1_ حوار مع الأرض
***************************
الطائرة تحلق بهم الآن فوق بلاد كينغ على بعد ثلاثة آلاف ميل الى الجنوب الغربي من مقاطعة كوينزلاند.
الأرض الممتدة تحتهم تحتضن في ترابها كل أمجاد وعظمة القارة الأسترالية , بلاد قديمة شهد تاريخها العريق مغيب ملايين الشموس قبل أن يطأها الأنسان.
وتسارعت خفقات قلب كولبي , فالطبيعة حولها كانت تحمل معنى خاصا يتجاوز لجمال الظاهري , للأرض الحمراء المتمردة
الغارقة منذ الأبد في نار الشمس , تأثير بالغ عليها يشعرها بالدماء تضج في عروقها , والحياة تسري في أعماقها , هذا عدا ذاك الأحساس العميق بالأنصهار في روعة الطبيعة التي تجمع بين القساوة والحيوية
ظلال الألوان المتماوجة بين الأصفر والبرتقالي الأحمر تجتمع كلها في شعلة نارية تتراقص بجنون فوق المساحات الشاسعة , أنها منطقة غامضة وجذابة وغنية بأساطيرها الحالمة التي تحميها الصخور الملتهبة , والسهول الفضية , ورمال الصحارى التي لا نهاية لها.
الشمس تتصدر السماء الزرقاء الصافية , لترسل أشعتها بدون تردد , فتتوج الأرض بهالة من الجلال والعظمة.
أنها أرض قاسية ترقص فيها الحيوانات قرب الواحات , وتزهو الببغاوات بألوانها المرحة التي تزيدها الشمس روعة وفرحا
فتتمايل زهزا الى جانب الطيور الأخرى التي تغني بسعادة قرب النهر الصغير , حيث تلهو بجعة غافلة بنفسها عن صقر منتصب على تلة قريبة مترصدا فريسته.
وبلاد القناة أو شانيل كانتري ما أقساها في وقت الجفاف , وما أروعها بعد هطول الأمطار , عندما تصبح متوحشة الجمال
وكأنها بعض من الجنو الموعودة , عالم خيالي الألوان , تطرزه الزهور ميلا بعد ميل في لوحة تتألق بألف لون ولون .
حتى الصحراء تحيا حين تحولها الأمطار الى مساحات تزينها زهور الأفاصيا , صحراء ولكنها ليست بصحراء فهي تحتاج للماء فقط رمز الحياة لتولد الحياة والجو بخلوه من الغبار صفاؤه يخدع النظر
ويلهو بزرع السراب هنا , وهناك ساخرا بالأنسان وبعيونه المتعبة , ويركض الهواء مكتويا بنار الشمس , فيقفز كالشعلة ذات البريق الحاد فوق تلال الرمل وبين السهول , ليكبر الحلم , وتترد أنعكاساته في المساحات الفضية التي أكسبتها الشمس بريق المرايا .
أنها أرض السراب , حيث تظهر الأشباح فجأة ,فيطال رأسها السحب , وترتجف الشجيرات الصغيرة تحت أقدامها
ويخرج العمالقة من السهول المرتعشة , فتتباعد واحات المياه السحرية عندما يحاول أحد الأقتراب منها , أنها أرض يحولها الضوء الى وهم.
" يا حبي يا بلادي".
غنت كولبي وأحتوتها سعادة عارمة أحست بها تصل الى حافة الألم , فتحتها أسطورة من البطولة والحرية نسجت خيوطها صورة ناثانيل كينغ
الشاب البريطاني المغامر الذي شق طريقه الى أستراليا من الأرجنتين وباتاغونيا , والى حقول الذهب في بالارات , وبنديغو يشده السحر الخفي النابع من أول معدن ثمين يعرفه الأنسان.
ناثانيل كينغ ... كينغ الأسطورة ,ما من أمة أخرى كانت تستطيع أن تصهر مثل هذا الرجل , ولد في جو مفعم بالحب والأمان والأستقرار , لكن روحه المغامرة التي ترفض القيود والحدود
لم يكن يرضيها ويشدها الا التحدي الموجود في الم جديد لم يروضه الأنسان , ودفعه حسن طالعه الى أرض كوينزلاند في أواخر العام 1880 , أرض أبدية الغموض والخصب , وبلاد غنية بالخيول والمواشي .
هنا أستقر مسلحا بيديه اللتين أرهقهما التعب , وبقبضة من حجارة الذهب , وبزوجة تضاهيه صلابة , وبأصرار على قبول التحدي , ليبني كنغارا التي أحب , ويكون الرائد في تجارة صغار العجول.
وخلال السنوات العشر التالية لحق به أشقاؤه الثلاثة , بعدما أثارتهم رسائله المتفائلة , ووعوده لهم بأرض تفوق بحجمها أي مقاطعة بريطانية . أدوارد كينغ الشقيق الأكبر
أختار مساحات كبيرة من الأراضي في أواسط كينغزلاند , ورسم ماثيو كينغ فلحق بشقيقه في كنغارا ,ليكون ولده رفقا لوريثها سيروس كينغ , الفتى الذي كان يضاهي والده صلابة وعنفونا.
منتديات ليلاس
واليوم تمتد أراضي عائلة كينغ من بلاد القناة , مرورا بأواسط المنطقة , وصولا الى الخليج , وكلهم من أصحاب المواشي , الأبناء يعتقدون بأن آباءهم كانوا أيضا من أصحاب المواشي.
وأنعكست شمس الظهيرة على أجنحة الطائرة ذات المحركين , وهي تغوص أكثر فأكثر داخل المنطقة النائية , أسترق بوب غافين الطيار الشاب , نظرة الى الفتاة الجالسة بقربه
كان هناك شيء أكبر من الأمتار القليلة يفرق بينهما , ففي الدقائق الأخيرة أنطوت الآنسة كولبي في عالم خاص بها تسيطر عليه كنغارا
أخذ يدرس جانب وجهها بأهتمام , رعشة رضى وأسترخاء تهز ذقنها وهي تحال السيطرة على التوتر الذي تفضحه كل حركة في جسمها الرقيق وكسر صوته حاجز الصمت.
" والآن , ما رأيك يا آنسة كينغ؟ هل ما زالت البلاد كما تتذكرينها؟".
وللحظة نظرت اليه كأنها لم تره أبدا في حياتها , ثم أنفرج فمها عن أبتسامة حالمة.
" لم تتغير تقريبا يا سيد غافين , رغم الأعوام الثمانية التي مرت على آخر مرة رأيتك فيها , وطيلة ذلك الوقت كان لدي أحساس غريب بأنني تائهة في أرض لا أنتمي اليها , أما الآن فأنا في أرضي مجددا".