1- رحلة مفاجئة
وأخيرا رحلت آخر رياح آذار ( مارس) وعادت الخضرة لتلوّن أشجار الصفصاف في الساحة الواسعة ذلك الفجر من شهر نيسان ( أبريل).
مزّقت سيارة توزيع الحليب الصمت الصباحي , وأزداد ضجيجها عند المنعطف وكأنها تريد أن توقظ الذين لم تنفع معهم محاولتها الأولى.
وفي غرفة الأستحمام المزدحمة بالمناشف وشراشف السرير والملابس التي تنتظر الغسيل , أنهت جانيت أغتسالها , ثم أرتدت بلوزة خضراء اللون تحت فستان زيتي , وأخيرا أنتعلت حذاء عاديا لامعا.
منتديات ليلاس
ألقت نظرة أخيرة ألى المرآة لوضع بعض الماكياج , ثم أرخت شعرها البني الفاتح على جانبي وجهها مما أبرز جمال عينيها العسليتين وأبتسامتها الساحرة..... لا شك أنها جذابة جدا , لكن لا وقت لديها الآن للتفكير في ذلك .
عليها أن تكسب عيشها وتؤمن نصف أجرة الشقة التي تسكنها أسبوعيا .... المهم أن تذهب ألى العمل لكسب ما يكفي لسداد حاجاتها المعيشية.
ومع أن وظيفتها في وكالة السكرتيرات تدر عليها مبلغا معقولا , وبالرغم من أنها وضعت ميزانية دقيقة لمصاريفها ..... ألا أنها لم تستطع أن توفر الكثير وبالتالي لا تستطيع أن تهمل عملها ولو مؤقتا .
دست فرشاة الشعر في حقيبة يدها بعد أو وضعت اللمسات الأخيرة على تسريحتها ثم توجهت ألى المطبخ , وفي طريقها أصطدمت بفتاة شبه نائمة تتعثر في خطواتها نحو الحمام , وسمعت من بين الركام المناشف وأدوات التجميل والملابس الكثيرة صوتا يقول :
"آسفة أيتها العزيزة , فأنا لم أسمع جرس المنبه".
أبتسمت جانيت لشريكتها في الشقة وقالت:
" لا بأس سأغلي الماء تمهيدا لشرب القهوة".
كانت نونا ذات الشعر الأسود والعينين الزرقاوين في الثانية والعشرين من العمر , تماما مثل جانيت , وقد عرفت الأثنتان بعضهما البعض منذ الطفولة , وعندما تركتا المدرسة جاءتا ألى لندن معا , في البدء سكنتا مع ثلاث صديقات أخريات في شقة كبيرة في منطقة كلابهما الشعبية , ولكن عندما قصرت الفتيات الأخريات عن دفع حصصهن من أجرة الشقة , قررتا الأنتقال والسكن على أنفراد .
أنتقلت جانيت ونونا ألى هذه الشقة في فولهام وهي منطقة شعبية أيضا , وسرعان ما وجدتا أنهما على خير ما يرام أذ أن كلا منهما تقوم بنصيبها من العمل والترتيب المنزلي.
لم تكن الشقة فاخرة , بل هي أقل من عادية , وميزتها الوحيدة أن لها بابها الخاص وقريبة جدا من المواصلات العامة , وهي تتألف من صالة واسعة تطل على الخارج بواسطة سلم حجري صغير , ومن غرفتين تستعملان كغرفتي نوم بالأضافة طبعا ألى الحمام في أحدى الزوايا , والمطبخ وغرفة الطعام الصغيرة في زواية أخرى.
وأنبعث من الحمام صوت نونا يصدح بأغنية ناعمة كدليل على أن صاحبته قد أستيقظت تماما , فأخذت جانيت تتساءل بأرتياح وطيبة عن أسباب فرح صديقتها هذه الأيام , دون أن تتوقف عن تجهيز فناجين القهوة , أذ لم تفتها النظرات الحالمة في عيني نونا منذ أسابيع قليلة , وهي تعرف أيضا أن صديقتها تخرج مع مدير شاب في المخزن الذي تعمل به.
ومع أن جانيت كانت تحسد نونا على حياتها هذه , ألا أنها لم تكن منزعجة , لأن حياتها هي خالية من أية أرتباطات عاطفية , لقد خرجت مع أصدقاء كثيرين , وذهبت ألى العديد من الحفلات ولكنها لم تلتق بعد بالرجل الذي يهز مشاعرها من الأعماق ...... وعلى كل حال , فهي ليست مستعجلة أبدا.
صحيح أنها تعمل بجد وتعب من أجل العيش في لندن , لكنها ليست مجبرة بل أختارت الأمر عن قناعة تامة , أختاها المتزوجتان تعيشان على الشاطىء الأنكليزي الجميل في سافون , وأخوها الثالث المتزوج أيضا يعيش في كامبردج .... ولأن أمها الأرملة تعيش في الخارج , فأن أيا من أخوتها كان سيرحب بها لو أنها أرادت العيش معهم , ولكنها تحب الأستقبال وتريد أن تهتم بنفسها وحدها.... وفي جميع الأحوال , لندن مليئة بفرص العمل.
هيأت فناجين القهوة ووعاء السكر , وبأنتظار غلي الماء , عبرت القاعة بأتجاه الباب الخارجي لأحضار البريد اليومي.
كانت هناك الفواتير المعتادة , فاتورة الهاتف كل ثلاثة أشهر , ومذكرة تشير ألى أن موعد دفع فاتورة الغاز قد حان , وأيضا فاتورة موزع الحليب.
ووسط هذه الرسائل المزعجة , أحست جانيت بفرح طاغ , عندما لمحت رسالة تحمل طابعا أسبانيا والعنوان مكتوب بخط يد والدتها , وكانت هناك أيضا رسالة ألى نونا من أخيها الذي يعمل في سلاح الطيران في كندا.
منتديات ليلاس
حملت جانيت الرسائل بيدها اليسرى , طبعا رسالة أمها فوق الكل , وفتحت الباب لأحضار قنينة الحليب , لم تر جانيت البيوت السوداء المتراصة على طول الشارع , كما لم تحس بلسعة البرد التي لفحت خديها ....... فعقلها كان سارحا مع خيالات تركزت حول سماء زرقاء صافية وبيت أبيض ريفي في مدينة أيبييزا الغافية تحت الشمس الأسبانية.
فأمها التي تحب الشمس , والتي لم يتبق لها شيء في أنكلترا , قررت أن تجعل من الجزيرة مسكنها الدائم , وقد شجعها كل أفراد العائلة على قرارها ,وعندما وجدت الأم البيت الذي يناسب الأرث الذي تركه زوجها قبل وفاته , ذهبت نونا وجانيت الصيف الماضي وساعدتاها على ترتيبه والأستقرار فيه.
وبأستثناء فيللا مجاورة مغلقة بأحكام معظم الوقت , فأن البيت الذي أشترته الأم كان وحيدا في الريف الشاسع , وأستطاعت الأم أن تتدبر شؤونها معتمدة على مدخول صغير مناسب , وكانت سعيدة للغاية في وطنها الجديد , وجانيت سعيدة أيضا لأنها تستطيع أن تتصل هاتفيا بأمها وتطمئن على أحوالها , وظلّت ذكرى ذلك الصيف حية في ذهن جانيت , بحيث ظلت تشعر بالرغبة الدائمة لسماع أخبار الجزيرة في رسائل أمها.