كاتب الموضوع :
اعتمادات
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
دخان
فتح راسل باب البيت أمام دينا : ( سينادي الآن امه وستأتي سيدة هذا البيت الكبير خافقة القلب ، سريعة الخطى لاستقبالي ) . لكن آمال دينا في استقبال حافل ذهبت إدراج الرياح ، واجتازت مع زوج المستقبل الردهة بصمت في اتجاه حجرة الاستقبال حيث كانت السيدة ميلغروف تنتظرهما . تأملت دينا السيدة الواقفة أمامها مليا : ( إن السيدة ميلغروف اكبر سنا مما توقعت ، ويبدو لي انها من السيدات المتمسكات بحبال التقاليد القديمة الموروثة . ورؤيتها تقف في جمود امام تلك الباقة الحلوة من الأزهار الربيعية ، اكبر دليل على صدق إحساسي ) .
خطت السيدة مليغروف نحو دينا فتبعثرت أفكار الفتاة ، ومدت لها يدها مصافحة . فلامست السيدة اطراف اصابع اليد المدودة بترفع قبل ان تقول :
- اهلا بك يا دينا .
فوجئت دينا بما لاحظته من تصرفات وما سمعته من كلام : ( ما هذه المقبلة الجافة وهذا الكلام المدروس ؟ آه . . . لابد ان السيدة متوترة الأعصاب . عني شيئا ، وهذه المرة الأولى التي تلقاني فيها . لا شك في ان مستقبلنا يقلقها بما يطويه بين جنباته من مجهول ) .
تخلصت دينا من افكارها ، وتبعت السيدة ميلغروف الى غرفة نوم خاصة بالضيوف ، حيث خلعت قبعتها ، ووقفت امام المرآة تصلح من هندامها ، في الوقت الذي كانت فيه السيدة مليغروف تزيح الستائر عن النوافذ تاركة اشعة الشمس تحتل الغرفة ، وتستوطن كل زاوية من زاواياها . حين اصطدمت الأشعة الفضية الدافئة بخصلات شعر دينا داعبتها ، وغرقت في خضمها مبرزة لونها الناري الرائع . فجأة ارتعدت دينا مثل ورقة صفراء داعبتها رياح الخريف ، عندما اشتبكت عيناها في المرآة بعيني السيدة مليغروف : ( يا الهي . . . ما بال نظرات حماتي تقطر كراهية وحقدا ؟ ساعدني يا رب على الخلاص من حراب نظراتها المؤلمة . . . لا . . . لا . . . لا يمكن . . . اني انسانة ذات خيال جامح بلا شك . لذلك بت اتصور اشياء غير صحيحة . ما اغباني . . . ) .
هربت دينا من افكارها ، واستدارت لتجدالسيدة مليغروف تعيد اسدال الستائر قائلة :
- ان اشعة الشمس محرقة في انيوزيلندا ، ومن الممكن ان تضر بالمفروشات اذا لم يلتزم الإنسان جانب الحذر .
- اصارحك انني وخالتي من عاشقات الاستمتاع بدفء اشعة اشمس في أي مكان وزمان . لذلك لايسعني الا التمني بألا تعود بالضرر على مفروشاتنا .
- انصحكما بارخاء الستائر اكثر ساعات النهار ، ان اردت ان تصبح امنيتك حقيقية .
- ان الخوف من اشعة الشمس الحارقة على البضائع المعروضة في واجهات المحلات التجارية هو السبب في بناء الشرفات امامها اذا.
في الأيام الأولى لوجوديهنا ، تصورت انها لحماية الزبائن من الأمطار ، لكنني لاحظت في ما بعد اختفاء القبعات السوداء المستديرة والمظلات الواقية .
- لكن ابني راسل يلبس قبعة في شكل دائم .
تقطعت عند هذا الحد اوصال الحديث بينهما في شكل اربك دينا : ( يا رب . . . يا قادر على كل شيء. . . اعني . فهذه هي المرة الأولى التي اشعر فيها انني عاجزة تماما عن الخوض في اية مواضيع مع انسان مثلي . صحيح انها المرة الأولى التي اقابل فيها والدة راسل ، لكنني اقسم بعضمتك وعزتك انها المرة الأولى التي اسأل فيها نفسي : ما الذي سنتكلم عنه فيما بعد ؟ وانت الأعلم بذات الصدور . لقد اقترب موعد تناول الغداء . ما من شك في ان تناولي طعام الغداء معهما سيريحني من اعباء كثيرة ، ويغطي الهوة القائمة بيني وبينها ؟ ما هي المواضيع التي يسعدها خوض غمارها يا ترى ؟ لا شك في ان تنسيق الأزهار واحد منها ، ثم هناك الكلام عن راسل . فلأبدأ با لأزهار ) .
قالت دينا للسيدة ميلغروف :
- ان موهبتك في تنسيق الأزهار واضحة يا سيدتي .
- لقد اخذت دروسا في اصول التنسيق لكي اتقنه . وبعد ذلك جعلت الورود جزءا لايتجزأ من حياة راسل .
- ما اجمل هذا .
اختطف التفكير في الورود والأزهار دينا من الواقع : ( انا ايضا احب الأزهار واهوى تنسيقها ) .
عندما اجتمع الثلاثة في حجرة الجلوس ، اكملت دينا حديثها عن الأزهار فقالت :
- ان رسم الورود يدخل ضمن اختصاصات خالتي الفنية .
- من الشيق ان نسمع بانسانة تتلاعب بالألوان .
- لكن خالتي لا تتلاعب بالألوان يا سيدتي ، انها فنانة تتقن الرسم وتعتبره قوام حياتها ، ولديها مرسم خاص بها .
قاطع راسل دينا فجأة ، وقال وقد وضح في صوته رنين الاعتذار :
- ان خالة دينا يا امي فنانة لاتؤمن بالفن التجريدي ، واعتقد انك ستعجبين بلوحاتها المستوحاة من صميم البيئة بكل سهولها ووديانها ، وبيوتها وشوارعها ، وحتى ورودها ورياحينها .
بعدما مضت دقائق حل الصمت فيها ثقيلا على الثلاثة ، لكن راسل حطم سلاسل السكون بقوله :
- رايت دينا اول مرة في معرض فني . . .
فأسكتته امه بقولها :
- اعرف . . . اعرف هذا كله يا بني .
تاهت دينا مع افكارها : ( لايا سيدتي ، لا اعتقد انك تعرفين الا القليل من روعة اللحظات التي امضيتها مع راسل بعد لقائنا ) .
ردتها السيدة مليغروف الى الواقع بقولها :
- اتمنى الا تكون فكرة الإنتظار ستة اشهر قبل اعلان أي ارتباط رسمي لك براسل قد ازعجتك . اعرف ان الشباب في ايامنا هذه لا يقيمون وزنا للوقت ، لكنني فخورة بأنني انتمي الى جيل يؤمن بالتعقل وينبذ الاستعجال .
- ان رسالتك التي وصلتني حاملة فكرة الانتظارلم تزعجني مطلقا
يا سيدتي ، كما انها نزلت بردا وسلاما على قلب خالتي التي تؤمن
بالتصرفات والقرارات الموزونة مثلك تماما . لذلك اصرت على ان تأتي معي ، وتتعرف الى راسل في وطنه وبين اهله .
ازعج كلام دينا السيدة مليغروف : ( ما شاء الله . . . ما شاء الله . . . الا يكفي اضاعة الوقت مع هذه الفتاة حتى اتحمل خالتها التي اتت الى هنا خصيصا لتتأكد من صلاحيات ابني وصفاته ؟ اكاد اجن . ماذا فعلت لأستحق هذا ؟ ) .
كسا الغضب صوت السيدة مليغروفوهي تقول :
- تأكدي يا آنسة ان راسل عريق الحسب اصيل النسب ، فأجداده معروفون في دنيا المصارف ، واولهم المرحوم فيليب لانغ الذي اقام مؤسسة للخدمات المصرفية في هذا البلد .
- لاداعي لأن تتعبي نفسك بالشرح والتفصيل يا سيدة ميلغروف ، فانا اعرف هذا عن راسل . لكن خالتي لم تتعود الحكم على مظاهر الناس ، وتفضل دائما صقل البواطن والأعماق . وقد خيل ألي ان هذه الطريقة في معرفة أي انسان سوف ترضيك ، ولن تزعجك .
صوب راسل الى امه نظرات غامضة لم تفهم دينا ، لكنها سمعت
السيدة تقول :
- ومن قال انها تزعجني ؟ لكنني استغربت اتفاقي مع خالتك على المبدأ الواحد .
انصاعت
دينا لالحاح افكارها : ( عندما حططت الرحال في هذه البلاد ، سحرني لطف اهلها وطيبتهم ، حتى انني تمنيت لقاء والدة راسل في اسرع وقت ممكن ، متصورة انها لن تختلف عنهم . لكن صدق والدي ، حين اكد انه في التأني السلامة وفي العجلة الندامة ، خصوصا في الحكم على الناس ) .
حان وقت الغداء ، فجلس الثلاثة حول مائدة حفلت بأطايب الطعام : ( من امستغرب ان تستطيع سيدة قادمة من رحلة طويلة كللها الحزن ، تحضير مثل هذه الأصناف الفاخرة . لماذا اشعر بكل هذا التوتر ؟ انتهى الغداء وقد ابت السيدة علي مساعدتها حتى في نقل الأطباق ، ووضعتها على طاولة متحركة قريبة . ربما فعلت ذلك لكسب الوقت وللتعرف علي اكثر ، لأن راسل سيعود الى المكتب في الثانية تماما) .
اكدت السيدة ميلغروف لابنها :
- ان عودتك الى المكتب ستفتح امامي مجال الانفراد بالآنسة دينا .
سارعت دينا الى القول :
- كنت اتمنى اطالة الزيارة اكثر يا سيدتي ، لكنني مرتبطة بموعد سابق مع رئيس الشركة التي ارجو ان اصبح من موظفيها .
ظهرت خيبة الأمل واضحة في صوت راسل وهو يقول :
- اليس من الأفضل لك استكشاف المدينة وضواحيها قبل البدء بأي
عمل ؟
- ان فرصة العمل في شركة براين مورغان واولاده للاقمشة فرصة ذهبية يا راسل . وقد اكد لي مؤسس الشركة براين ، عندما التقيته مع زوجته في كندا ، ان ابنه انطوني في حاجة ماسة الى سكرتيرة مثلي للعمل معه . لذلك ارسلت اوراقي اليه قبل يومين فحدد لي السيد انطوني اليوم موعدا للقائه .
صرخ راسل :
- يا الهي . . . لااستطيع ان اصدق انك ستعملين لدى . . .
قاطعته والدته :
- ان العمل مع انطوني براين مورغان شبه مستحيل ، فهو رجل لا اخلاقي ، ينقصه اللطف و اللباقة .
- يصعب علي تصديق ما تقولين ياسيدتي ، لأن والدي السيد انطوني تركا ابلغ الأثر في نفسي بعد لقائنا الأول .
- معك حق بالتأثر بالوالدين ، لكنه يختلف عنهما تماما .
خافت دينا : ( هل صحيح ما تقوله السيدة مليغروف عن انطوني براين مورغان ؟ ام ان في قولها بعض المبالغة ؟ الله وحده اعلم ) .
حاولت دينا ان تذكر السيدة ببعض صفات انطوني التي سمعتها من والده :
- اعتقد انك مخطئة يا سيدتي ، فأنطوني مورغان الذي اتكلم عنه انسان يعمل جاهدا في سبيل خير الشركة وموظفيها .
اكد لها راسل :
- ان امي محقة في كل ما تقول يا دينا ، وارجوك ان تنسي فكرة العمل مع براين مورغان .
- لماذا انساها يا راسل ؟ اذا كان هذا الانسان لا اخلاقيا كما تقولان ، فعملي معه لا يعني اطلاقا انني سأنحرف عن خط المثل والمبادىء التي نشأ ت عليها وارتضيتها لنفسي .
اشتعلت نار الغضب في عيني السيدة مليغروف :
- اعتبر قولك محاولة طعن صريحة بآرائي .
- انتظرت السيدة الغاضبة كلمة اعتذار ، لكن دينا لم تنطق بحرف واحد ، فتدخل راسل لانقاذ الموقف قائلا :
- يظهر انك لست على ما يرام اليوم يا دينا ، لذلك سأتصل بالسيد مورغان وابلغه انك عدلت عن الحضور لمقابلته ، واعد ان اساعدك قيبا في البحث عن عمل .
- لم اغير رأيي يا راسل . ما زلت مصرة على مقابلة السيد مورغان . اولا ، لأنني وعدت اهله بمقابلته ، ووعد الحر دين عليه . ثانيا ، انا في حاجة الى عمل شريف يؤمن لي مصاريفي خلال فترة اقامتي هنا ،لأنني اكره ان اكون عالة على احد . ثالثا، احس رغم كل ما سمعت ان السيد مورغان سيلزم حدود الأدب واللباقة معي ، واحساسي قلما يخطىء . لهذا كله ارجوك ان تتمنى لي التوفيق في مساعيي يا راسل .
فقالت السيدة مليغروف :
- بل ادعو الله لك بالاخفاق مع مثل هذا الرجل ، وذلك حرصا مني على مصلحتك .
شعرت دينا بغصة مفاجئة ، ولم تتمالك نفسها عن القول :
انا واثقة من خوفك على مصالحي يا سيدتي ، لكنني افضل اتخاذ قراراتي بنفسي .
تشعبت الأحاديث بعد ذلك وتغيرت مجاريها حتى حان موعد انصراف راسل ، فرافقته دينا الى السيارة حيث عانقها مودعا وقال : ارجوك يا دينا ، اعذري امي اذا كان بدر منها ما يزعجك .
لقد عانت الكثير منذ وفاة العمة ايفي .
- لاتقلقفي شأني يا راسل . الم تكن العمة ايفي صديقة عمرها ؟
يصعب على أي انسان فقدان صديق الطفولة .
- لم تكن العمة ايفي صديقة طفولة ، بل كانت شقيقة ابي . وكان من المفروض ان ارثها بعد وفاتها . لكن جرت الرياح بما لاتشتهي السفن ، وهذا ازعج امي .
- ماذا تعني يا راسل ؟
- لقد اوصت عمتي بكل ما تملك لشقيقتي روبن .
- وماذا في ذلك ؟ اليس المهم ا يبقى الارث في العائلة ؟
- نعم ... لكن امي تكره زوج اختي وتعتبره مبذرا كبيرا .
- ولماذا ؟ اهو رجل سيء الى هذا الحد ؟
- بريت زوج اختي كاتب يعشق الاسفار والتنقلات ولايعرف للاستقرار معنى . وروبين تحبه بجنون ، ويسرها ان ترافقه في اسفاره كلها . ويعيش الاثنان حاليا حياة الغجر ، ويتنقلان من مكان الى آخر دون كلل او ملل . اتعرفين انهما موجودان الآن في سوفا في جزيرة فيجي ؟
- ان حياة التنقل والسفر الدائم حياة مثالية بالنسبة الى كاتب اذا اراد ان يضفي على كتاباته لمسات واقعية .
- لكن امي من اللواتي تعتقدن ان اموال عمتي ستذهب هدرا ، اذا لم تستثمر في مجال العقارات اوالأراضي .
- تأكد ان استثمارها في مجال تأليف كتاب جديد ، تلذ قراءته للناس ، مشروع رابح ايضا .
ضحك راسل :
- تعجبني المثالية في تفكيرك يا عزيزتي . سأذهب الآن راجيا ان تعيدي النظر في قرارك الخاص بالعمل لدى مؤسسة براين مورغان . اعتذرت دينا :
- لن استطيع تنفيذ رغبتك هذه المرة ، مع الأسف يا حبيبي . فقد اعتدت الوفاء بوعودي ، ثم ان لدي الثقة بكفاءتي وقدرتي على القيام بأعباء الوظيفة التي تنتظرني . رافقتك السلامة يا راسل.
بقيت دينا وحدها مع السيدة مليغروف ما يقارب نصف الساعة ، امضتها في التعرف على البيت الكبير ، واستكشاف حديقته الغناء . وعندما اقترب موعد المقابلة ، طلبت سيارة اجرة ، ووقفت امام المرآة في غرفة النوم الخاصة بالضيوف تمشط شعرها . في تلك اللحظة سمعت السيدة تقول :
- اتعرفين يا دينا ان احدى صديقاتي كانت حمراء الشعر مثلك تماما ، لكنها استطاعت تغيير لونه باستعمال زيت الزيتون ؟ خانت الكلمات دينا : ( سمعت الكثير من الملاحظات حول جمال شعري وروعة لونه ، لكنني لم اسمع مثل هذا التلميح حوله من قبل . ماذا افعل ؟ هل تكفي ابتسامة ؟ ) .
ابتسمت دينا قائلة :
- ان تطبيق مثل هذه الوصفات مزعج بالنسبة لخالتي التي تهمها نظافة البيت قبل أي شيء آخر . اعتقد يا سيدتي انك لا تحبين الشعرالاحمر ، اليس كذلك ؟
- بلى يا عزيزتي ، بلى ، لكنني بصراحة اكره الفتيان ذوي الشعر الأحمر لأنه يكون مصحوبا عندهم بالغش والمكر والخبث .
سخرت دينا من السيدة بصمت : ( يظهر ان حماتي لاتريد احفادا بشعر احمر . كم اتمنى لو استطيع الضحك بصوت عال ، لكن يجب الا أنسى ان اضبط النفس من الفضائل ) .
جابهت دينا السيدة :
- لله في خلقه شؤون يا سيدتي . صدقيني ، لدي صديقة انجبت قبل فترة توأما من الذكور بشعر احمر ، مع انها وزوجها ذوو شعر اسود . على كل حال ، اعتقد ان وقت انصرافي قد حان . اشكرك على وجبة الغداء اللذيذة ، وعلى ما وهبتني اياه من وقت . واتمنى تشريفك لنا مع راسل في اقرب فرصة .
حملت دينا حقيبتها وهبطت الدرجات امام الباب الرئيسي ، متجهة نحو سيارة الجرة التي كانت تنتظرها .
استولت عليها في طريق العودة رغبة مجنونة بالتحدي : (بما ان حماتي لاتحب انطوني مورغان هذا ، فسأقبل الوظيفة عنده مهما
كانت شروطها ، وذلك ليقيني بأنني سأحب ما تكره) . 2- لقاؤها الأول بمديرها الشاب انطوني مورغان كان اشبه بالعاصفة . وبعد العاصفة الهدوء : السكرتيرة الجميلة ستمل لديه ، لدى الشاب الوسيم المغامر .
وقفت دينا وجها لوجه امام انطوني براين مورغان : ( استغرب رغبتي في الضحك ... ماذا دهاني ؟ آه ... ربما لأن الصورة التي رسمها خيالي للسيد مورغان تختلف تماما عما اراه امامي . انه رجل عريض المنكبين ، متوسط القامة ، شديد الجاذبية ، رسمت التجارب على وجهه خطوطا زادته رجولة . اما عينيه الزرقاوان فهما عالم قائم في ذاته ، عالم يختلط فيه الصفاء بالعمق ، والطيبة بالقوة . وترتاح عيناي اخيرا عند خصلات شعره التي اختطفت لون الرمال . لماذا اطيل النظر اليه هكذا ؟ يتملكني شعور فريد بأن المقابلة ستكون عاصفة ) .
وصدق حدس دينا ، اذ لم يمض على وجودها خمس دقائق في مكتب انطوني براين مورغان ، حتى بدأت موجة نقاشهما تعلو . حاولت السيطرة على جموح اعصابها وهي تؤكد له :
- لم افهم ما ترمي اليه مع الأسف يا سيدي .
- بل فهمت ما اعنيه تماما . لقد خدعني والدي يا آنسة ، وارسلك الي عوضا عن سكرتيرة بسيطة المظهر ، رزينة ، ناضجة . اذكر انه امتدح صفاتك ومؤهلاتك كثيرا ، لكنني اعتقد انه كان يرزح تحت ثقل تأثيرات معينة في ذلك الوقت . آسف يا آنسة بريتشارد . لا يمكنني استخدام شابة جميلة مثلك في مؤسستي .
عجزت دينا عن اطفاء نار غضبها ، فقالت له والشرر يتطاير من عينيها :
- لم يكن جمالي يوما عثرة في طريق نجاحي العملي . اما اذا كانت المقاييس تختلف في نيوزيلندا ، فالأفضل ان
ابحث عن أي عمل آخر ، بعيدا عن دنيا السكريتارية .
- انني لست في حاجة هنا الا الى سكرتيرة ، وافضلها جدية المظهر ، ومتفانية في عملها .
- يظهر انك تبحث في موظفاتك عما تفتقده في حياتك الخاصة .
- ماذا تعنين يا آنسة بريتشارد ؟
- انت تفهم ما اعنيه تماما ، لكنك تحاول التهرب من انك انسان سيء السمعة ، وتلوك الألسنة سيرتك في كل مكان .
كان الغضب يمضغ تقاطيع وجه انطوني مورغان وهو يقول :
-احذرك من الاستمرار يا آنسة برتشارد .
- كف عن تهديدي يا سيدي وافعل ما يحلو لك . كان من واجبي ان استمع الى نصيحة السيدة الجليلة التي حذرتني اليوم من مقابلتك لأنك انسان لا اخلاقي ، لكن رغبتي في الحفاظ على وعد قطعته لأبيك منعني من الاستجابة لطلبها ، وصممت على القدوم لأكتشف
مع الأسف انها على حق ... نعم كانت على حق في كل ما قالته عنك . اختفى صفاء عينيه وراء غيوم الغضب وهو يقول :
- انني ارفض توظيف السكرتيرات الجميلات يا آنسة ، لأنهن يأتين الى هنا واحلام اصطيادي كزوج تملك خيالهن . فاذا كانت مثل هذه الافكار تداعب راسك ، فأرجو تناسيها لأنني اعشق حريتي وحياة العزوبية .
جن جنون دينا :
- اذا كنت تعتقد انك فارس احلامي يا سيدي فأنت مخطىء ، لأنني اهرب من اصحاب القامات القصيرة ، المنتفخين كالطبل ، ذوي لأشقر المائل الى الحمرة امثالك . فاطمئن . اكمئن وقر عينا . يا الهي ... يا الهي ... ماذا زرعت حتى احصد هذا كله ؟
تهلكت دينا على مقعد قريب ، وتركت ذكريات صباح مضى تتلاحق امام ناظريها : ( استخفت والدة راسل بي ، والقتني الأقدار على درب رجل متوحش اسمه انطوني براين هدم بمعول رفضه صرح آمالي واحلامي بحياة عملية ناجحة ، دون اي رحمة او شفقة . ترى ، ماذا تخبىء الساعات المقبلة لمسكينة مثلي ؟ انني خائفة .
مضت دقائق قبل ان تعاود دينا الوقوف قائلة :
- اقسم بالله العظيم ، انه لولا اعادتي السيطرة على اعصابي يا سيد مورغان ، لقذفتك بما يهشم وجهك ، وينسيك السخافات التي نطق بها لسانك . مساء الخير .
خرجت دينا من حجرة المكتب مسرعة ، لتصطدم بوجوه الموظفين في الحجرة الخارجية . تأملته عينا موظف او اثنين ، لكنها لم تكن في حالة تسمح لها بأن تعير ايا من الموجودين انتباها : ( كفوا عن النظر الي . اريد ان اخرج من هنا ... ساعدني يا رب ).
تجاهلت دينا المصعد وهبطت الدرجات بسرعة : ( لن اركب المصعد لئلا اضطر الى شكر الموظف امسؤول عن سلامة الركاب فيه ، فأنا لا اريد مخاطبة احد العاملين في مؤسسة يديرها انطوني مورغان ).
عندما وصلت الى اقسام بيع القفازات والسلع الصغيرة والجوارب ،
اجتازتها بسرعة البرق : ( اريد ان اخرج من هذا المكان ، وبودي لو ابتعد عنه بأسرع وقت ).
بحثت في الشارع عن سيارة اجرة ، وركبت اول سيارة صادفتها قائلة :
- خذني الى منطقة بيل نوز من فضللك .
- لك ما تريدين يا آنسة .
وصل انطوني مورغان الى الشارع بعد ركوبها السيارة بثوان .
حاول اللحاق بها ، لكن اعصابها المتوترة منعتها من رؤيته ، وبدأت السيارة مسيرتها عبر الشوارع المؤدية الى منطقة سكناها .
كانت دينا في تلك الأثناء تسعى لاطفاء سعير الغضب الممزوج بالألم في داخلها : ( لن يكون لدي الوقت الكافي لاخفاء عذابي عن خالتي كيت . هل احدثها عن الصفعة الأليمة التي وجهها الي السيد مورغان ؟ لن تصدقني حتما ، وستعتبرني المسؤولة عما حدث ، لأنني لم اعالج الأمور بهدوء وروية . ساحكي لها كل شيء . كل شيء ... وبأدق التفاصيل . يا الهي ... ذكريات هذا النهار التعس تحاصرني من جديد . ماذا افعل ... ؟ ماذا افعل ... ؟ ) .
فجأة سمع السائق صوتها :
- قف لي عند المنعطف ارجوك . اريد ان امضي بعض الوقت في الغابة القريبة من هنا .
استولت الحيرة على السائق : ( غريب امر هذه الانسة . عندما استقلت السيارة امام المؤسسة ، خيل الي انها تهرب من شيء ما ، وهاهي الآن تطلب مني انزالها لتمضي بعض الوقت في الغابة ، اف ... حسبي الله ونعم الوكيل من زبائن هذه الأيام ) .
دفعت دينا الأجرة المترتبة عليها ، ومشت عبر تقاطع شارعين حتى وصلت الى الطريق الترابية المؤدية الى غابة خضراء صغيرة . مشت الهوينا ، ودخلت البقعة الزمردية التي لم تغتالها بعد فأس الانسان : ( هنا في حضن الطبيعة ، وفي ظل هذه الأشجار الباسقة ، سأنسى همومي ، واطفىء جمرات غضبي قبل ان اعود الى البيت )
مشت دينا على مهل بين الأشجار المتعانقة ، الوارفة الظلال ، وتغلصت من اثقال الهموم ولآلام . وهي تصغي الى نجوى الطيور على الأغصان . قادتها خطواتها البطيئة الى ممر مفروش بالحصى ، كان صلة وصل بين دغلين متشابهين للغابة الصغيرة التي عبرتها : ( سأكمل سيري ، واترك حنان الطبيعة يغمرني اكثر واكثر) .
لكن صوتا ينضح بالرجولة منعها من تنفيذ ما عزمت عليه :
- ان المكان مناسب جدا لتهدئة الأعصاب يا لآنسة بريتشارد .
افزعها الصوت ، فاستدارت على عجل لتفاجأ بأنطوني براين مورغان يقف على بعد خطوات منها :
- ماذا تفعل هنا بحق السماء ؟
- ركبت سيارة اجرة ، وجئت بحثا عن الراحة مثلك .
تعالت ضربات قلبها : ( لماذا يلاحقني ؟ لاشك في انه هنا ليكمل تعذيبي بسياط غضبه ) .
قرأ انطوني مورغان افكارها فطمأنها :
- لا تقلقي يا آنسة بريتشارد ، فأنا هنا لأعتذر .
- ومن قال لك اني قلقة ؟ ولماذا اقلق يا سيد مورغان ؟
ارتسمت على ثغره ابتسامة ساخرة وهو يقول :
- سؤال وجيه يا آنسة بريتشارد .
|