2- التحدي
مكثت جاكلين في الحمام عشر دقائق حاولت أثناءها أن تهدىء من روعها , بدا وجهها شاحبا , فلا عجب في ذلك بعد تلك الرحلة الشاقة , والأستقبال السيء الذي لاقته , رفعت شعرها الى الأعلى مبعدة بعض الخصلات عن عنقها , كي تحافظ علىبرودتها , ثم غسلت وجهها , فالرطوبة مزعجة في شهر آذار مما يجعل الجو لا يطاق , وعلى الرغم من هذا أنها ما زالت تحب أفريقيا , وكثيرا ما حلمت بالعودة اليها لأنها أمضت فيها ثلاث سنوات دراسية كاملة , ما من شيء محدد على وجه الدقة يشدها الى غانا , لكنه حنن ممزوج بأشياء كثيرة , أنها حرة وآمنة في شوارع غانا حتى ولو كانت وحدها , وأهل غانا ذو سمعة حسنة, أنها تحب نفسية نسائهم المرحة , يعيشون بسعادة ومرح على الرغم من ظروف حياتهم الفقيرة القاسية , كانت جاكلين تتمنى من أعماقها أن تعود الى أفريقيا , وأن تخدمها بشيء له أهمية , فمن أين ظهر لها هذا الشاب المدعو سيمونز الذي يحاول أن يحطم آمالها ؟ نظرت مرة أخرى الى المرآة , ثم شدت كتفيها مصممة ألا تدعه يفعل, ستبقى في أفريقيا , وستقوم بعملها دون أن تأبه لرأيه , فتحت بيشنس باب الحمام , ونظرت الى جاكلين بحياء وقالت:
" أن السيد سيمونز يريدك".
ضحكت جاكلين في سرها ,أن السيد سيمونز لا يريدها ,ولكنه مرغم على ذلك شاء أم أبى.
دخلت جاكلين المكتب , رأسها مرفوع , ونظراتها باردة ومتجاهلة نظرات ماتيو اليها ,جلست وقالت:
" يا سيد سيمونز أريد أن أعرف أين سأمكث , كي أستقر وأباشر عملي , فقد أخبروني أنك تهتم بأمور السكن ".
" هذا ما أردت أن أحدثك بشأنه, فلدينا مشكلة".
" ما هي؟".
منتديات ليلاس
" أن ميزانية أجور السكن لا تسمح هذه الأيام بأيجاد سكن ملائم , وخاصة بعد أرتفاع أجرة المنازل للضعف والضعفين وذلك لعدم توفرها ".
كانت نظراته تنم عن تحد , وحقد وتأملات ثم أردف:
" وبمعنى آخر لن تجدي سكنا مناسبا , هل هذا مفهوم؟".
" نعم مفهوم".
"أذا كان هذا الشاب يستفزني ليثير جنوني , فعليه أن ينتظر مدة أطول ".
سألته:
" أذن وماذا تقترح؟".
" الحقيقة أود لو أعيدك الى وطنك على متن الطائرة التالية".
" لن تستطيع طردي , ألا أذا أخفقت بأداء عملي على الوجه اللائق , وأنني أخطط أن أقوم به بشكل يفوق الأتقان".
" أذن سأمنحك فرصة لنرى أمكاناتك يا آنسة دونلي ما دمت هنا , ومصممة على العمل معي , ولكنني أحذرك , عليك أن تتقني عملك فليس لدي الوقت لأهدره , ولا الرغبة في تدريبك ... أنني بحاجة للمساعدة , فأن لم تتمكني من ذلك , فسأطردك وليذهب جينكنز الى الجحيم".
تجاهلت جاكلين تهديده وعادت لتسأله:
" وماذا عن المسكن؟".
تنهد وسكت لبرهة ثم قال:
" يمكنك أن تشغلي جناح الضيوف في منزلي أذا وافقت على ذلك ... أنه قسم مستقل عن المنزل , وله مدخل خاص , وغرفة نوم وغرفة أستقبال وحمام , أما المطبخ فستشاركينني أياه".
" هل لدي مجال للأختير؟".
" كلا , ألا أذا دفعت ثلاثمئة وخمسين من مالك الخاص , وهذا المبلغ كبير بالنسبة لما تتقاضينه".
طبعا أنها لا تستطيع دفع ذلك المبلغ , ولكن كيف ستعيش في المكان نفسه , ومع رجل تكرهه , ليس باليد حيلة الآن , أجابته:
" لا أعلم بالضبط ماذا أفعل , دعني أرى المنزل".
كان المنزل قريبا من المكتب , عبارة عن فيللا ذات شرف واسعة , محاطة بحديقة بحاجة الى عناية , أما أرضية الغرف فكانت من الخشب , والمراوح تتدلى من السقف , وجميع النوافذ محاطة بمناخل واقية من الحشرات الطائرة.
" هذا هو مسكنك ".
قال لها سيمونز , وهو يفت باب غرفة الجلوس والطعام.
وجدت جاكلين نفسها في غرفة صغيرة ذات أبواب زجاجية تفتح على الشرفة , شاهدت غرفة النوم والحمام , فوجدتهما مقبولين على الرغم من صغر المساحة ,تابع سيمونز قائلا:
" لم يستعمل هذا القسم على الأطلاق , أستعملت أحدى غرف النوم في المنزل من أجل الضيوف... ".
وفتح النوافذ, فأمتزج النسيم مع رائحة الغرف المفعمة بالعفن.
"أن المنزل بحاجة لبعض التحسينات".
هذا واضح يجب أن نبدأ بعملية الدهان أولا , أن حالة المنزل سيئة , ولهذا أستأجرته بثمن زهيد , كان عليك أن تري المطبخ قبل أصلاحه".
ثم أقترب منها , ونظر اليها بتحد وقال:
" ماذا قررت؟".
" حسنا لا بأس به , أن كل ما أريده , أن يكون لي مكان خاص بي".
" سأريك المطبخ وأعرفك على كويسي".
بدا كويسي كلاعب ملاكمة أكثر منه كخادم , كان يحرك الحساء في وعاء على النار , وما أن أرى جاكلين حتى حياها بضحكة ودية عريضة , ومد يده مصافحا:
" أهلا وسهلا".
غدت أبتسامة كويسي أعمق بينما كان ماتيو ينظر اليها بتهكم بالغ وتابع:
" يجب أن تتعلمي لغة البلاد مع العلم أن اللغة الرسمية هي الأنكليزية ".
تجاهلت جاكلين تعليقه ونظرت الى الوعاء , فوجدت حساء النخيل ممزوجا بالبهارات وبينما كان ماتيو يقود جاكلين خارج المطبخ الى الغرفة الرئيسية قال:
" أن كويسي يقوم بطهي الطعام وتنظيف المنزل , أنني أعطيه النقود وهو يقرر ما يطعمني , أنه يطبخ كأهل غانا , وأذا أردت أن تعلميه الطبخ على طراز آخر فيا حبذا".
حمل كويسي حقائب جاكلين الى غرفة الجلوس فتبعاه , أشار سيمونز الى حفرة في الجدار وقال:
" آسف , أن جهاز التكييف لا يعمل , وعندما يتم أصلاحه بأمكانك وضعه في غرفة النوم ,لكن هذا سيستغرق وقتا طويلا كالعادة هنا , ليس لدي مكيف آخر لتقديمه لك , لأن الثاني يتم أصلاحه أيضا".
علت وجهه مسحة من الأحباط , بينما عضت جاكلين شفتها , لتكبح جماح الضحك , وأذا كان ماتيو نفسه لا يتحمل ظروف الحياة القاسية في أفريقيا ,فكيف بجاكلين وهي أمرأة؟
لن يغيب عن مخيلته أفتقارهم للسكر , ولعجلات السيارات , وقطع التبديل بمختلف أنواعها أو أختفاء سفن الشحن التي وصلت ال شنغهاي أو التي بقيت في الميناء لعدة أشهر , لن يستطيع كل غربي أن يتلائم مع هذا النوع من الأحباط.
" علي أن أعود بسرعة الى المكتب , فلدي موعد , سأعود بعد ساعة لأتناول الغداء , فألى اللقاء".
جلست جاكلين على السرير محتارة في أمرها ,هل تفك أمتعتها , أم تنتظر لتنتقل الى منزلها , ستلقي نظرة أخرى على المكان , خرجت من الغرفة , فوجدت كويسي في طريقها فسألها:
" هل تريدين قهوة أم ماء معدنيا؟".
" أي شيء بارد من فضلك , ماء".
" أننا لا نغلي الماء هنا يا سيدتي".
" حسنا يا كويسي , أن ماء أكرا نظيف".
" هذا ما يظنه سيدي , ولكن السيدة تغليه لمدة خمسة عشرة دقيقة ".
لم تعلم جاكلين فيما أذا كان ماتيو سيمونز متزوجا أم لا , فسألت كويسي:
" هل تقصد السيدة سيمونز؟".
هز كويسي كتفيه وقال:
" لا أعلم أن كانت زوجته أو لا".
أذا كان ماتيو سيمونز متزوجا , فماذا ستظن زوجته بها , أذا وجدتها تقطن غرف الضيوف؟
" أليست السيدة سيمونز هنا؟".
هز كويسي رأسه وأجاب:
" لا أنها في الولايات المتحدة على ما أعتقد".
لم ترغب جاكلين أن تسأل كويسي أية أسئلة أخرى , ستكتشف ذلك بنفسها , لا , لن تمكث في هذا المنزل فربما أعترضت سيدة المنزل على وجودها.
أخذت جاكلين كأس الماء من كويسي , وألقت نظرة حذرة على المنزل , سيحسن الدهان وضع المنزل ,ويجب أن تبدل الناموسيات , ولكنها شعرت بالراحة عندما وجدت مياه الحمام تجري , ولفت أنتباهها سرب من النمل , فالحشرات موجودة في كل مكان حتى في هذا الحمام المهمل , حشرات صغيرة لا تؤذي أحدا , ولكنها تجتمع أسرابا أذا شعرت بوجود ذرة خبز صغيرة ,لم تستطع والدة جاكلين التخلص من هذه الحشرات على الرغم من أستعمالها الكثير من المبيدات , بدت الأرض الخشبية مهملة تماما , لا بأس سيتصلح الأمر بقليل من الشمع , سرت جاكلين بمنظر الشرفة أذ أزدانت بنبات البوغنفيليه الأميركي المتعرش ببراعمه الحمراء والصفراء , وألقت نظرة على الديقة الخلفية , فرأت نبات الموز الطويل , ونخيل جوز الهند الضخم موزعا على نحو غريب , والى اليمين رأت منزل الخدم المغطى بنبات البوغنفليه , ستصبح الشرفة ملائمة للجلوس بقليل من النباتات والكراسي الجدد.
عاد ماتيو سيمونز بعد ساعة , فتناولا طعام الغداء المكون من البيض وشرائح الأناناس.
أرتبكت جاكلين وقالت:
" أنه لطف كبير منك يا سيد سيمونز أن تدعوني للسكن هنا , ولكن ما رأي السيدة في مشاركتي هذا المنزل! أعني هل توافق على أقامتي هنا , وعلى مشاركتي لها المطبخ".
أجاب ماتيو سيمونز ببساطة:
" تقصدين دايانا, أنها ليست زوجتي".
وضعت جاكلين في فمها قطعة أناناس , ورفعت رأسها لتجده ينظر أليها قائلا:
" قد تظنين أنك شخص صلب... ولكني أريد أن احذرك , أن الأقامة في هذا البلد , تحتاج الى مزيد من القدرة على التحمل , أياك أن تظني أنك أتيت الى هنا لقضاء أجازة".
ثم دفع كرسيه الى الخلف , ونهض , فتبعته جاكلين وقالت بنبرة ملؤها التصميم:
" لم أحضر الى هنا لقضاء أجازة".
" ليتك لم تأتي , أذ ليك التكيف مع عمل صعب وظروف قاسية, وهذا ما لا أتوقعه منك , أو من أية خريجة جديدة".
أزعجها تهديده , فنظرت الى عينيه بضراوة , أنه يقيّمها كشقراء غبية قصيرة , تمنت في تلك اللحظة أن تكون سمراء طويلة , وأن يتناسب شكلها مع عمرها , كيلا تضطر أن تحترم هذا المغرور العملاق والمتحيز للرجال , وتابعت بثبات وبرود:
" أن ثقتك بي تسحقني".
ألتقت عيونهما لبرهة , فأبتسم وهو ينظر اليها , فلاحظت أن الأبتسا مة قد أضفت رقة على وجهه , حتى ظنت أنها تنظر
الى رجل غيره وقال مجيبا:
" طبعا , قلما أخطأ حدسي ".
" تماما".
أجابت وهي تبتسم بدورها , قاد ماتيو سيمونز جاكلين الى المكتب لتتعرف على بقية الأعضاء فيه , تعرفت على بيشنسي سكرتيرة الأستقبال , ثم على سامسون مراسل المكتب , كان سامسون يافعا ونحيلا جدا , يرتدي سروالا ضيقا وقميصا مفصلا , حاول أن يشعرها بأهميته عندما صافحها , ولكن تكشيرته الرخيصة أفسدت الموقف.
" أن سامسون شاب طيب , يريد أن يؤثر في الناس لكنه لا يعرف كيف يحقق ذلك".
ضحكت جاكلين معلقة:
" لاحظت ذلك".
عرفها ماتيو سيمونز أيضا على المحاسب السيد أسانتي , كان أسانتي رجلا متقدما في السن قصيرا , ذا شعر رمادي عند الصدغين , يضع نظارة سوداء أعطته طابع الرجل الأفريقي العجوز المصور في قصص الأطفال.
" أما أوفاري ولواني غير موجودين الآن ,ويعملان كمساعدين للمدراء في المشاريع , ويأتيان للمدينة مرة أو مرتين في الأسبوع , ستقابلينهما فيما بعد ثم قرع بابا آخر ودخل قائلا:
" هذا هو ستيفن , ساعدي اليمين في المسائل الزراعية , أنظر يا ستيفن هذه هي المفاجأة التي قدمها لنا الرئيس : جاكلين دونلي , مساعدتنا الأدارية الجديدة".
علق ستيفن قائلا:
" أهلا وسهلا, أنني سعيد بلقائك , وأتمنى أن نكون أصدقاء حتى ولو شاهدت تقارير النفقات التي أجريها".
تأوه ماتيو سيمونز قائلا:
" أن تقاريره مروعة , فهو على علم بكل ما يتعلق بالماعز ,ولكنه لا يستطيع أن يضيف حقلا من الأرقام مرتين بالطريقة نفسها".
عبس ستيفن لهذا التعليق ونظر الى جاكلين قائلا:
" أنه لا يحبني ,ولكنه لا يستطيع الأستغناء عني , ولهذا فأنه يطعنني ".
أجابته جاكلين ضاحكة:
" لقد سمعت ذلك".
وتكرت مديح جينكنز لستيفن وقالت:
" ولكنك يا سيد ستيفن تتمتع بسمعة حسنة طولا وعرضا ,وسمعتك تملأ الدنيا".
رفع ماتيو نظره نحو السماء بخيبة أمل وقال متسائلا:
" لم تقولين هذا يا جاكلين؟ ... كفاه أعتدادا بنفسه".
ثم قادها خارج الغرفة , وهما يسمعان قهقهة ستيفن العالية تملأ الرواق.
" يبدو أن ستيفن شخص لطيف".
" من الدرجة الأولى وفي كل المجالات , وعامل مجد أيضا".
" لقد أخبرني جينكنز بذلك ".
رماها بنظرة مفعمة بالتهكم قائلا:
"لن أسألك ماذا أخبرك عني...".
" خرافات ليس ألا خرافات.".
رفع أحد حاجبيه وقال:
" أهذا كل ما في الأمر؟ أنني أتساءل لماذا فعل ذلك".
ضحكت جاكلين وقالت:
" لأن الحقيقة مؤلمة أحيانا , ومحفوفة بالمخاطر".
" محفوفة بالمخاطر؟".
" أجل لو أنهم قالوا الحقيقة , لما وجدوا من يجرؤ على القدوم الى هنا ,ولو كانت خريجة جديدة غبية مثلي".
" أنه لمن المسيء جدا أنك تصدقين القصص الخيالية".
كان ماتيو سيمونز مشغولا , فغاب عن المكتب طوال فترة بعد الظهر , تحدثت جاكلين قليلا مع بيشنس أذ أصبحت مسؤولة عن تنظيم أعمالها وفقا لعملها الجديد , شغل مكتب جاكلين الصغير جزءا من صالة الأستقبال التي أتسعت أيضا لمقاعد الموظفين , بدت الغرفة بدهانها الأخضر الفاتح , وستائرها ذات الألوان الباهتة المطبعة على الطراز الأفريقي حقيرة ومتسخة , وضعت جاكلين كرسيها مقابل النافذة علها تبتهج بمنظر الورود , كما أدخل سامسون الى الغرفة صندوق كتب خشبي , ومروحة , وكرسيا مما ساعد على تنسيق الغرفة قبل أن تكتسب هي نفسها أوصاف الغرفة من غبار , وتلف , وذبول , تفحصت جاكلين المكتب , فوجدت أكداسا من الموضوعات الزراعية المنوعة المهملة , فقررت أعادة تنسيقها لأن بيشنس لا تستطيع القيام بهذه المهمة , وبمزيد من الجد والنشاط والتصميم , باشرت جاكلين عملها لتثبت فعاليتها ووجودها , وسرعان ما راودت جاكلين بعض الأفكار المزعجة:
" ترى هل هي فعلا تتحدى صعوبات العمل الجديد , أم أنها تتحدى ماثيو سيمونز نفسه؟".
منتديات ليلاس
وفي الأمسية نفسها تناولا العشاء معا , وبدا سيمونز مسرورا عندما قدمت له جاكلين حساء النخيل ,وقطع لسان الجدي المقلية.
" أنتبهي أنها حارة جدا أذ أن كويسي يكثر من الفلفل الأحمر".
" سأنتبه , حاضر يا سيد سيمونز".
" لا داعي أن تناديني بهذه الصفة الرسمية , ما رأيك بماتيو فقط؟".
" سأجرب , أن كنت مصرا على هذا".
" نعم أنني مصر على ذلك يا جاكي".
أنزعجت جاكلين وأجابته بحدة:
" جاكلين من فضلك".
أنها لن تسمح لهذا المغرور الغريب أن يناديها جاكي كما يفعل أصدقاؤها.
" جاكلين أليس كذلك؟".
أحرق الطعام بلعومها , ولكنها كانت معتادة على ذلك , وتظاهرت بأنها لم تشعر بماتيو وهو يراقبها أثناء الطعام , كانت تحب طعام غانا الحار عندما كانت صغيرة , ولما كانت طالبة في المدرسة الدولية , كثيرا ما كانت تشتري مع صديقاتها قطع اللحم من الحوانيت الموجودة على قارعة الطريق , لقد ذاقت كل أنواع الطعام بما فيه الأفاعي ,مما جعل والدتها تموت فزعا فلربما ألتقطت جاكلين بعض الجراثيم التي تسبب الديزانتريا وتؤدي للموت , ولحسن الحظ لم يصب جاكلين أي ضرر حتى ولو كان عسر هضم خفيف ,كان ينظر اليها عندما أنهت طعامها وقالت بلهجة دفاعية:
" يا له من طام لذيذ , لقد أستمتعت به".
" ستندمين غدا على ما أكلته الآن لأنه سيسبب لك بعض الضيق".
" لا تقلق فلدي معدة كالحديد".
" أذن أنت صلبة من جميع النواحي".
هزت جاكلين رأسها مجيبة:
" من يدري , ربما كنت أصلب كي أتلاءم مع غانا".
أستاءت جاكلين من العداء الذي أخذ ينمو في أعماقها , لم ترغب أن تكون الخلافات الشخصية بداية للعلاقة بينهما ,وكأنه قرأ أفكارها سألها:
" هل هناك من شيء؟".
" لا , أشعر بتعب , وسأنام باكرا".
وفي صباح اليوم التالي , أستبقظت جاكلين على صوت الدجاج والبط , بدا ما حولها غريبا للوهلة الأولى , ولكن شعورها الضئيل بالألفة أتجاه هذه الأصوات الغريبة , جعلها تدرك أنها ليست في عالم جديد , كما أن ضوء النهار الوهاج في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح أدهشها , حركت المروحة الهواء الداخلي الممزوج بالرطوبة والحر محاولة أن تلطف جو الغرفة ما أمكن , تذكرت أنها في غانا , فأعترتها موجة من الفرح والسرور .
جلست في الغرفة تنظر الى الستائر المتمايلة مع النسيم , فسمعت صوت أحدى النساء تتكلم لغة لم تفهمها , فنهضت ونظرت من النافذة , رأت فتاة صغيرة تملأ دلوها من صنبوبر الماء قرب جناح الخدم , وفي ظل شجرة المانغا جلست أمرأة عارية الأكتاف , مغطاة بقمش ملون من صدرها الى أخمص قدميها , تحرك طعاما وضعته على موقد الفحم , والى جانبها طفل عار يزحف وسط الأقدار الحمراء , ويلعب بثمرة المانغا القاسية , هذه عائلة كويسي على ما أظن , بكى الطفل فتركت أمه عملها ,ووضعته في حضنها , ثم أخرجت ثديها , فجذبه الطفل بيديه الصغيرتين ,وبدأ ينهل من لبنها.
راقبت جاكلين هذا المشهد لمدة , ثم أبتعدت عن النافذة والسعادة تغمرها لأنها عادت الى غانا , كم كانت سعيدة وهي تستقبل هذا اليوم , أستحمت وأرتدت قميصا قطنيا وصندلا من الجلد , رفعت شعرها الى الأعلى , ونظرا لشدة الحر , فكرت في أن تجعله قصيرا قبل مجيئها ,ولكن الشجاعة خذلتها أذ سيستغرق بعدئذ أعواما ليعود طويلا.
وجدت جاكلين كويسي في المطبخ يحضر طعام الأفطار , فحيته تحية الصباح وسألته:
" هل الطفل الصغير والفتاةمن عائلتك؟".
أجابها بفخر وأعتزاز:
" نعم , ولدي ولد آخر يعيش في القرية مع جدته لأمه".
" أين قريتك؟".
" في مانكسيم أنها على الطريق الى ساحل الكيب".
دردشت جاكلين معه قليلا ليجهز وجبة الأفطار , خرجت الى الشرفة التي أضفت على الغرفة نورا , وتساءلت وهي تنظر الى الجذوع الخضراء الضخمة , أن كان هناك بستاني يعتني با لحديقة أم لا... يجب أن تشذب هذه الأشجار , وسرعان ما
خطف بصرها حركة تمساحين صغيرين يتسابقان عبر الشرفة , ويقفزان تحت الجذوع.
" تماما كالغابة أليس كذلك؟ ".
همس ماتيو من خلفها , كان أنيقا مرتديا قميصا أبيض وبنطالا فضفاضا.
" الى حد ما , لكنني أحب النباتات الخضراء".
" حسنا لن تفتقدي هذا , فالبستاني هنا يعتني بالحديقة مرة أو مرتين في الأسبوع , ولكنه غائب منذ شهر , كان عليه أن يعود لقريته لأن جده مريض ,ولا أحد يعلم متى يعود".
" يوجد هنا الكثير من أشجار الموز".
" نعم... ولكن أحذري أن تأكلي من تلك الأشجار على الضفاف , فتلك ليست بأشجار الموز".
كانت تلك الأشجار فعلا شبيهة بالموز , فأن لم تكن كذلك , فلا بد أن لها أسما آخر.
" أنها موز الجنة ".
قالت بلهجة أيجابية خالية من الأستفهام.
فسألها ونظراته تفضح دهشته الكبيرة:
" وكيف عرفت ذلك؟".
هزت كتفيها وقالت:
" أعلم أشياء كثيرة أخرى".
" نعم هذا صحيح!".
" ألا يجب أن أعلم؟ لقد تخرجت لتوي من الكلية".
ثم دخلت لتساعد كويسب تاركة أياه وحيدا على الشرفة , كان ماتيو باردا ومهذبا أثناء تناول وجبة الأفطار ,وما أن أنهيا طعامهما , حتى غادرا المنزل الى المكتب في تمام الساعة السابعة.
" من الأفضل أن نبدأ عملنا باكرا , فلدي الكثير , وعليّ أن أحدد أعمالك وأنظمها ".
لم تدرك في اليوم السابق أن مكتبه كغرفتها بالية وتالفة ,والعمال ضجرون من مكيف الهواء الذي لا يعمل.
حدثها ماتيو كأي رجل أعمال آخر , أراها تقارير ولوائح وملفات , شارحا الأعمال الداخلية للمكتب.
" أنت مسؤولة يا جاكلين عن هيئة النسخ وسيعمل معك بيشنس وسامسونكما أخبرتك أمس , ستهتمين أيضا بجدول الرواتب والحسابات , والتقارير المالية, فعليك أن تتبعي خطة معينة لذلك".
" نعم , أدرك هذا ".
أجابته وهي تنظر الى الأوراق المكدسة أمامه.
" ليس لدي وقت , ولا أحب معاقبة أحد , أما المصنفات فعليك الأهتمام بها أيضا".
" أخبرتني بيشنس أنها تهتم بالمصنفات لهذا سأطلب منها مساعدتي لأراهم".
" نعم , أنها تعلم موضع كل ورقة , وتجدها أينما صنفت , ولا أحد غيرها يستطيع ذلك".
" وماذا عن السيارات ؟ أخبروني أنها تحتاج لجهد كبير كي تصلح للأستعمال".
" أنني مسرور أن ألقي على عاتقك هذه المهمة أيضا , فلدينا نقص في القطع , كما أن القطع الموجودة ليست مثبتة بشكل جيد مما يجعل السيارة تتعطل دوما في أماكن غير مناسبة".
تداولا في جميع الأحاديث الخاصة بالعمل , من الصناعة المصرفية والأعمال الزراعية الى تصليح السيارات , وما أن حان وقت الغداء , حتى شعرت جاكلين بأرهاق عام , وأحست أنها لا تستطيع هضم المعلومات جميعها في لحظة واحدة , وفي البيت , تناولا طعام الغداء المعد من شطائر السمك وسلطة الفاكهة , شعرت جاكلين أنها لا تقوى حتى على مضغ الطعام , كان الجو شديد الرطوبة أشبه بحمام بخار على الطراز التركي , حتى أنها شعرت بعرقها يتصبب في ظهرها ... أنسدلت بعض خصلات شعرها الرطب , فجمعتها خلف أذنيها , نظر اليها عن كثب وقال:
" سأكون مشغولا هذا المساء , فلدي موعد مع شركة التطوير الدولية ,فما رأيك أن تبقي في المنزل لتنالي قسطا من النوم؟".
" يا لها من فكرة رائعة ... سأفعل ذلك حتما".
صباح الخميس سلمها ماتيو مجموعة وثلئق , نظرت جاكلين الى الأوراق التي في يدها ظنا منها أنها وثائق شحن معينة.
" ما هذه؟".
" أنها معدات من أجل مشروع الأرز , جاهزة في المطار وعلينا أن نستلمها".
" حسنا , سأجلبها".
" ليس الأمر بهذه السهولة... يجب أن تذهبي فورا ,وألا لن تنهي العمل قبل الغداء , أياك أن تدفعي قرشا , فهذه البضاعة لا تخضع للضرائب , هل تعتقدين أنه بأمكانك القيام بهذا العمل؟".
أدركت جاكلين فورا ما عناه , سيهزأ بها رجال الجمارك , وسيعاملونها كغبية شقراء , أنها الفرصة الأولى لها لأثبات ذلك , أجابته ببرود:
" لا أرى مانعا في ذلك".
" شيءخر أريد أن أضيفه, أن المال في هذا البلد سصنع العجائب ,أياك أن تدفعي ولو مبلغا ضئيلا مهما كانت الظروف , حتى لو أضطررت للمشاحنة معهم , وأضرام النار على رؤوسهم , هل هذا واضح تماما؟".
بسطت منكبيها وحدقت به , ألا يعلم أنها لا تؤمن بالرشوة.
" لا تخشى على قيمي الأخلاقية , فقد تأكدوا منها في نيويورك".
" حسنا".
لم تكن المهمة سهلة , فعلى المرء أن يكون صبورا وباردا كي يخلص البضاعة من مبنى الشحن , تنقلت جاكلين من مكتب الى آخر , وملأت ووقعت خمس عشرة أستمارة , أنتظرت طويلا وهي تتأمل الجدران القذرة ,والمصنفات المغبرة الموضوعة في الزوايا , كان أحد الموظفين نائما فوق آلته الكاتبة , تمنت جاكلين أن تحذو حذوه فالحرارة والهواء الراكد أستنفدا كل طاقتها , شعرت بالضجر من هذا الروتين لأنه مضيعة للوقت , لن تخبر ماتيو بهذا ما دام الحل واحدا ولا بد أنه يختبرها , مضى أكثر من ساعتين تمكنت جاكلين بعدها من الوصول الى مكتب الجمارك , حياها الموظف مبتسما , وساعدها في فتح علب الكرتون:
" أجهزة صناعية؟".
" نعم".
" من أجل طاحونة الأرز ".
ختم الموظف الأوراق وسلمها العلب.
غمرتها لذة الأنتصار وهي في طريق عودتها الى المكتب متسائلة:
" ماذا سيقول سيمونز !".
قرعت باب مكتبه ودخلت واضعة العلب على المكتب.
" ها هي البضاعة , لم يصبها أي ضرر على ما أعتقد".
نظر ماتيو الى البضاع ,ثم الى جاكلين , ثم الى البضاعة , وقال بدهشة:
" أذن أستطعت تخليصها".
طبعا , أذا كان ماتيو يمتحنها , فقد نجحت في ذلك وستستمر .
" ألم تواجهي بعض الصعوبات؟".
" دبرت أموري , لماذا؟".
" لأنهم مشهورون بذلك ".
أجابها وهو يفتح العلب.
توقع ماتيو أن تعود جاكلين متذمرة وشاكية كغيرها من الموظفين , شارحة له الأمر بأكمله , لا لن تفعل هذا , ولن ترضي غروره , سألته:
" هل من شيء آخر؟".
" لا... حان وقت الغداء فهل أنت مستعدة؟".
ذهبت جاكلين بعد الغداء الى السوق , تبحث عن أدوات للمكتب , لم تتغير المدينة كثيرا لهذا أستطاعت أن تجد طريقها بسهولة.
وفي مخزن الكينكزوي ألتقت جاكلين مصادفة وجها لوجه مع السيد والسيدة تورنر ومعهما ليزا زوجة أبنهما , كانت ليزا فتاة جميلة , شعرها أسود وقصير لامع ,وعيناها براقتان محاطتان بنظارات عريضة جدا , قبلت جاكلين بسرور دعوتهم الى العشاء يوم السبت المقبل , أذ كانت ترغب من أعماقها أن تتعرف على ليزا , أنه لمن السهل أن يبني الأنسان علاقات ودية في بلد يعج بالأجانب , لقد أنتقل معظم معارف جاكلين من جالية المغتربين الى أماكن أخرى , فمن عادتهم ألا يستقروا في مكان واحد أكثر من عدة أعوام , أنتقلت جاكلين الى شقتها مساء يوم الجمعة ورائحة الدهان وتلشمع لم تزل عابقة , أخذ كويسي على عاتقه أصلاح الشقة خلال يومين بتعاونه مع رفاقه , كما وضع النجار أطارات جديدة للمناخل , دهشت جاكلين لسرعة أنجاز العمل , لم يكن الطلاء متقنا تماما , ولكن لا بأس به ما دام قد أضفى على الغرفة حلة بيضاء جميلة , وأعطى الأرض لمعانا وبريقا , ذهبت صباح يوم السبت لشراء ما يلزمها من سوق الماكولا أكبر سوق في وسط المدينة , وكثيرا ما كانت تمضي فيه ساعات طويلة تبحث عن خرز أو أقمشة لخياطة فستان لها , شعرت جاكلين بالعرق يتصبب من جسمها أذ كانت الشمس حارة , والسوق محتشدا وعابقا بالحرارة , وجموع الناس تحاول أن تتمشى بين الأكشاك , والنساء بحمولتهن الثقيلة على رؤسهن يستعملن أكواعهن كمقود لفسح الطريق خلال الممرات الضيقة , سحرها المنظر فألتهمته بعينين فضوليتين , عرضت البضائع على الأرصفة كي يتم تفتيشها بما فيها من سلال , وأدوات من الفخار , وخرز وأدوية طبية , كما رتبت الخضراوات بشكل أنيق من بندورة وفليفلة حرة , وبامية , أما اللحم فلم يثر شهية جاكلين على الرغم من أنواعه وأشكاله , تنقلت جاكلين بين الأكشاك لتشتري قماشا يصلح لصنع الستائر , كانت الأقمشة بألوانها الزاهية المطبعة على الطريقة الأفريقية مكدسة , أو معلقة بشكل أنيق على حوامل للعرض.
أخيرا , عثرت جاكلين على ما يناسبها من قماش الستائر , سارت خلفها حاشية من بنات صغيرات يحملن القماش الى أن أستقرت في سيارة أجرة أقلتها الى منزلها , خرج كويسي ليساعدها في حمل الأغراض , بينما بقي ماتيو أمام البابينظر اليها بعصبية معلقا:
"آمل ألا تكوني قد أرتكبت غلطة ما؟".
" غلطة! أية غلطة؟".
وبصبر نافذ أشار الى السلال والقماش والأواني:
" لو كنت مكانك لما أنفقت أموالي هباء , فقد لا تعوضينها ... هل تعلمين هذا؟".
خفق قلب جاكلين لدى سماعها كلماته , فعضت على شفتيها غضبا , لماذا يعكر مزاجها كلما كانت تتمتع بروح معنوية عالية؟ شعرت بأنها متعبة , وأضطرم نار الغضب في بلعومها وقالت:
" لا بأس, أعتقد أنك لم تلاحظ بأنني مصرة على الأستقرار هنا , والأستمرار بالعمل سواء راق لك هذا أم لا".
أجابها ببرود:
"لاحظت ذلك , ولكنني أريد أن تدركي أنني لم أقرر بعد منحك العمل , والأجدر بك أن تأخذي ذلك بعين الأعتبار , وتوفري على نفسك عبء التجوال".
ثم أنصرف مغادرا المنزل , كانت جاكلين مسرورة لأنها ستغادر المنزل في المساء لتغير من طريقة معيشتها , دعاها كويسي لتناول الغداء الذي لم تشعر أنها بحاجة اليه كيلا تجلس مع ماتيو , وتجاذبه أطراف الحديث.
" كويسي".
" نعم يا سيدتي".
" هل يضايقك أن تحضر لي طبقا من سلطة الفواكه , وكأس ماء الى هنا؟".
" حاضر يا سيدتي , هل أنت بخير؟".
" أنني متعبة يا كويسي هذا كل ما في الأمر".
أستراحت جاكلين في غرفتها بعد أن أستحمت وشعرت بالأنتعاش الذي لن يدوم طويلا , أذ لن يلبث العرق أن يتصبب منها خلال دقائق لأنها لا تملك مكيف هواء في غرفتها.
تناولت ما أحضره كويسي , ثم أستلقت على سريرها بصحبة أحد الكتب , وما لبثت أن نامت طوال فترة بعد الظهر كالمنهكين , أتى أبن السيد تورنر في السابعة والنصف مساء , ليصطحب جاكلين لأنها لا تعرف العنوان , أرتدت ثوبا قطنيا طويلا , أزرق وأخضر , ورفعت شعرها الأعلى , لكنها لم تنجح في رفع خصلات شعرها التي تدلت خلف أذنيها , وبينما كانت تنتعل حذاءها سمعت طرقا خفيفا على الباب , وأذ به ماتيو مرتديا بنطال جينز وقميصا , قال بسخرية رافعا أحد حاجبيه:
" هناك شخص يدعى جون تورنر ينتظرك في غرفة الجلوس , هل تريدين أن أحضره الى هنا؟".
" لا أشكرك , أنني جاهزة".
وبعد محامة عقلية , قررت أن تطلب من زوارها القدوم الى مدخل البيت الأمامي الخاص بها , وضع ماتيو يديه في جيوبه , أتكأ على الباب , وغمرها بنظرة ملؤها الأعجاب وقال:
" تبدين سيدة تماما".
تجاهلت تعليقه , وأخذت حقيبة يدها.
" من فضلك , أريد أن أخرج".
أردفت عندما لم يفسح لها الطريق قائلا:
" ومع أنك لا زلت صغيرة , لم تحتاجي وقتا طويلا للتأرجح على حبال الهواء".
أيقظت كلماته الغضب في أعماقها, فأطبقت أسنانها حانقة , لماذا لا يتركها لشأنها , تخطته وهي تحملق في وجهه ثم قالت ببرود:
" هذه ميزة كوني شقراء غبية , ليس لدي وقت للملل".
مال برأسه الى الخلف , وأنفجر ضاحكا.
كان جون تورنر أنيقا جدا كأولئك الرجال الذين يظهرون في الأعلانات لعرض الأزيار الخاصة بالرجال , كانت أسنانه بيضاء , وشعره مصففا بشكل دقيق , فلا عجب أن يفكر ماتيو بأن جون صيد فاخر , ولكن جاكلين ضحكت في سرها لأن جون ليس هو النوع المفضل لديها , أتجها الى السيارة , وفتح جون الباب لجاكلين , وأتخذ كل منهما مكانه , قال مبتسما:
" أخبرني والدي كل شيء عنك , من الممتع أن يجد الأنسان من يتكلم معه على متن الطائرة أذ أن الرحلة مميتة! أليس كذلك؟".
" ليست ممتعة".
" أننا نعيش في شمال لابون هل تعرفينها؟".
" أجل! عشت مع والدي في كانتو نمينتر عند طرف شمال لابون ".
كان منزل عائلة تورنر واسعا , وجميلا , ومكفيا مما سر جاكلين كثيرا .والبرودة منعشة تتنافى مع الحر الخارجي , وتشجع على تناول وجبة لذيذة حارة.
أستقبل الجميع جاكلين بترحاب ,وبدأ السيد والسيدة تورنر يقصان عليها ما جرى معهما خلال الأيام الفائتة غير آبهين من سيبدأ قصته أولا ومن سيتابع , مما جعل المواضيع مبهمة , فأنفجرت ليزا ضاحكة, وهز جون رأسه قائلا:
" أعتقد أنهما أستمتعا بوقتهما حتى الآن , فما أخبارك أنت يا جاكلين؟".
أجل ما أخبارها هي؟ لم تتمتع بشيء بعد ,وليست متحمسة كثيرا بسبب رئيسها الجديد , طبعا لا تستطيع أخبارهم بهذه التفاصيل , لهذا ضحكت قائلة:
"أنني مسرورة لأنني عدت الى غانا ,ولكن حدث ألتباس عند وصولي , وغدا الأمر على ما يرام بعدئذ ,وسأنكب على عملي الجديد ".
منتديات ليلاس
أجابها جون:
" لا ترهقي نفسك به خاصة في هذا الطقس السيء".
توجه الجميع بعدئذ الى غرفة الطعام عندما أعلنت المضيفة أن طعام العشاء جاهز.
" يا له من طعام لذيذ , لا شك أنك ذهبت الى لومة" .
تذكرت رحلات أمها القصيرة عبر الحدود الى مدينة توغو حيث كانت تجلب كل ما يتخيله المرء من أشياء مستوردة من فرنسا بما فيها مياه الشرب . ضحكت ليزا :
" وكيف عرفت أنني أذهب الى هناك؟ هل تودين الذهاب معي في مرات مقبلة؟".
تخيلت جاكلين ما قد يقوله ماتيو فيما لو طلبت يوم أجازة لتذهب الى توغو.
" أرغب في ذلك , ولكنني لن أتمكن من الذهاب في هذه الفترة لأنني بدأت العمل لتوي , ولا أظن أن رئيسي سيوافق على منحي أجازة".
" لقد نسيت أنك فتاة عاملة , أخبريني أن كنت بحاجة لشيء ما , وسأحضره لك بكل سرور".
أمضت جاكلين أمسية رائعة بينهم , شعرت وكأن سحابة من الهم أنقشعت عنها , فها هي تتنفس بأرتياح وسعادة , أعادها جون الى منزلها في مساء تلك الليلة , فأستقبلهما علي الحاس وفتح لهما البوابة.
" شكر لك يا جون , لقد أمضيت أمسية رائعة".
" أهلا وسهلا ها قد عرفت العنوان , تعالي متى شئت , تعالي أثناء النهار لتشاهدي أبنتنا الجميلة الصلعاء".
" يا لها من طفلة مسكينة".
ضحكت جاكلين وهي تخرج من السيارة , عمرها ستة أشهر , ولا شعر لها.
ثم تمنيا لبعضهما ليلة سعيدة ,وقاد سيارته عائدا الى منزله.
ما أن وصلت جاكلين الى المنزل , حتى رأت بابها الأمامي الخاص مفتوحا على مصراعيه ,ولاح خيال ماتيو الطويل نتيجة الأضواء المنبعثة من غرفة جلوسها , سحقها غضب عنيف , أن هذا منزلها فلماذا يقف ماتيو في غرفتها؟