لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > قسم الارشيف والمواضيع القديمة > الارشيف
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الارشيف يحتوي على مواضيع قديمة او مواضيع مكررة او محتوى روابط غير عاملة لقدمها


مقطع من رواية حسن داوود , ماكياج خفيف لهذه الليلة (اعلان)

ماكياج خفيف لهذه الليلة حسن داوود تتحدث الرواية عن امرأة تتعرض لحادث سير يؤدي إلى تشوهات في وجهها مما يجعلها - انطلاق من الحادثة - ترجع بالذاكرة

 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-05-10, 01:42 AM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 13304
المشاركات: 73
الجنس ذكر
معدل التقييم: nabil1227 عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدMorocco
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
nabil1227 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : الارشيف
افتراضي مقطع من رواية حسن داوود , ماكياج خفيف لهذه الليلة (اعلان)

 

ماكياج خفيف لهذه الليلة


حسن داوود

تتحدث الرواية عن امرأة تتعرض لحادث سير يؤدي إلى تشوهات في وجهها مما يجعلها - انطلاق من الحادثة - ترجع بالذاكرة إلى الوراء رواية سيرة علاقات معقدة في الحب والصداقة والجنس.




بعض الذين سقطوا في الغيبوبة يقولون إنهم عاشوا فيها ما يشبه أن يكون حياة ثانية. حياة قليلة خفيفة تتكرر فيها الوجوه معيدة، في كل مرة، الملامح ذاتها. وداد، التي قضت فترة غيبوبتها الطويلة في مستشفى بضاحية باريس، قالت لي إن الرجل الذي أسمته غابو كان دائماً هناك. هو مزيج من صديق وخادم وإن كان، بحسب وداد، لم يفعل شيئاً الا ملازمتها في حياتها تلك التي تشبه حياة المنامات. أنا، في غيبوبتي التي سقطت فيها شهرين كاملين، لم أشعر بشيء، ولا بأحد. كما أن غيبوبتي تلك اتسعت لتمحو من ذاكرتي ثلاث سنوات كاملة.

- مَن هذا الطفل؟

سألت أخي الواقف الى جانب سريري في المستشفى الايطالي الذي نقلت اليه.

كان الطفل، حين أُدخل الى الغرفة بصحبة أخي، قد اندفع راكضاً نحوي ليرتمي على جسمي المنهك الضعيف.

- هذا وليد، ابنك، قال أخي.

- أنا... عندي اولاد؟

كنت قد أُخبرت، او قد أدركت، أنني فقدت ذلك القسم من ذاكرتي. الطبيب الايطالي قال لي ذلك، كما قاله لي أخي من بعد الطبيب.

- وليد ابنك، وأخته كاميليا ابنتك ايضاً.

هي مساحة بيضاء في رأسي. او هي لا شيء. مساحة سقطت مثلما تسقط قطعة من الارض ويسرع الحدّان اللذان انشقت عنهما الى الالتحام تاركين ما سقط الى الاسفل، في الاسفل.

- اين هو جورج؟

كنت استغرب كيف يفهم أخي ما أقوله اذ كان صوتي يخرج مثل نَفَس يخالطه صفير.

لم يجب أخي عن سؤالي ذاك الاخير، وأنا كأنني عدت الى النوم الذي كنت أقضي اكثر وقتي فيه.

* * *

قلت لوداد التي لم تشوّه حادثتها الا ما يمكن تغطيته بالثياب، إنها، في غيبوبتها، لا بد كانت تشعر بوجع والا لما كانت اخترعت غابو.

لا شيء كنت أحسّه من جسمي، قالت وداد، لكنني كنت أتعب من حركات لا أفهم ماذا هي، من اصوات تشبه الاصوات التي تطلع من ازدحام الناس في مكان ضيق.

أنا لم أسمع شيئاً ولم يحصل في رأسي شيء. كانت نومة، بل ميتة مستمرة لم يقطعها شيء. ليس مثل غيبوبة وداد. أنا كان جسمي وعقلي غائبين معاً. لم ينفصل أحدهما عن الثاني. حين أفقت للمرة الاولى، او حين انتبهت للمرة الاولى، حصل ذلك كأنما من مكان ما يجمعني كلي.

كان انتباهاً قليلاً، لكنه كان غامراً الى حدّ أنني ابتسمت وصرت أطرف بعينيّ. قال أخي إن جسمي استجاب للهواء الطبيعي حيث إنني كنت قد أخرجت، للمرة الاولى، من قبو المستشفى الذي كانوا، في تلك الايام، يضعون المرضى فيه.

او ربما استجبت للضجيج الذي، لا بد، كان يطلع عالياً من كل شيء، من سيارة الاسعاف التي لم تقفل بوقها حين أسرع من كان فيها لينزلوني، ممددة غائبة، كما كانت تطلع من اصواتهم هم، ومن صوت طائرة الهيلوكبتر الهادر الذي يدفع الناس، ليسمع بعضهم بعضاً، الى أن يتكلموا بالصراخ.

* * *

جورج، اين هو جورج؟

نَفَسٌ مخلوط بالصفير، وكان يؤلم، فأسكت من بعد ما يخرج مني كأنما لأرتاح. اسأل عن جورج زوجي، وحده. كنت قد نسيت ما قيل لي عن ذلك الطفل الذي أخرجوه من الغرفة من لحظة ما بدأ بالبكاء.

بل إنني، فيما كانوا يطبقون الباب وراءه، قلت للممرضة إنني أريد ان أرى وجهي في المرآة. لكن هذه ايضاً لم أُجَب عنها. اكتفت الممرضة بأن رفعت الغطاء الى ما تحت ذقني بقليل، وقالت لي، فيما هي تستعد لأن تتركني وحدي في الغرفة، أن أرتاح ولا أفكر في شيء.

وأنا كنت أحب أن أرتاح. او أنني كنت أطيع لأن ما يأتيني ملحّاً عليّ لا يمكث الا لحظات قليلة يختفي من بعدها. تلك المساحة الساقطة من رأسي كانت تتعبني. وأنا الآن، اقول، إنني كنت أحس بها مثل جرح كبير ملتهب. وجه زوجي جورج كان يأتيني قريباً قرب سهرة جرت منذ يومين او ثلاثة لكنني، مع ذلك، كنت أشعر بأنه هناك وحده، بعيد وفي هيئة مهتزة مضطربة.

- كم سأبقى هنا في المستشفى؟

- سنة، قال الطبيب.

* * *

لم استطع ان أمدّ يدي لآخذ المرآة. كان شيء فيّ يثب نحوها، لكن فقط تلك الحركة التي نتوهمها بادئة من الكتف، لكن لا تمتد بعد ذلك الى اليد. ليس الا تلك الحركة وحدها. كان الطبيب يعرف ذلك، وهو مدّ يداً متعجلة الى المرآة. أخذها من يد الممرضة ومسحها مرة واحدة، مرة سريعة و احدة، ببرنسه الابيض، ثم قرّبها من وجهي.

- هذه الجروح الصغيرة حول الفم ستختفي، قال.

الجرح الكبير كان هناك، نازلاً من تحت أذني ومنحرفاً الى رقبتي وأعلى صدري، خشناً غليظاً كأنه خيط بواحدة من تلك الإبر التي يُخاط بها القماش القاسي السميك. ولم يُزح الطبيب المرآة مسرعاً بل أبقاها في ذلك الموضع الذي يجمع بين عينيّ وبين الجرح. كان كما لو أنه يمتحن فيّ شيئاً. كأن يريد أن أصرخ مثلاً، او ان أبكي، او أن أستعيد، بفعل الصدمة، اشياء مما كنت قد نسيته.

لم أفعل شيئاً من كل ذلك. بقيت أنظر الى المرآة كأن ما أراه فيها صورة لوجه غير وجهي. كان وجهاً نحيلاً الى حدّ بدت العينان متسعتين مفزعتين فيه. وهنا، عند خدّي، كانت الغضون التي انحفرت هكذا فجأة كأنها جروح أحدثها خرق سكين. ثم هناك، في الاسفل، الجرح الكبير، النافر، كأنه مغطى بلطخ من دهان كثيف. وكان عليّ أن انتظر وقتاً لأعرف أن الجرح ذاك سيصبح علامتي الفارقة.

كما أن جرحي ذاك لن يظل هكذا ندبة على سطح الجلد بل سيظل متصلاً بما تمزق وتقطع تحته.

اي أنني أعرف الآن، حين أدخل الى السهرات، ان ما سيشاهد مني اولاً هو ذلك الجرح. وأنا لم أسع الى تغطيته كما كانت ستفعل امرأة غيري. لم أشتر الثياب التي يرتفع قماشها الى الاعلى ولم أخصص في خزانتي رفّاً للفولارات. بل إن نساء السهرات كن يقلن عني أنني أُري ما بي هكذا كأنني أتجرأ على أحد او أتحدى أحداً. وربما ساعد على ظنهن ذاك دخولي الى السهرة بمفردي، فأبدو لمن يكونون هناك أنني تأخرت في المجيء عن قصد، او أنني سأقضي جزءاً من سهرتي معهم قبل أن أغادر لأكملها في مكان آخر.

* * *

جرحي ذاك الذي، بالرغم من أنني أكشف عنه في ثيابي كلها، أعرف أنه ليس ندبة فقط. إنه يخفي تحته تلك الاشياء التي تمزقت او تقطعت. في الاشهر الاولى من اصابتي وأنا بعد في المستشفى الايطالي، كنت أراه شبيهاً بسحابات الفساتين اذ إن قطبه الغليظة النافرة جُعلت مثلها. لكنه سحاب مقفل دائماً لا يفتح ليكشف عما تحته. تلك الاشياء التي في الاسفل أتخيلها تخيلاً. كما أشعر بها في صوتي الذي لم أستعده صحيحاً بعد.

- هل سيعود صوتي كما كان؟

قطعة الزجاج التي هوت عليّ مثل نصل أصابت ايضاً تلك الاوتار التي لم يبق لي منها الا واحد.

- سنعلّمك النطق... هذا الصفير سيضعف مع الوقت.

الآن، بعد انقضاء هذه السنوات على الحادثة، استطيع أن أُخرج الكلام بصفير قليل. لكنني لا استطيع أن أرفع صوتي الى الحد الذي يمكن أن يسمعه فيه ستة اشخاص او سبعة جالسين متحلقين في سهرة. ثم إنه يتعبني إن تكلمت. أتعب من أعلى صدري. الكلام يتعبني إن أطلعته من حنجرتي وحلقي. الكلام الذي يتعبني أقل هو الذي يطلع من الامام، من هنا، من الشفتين.

بعضهم يصف ما حدث لي بقوله ان قطعة الزجاج ذبحتني ذبحاً. الجزء الأيسر من رأسي نزف دمه كله وقد ملأه الماء الذي لا أحد يعرف من أين أتى ليحلّ محل الدم.

- أنت رأيتني، قلت لأخي، كيف كنت؟ كيف نقلتموني الى المستشفى؟

تلك الليلة جمعتها جمعاً من كلام قليل ومن صور أتخيلها كأنما مطبوعة على ألواح.

- اين هو جورج، سألت أخي في تلك المرة الاخيرة التي كنت أعرف فيها بماذا سيجيب.

وأنا في نومتي تلك، في الغيبوبة التي لم تكن قد زالت كلها بعد، رحت أنظر اليه وهو يؤدي الدور الذي أنتظر اللحظة المناسبة هذه ليؤديه.

- لقد حدث شيء فظيع في تلك الليلة. لم تكوني وحدك هناك. كان جورج معك. وكان وليد أخونا ايضاً معك. وأختنا سعاد.

قال عن الثلاثة هكذا دفعة واحدة، كأنه، مرة اخرى، يقوم بواحدة من صدماته التي يظنها سترج رأسي رجّاً.

لم أبدأ بالبكاء كما كان منتظراً، ولم ينتفض شيء فيّ. كنت قد توقعت ذلك لزوجي اذ كيف يمكن أن أكون هنا في المستشفى، ولا يأتي لزيارتي. أخي... أختي سعاد... فكرت ان عليّ أن أؤجل صدمتي الى وقت أكون فيه قادرة على تحمّلها.

* * *

ما زلت الى الآن أؤجل تلك الصدمة رغم انقضاء كل هذه السنوات. فترة الحداد التي كان ينبغي عليّ أن أعيشها لم تأتني بعد. بل إنني أحسب أنها لن تأتي ابداً ما دمت أتذكر أختي وأنا معتادة على أنها ميتة. لا أحسّ، حين أفكر فيها او حين أفكر بأخي، إنني انتظر شيئاً سيخيفني إن تذكرته.

في مرات أفكر أنني نجحت في أن أقبل بهم ميتين، هم الثلاثة، في بيتي هذا الذي أعيش فيه. كان من يزورونني يقولون لي إنني يجب الا أبقي نفسي مقيمة بين صورهم الثلاث. كان ذلك سيعذبني بحسبهم. هم لا يعرفون أنني، بإبقائي صورهم معلقة امامي، قلّلت من تذكرهم وهم في هيئات قد تحزنني. صورة أمي التي تظهره أكثر قوة مما هو حقيقة، اعتدته فيها وهي بدت لي كأنها مع الوقت، استجمعت هيئاته كلها.

- جورج كنت أحبه. لقد أحببته مع أنني أعرف أنه كان يخرج مع نساء غيري حتى في الاشهر التي سبقت زواجنا.

- كنت تعرفين؟

- كنت أحس، وأحياناً كنت أعرف. المرأة تعرف.

- لم تقولي له شيئاً.

- لا. كان قوياً، لم استطع ان اقول له ما كان يجب أن أقوله.

- هل كان يرتدي ثيابـه هـذه الشبيهة بــثـيـاب العسكريين؟

* * *

إنها تبديه الآن مضحكاً. لم تزده وسامة اذ هو يظهر فيها بديناً اكثر مما كان حقيقة. ثم إن النياشين والشرائط المذهبة تبديه كما لو أنه استعار لباسه ذاك من خزانة جمع فيها الرسام انواع ازياء ليختار زبائنه ما يحبونه من بينها.

- لا أعرفه بهذا اللباس، لم أره فيه. ربما رسمه المصور في وقت ما من السنوات التي نسيتها.

لكن هذه هي صورته التي مثل صورة أخي، استجمعت مع الوقت هيئاتها كلها. في أحيان، حين أتذكره، او أتذكر نفسي معه أروح أجهد لأغيّره عن رسمه العسكري هذا. كان ألطف مما هو في الصورة. وأكثر قابلية لأن يكون محبوباً من النساء. أنا، حين بدأ يتقرب اليّ، كنت أعرف أنه اختارني من بين نساء كثيرات.

- لكنه كان يعود اليهن واحدة بعد واحدة.

- او تستطيعين ان تقولي إنه كان يعود اليّ بعد أن ينتهي من كل واحدة منهن.

- أنا، لو كنت مكانك لتركته من المرة الاولى.

- لم نكن متزوجين بعد. كنا ننفصل مثلما ينفصل اثنان في علاقة مهتزة.

لي، ولمن يأتون لزيارتي، لا تختلف صورته عن تلك الصور القديمة التي يعلّقها الناس لأجداد لهم سابقين. لأجداد كانوا ضباطاً في حروب سابقة، او رجالا كباراً في زمن ما كان العسكريون وغير العسكريين يرتدون هذا الزي المثقل بالاشرطة والنياشين. في أحيان، وأنا جالسة وحدي، أفكر أنه لم يرتد هذا الزي ابداً وأنه رُسم فيه من بعد موته. كان قد استحق ذلك في ظنهم، هم أهل بلده، هو شهيدهم ولذلك اسرعوا الى جمعه مع رجالهم القديمين.

جورج هذا، الذي في الصورة، هو شهيد بلده وليس هو الرجل الذي كان يتركني وأتركه وأعود اليه او يعود اليّ.

- هذه الصورة اين كانت؟ قلت لأخي هاني الذي كان، في الايام التي تلت سقوط القذيفة، خائفاً لا يعرف أين يكون.

- ربما كانت هناك في البيت، قال، او ربما كانت بين اشيائه التي جاءت بها المنظمة.

كانوا هم، رجال المنظمة الدولية، من علّقوها هنا، في مكانها هذا لتبقى فيه. إنه بيته، وأنا، على الرغم من انقضاء هذه السنوات على موته، ما زلت زوجته أعيش في بيته. وليد وكاميليا ولداه. ولدا هيئته هذه. ما زلنا، أنا وهما، نعيش من راتبه او مما يدره علينا مقتله.

هذه الصورة باتت صورته الوحيدة وأنا، حين أذكره امام أحد، أجدني أتكلم عن رجولته وكرمه وقوته. وسيكون عليّ أن أبذل جهداً يفوق الجهد الذي أبذله للكلام حين أسعى الى تذكره في حياتنا المهتزة المتقطعة، شهراً معي وشهراً مع غيري، مرة راحلاً مديراً ظهره اليّ ومرة مقبلاً نحوي كأنه عاد لتوّه من سفر كان فيه.

* * *

لم تفد الصدمات التي كان يأتيني بها أخي هاني واحدة بعد واحدة. كنت أعرف أنه يفعل ذلك ليوقظ فيّ، هكذا فجأة، ما كان يعتقده محفوظاً في رأسي لكنه محجوز وراء شيء يشده. تلك الحادثة، القذيفة، لم تصبك أنت فقط، لم تكوني وحدك هناك. كانوا جميعاً معك: جورج، وليد، أختنا سعاد. لقد ماتوا جميعاً في تلك الليلة. ماتوا من فورهم.

او يقول لابني وليد، ولابنتي كاميليا من بعده، ان يركضا ركضاً الى سريري. الطبيب الذي قال لي إن غيبوبتي أفقدتني ثلاث سنوات قال لي ايضاً إن السنة التي عليّ أن أقضيها في المستشفى لن تعيدني كما كنت. يجب أن أتعلم كل شيء، قال: "كل شيء".

لم أكن أعرف ماذا يرى في عينيّ من ينظر اليّ. أنا، بعد أن تخلصت من النعاس الذي أعقب غيبوبتي، كنت أفهم كل ما أراه جارياً حولي. كان عقلي كاملاً، قلت لوداد التي، بعد حادثتها، لم يكن عليها أن تتعلم كل شيء مثلي. كان عقلي كاملاً، هناك في رأسي. كل ما كان يفعله قبل أن أصاب عاد يفعله. اعرف ذلك من الانقشاع القوي في عيني، ومن سماعي الاصوات، حتى تلك الصغيرة، واضحة نظيفة غير مختلطة بشيء.

لكن ليس الا رأسي وحده. حين أحاول أن أحرّك يدي، أن أرفعها مثلاً او أمدّها، لا تحصل الا تلك الوثبة الصامتة الخرساء التي تنقطع وهي بعد في الكتف. ليس الا رأسي وحده يعمل قافزاً عن السنوات الثلاث التي فقدها. كما قافزاً عن ولديّ اللذين أضاعهما هما ايضاً رغم كلام أخي المتكرر عنهما، وزيارتهما لي في المستشفى قبل ان يعيدهما أخي، بحسب ما قال لي، الى بيروت.

كما ان موت الثلاثة، بالرغم من لجوء أخي الى الصدمات في وصفه، لم يستطع أن يحدث في رأسي ما ينبغي له أن يحدثه. كان رأسي يفهم الاشياء صحيحة ويراها صحيحة ويسمعها كذلك صحيحة، مثلما يمكن ان يفعل رأس لم تشوشه الضربات. "كلمت وليد وكاميليا على التلفون اليوم"، يقول لي أخي من اجل ان يذكّرني بهما. ثم يقول لي إنهما مرتاحان في بيروت مع خادمتنا روزا التي كانت معهما.

روزا، يقول، من اجل ان يذكّرني الاسم بصاحبته، من اجل ان تنبهني الكلمة، روزا، وتذكّرني بأشياء حولها.

وهو لا يحظى مني الا بتلك النظرة التي ادير لها عينيّ متابعة اياه وهو يدور في الغرفة حولي. لم يكن ما قاله الطبيب لي يحتاج الى فهم كثير حتى اعرفه.

- عقلك يصدر الامر، لكن يديك لا تطيعان.

- ورجلاي ايضا لا تطيعان.

- .. على اي حال علينا ان نتعلم كل شيء من جديد.

* * *

الآن استطيع ان استعمل يديّ وان احركهما كما اشاء وإن ببطء لا يلاحظه احد غيري كما احسب. فيما انا ارفع كأس النبيذ، لا اترك من حولي يلاحظون كيف امسك بالكأس وكيف ارفعها عن الطاولة. ذلك احتاج مني الى تدرّب لم يقل وطأة عن ذلك الذي بذلته لأعرف كيف احرك اصابع يدي كلا بمفردها. قلت في نفسي، منذ ان خرجت من المستشفى الايطالي، انني لن اكون مثل اولئك الذين، حين يلتفت الناس اليهم، يكون الغلط الذي فيهم هو الذي يدفع الناس الى الالتفات. ذلك احتاج مني الى تدرب والى قوة ايضا.

ليس الكأس حين ارفعها عن الطاولة فقط، لكن ايضا طريقة وقوفي عند باب بيتي بعد ان اكون قد فتحته ليدخل الزائرون، ومشيتي كذلك، تلك التي يجب الا تُظهر جسمي مائلا لأن احد نصفيه اضعف من نصفه الآخر. في الخطوات بين المطبخ وغرفة الجلوس اكون اعرف ان الجالسين يكونون، حين ينظرون اليّ كأنهم يبحثون عن شيء فيّ. يجب الا يبين من آثار اصابتي الا هذه الندبة، تلك التي، اذ اظهرها بمفردها، اذ ابالغ في اظهارها، اكون كأنني ألهي بها الناظرين اليّ. انها علامتي الفارقة. الذين لا يشاهدونني كثيرا يقولون، حين ادخل الى حيث هم، اتت صاحبة الندبة، وهي تتراءى لهم ملتمعة، بادئة من تحت قبة فستاني.

تحتها، تحت الندبة، اروح انقل رجليّ جاعلة الخطوة مساوية للخطوة. يداي ايضا ينبغي ان ترافقا مشيتي متوازيتين مثل بندولي ساعة يتحركان متعاكسين. ولا يبين عليّ شيء غير تعمد البطء في مشيتي، تلك التي ينبغي لي ان ارفقها، حين اصل الى حلقة من ينتظرونني، ببطء مماثل في مدّي يدي للمصافحة، وفي القعود بعد ذلك على المقعد الخالي لي. البطء الذي ربما افلحت في جعله طريقتي واسلوبي.

وفي اوقات اظن ان هناك اغواء ما في ان ادير رأسي مبطئة غير مندهشة، لرجل يقف الى جانبي ليسلم عليّ او ليقول لي شيئا. ابتسامتي ايضا يجب ان تكون مغوية، مع انها تستغرق مني وقتا حتى اجعلها كاملة. تقريبي لوجهي للاستماع اجعله بطيئا ايضا. ثم هناك النظرة. هيئتي هذه التي تمكنت من ان اجعلها كاملة اعرف ان عليّ الا اعرّضها لما يزيد على تلك الحركات المدروسة المتقنة. ينبغي لي ان اظل جالسة حين يخطر للجالسين ان ينهضوا للرقص، او حين يقومون مسرعين لينضموا الى حلقة المتفرجين على رقصة تعالى لها الاعجاب والهتاف.

* رواية تصدر قريبا لدى دار رياض الريس للكتب والنشر.



حسن داوود - ملحق النهار - الاحد 21 أيلول 2003

 
 

 

عرض البوم صور nabil1227  

قديم 02-05-10, 07:59 AM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:

البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 13121
المشاركات: 13,907
الجنس ذكر
معدل التقييم: dali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسي
نقاط التقييم: 4990

االدولة
البلدCuba
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
dali2000 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : nabil1227 المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

الله يعطيك العافية

لهذة المقتطفات من الرواية

 
 

 

عرض البوم صور dali2000  
قديم 08-08-10, 09:27 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:

البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 13121
المشاركات: 13,907
الجنس ذكر
معدل التقييم: dali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسي
نقاط التقييم: 4990

االدولة
البلدCuba
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
dali2000 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : nabil1227 المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

اعلان استنفذ زمنه

للأرشيف

 
 

 

عرض البوم صور dali2000  
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مقطع لرواية, حسن داوود, رواية, إعلان
facebook




جديد مواضيع قسم الارشيف
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 03:29 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية