كاتب الموضوع :
abjdiat
المنتدى :
أغاثا كريستي , روايات أغاثا كريستي
رن جرس الهاتف، ولكن هيركيول بوارو لم يبد واعيا لذلك.
رن بصوت عال وإصرار. ودخل جورج الغرفة ومشى نحوه ملتفتا إلى بوارو متسائلا . أشار بوارو بيده وقال : اتركه.
أطاع جورج وترك الغرفة ثانية، واستمر جرس الهاتف بالرنين، واستمر الصوت العالي المزعج، وفجأة توقف.ولكنه عاد بعد دقيقة أو نحوها ليرن من جديد.
يا إلهي! لابد أن هذه امرأة ...لا شك أنها امرأة.
تنهد ونهض واقفا ثم مضى إلى الهاتف فرفع السماعة وقال: نعم؟
هل أنت ...أهذا السيد بوارو؟
نعم، أنا بنفسي.
أنا السيدة أوليفر ...لقد بدا صوتك مختلفا فلم أميزه.
صباح الخير يا سيدتي..أأنت بخير كما أرجو؟
آه، أنا بخير.
جاء صوت أريادني أوليفر من خلال الهاتف بنبراته المبتهجة المعتادة. كان بين بوارو وبين هذه الكاتبة الشهيرة للقصص البوليسية علاقات صداقة . قالت: لقد اتصلت بك في وقت مبكر بعض الشئ ، ولكني أردت أن أطلب منك معروفا.
نعم؟
إنه حفل العشاء السنوي الذي يقيمه نادي كتاب القصة البوليسية ، وكنت أتساءل إن كان بوسعك أن تأتي لتكون الضيف المتحدث لهذا العام. سيكون ذلك لطفا بالغا منك.
ومتى سيقام هذا الحفل؟
في الثالث والعشرين من الشهر القادم .
خرجت من بوارو زفرة عميقة وقال: لقد كبرت كثيرا مع الأسف!.
أبدا.
أتظنين ذلك ؟
طبعا أظن ذلك.ستكون رائعا ؛ يمكنك أن تروي لنا الكثير من القصص الرائعة عن جرائم حقيقية.
ومنذا يريد الاستماع؟
الجميع. إنهم ...سيد بوارو، أيوجد خطب ما؟ هل حدث شئ ؟ تبدو منزعجا .
نعم ، أنا منزعج بالفعل . مشاعري...ولكن لا يهم .
ولكن أخبرني عن الأمر.
ولماذا أثير ضجة ؟
ولماذا لا تثير ضجة ؟ من الأفضل أن تأتي وتخبرني كل شئ عن الموضوع . متى ستأتي؟ عصر اليوم. تعال واشرب الشاي معي.
أنا لا أشرب شاي العصر هذا.
يمكنك شرب القهوة إذن.
ليس هذا بالوقت الذي أشرب فيه القهوة عادة .
الشكلاته إذن؟ وفوقها الكريمة المخفوقة ؟ أم الزهورات؟
أن تحب احتساء الزهورات . أم عصير الليمون، أو البرتقال ؟ أم تفضل القهوة منزوعة الكافئين ان استطعت الحصول عليها...
أما هذه فلا ! إنها كريهة.
سأقدم لك أحد المشروبات التي تحبها كثيرا . لدي نصف رجاجة ريبينا في الثلاجة.
وما هي الريبينا ؟
شراب العليق البري
على المرء أن يعترف لك بالفضل ! إنك تبذلين حقا كل جهودك سيدتي . لقد أثر في اهتمامك ؛ ويسعدني قبول شرب كوب من الشكلاته عندك عصر اليوم .
قالت السيدة أوليفر :"جيد ، وعندها ستخبرني بكل شئ عما يزعك "، ثم أغلقت السماعة .
فكر بوارو لحظة ، ثم أدار رقما على الهاتف , وبعد لحظة قال: السيد غوبي ؟ هيركويل بوارو يتكلم . هل أنت مشغول كثيرا في الوقت الحاضر ؟
أجابه صوت السيد غوبي: نوعا ما … مشغول بعض الشئ, ولكن يمكن أن أتفضل عليك يا سيد بوارو إن كنت في عجلة من أمرك كما هي عادتك..فلا أقول إن الشباب عندي لا يستطيعون تدبر ما هو موجود حاليا من عمل . إن الحصول على شباب جيدين لم يعد سهلا كما كان من قبل ؛ فهم معجبون كثيرا بأنفسهم في هذه الأيام. يظنون أنهم يعرفون الصنعة كلها قبل أن يبدؤوا في تعلمها . ولكن لا حيلة في ذلك ! لا يمكن للمرء أن يتوقع عقول العجائز في أجسام الشباب . سيسرني أن أضع نفسي تحت تصرفك يا سيد بوارو ، وربما استطعت تكليف شابين جيدين بالعمل . أحسب الأمر كالعادة ...جمع معلومات؟
ثم أخذ يومئ برأسه ويصغي وبوارو يشرح له بالتفصيل ما يريد منه من عمل . وعندما انتهى من السيد غوبي، اتصل بوارو بشرطة سكوتلانديارد حيث تم إيصاله أخيرا إلى صديق له هناك.
وبعد أن أصغى ذلك الصديق بدوره لما يطلبه بوارو أجابه: إنك متواضع فيما تطلبه، أليس كذلك؟ أنت تطلب مني أي معلومات عن أي جريمة قتل ، وفي أي مكان! لا تعرف الزمان ولا المكان ولا الضحية. يبدو لي هذا أشبه بطاردة السراب أيها العجوز!.
في الساعة الرابعة والربع كان بوارو يجلس في غرفة جلوس السيدة أوليفر يحتسي – بإعجاب – الكوب الضخم من الشكلاته التي تعلوها الكريمة المخفوقة والذي كانت مضيفته قد وضعته لتوها على طاولة صغيرة بجانبه، وقد وضعت بجانبه طبقا من البسكويت.
يا لهذا اللطف يا سيدتي العزيزة!
نظر من فوق كوبه بقليل من الدهشة إلى تسريحة السيدة أوليفر ، وإلى ورق الجدران الجديد في بيتها. كان كلاهما جديدا بالنسبة له ؛ ففي آخر مرة رأى فيها السيدة أوليفر كانت تسريحة شعرها عادية بسيطة، أما الآن فكانت تسريحتها تظهر الكثير من الغنى بتلك الخصلات الدائرية المرتبة في أشكال معقدة فوق رأسها كله. وقد ارتاب بأن هذا الترف الغني مصطنع إلى حد بعيد. وفكر في نفسه كم كم خصلات الشهر هذه يمكن أن تسقط إذا ما انفعلت السيدة أوليفر فجأة كما هي عادتها. أما بالنسبة لورق الجدران ...
قال وهو يشير إلى الجدار بملعقة الكوب : هذه الكرزات ...أهي جديدة ؟
شعر وكأنه جالس في وسط أيكة من الكرز.
هل ترى أن الكرز فيها كثير ؟ من الصعب الجزم بجمالية ورق الجدران مسبقا . أتظن أن الورق القديم كان أفضل؟
عاد بوارو بذاكرته إلى الوراء ليتذكر –بشكل باهت- ما بدا له أنه منظر لعدد هائل من الطيور الاستوائية ذات الألوان الزاهية. شعر بميل إلى التعليق قائلا: "كثر التغيير دون أن يتغير شئ" ، ولكنه كبح نفسه . وعندما أعاد الكوب إلى صحنه واتكأ إلى الخلف بشئ من الرضا وهو يمسح بقايا الكريمة المخفوقة عن شاربيه قالت السيدة أوليفر: والآن ، ما قصة هذا الأمر كله؟
يمكنني إخبارك بذلك ببساطة. فقد جاءت صباح اليوم فتاة لرؤيتي، وقد اقترحت تحديد موعد لها (فلدى المرء مشاغل حياته المعتادة كما تعلمين ) ولكنها أرسلت تقول إنها تريد رؤيتي على الفور لأنها تظن أنها ربما كانت قد ارتكبت جريمة قتل .
يا له من قول غريب ! ألم تكن تعرف؟
بالضبط، هذا هو السؤال ولذلك قلت لجورج أن يدخلها، فجاءت ووقفت هناك. رفضت الجلوس ...اكتفت بالوقوف هناك تحدق لي، وبدت وكأنها بنصف عقل تماما. حاولت تشجيعها، ولكنها قالت فجأة إنها قد قد غيرت رأيها. قالت إنها لا تريد أن تكون وقحة ولكنني...ماذا تظنين؟ ...ولكنني كبير جدا بالسن...
سارعت السيدة أوليفر إلى قول كلمات مهدئة: آه، إن الفتيات هكذا ...يعتبرن كل من تجاوز الخامسة والثلاثين نصف ميت، ليس للفتيات عقل، ينبغي أن تدرك ذلك.
لقد جرح هذا القول مشاعري .
هيا، ما كنت لأقلق من ذلك لو كنت مكانك . كان قولها هذا وقحا جدا بالطبع.
هذا لا يهم، والأمر لا يتعلق فقط بمشاعري أنا. إنني قلق، نعم إنني قلق.
نصحته السيدة أوليفر بالارتياح قائلة :لو كنت مكانك لنسيت الموضوع كله.
أنت لا تفهمينني..إنني قلق بشأن هذه الفتاة، لقد جاءت إلي تطلب المساعدة، ثم قررت أنني كبير جدا. كبير جدا بحيث لا يمكن أن أكون ذا فائدة لها .كانت مخطئة بالطبع (وهذا من نافلة القول ...) ، ثم اكتتفت بعد ذلك بالهروب. ولكنني أقول لك إن تلك الفتاة بحاجة للمساعدة .
قالت السيدة أوليفر تهدئه: لا أحسب أنها بحاجة لها فعلا. إن الفتيات يجعلن من الحبة قبة.
لا أحسبك ترى أنها ارتكبت جريمة قتل ؟
ولم لا؟ لقد قالت أنها ارتكبت جريمة قتل؟
نعم، ولكن...
توقفت السيدة أوليفر قليلا ثم قالت ببطء: لقد قالت إنها ربما ارتكبت . ولكن ماذا عساها تعني بذلك؟
بالضبط. فلا معنى لذلك,
من الذي قتلته ، أو تظن أنها قتلته؟
رفع بوارو كتفيه في حيرة . فقالت السيدة أوليفر : ولماذا قتلت من قتلته؟
رفع بوارو كتفيه مرة أخرى ، فقالت السيدة أوليفر وقد بدأت تبدع بعد أن أطلقت العنان لخيالها الخصب: ربما كانت الاحتمالات كلها واردة بالطبع. ربما كانت قد دعست بسيارتها شخصاولم تتوقف لإسعافه...وربما هاجمها رجل على شفا منحدر صخري فقاومته وتمكنت من إلقائه إلى الأسفل ..وربما أخطأت فأعطت أحدهم دواء دون غير دوائه...وربما ذهبت إلى واحدة من تلك الحفلات التي يتعاطون فيها المخدرات فتشاجرت مع أحدهم، وربما صحت من غيبوبتها فوجدت أنها طعنت أحدهم. ربما...
يكفي سيدتي..يكفي!
ولكن السيدة أوليفر كانت قد مضت بعيدا، فتابعت تقول وربما كانت ممرضة في غرفة العمليات وأعطت للمريض مخدرا غير المخدر المطلوب أو..
توقفت فجأة، وقد انتابتها لهفة مفاجئة لمعرفة تفصيلات أوضح، فقالت: كيف كان شكلها.
فكر بوارو للحظة ثم قال :إنها كشخصة أوفيليا( إذا ما تغاضينا عن التشابه بالمظهر).
آه، يا إلهي ! أكاد أراها أمامي إذا تصفها بمثل هذا الوصف. ما أغرب ذلك!
إنها ليست قديرة..هكذا رأيتها. ليست ممن يستطيعون التكيف مع المصاعب. ليست ممن يرون مسبقا المخاطر التي يجب أن تأتي. إنها واحدة ممن يقول الناس عنهم وهم ينظرون حولهم : "إننا بحاجة لكبش فداء، وهذه تصلح لذلك".
ولكن السيدة أوليفر لم تكن تصغي الآن. كانت تمسك بخصلات شعرها بكلتا يديها في إشارة مألوفة لدى بوارو. صاحت بشئ من الألم : انتظر، انتظر!
انتظر بوارو وقد رفع حاجبيه.
أنت لم تقل لي ما هو اسمها .
لم تعطني اسمها، وهو أمر مؤسف..أتفق معك في ذلك.
صاحت ثانية بنفس الألم : انتظر!
أرخت قبضتها عن شعرها وأطلقت زفرة عميقة . حرر شعرها نفسه من أربطته وانسدل على كتفيها، فيما انفصلت خصلة ضخمة من الشعر كليا وسقطت على الأرض . أخذها بوارو ووضعها على الطاولة دون أي تعليق.
قالت السيدة أوليفر وقد عاد إليها الهدوء فجأة وغرست في شعرها بعض الدبابيس وأومأت برأسها وهي تفكر: حسنا إذن، من الذي دل هذه الفتاة عليك يا سيد بوارو؟
لا أحد حسب علمي، من الطبيعي أنها سمعت عني دون شك.
فكرت السيدة أوليفر بأن عبارة "من الطبيعي" هذه ليست العبارة الصحيحة أبدا. كان من الطبيعي أن بوارو نفسه كان متأكدا من أن الجميع قد سمعوا به دوما، ولكن من شأن عدد كبير من الناس (في الواقع) أن يحدقوا إليك دون فهم إذا ما ذكرت لهم اسم هيركيول بوارو، وخاصة جيل الشباب منهم. وقالت لنفسها "ولكن كيف أقول ذلك دون أن أجرح مشاعره ؟".
أعتقد أنك مخطئ؛ فالفتيات والشباب الصغار لا يعرفون الكثير عن رجال التحري. إنهم لا يسمعون بهذه الأشياء.
قال بوارو متفاخرا:لا بد أن الجميع قد سمعوا بهيركيوا بوارو.
ولكن قليلو الثقافة في أيامنا هذه. والواقع أن الأشخاص الوحيدين الذي يعرف الشباب أسماءهم هم المغنون وأعضاء الفرق الموسيقية ومقدمو البرامج الغنائية..وأمثالهم . وإذا ما احتجت إلى شخص متخصص متفرد، وأعني بذلك طبيبا أو رجل تحر أو طبيب أسنان ...فعندها لا بد أن تسأل أحدا ...أن تسأل عن أفضل شخص يمكن أن تلجأ إليه. وعندها سيقول لك من تسأله: "يا عزيزي، يجب أن تذهب إلى ذلك الرجل الممتاز جدا في شارع كوينز آن، فما أن يجري لك بعض الحركات في جسمك حتى تشفى". أو : لقد سرقت كل جواهري، وكان من شأن هنري أن يستشيط غضبا، ولذلك لم يكن بوسعي اللجوء إلى الشرطة، ولكن يوجد رجل تحر رائع بالفعل، وهو كتوم جدا، وقد أعادها لي دون أن يعرف هنري شيئا عن الموضوع" ...هكذا يحدث الأمر دائما. لقد أرسل أحدهم تلك الفتاة إليك.
أشك بذلك كثيرا.
ليس ممكنا معرفة ذلك حتى يخبرك أحد به. وسيخبرك به أحدهم الآن. لقد خطر الأمر لي توا: أنا التي أرسلت تلك الفتاة إليك.
***يتبع،،
|