تأمل رافاييل تلك المساحة الشاسعة أمامه والمكتظة بأشجار الفاكهة وسنابل القمح , ورثها عن والده وأمضى فيها السنوات الثلاثين الأولى من عمره , ولكنه لم يرغب في الأحتفاظ بها , وبدأ شقيقه الأصغر خوان يهتم بها ويرعاها , لم يكن يريدها منذ حداثة سنه , فقد كان ميالا ألى تحصيل العلم والأنطلاق في مجالات الفكر والثقافة أكثر بكثير من السعي ألى تحقيق المكاسب المادي والأنزواء في قرية صغيرة بعيدة , أختلف ووالده كثيرا حول هذا الموضوع أذ أن تلك الأرض ملك لعائلة كويراس منذ أكثر من ثلاثمئة سنة , يتوارثها الأبناء عن الآباء , وتذكر رفاييل قصة جده الأكبر ألبرتو كويراس الذي أحب هذه المنطقة ألى درجة قرر فيها التخلي عن وطنه الأم أسبانيا وعن نفوذه الواسع فيه , للأقامة نهائيا في هذه الأرض الخصبة المنعزلة تقريبا عن بقية أنحاء المكسيك.
وتذكر أيضا كيف أن ذلك الجد الثري بنى بيتا وغرس العديد من الأشجار قبل أن يرسل بطلب زوجته وأولاده , وكيف أن تلك الممتلكات أخذت تكبر وتنمو بحيث أصبحت حاليا أحدى أضخم وأغنى المزارع في المنطقة , وكان الأبن الأكبر يرثها عن والده ويورثها لأبنه البكر وأنجح مما كانت عليه لدى أستلامه أياها.
ألا أن رفاييل تمرد وثار على التقاليد ,ولأن والده علّمه منذ صغره أن يأخذ ما يريد على أنه حق مكتسب له , فقد ظل يحذو حذو أبيه ويسير على خطاه لحين شعر بالأزدراء من تلك الأناني والعقلي الأستبدادي , كانت بداي الأشمئزاز عندما أكتشف أن لوالده عشيقات من بين الخادمات والعاملات في الحقول , ولكن الوالد الماجن أقنعه بأن ليس في الأمر أي خطأ أو عيب , مما جعله في وقت لاحق قادرا على كسب مودة أي أمرأة يعجب بها أو يريدها لنفسه , وساعدته في تحقيق تلك الأنتصارات وسامته وشخصيته القوية , بالأضافة ألى الأموال الطائلة الموضوعة بتصرفه.
منتديات ليلاس
وعندما أنتقل ألى الجامعة وأبتعد عن والده ونفوذه السيء بدأت نظرته الطيبة تقوى على الأفكار الشريرة والطباع البغيضة التي زرعها والده في رأسه , وبدأ يحوّل أهتمامه أكثر فأكثر ألى العلوم والثقافة , وأخذ رفاييل يشعر بالأنزعاج والأسى الشديدين عندما أصبح يحس أثناء أجازاته السنوية بمدى فقر العمال والفلاحين وظروف معيشتهم الصعب والسيئ وتفشّي الأمراض بين أفراد عائلاتهم , وأقتنع الشاب المثقف بأن ما من شيء على الأطلاق يربطه بهذه الأراضي الغنية والشاسعة التي ستصبح ملكا له , ولكنه كان يعلم علم اليقين بأن قراره التخلي عن مسؤولياته بالنسبة لأدارة هذه الممتلكات سيثير غضب والده وحنقه , ولكن الوالد مات بنوبة قلبي فيما رافاييل يتخرج من كلي الطب , وبما أن شقيقه الأصغر خوان لم يبد أبدا أي أهتمام في تحصيل العلم وكان موجودا في المزرعة عند وفاة أبيه , فمن الطبيعي والبديهي أن يتولى هو أدارة أعمال المزرعة لحين حضور الوريث الشرعي.
أرتاح رافاييل كثيرا في ممارس عمله كطبيب يخصص معظم وقته لمعالج المرضى الفقراء ومساعدتهم مواساتهم ,ولكن والدته أخذت تلاحقه بعناد وأصرار مطالب أياه بأيجاد شريكة لحياته تنجب له أبناء يحفظون أسم الائلة وتقاليدها ويرث كبيرهم مستقبلا هذه الأراضي والممتلكات , ولم يكن الطبيب الشاب راغبا في الزواج أو أنجاب الأطفال , ففتر العبث والمجون التي أمضاها منذ سنوات المراهق الأولى حتى بداي العشرينات من عمره خلّفت رد فعل قويا في الأعوام اللاحقة , لم يعد يشتهي الفتيات الجميلات اللواتي كن يتهافتن عليه , وشعر بأن ما من أمرأة ستجتذبه أو تثير أعجابه بعد الآن , وبالأضافة ألى ذلك , قرر رافاييل خدمة المجتمع وعدم الألتهاء بزوجة وعائلة , وبالرغم من دموع أمه وأثرارها.
أنتهى قداس الصباح حوالي الساعة السابعة , فتوجه رافاييل ألى المزرع لمقابل شقيقه , دخل القاعة الفسيحة وراح يتأمل حوله بأعجاب وأرتياح جمال ذلك المبنى القديم الذي لم يبق من بنيانه الأصلي سوى القاعة وثلاث غرف مجاور , بالأضافة ألى غرفة فسيح الأرجاء في الطابق الأعلى , وكان كل من الورثة الذين تعاقبوا على أمتلاك المبنى يعمل على تدعيمه وأضافة غرف وقاعات حسبما تدعو الحاج أو تشتهيه النفس , ألى أن أصبح قصرا كبيرا يغطي مساحة شاسعة .
" سيد رافاييل!".
كان صوت مدبرة المنزل جيزابيل حنونا وقويا , ويعبّر عن محبة وأخلاص حقيقيين لرافاييل , فهو لا يزال بالنسبة لها سيد القصر المطاع.
" صباح الخير , يا جيزابيل".
قالها رافاييل بحنان مماثل وهو ينظر ألى السيد الهندية المسنّ التي تخدم عائلته منذ أكثر من ثلاثين سنة بأخلاص لا يضاهى , والتي تدير شؤون المنزل بحزم وقوة.
" علمت أن خوان يريد مقابلتي , فهل تعرفين أين هو الآن؟".
تركت جيزابيل يد رافاييل التي كانت تمسك بها بيديها القويتين وقالت له بلهفة واضحة :
"أنك لا تعتني بنفسك على الأطلاق أثناء وجودك في ذلك الكوخ الصغير الذي تقيم فيه".
أحتج رافاييل بهدوء قائلا :
" أنه ليس كوخا , يا جيزابيل , ثم....... أين أخي الآن؟".
" أنه يتناول فطوره على الشرفة , يا سيدي , هل أكلت شيئا هذا الصباح؟".
هز رافاييل رأسه وأجابها بأبتسامة لطيفة:
" لا , لم تتح لي الفرصة بعد".