أهديكم سلاماً لو رفع إلى السماء لكان قمراً منيرا, ولو نزل إلى الأرض لكساها سندساً وحريرا, ولو مزج بماء البحار لجعل الملح الأجاج عذباً فراتاً سلسبيلا.
يقول أبي القاسم الفرابي : (( زلة العالِم كانكسار السفينة، تغرق ويغرق معها خلقٌ كثير ))
كم من سفينة انكسرت وكم من خلق غرقوا وضاعوا في لجج البحر بسبب زلة من ربان السفينة
ولاريب في أن البشر خـطـائين وأن ربــان سفينة الـعلـم بشر مثلنا ليس بمعصوم عن الخطأ
فقد يخونه فهمه أو تغلبه عجلته أو يسبقه لسانه , وقد قال ابن القيم :"العالِم يزِل ولا بُد إذ ليس بمعصومٍ
فلا يجوز قبول كل ما يقوله ويُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم فهذا الذي ذمه كل عالِم على
وجه الأرض وحرموه، وذموا أهله".
ولست في هذا المقام بصدد كشف زلة عالِم محدد أو لومه فالحبيب عليه أتم الصلاة والتسليم قال :
(أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود), لكني هنا في مقام النصح أولاً ثم الخوف والتعجب مما آل
إليه الحال وما سيؤل اليه المآل في زمن كثرت فيه الفتن والقابض فيه على دينه كالقابض على الجمر
فبعد أن كنا نرد ما نختلف عليه للعلماء ليُفصل القول فيه ويرد الحكم اليه بعد كتاب الله وسنة رسوله
أصبحت تصرفات بعض العلماء ترد للعامة فيكثر فيها القول ويعظم فيها اللغط مابين مؤيد ومعارض
ومابين غاضب ومشجع وما كان هذا ديدن العلماء السابقين وبعض اللاحقين .
فكم من عالِم أفتى بفتوى تبعه فيها خلق كثير ثم غيرها مابين عشية وضحاها
فبعد أن كانت تحكم بأمر مستحيل أصبح ممكناً , ومافُصِل الأمر فيه أصبح يحتمل عدة وجوه
وكان الأولى به أن لا ينطق لسانه بها إلا بعد تمحيص وتدقيق فهو يعلم تمام العلم أن سفينته تحوي خلق كثير
فلا يجازف فيهم ولا يخاطر بدينهم ببحر الفتن , وصدق ابن عباس رضي الله عنه حين قال:
"ويل للأتباع من عثرات العالِم.قيل: وكيف ذاك؟ قال: يقول العالِم شيئًا برأيه،ثم يجد من هو أعلم
منه برسول الله -صلى الله عليه وسلم-فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع".
وكم من عالِم زاد وأعاد في شرح باب سد الذرائع , وأفاض في شرح حديث (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه)
وحثنا على ترك مايريب الى مالا يريب ففاجأنا بفعل يفتح باب الذرائع على مصراعيه , ويوسع به لشبهه
ويترك به مالا يريب الى مايريب , وتناسى به أن الباطل لا يأتي محضاً بل متدثراً بلباس الحق..!
وألا ليت علماءنا يدركون أنهم قدوة العامة وأن تصرفاتهم مصائد يفرح بها الأعداء ليؤتى الدين من قبلهم
فأعداء الأمس أصبحوا أحباب اليوم بسبب تصرف وافق هواهم , وأصبح بعض العلماء سلاح بأيديهم مصوب نحو الدين..!
وألا ليتهم يدركون بأن الأمة الإسلامية ليست بحاجة لمزيد من الثغرات التي يفرح بها من يريد بنا وبعلماءنا شراً , وأنه قد
يضيع جهال بجريرة أقوالهم وتفتح أبواب الجدال برياح أفعالهم , وقد حذرهم ابن كثير , وبين وأكثر
من التحذير والتبصير حين قال :"فينبغي للعالم أن يحذر المعايب ، و يجتنب المحذورات ، فإن زلته و ناقصته
منظورة يقتدي بها الجاهل " , وقد حذر عمر ابن الخطاب رضي الله عنه من ثلاث يهدمن الدين أحدها زلة
العالِم , فليربأ كل عالِم بنفسه أن يكون سبب في هدم الدين بسبب زلة كان سببها عدم التأني باتخاذ بعض المواقف
وعدم التبصر في عواقبها ومآلاتها , ولو وضعوها في ميزان العقل قبل فعلها لارتاحوا من التبرير لتبعاتها ..
وكم فرح المتخاذلون وكم احتار الحائرون بزلات العلماء وأحدثت في أنفسهم ما أحدثت من تناقض وحيرة
وهنا أقول لهم حسبكم أيها المتخاذلون فقد قال الإمام الذهبي رحمه الله :" من تتبع رخص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رَقّ دينه"
وقيل (فقد تزندق) , ودونكم أيها الحائرون كتاب الله وسنة الرسول والصحابة والتابعين ومن مات من العلماء
فقد قال ابن مسعود: "من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"
ومن أراد الحقيقة الجليَة للفتوى أو الفعل فليبحث عن موافقة العلماء الأخرين لها أو انكارهم وليتبع
مايتفق عليه جمهور العلماء الذين يستحيل أن يتفقوا على باطل .
وأخر ما أختم به مقالي هذا هي وصية للحبيب صلى الله عليه وسلم وإني أراها كالمصباح الذي ينير الدرب
رغم تمرد الظلام , وذلك يوم أن قال في خطبة الوداع: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم
عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها
وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
مماقرات