواره وجلس الماجور بلتشلي ومسز سبروت و توبنس في المقعد الخلفي .. وقبل ان تتحرك السيارة عادت مسز سبروت الى الفيلا وغابت لحظة ثم رجعت ولما استفسرت منها توبنس عن سبب صعودها فتحت حقيبة يدها وارتها مسدسا صغيرا ,, وقالت :
- أتيت بهذا من غرفة الماجور بلتشلي .. وكنت سمعت منه يوما ان لديه مسدسا واعتقد انه يفيدنا الان ..
وفكرت توبنس في عواطف الامومة ،، ان المرأة قد تفزع عندما ترى سلاحا ولكنها لا تتوانى عن استعماله اذا هدد فلذة كبدها خطر ..
وسارت السيارة .. الى محطة السكة الحديد كما اقترح الكوماندوز هايدوك اذ ان قطار قد قام منذ عشرين دقيقة ويرجح ان يكون الخاطفون قد ركبوه وعندما وصلوا الى المحطة بدءوا تحرياتهم كل في جهة وعاد الجميع الى السيارة دون جدوى .. وقال هايدوك:
- لا بد ان الخاطفين كانوا قد أعدوا سيارة وأرسلوا تلك المرأة لتختطف الطفلة ثم ساروا بها الى مكان مجهول ..
فقالت توبنس :
- اذن .. لنضع أنفسنا في مركز الخاطفين .. أين تظنون أنهم كانوا ينتظرون بالسيارة ؟ في مكان قريب من سان سوسي.. ولكن أي مكان يصلح لإخفاء سيارة لا تجتذب إليها الانظار ,, فلنر .. لقد سارت المرأة مع بتي وانحدرتا مع التل .. وهناك في بطن التل ، مكان يصلح لمثل ذلك ..
وفي تلك اللحظة تقدم اليهم رجل قصير القمة يبدو عليه التردد والإحجام .. يعرض قليل في مشيته وقال :
- لا تؤاخذوني فقد استمعت عرضا الى حديث السيد .. وهي صدفة غريبة اذ يخيل الي انني رأيت الطفلة التي كان يسأل بواب المحطة عنها ..
فصاحت مسز سبروت :
- تقول انك رأيتها .. أين ؟
- كانت مع سيدة غريبة المنظر ..
- أين سارتا ؟
- في هذا الاتجاه.. اتجاه القمة ..
فقال هايدوك وهو يجلس الى عجلة القيادة ويدير المحرك :
- تقول انها كانت تسير اتجاه القمة .. أليس كذلك ؟
- نعم .. عبر الميدان الكبير ..
قفز المتبقون في السيارة .. قبل ان يستكملوا الاستماع الى بقية حديث الرجل .. وسارت السيارة مسرعة في شوارع البلدة .. حتى وصلت الى ميدان فسيح وهناك قال الماجور بلتشلي :
- الافضل ان ننزل هنا ، ونصعد الى القمة سيرا على الاقدام ..
فأجاب هايدوك :
- هذا معقول جدا ولكني سأبذل جهدي لأصعد المنحدر بالسيارة رغم ان في ذلك مخاطرة .. ولكن ..
فقاطعته مسز سبروت قائلة :
- نعم .. نعم .. أرجوك أن تصعد .. فقد تأخرنا .. ويجب أن نسرع حتى نلحق بهما ..
فقال الكوماندوز كما لو كان يحادث نفسه :
- أرجو أن نكون وراء أثر صحيح وألا يكون ذلك القزم قد رأى امرأة أخرى . .معها طفلة .. ومع ذلك .. فلست أرى لهما أي أثر ..
وصعدت السيارة تزحف حتى وصلت القمة .. ثم أخذت تنحدر .. فتوقف هايدوك لحظة وتناول منظاره المعظم .. الذي لا يفارقه وأخذ ينظر فيه لحظات في كل اتجاه ثم صاح قائلا :
- ها هما .. انني أراهما .. هناك ..
ونظر الجميع حيث يشير .. كانت هناك نقطتان سواداون في الأفق البعيد تتحركان وعادت السيارة تنهب الارض من جديد .. وبدأت المطاردة .. فرأوا النقطتين تنكشف رويدا رويدا .. انهما شبحان ، أحدهما طويل والآخر قصير .. انهما يتضحان قليلا ، سيدة تجر وراءها طفلة .. نعم .. ان الطفلة ترتدي ثوبا أخضر اللون . انها بتي .. وصاحت مسز سبروت .. وقال الماجور بلتشلي وهو يصفق :
- ها نحن قد وصلنا اليهما ..
وفجأة أحست المرأة بدنوا السيارة منها .. فصرخت ورفعت الطفلة محتضنة إياها ، وأخذت تجري بها نحو المنحدر .. فتوقفت السيارة اذ انها لا تستطيع ان تتبعها في ذلك الطريق الوعر .. وخرج ركاب السيارة منها وكانت مسز سبروت أولهم . وبدأت نجري نحوهما حتى اصبحت على بعد عشرين خطوة منهما فتوقفت ..
كانت المرأة ممسكة بالطفلة بين ذراعيها وقد وقفت على حافة المنحدر ، فصاح هايدوك :
- رباه .. أخشى أن تقذف بالطفلة على الهاوية ..
وقفت المرأة وقد تجسم الحقد في عينيها وصاحت بكلمات لم يفهمها أحد ، وأخذت تنظر الى الهاوية حينا والى المهاجمين حينا آخر .. وكان واضحا أنها تهدد بقذف الطفلة في الهاوية ..
فوقف الجميع مبهوتين وقد أقلقهم الرعب دون أن يستطيعوا الحركة خوفا من الفاجعة المنتظرة .. ومد هايدوك يده في جيبه وأخرج مسدسا ضخما وصاح :
- انزلي الطفلة أو أطلق النار ..
فضحكت المرأة الغريبة وزاد احتضانها للطفلة حتى أصبحتا كأنهما جسد واحد .. فغمغم هايدوك :
- اني لا أستطيع اطلاق النار خشية اصابة الطفلة ..
وقال تومي :
- هذه المرأة مخبولة بلا شك وأتوقع أن تقفز هي والطفلة الى الهاوية بعد لحظة . وفي تلك اللحظة دوى صوت طلق ناري فترنحت المرأة ثم سقطت ولا تزال الطفلة بين ذراعيها .. وجرى الرجال حيث سقطت ، بينما وقفت مسز سبروت تترنح وفي يدها المسدس يتصاعد الدخان من فوهته ، ثم خطت بضع خطوات الى الامام ..
ركع تومي الى جوار الجسدين فرأى وجه المرأة وكانت عيناها مفتوحتين ، وقبل أن تنبس بحرف شهقت الشهقة الأخيرة وتراخت ذراعاها .. فتخلصت منها بتي وجربت نحو مسز سبروت التي كانت قد تصلبت أعضاؤها كأنها تمثال ، فرمت المسدس بعيدا ، ثم صاحت وهي تعانق الطفلة :
- انها سليمة .. سليمة .. بتي .. بتي العزيزة ..
ثم همست في جزع : هل .. هل ماتت ؟ هل قتلتها ؟
فقالت توبنس في عزم :
- لا تفكري فيها الان .. فكري في بتي العزيزة ..
فأخذت مسز سبروت تنشج في صوت مبحوح وسارب توبنس الى حيث وقف الرجال وكان هايدوك يقول :
- انها معجزة دامية.. وأترف انني لا استطيع اصابة مثل هذا الهدف .. واني لا أتصور أن مسز سبروت سبق لها استعمال المسدس قبل هذه المرة .. انها معجزة الغريرة لا أكثر ولا أقل ..
وقالت توبنس :
- الحمد لله .. فقد نجت الطفلة على كل حال ..
*
*
* * *
* *
*
:: الفصل الثامن ::
وبعد أيام .. بدأ التحقيق في حادث مصرع المرأة الغريبة بعد أن قام البوليس بتحرياته ، لتحقيق شخصيتها ، وعرف أنها تدعى " واندا بولونكا " من اللاجئين البولنديين وكانت مسز سبروت قد نقلت بالسيارة إلى سان سوسي بعد وقوع الحادث محطمة الاعصاب وقد تعاون الجميع على الترفيه عنها.. بمختلف الوسائل، واتصل الكوماندوز هايدوك بالبوليس وأرشدهم إلى حيث وقعت المأساة ولولا اهتمام الصحف بالأخبار الحربية لاحتل هذا الحادث أبرز مكان فيها ..
واتخذ التحقيق مجراه العادي فاستدعيت السيدة كالفنت المشرفة على شؤون اللاجئين في تلك المقاطعة فأدلت معلوماتها عن واند بولونكا وتتلخص في انها كانت من عائلة بولونية ، قتل النازيون كل أقاربها و انها كانت شبه مخبولة وان سلوكها كان موضع شبهة فقد وجد معها مل كثير بالنسبة الى من هم في مركزها، وقد ظهر من مراقبتها انها ليست ممن يضمرون الخير لبريطانيا..
أما مسز سبروت فقد غرقت في دموعها عندما استدعيت للتحقيق وكان المحقق رفيقا بها وقد فسرت ما حدث انه كان بلا وعي منها ..
وسألها المحقق عما اذا ما كانت قد اعتادت استعمال الاسلحة النارية، فأجابت بالنفي ثم نفت معرفتها بالمرأة القتيل قبل الحادث ..
أما هايدوك فقد أدلى بكل ما قام به في عملية المطاردة ولما سأله المحقق عما اذا كان متأكدا من أن المرأة قد بدا عليها النزوع للقفز الى الهاوية أجاب:
- اما انها كانت تنوي ذلك أو على الاقل ان ترمي بالطفلة فذلك ما اعتقده وقد خيل الي ان الحقد متجسم في نظراتها.. وقد فكرت شخصيا في اطلاق النار عليها ولكنها كانت قد اتخذت من الطفلة درعا.. وقد تحملت مسز سبروت المسؤولية فأنقذت الطفلة..
وأخذت مسز سبروت تتشنج من جديد..
أما شهادة مسز بلنكنسوب فكانت قصيرة ولم تخرج عما أدلى به الكوماندوز..
و تلا ذلك مستر ميدوز وقد أمن على الاقوال السابقة وبعد انهاء التحقيق اعتبر المحقق أن الحادث تم تحت تأثير ظروف قاهرة لا حيلة للفاعلة فيها وأن القتل وقع فعلا ولكن دون سبق اصرار او ترصد أو حتى تفكير فيه وهكذا اعتبرت مسز سبروت غير متحملة مسئولية ما فعلت ..
وفي اليوم التالي تقابل مستر ميدوز ومسز بلنكنسوب ودار بينهما حديث طويل عن تلك القضية الغريبة التي فاجأتهما ، وقال تومي :
- ان مجرى الحوادث من كل ناحية لا يعجبني مطلقا..
وقد وافقته توبنس .. فقد كان الجيش الفرنسي يتراجع بدون توقف ، وكان الجلاء عن " دنكرك " على أشده، كما كان سقوط باريس متوقعا في أية لحظة..
وقال تومي :
- وماذا عن كارل فون دينيم والمرأة البولندية ؟ هل تعتقدين انها كان يعملان سويا ؟
- لابد انهما كانا مرتبطين بطريق ما.. ولا تنس انني رأيتهما يتحدثان..
- اذن لا بد أن يكون كارل هو الذي دبر الاختطاف ..
- لماذا يختطفون هذه الطفلة بالذات ؟ ومن هم .. آل سبروت .. لا أعتقد أنهم من الاغنياء.. ثم أنهم عديمو الاتصالات الحكومية التي قد ينتفع بها العدو مثلا,,
- اني افهم ذلك يا تومي .. وبودي لو كشفت السر ..
- وهل لدى مسز سبرون أية فكرة عن سبب الاختطاف ؟
- ان تلك المرأة .. أعني مسز سبروت .. ليست لها مقدرة على التفكير وكل ما تقوله .. ان هذا هو ما يفعله الألمان بأعدائهم ..
- تلك الغبية .. انها لا تعلم أن الألمان قوم في غاية الذكاء فهم لا يختطفون فأرا الا اذا كان هناك من الاسباب القوية ما يدعو الى اختطافه ..
فقالت توبنس :
- أعتقد أن مسز سبروت تستطيع أن تدرك السب لو انها فكرت وحاولت معرفته.. فلا بد أن يكون هناك سبب.. نعم .. لا بد أن تكون هناك معلومات ما .. تعرفها هي ، دون أن تعلم أن هذه المعلومات هي السبب ..
- هل حاولت ان تقنعي مسز سبروت أن تعمل على تحريك ذهنها بعض الشيء .
- نعم حاولت .. ولكن دون جذوى .. ان ما يهمها ,, أن بتي عادت اليها ثم لا تنس احساسها بأنها قد أصبحت قاتلة في نظر نفسها على الاقل..
- ان النساء مخلوقات عجيبة .. في لحظة خيل الي ان مسز سبروت تستطيع قتل فرقة كاملة لاستعادة طفلتها .. و الان أراها تموت فزعا لمجرد ذكر القصة..
- لقد التمس لها المحقق العذر .. كان هذا طبيعيا,,
- اعتقد أن عدم ادراك قيمة ونتائج استعمال المسدس هو الذي دفعها الى تحريك زناده.. فلو انها كانت فكرت في العواقب المحتملة لما اقدمت على اطلاقه..
- اذكر ان شيئا كهذا ورد في التوراة عن سيدنا داوود و جوليات الفلسطيني ...
- أوه .. لقد طافت بذهني فكرة مماثلة . ثم عدت فنسيتها في الحال ..
- هل كانت عن المقلاع الذي قذف به داوود ذلك الفلسطيني فأرداه قتيلا ؟
- لا .. لا .. انتظري لحظة .. انه كان .. عن .. سليمان الحكيم..
- عن معابد سليمان وكنوزه .. والحريم ..
- كفى .. كفى .. انك تعصب الامور .. ما علينا .. كم أود أن أذكر بماذا كان وجه واندا يذكرني .. فقد أحسست عندما رأيتها لأول مرة أن وجهها ليس غريبا علي ..
- هل تعتقدين أنك رأيتها في مكان ما قبل الان ؟
- كلا .. فأنا متأكدة أنني لم أرها من قبل .. ولكني ..
- ان شيلا برينا وأمها يختلفان في منظرهما عن واندا تمام الاختلاف ..
- نعم .. ومع ذلك يا تومي .. فاني أظن أن ثمة علاقة بين ذلك الانذار وآل برينا .. ويخيل إلي ان واحدة منهما هي التي وضعته ..
- اذن تعتقدين أن آل برينا و كارل و واندا بولونكا شركاء؟
- نعم .. ألا تذكر اللحظة التي تدخلت فيها مسز برينا ؟ ثم ألا تذكر أيضا أنها كانت في صف من عارض في تبليغ البوليس .. وأنها ملكت زمام الموقف كله ؟
- وهكذا .. ألا تزالين تعتبرينها ( م ) ؟
- بلى .. ألست من رأيي؟
- ربما ..
- لماذا يا تومي .. هل لديك فكرة أخرى ؟ ألا تحدثني عنها؟
- أفضل ألا أحدثك عنها في الوقت الحاضر على الاقل فان تخميناتي ما زالت غير مركزة .. بل على العكس ، أعتقد أننا أمسكنا بطرف الخيط الذي يؤدي الى ( ن ) وليس الى ( م ) كما تعتقدين . .ولهذا أفضل أن يعمل كل منا – ولو بتخميناته – منفردا..
وكان تومي يفكر في نفسه.. ان بلتشلي شخصية لا غبار عليها .. ثم انه كان متحمسا لتبليغ البوليس .. ولكنه في نفس الوقت كان واثقا من ان ام الطفلة لن تقبل .. وعلمه بوجود الانذار وفهمه لعقلية الام جعلاه على ثقة من النتائج ، ومع ذلك .. فان العكس جائز وعلى أية حال .. وعاد تومي يسأل نفسه من جديد ,, لماذا تختطف بتي سبروت ؟!
وعندما انصرفت توبنس متجهة إلى غرفتها لم تلحظ وقوف سيارة البوليس باب سان سوسي .. فقد كانت غارقة في تأملاتها حتى وصلت إلى باب غرفتها ولكنها تنبهت بعد أن خطت الخطوة الأولى وصاحت :
- شيلا !
واستدارت الفتاة وواجهت توبنس .. كان الذعر والأسى مرتسمين على وجهها فقالت :
- كنت أنتظرك يا مسز بلنكنسوب ، واني سعيدة اذ حضرت ..
- ما الخبر؟
- لقد قبضوا على كارل ..
- من ؟ البوليس ؟
لقد رثت توبنس لحال الفتاة ,, انها مغرمة بكارل فون دينيم وحتى لو كان كلاهما في نظرها على الاقل متهما بالخيانة الوطنية، فان تقدير عاطفة الحب من وجهة النظر الانسانية أمر لا تستطيع توبنس الا ان تحس به ولا تغفله .. وعادت شيلا تقول :
- ماذا أفعل ؟
وارتجفت توبنس لبساطة السؤال .. فلم تجد ما تقول سوى أن غمغمت :
- أواه يا عزيزتي ..
- لقد أخذوه .. وهكذا لن أراه ثانية .. ماذا أفعل؟ نعم ما أفعل ؟ ...
وانفجرت تبكي بحرارة من كل قلبها ثم تهاوت على الفراش.. فجلست توبنس الى جوارها تمسح على رأسها وقالت :
- ربما لا يجدون شيئا ضده فلا تجزعي .. وكل ما في الامر انهم سيعتقلونه ولا تنسي أنهم سيعتقلون كل رعايا الأعداء..
- لم يكن هذا ما قالون.. انهم يفتشون غرفته الان ..
- لا شك أنهم لن يجدو فيها ما يؤذيه .. أليس كذلك ؟
- لن يهم البوليس ان يكون بريئا او مذنبا .. انهم سيلصقون به التهمة..
- هذا خطأ.. بل مستحيل .. انك تثقين في الناس يا شيلا,, وتطمئنين الى كلامهم أكثر من اللازم .. ولعل هذا هو موقفك حيال كارل.. ولعلك كنت على خطأ..
- اذن أنت أيضا ضده .. أواه .. فقد ظننتك تميلين إليه بعض الشيء..
- استمعي الي يا شيلا .. ان الميل أو عدمه ليس لهما دخل في الوقائع المادية، فهذه البلاد وألمانيا في حالة حرب .. وهناك وسائل عديدة يخدم بها المرء وطنه .. منها أن يحصل مثلا على معلومات يرسلها الى وطنه من خلف الخطوط.. وهو عمل فيه كثير من الشجاعة وإنكار الذات ولكن القانون الدولي لا يعترف به..
- هل تظنين أن كارل؟
- ربما .. ربما كان يخدم وطنه عن هذا الطريق .. ان هذا محتمل .. ربما كان عمله أن يأتي الى هذه البلاد كلاجئ ، وأن يتظاهر بعدائه الشديد للنازية وهكذا يستطيع أن يحصل على ما يريد من معلومات..
- هذا لا ينطبق على الواقع .. فاني اعرف كارل جيدا.. وقد عرفت قلبه كما عرفت عقله الذي لا يفكر الا في العلم وفي عمله وهو يحس انه مدين لانجلترا لأنها آوته ومنحته الفرصة ليعمل فيها ولو انه أحيانا – عندما يهان – يحس بألمانيته.. ويتألم .. ولكنه يكره النازيين وما يدعون إليه وبخاصة انكارهم لحرية الفرد .,.
- هذا ما يقوله من كان في مثل مركزه..
- اذن أنت تعتقدين أنه جاسوس؟
- هذا ما أظنه .. انه مجرد احتمال ..
- اذن يؤسفني أنني لجأت إليك لمساعدته ,,
وخرجت الفتاة بعد أن صفقت الباب خلفها ,,
* * *
رفع الرجل المسن سنارته من الماء ثم أرتكز على دفة القارب وقال:
- لا شك في ذلك.. واني أخشى أن يكون ..
فأجاب تومي :
- نعم، ويؤسفني ما حدث فانه شاب لا بأس به ..
- انهم لا يختارون سوى أمثاله من الشباب الشجعان لمثل هذه المهمات .. ومع كل فقد وجدوا ورقة كتب فيها بالمعادلات الكيميائية أسماء العمال الذين يشتغلون تحت أمرته في المصنع والذين يمكن التأثير عليهم .. كما عثروا على مذكرات عن مشروع كيميائي مريع لتسميم الاغذية ، أعده السيد كارل..
- ألا يمكن أن تكون هذه الاوراق قد دست عليه .. ؟
- أوه .. هذا افتراض زوجتك بلا شك .. لها الحق في ذلك .. فهو فتى في ريعان الشباب .. ولكني شخصيا لا أعتقد في براءته .. فذلك الحبر السري الذي وجدناه في المعمل مخبأ بحذق ومهارة وتلك المادة السامة التي صبها على هيئة أزرار وكان يذيبها في الماء ثم يبلل به أربطة الأحذية .. تلك الأربطة التي وجدنا مئات منها معلقة في حجرته لتجفيفها ، ان هذه أدلة بالتقبل الشك ..
وعندما عاد تومي ليقص على توبنس خلاصة هذا الحديث صاحت :
- أربطة أحذية .. ماذا تقول ! ان هذا يفسر كل شيء ..
- ماذا ؟
- بتي أيها الغبي ,, ألا تذكر ماذا كانت تعمل في غرفتي ! عندما حلت أربطة حذائي وبللتها في كوب اللبن .. ظننت ذلك حينئذ عبث أطفال.. ولكنها لابد رأت كارل يفعل ذلك فقلدته .. ولعله خشي أن تقول الطفلة شيئا عما رأته فاتفق مع تلك المرأة على اختطاف بتي ..
- وهكذا اتضح كل شيء ..
- نعم .. وكم أود أن تنكشف لنا بقية الأمور .. فالأحوال الحربية العامة في غاية الخطورة .. وكل سواحل فرنسا أصبحت في أيدي العدو وأصبح الغزو قريب الحدوث ..
- وكان كارل حلقة ا لسلسلة ولعل مسز برينا هي الرأس المدبرة ..
- نعم .. ولكنا لم نجد ما يدينها ..
- وهي ليست من الغباء بحيث ترمي بنفسها بين أيدينا ..
- على ذلك يمكن اعتبارها ( م ) ..
فهز تومي رأسه موافقا وقال :
- اذن فعلينا أن نتابع مراقبتها وعليك الاتصال بألبرت ..
- اتصل أنت به .. اذ سأذهب للعب الجولف ..
*
*
* * *
* *
*