كاتب الموضوع :
hero788
المنتدى :
الادباء والكتاب العرب
خافية قمر على الـ Facebook
محمد ناجى فى "خافية قمر"
يخبز الحكاية الشعبية فى تنور السحر والجمال
الدكتور على الراعى
كتاب "الرواية فى نهاية قرن" ـ دار المستقبل العربى ـ مصر ـ 2000
صحيفة الأهرام ـ مصر ـ 14 يوليو 1996
لا تنتهى من قراءة هذه الرواية البالغة الجمال, حتى يكون سحرها قد شملك من رأسك حتى القدمين.. تدخل عالمها الفاتن فلا تخرج منه أبدا, ولا تريد أن تخرج, تصبح كبطل ابسن فى المسرحية التى تحمل اسمه: "سيرجنت " ذلك الذى اصطرع الواقع مع الخيال فى روحه وقلبه، فأصبح مدخولا فى عقله، لا صبر له على العيش فى دنيا العقلاء.حينما تقترب رواية: "خافية قمر" من النهاية يجلس عبد الحارس مع صديقه ورفيق جنونه الذى يسمى نفسه حفيد الزباء، يجلس الصديقان يتبادلان الود وكئوس الشراب، ويقسم حفيد الزباء لصديقه عبد الحارس انه يصدقه فى كل ما يرويه. لا يصدقه وحسب، بل يرى رأى العين هذا الذى يرويه عبد الحارس: له موهبة خاصة تتيح له هذه القدرة الفذة. وكان عبد الحارس يروى لصديقه حفيد الزباء ما قاله عمه عبد الغفار. كانت الروايات المتداولة على ألسنة قرية "خافية قمر" قد ذهبت إلى أن عبد الغفار قد تسلل ذات مساء إلى خافية قمر، التى تضم امرأة فائقة الجمال اسمها قمر، كان الملك إدريس قد اتخذها زوجة له وهى مجرد راعية فقيرة, فخانته مع عشيق لها. ولما سمع الملك بأمر الخيانة من وزيره: "برهان الحيران" أمر العاصفة ففتكت بالزوجة الخائنة وهى مازالت تتقلب بين ذراعى عشيقها، وأحست قمر نفسها تغوص فى الأرض برفق ولم تدرك ماذا جرى لها حتى أطبقت عليها العتمة وانطبقت الأرض فوقها وهى لا تزال مفرودة الذراعين مرتعشة الساقين، ومن يومها أصبح المكان يسمى "خافية قمر" وطارت الشائعات بأن قمر أصبحت صائدة للرجال، حين يعبرون المكان تناديهم فمن يلتفت إلى ندائها تحل به اللعنة فتنشق الأرض تحت قدميه ويهوى إلى ملكوتها السفلى. هكذا ضاع خلق كثيرون، وكان بينهم عبد الغفار.ولكن عبد الغفار لم يكن قدر وقع فى الخافية. كل ما حدث أنه فى زمن الشباب والجوع قد ذهب إلى الخافية وهو يقول لنفسه:لأجرب حظى معها.. تسلل وحده وجعل ينادى وسط الخافية: "يا قمر يا قمر".. لم يرد عليه أحد، لم تكن هناك امرأة تغويه. كانت الروايات كاذبة، حصيلة الفقر والخوف. هنالك قرر عبد الغفار أن يمضى قدما متقلبا فى بلاد الله، فظنه الناس قد وقع فى أسر قمر، ثم عاد عبد الغفار بعد سنوات التجوال ليكذب الوهم الذى نسجته الأقاويل حول خافية قمر. عاد وأخذ معه الولد عبد الحارس، هذا الولد نسجت عنه الأقاويل انه ابن عبد القهار المجروح، لقب كذلك لأنه جرح فى معركة دارت بين أفراد من قبيلة بنى عبد، قتل فيها اثنان، وجرح عبد القهار هذا جرحا خطيرا فى رئتيه، وجلس فى بيته ينتظر الموت. ولكن الموت لم يأته أبدا، ساعده الأهل ردحا من الزمن ثم ضاقوا بنفقاته فتخلوا عنه، إذ ذاك خلع الطاقية والجلباب الأزرق وارتدى عمامة خضراء، واشتغل بقراءة الطالع ورسم الأحجبة وتفسير الأحلام، فانهالت عليه العطايا وكبر مقامه وسماه الناس "المجروح، وسعوا إلى التبرك به وذاع صيته فى البلاد فأصبح اسمه: "سيدى عبد القهار المجروح " وأقبل عليه أبناء عمومته فزوجوه بناتهم: "حميدة" و"سيدة" و"رقية" و"أسماء".. ولكنه ظل وفيا للمرأة التى عشقها فى شبابه حين حط أهلها الرحل خيامهم فى القرية. فلما ذاع أمر العشق رضى أهلها بأن يزوجوها لعبد القهار، وأصبحت سلمى أقرب زوجاته إليه.. وهى التى ولدت له عبد الحارس.فى الرواية رجل غريب الأطوار اسمه العم غراب العريان، يستر عورته بالخيش ويقول انه رأى كل شئ فى القرية قبل أن يكون فيها أى شئ. لم يكن يسمع إلا صوت الرياح تعزف له مزامير ونقرات دفوف. ويشب على أصابع قدميه ليحدد من أين يأتى الصوت. ثم كانت البداية، خيل إليه انه يراه يأتى فى الريح وخلفه جنده ورجاله، يدوسون فتكون أرض تحت أقدامهم. ظلوا يعبرون جموعا وراء أخرى "وهو" حاضر وسط المشهد كأنه يمشى ولا يمشى، وظل حاضرا حتى ملأ المشهد كله، ثم جاء رجال رآهم غراب يصعدون إلى الأعالى على حبال من حرير، يعلقون المصابيح، ويلونون السماوات ويرسمون فى آفاقها العصافير: خضراء وزرقاء وصفراء. من هو ذلك الحاضر الذى يمشى ولا يمشى؟ لا تقول لنا الرواية شيئا، وتتركنا لظنوننا. ولكن غراب يؤكد لجموع الأولاد الذين تحلقوا حوله: هذا الولد أيضا رأيته هناك.عبد الحارس ـ إذن ـ لا يمكن أن يكون ابن سلمى والمجروح.. ابن من إذن؟حينما ينقل إلى المجروح فى قعدته التى لا يقوم منها أن سلمى قد ضبطت مع عشيق لها فوق سطح الدار، طلب أن تحضر سلمى إليه فتدافع هذه عن نفسها قائلة: "كيف يتسنى للمجروح أن ينجب منها وهو العليل العاجز؟.. هنالك يفصح المجروح عن سر لا يبوح به أبدا, وهو سر الجرح. مسح على جبين عبد الحارس، ودس يده فى الجرح وأخرجها مبللة بالدم فمسح بها على وجه الولد، وقال: والله ما حملت به هذه المرأة ولا ولدته وإنما حملته أنا وولدته من جرحى هذا، فأنا أمه وأبوه، دفعته إليها فأرضعته، وها أنذا أشهدكم أنه ابنى من جرحى!ثم صاح المجروح: اصرفوا المرأة عنى، فإنى لا أملك من أمرها شيئا، ثم التوى لسانه فلم ينطق إلى الأبد إلا من تمتمة قال العارفون بحالات الأولياء أنها قالت: بهذا تمت المشيئة!إذ ذاك نذكر ما جرى لقمر فى علاقتها مع الملك إدريس البكاء، خانته قمر أيضا فعصف بها وهو يقول: لتكن المشيئة، لتكن المشيئة.. نذكر كذلك أن عبد الحارس قال لجمع السكارى المتندرين به، إن أباه اسمه إدريس البكّاء وانه قال أيضا إن المجروح هو أبوه كذلك. ثم جاء عبد الغفار فقال لأهل القرية أن الولد من بنى عبد، ونهرهم حين كرروا أن عبد الحارس قد ولد من جرح عبد القهار.يأخذ الضباب ينقشع قرب نهاية "خافية قمر" ينشد عازف الربابة ما يراه الحكاية الحقيقية للملك إدريس وزوجته قمر.. نفث الوزير برهان الحيران سموم الظن فى روح الملك، وطير غراب الشك فى قلبه، أحست قمر بما يدبر لها فقالت: "لو كان خوفى على نفسى ما همنى.. ولكن خوفى على ساكن بطنى".ثم هربت من القصر متنكرة، وجرت فى الخلاء حتى تعبت فمسحت ظهر الأرض بكفيها وقالت: يا أرض يا خافية انشقى وابلعينى.. اخفينى عن عدوى حتى يكتمل حملى، ولانت لها الأرض حتى سترتها وغابت سنوات فى جوفها حتى ولدت ابنها الحارس. ثم دار الزمان دورته وهجر الملك إدريس العرش وهام على وجهه فى البلاد يبكى على ما فعله بأطهر النساء، وبكى بالدم بعد الدمع على قمر وابنها الحارس، وقعد على ضفاف أرض اسمها الروضة تحت صفصافة، فسماه الناس: إدريس البكاء ولما عرفوا قلبه النازف سموه أيضا "المجروح"ثم مر بعض العربان بقمر فقالوا لها: ما أجمل وليدك. . فقالت لهم: خذونى معكم فقالوا: قومى فسيرى معنا فى البلاد وسموها سلمى. فلما نزل العربان بالروضة رأت قمر إدريس البكاء وكشف لها عن جرح قلبه، فأرته خلخالها الفضى, فعرفها وعرفته وضمها إلى حضنه وبينهما وليدهما الحارس، وقال لها: الآن اكتمى أمرنا عن الناس واصبرى حتى يكمل الزمان دورته ويعود أواننا.يبقى فى الرواية لغز سلمى.. امرأتان ـ فى الواقع ـ تحملان اسم سلمى.. سلمى بنت العربان التى خانت المجروح فنفاها إلى الصحراء، وطاردتها زوجات المجروح بالحجارة حتى اختفت فى العتمة، ثم رآها برعى، صديق عبد الحارس وملاعبه، مدفونة فى الصحراء وقد غار أحد فخذيها فى الأرض واندفع الفخذ الآخر إلى الأمام متعامدا على الجسد، رآها الجميع بعد ذلك. كانت مجرد عظام رأس عليه آثار جلد وشعر، وقد طمرت الريح مكان العينين بالتراب، وكانت فى الوضع ذاته الذى تقدمت الإشارة إليه، وفى نهاية الساق استطاع عبد الحارس أن يميز بوضوح خلخالها الفضى، قال لصديقه برعى: أنه خلخالها. . خلخال سلمى بنت العربان.
سلمى بنت العربان هذه تتخذ موقفا عدائيا من غراب العريان، لأنه يعرف كل شئ، يعرف أن المجروح هو إدريس البكاء، وينادى فى مرقد المجروح: السماح يا ملك المكان.. السماح يا إدريس الزمان.. قبس المجروح من تراب الأرض وقال لسلمى: ناوليه لغراب.. فذرته فى اثر الرجل وهى تقول: ابعد يا غراب. شمالك أمامك وشرقك يمينك وغربك على يسارك وأنا جنوبى تحت أقدامى، يزحف وراءك نهرى كما الحية، أسقيك إذا رضيت وألدغك إذا عصيت. ثم مسحت على راحة المجروح، فقلب نظره فى الآفاق وناداها من جوفه: استرى نفسك بالظل يا بنت العربان. وذهب غراب العريان إلى حيث تسبح زوجات المجروح لاهيات، ضاحكات، وبينهن سلمى شاحبة تتطوح، فنظر إليها طويلا وقلب وجهه فى السماوات وصاح: السماح يا سيدة المكان.. السماح يا قمر الزمان.. فأخذت سلمى تعض بأصابعها على الماء!
أما سلمى الأخرى فهى قمر، خلع عليها العربان هذا الاسم، وسارت به إلى حيث التقت بإدريس البكاء فعرفها وعرفته.السحر الذى تنفثه الرواية طال عبد الغفار بعد أن كان أعلن فى وضوح أن قمر ليس لها ولا لخافيتها وجود، ما لبث أن تحول إلى الجانب المضاد تماما، لفته الأسطورة حولها وجعلته يؤمن بأن قمر لابد أن تخرج له يوما فتلقى نفسها بين أحضانه. وإلا فما معنى الأصوات التى سمعها عبد الحارس وأصحابه، وسمعها هو نفسه فيما بعد ولم ينتبه إليها. ولما أخذ ينتبه كان الصوت قد اختفى.. آمن عبد الغفار بأن قمر ستكسر أبواب الطين وتخرج لتبحث عنه، بهذا تكتمل الأسطورة وينشر سحرها شذاه على الناس جميعا.. على عبد الحارس الذى يؤمن إيمانا لا يتزعزع بأنه ملك، سليل ملكين هما إدريس والمجروح، وقد رأينا أنهما شخص واحد. ويطال السحر أيضا صديق عبد الحارس: حفيد الزباء، الذى يقرر فى نهاية الرواية أن ينتحر احتجاجا على قماءة الحياة، ثم تأخذه الشفقة بصديقه عبد الحارس، فيبلغ عنه أطباء الأمراض العقلية يأخذونه إلى المستشفى حيث الملاذ الوحيد المتاح لأمثاله من المجانين..أجل.. فإن ما تحكيه هذه الرواية الفاتنة هو خيال جميل نفاذ، نستمتع به، ولا حرج علينا إن لم نفهم بعضه. إن قيمته الحقيقية هى أنه احتجاج على الواقع المر الذى تحاول الرواية أن تهرب منه إلى أحضان الجمال المتنوع الألوان.. أحضان الموال الشعبى الذى يردده عبد المولى، وأحضان أغانى الأطفال المعروفة والمطورة: "أنا الغراب النوحى" وأحضان الخيال الجامح الذى يتجلى فى أجمل صورة فى العلاقة التى تقوم بين عبد الغفار والمشاعلى، الذى يريد أن يملأ الظلام نورا ينافس نور النجوم بفوانيسه الملونة، يقول عبد الغفار للمشاعلى: أنه يصارع أصوات الذئاب طول الليل حتى تطلع الشمس، لا شئ يسكت الذئاب إلا الشمس فيرد المشاعلى: لو تريد الشمس، أطلعها لك الآن.. ثم يمضى المشاعلى ليحول ظلمة الليل إلى شمس النهار الوهاجة، يطوح صفيحة النفط بقوة فيشمل النفط الساحة، ويشعل النار ثم يقول وهو مخدر: انظر.. إنها الشمس.
العلاقة الإنسانية الدافئة التى تقوم بين الاثنين تشبه تلك التى تقوم بين عبد الحارس وحفيد الزباء فى آخر الرواية.. وهى غير بعيدة من تلك التى تنشأ بين الفقيه الأعمى شاهين وصاحبته أم اليسر، التى كانت تطعمه القطط على أنها أرانب، فيسخط عليها بعض الوقت ليعود إليها آسفا، نادما، ثم يمشى فى جنازتها من بعد ويتلو عليها القرآن.يضاف إلى هذا كله ما ينفثه محمد ناجى من شعر جميل مثل: "شمس الغد خبزت شمس اليوم.. ودحرجت رغيفها المستدير فى تنور النهار.. الرغيف تدحرج حتى سقط فى نار الشفق.. واحترقت شمس اليوم.. يا شمس الغد، اخبزى لنا شمسا جديدة ليوم جديد" ..هذه الرواية الفائقة الحسن قد صنعت من مادة الأحلام ورضعت لبان الخيال واستوت أمامنا خلقا فنيا جميلا نسعد به ونعلى فى تقديره من شأن مبدعه محمد ناجى.. أستاذ الفن الجميل
http://hi-in.facebook.com/topic.php?uid=111239761969&topic=11083
|