*** بعتنــــــــي ***
كالغصن رفيع أخذت تتمايل يمنة ً ويساراً... والأعين الشرهة تتبعها وتطمع للمزيد ... حين أن الدمع الممزوج بسواد الكحل العربي ينسل من مقلتيها اللتين أحيطتا بلون الدم الغامق... والحسرة و الندامة تنهش فيما تبقى من روحها المحطمة ...
موسيقى تصم الآذان تدوي في أرجاء المكان المظلم كظلمة قاطنيه الذين يطلقون الصفير ... ويطالبون بالمزيد مما يمتع أبصارهم التي تأبى أن تغض عن جسدها شبه العاري...
كانت تبحث بعينيها الغارقتين بالدمع عن منقذ .. منجد... ينشلها من بحر الفساد هذا ... الذي قذفت به مجبرة ً... كانت تنادي بتلك العينين (( أنجدوني.. أنقذوني ...)) لكن ما من مجيب... فهم لا يروا فيها سوى ذلك الجسد النحيل... الذي يمتزج مع النغمات الموسيقية... فيرسم لهم لوحة تبهرهم.. وترضي جزء بسيط من ما تشتهيه نفسهم القذرة...
لم يكفهم النظر فقط .. بل أراد بعضهم المزيد ... فقام اثنان من مقامهما يريدان لمسها والتهام هذا الجسد البرنزي اللون... في البدء أخذا يترصدانها .. ومن ثم أخذا يقتربان منها رويداً رويداً وهم يتراقصان معها ... حتى رأى أحد منهم ذو الشعر الأشعث بأنها الفرصة مناسبة ... فنقض عليها بأرطاله الزائدة .. كما ينقض الذئب على فريسته... أمسك بذراعها العارية فانتفضت من فورها وحاولت إبعاده عنها .. لينقض عليها الآخر ذو الجسد المترهل ... ليشل حركتها رغم سنه الذي تجاوز الخمسين... فقطع عليها بهذا طريق المقاومة ... أما البقية فكتفوا بالتفرج فالسكر قد أعماهم بصراً وبصيرة.... رائحتهم النتنة المشبعة بريح ذلك الشراب مذهب العقل خنقتها ...ارتعدت ... ورن جرس الإنذار في داخلها... أرادت أن تصرخ لعلها تجد مُعيناً ينقذها مما هي تخشاه.. لكن يدًا أطبقت على فمها...وأخذ صاحب اليد المكتنزة يشتم ريحها .. كما يشتم المفترس على وليمته... فيحين أن الآخر أخذ يطبع بشفتيه اللتين كانتا كالجمر بنسبة لها قبلاته على عنقها غير آبهٍ بأنها بسن بناته... فتحت عينيها مستنجدة بأولئك المترنحين.. لكن لم تجد منهم سوى الضحك ... وتأيدهم لهما للاستمرار ... فهي بنسبة لهم مجرد جسد و ليس كائنًا حيًا ....
دخل أخيراً المنقذ .... وقعت عيناها عليه... فصرخت بتلك العينين العسليتين طالبة منه العون ... فهو من وعدها بأن لن يصبها مكروهاً... وبأنه سوف يحميها من أي ضر... فهي حبيبة قلبه التي توجت نفسها ملكة ً على عرش قلبه...
وبالفعل كان هو منقذها ... توجه ناحيتها .... فبدأت نار الخوف التي بداخلها تخبت ... وهي ترى حبيبها قد أتى ليبعد هؤلاء المتوحشين بعيداً عنها ...
وقف أمامها مباشرة ... وقال والغضب يعتصر قسمات وجهه:- " لم نتفق على هذا ...؟ "
أدخل ذو الشعر الأشيب يده في جيب) بنطلونه ) وأخرج حزمة من المال.. وقال وهو يعود ليكمل ما كان يعمله من نشر قبله على جسدها الذي دنسته تلك القبل :- " هذا كفيل بتغير اتفاقنا السابق .."
وجه عيناه ناحيتها.. ليجد الرجاء في عينيها ... فمد يده وأمسك بتلك الرزمة خضراء اللون ... وخط ابتسامة شيطانية واسعة على شفاهه ... وقال وبكل جرأة :- " وداعاً حبيبتي .."
وأولاها ظهره وهي تنظر إليه والدهشة ترسم خطوطها العريضة على كل شبر من محياها ... ظلت تتتبعه بعينيها المفتوحتين على مصراعيهما ... وفي داخلها قلبها يصرخ بأعلى صوته قائلاً:- “سوف يعود فلا تخافي ... فهذا وهم... فهو يحبكِ .. كما تحبينه ... هو مغرم بكِ ... لا يستطيع أن يعيش بدونكِ... سوف يعود .. سوف يعود وينقذكِ.... "
أما عقلها فكان يحاول أن يكتم هذه الصرخة الصادرة من قلبها بكلماته:- " لقد خانكِ ... وباع حبكِ ... إنه لم يحبكِ قد ... إنه خائن ... مخادع... ومجرم ... لا غير.. فلا تصغي لقلبكِ .. وعودي للواقع ... هذا الشخص استغلكِ ... وحشا رأسكِ بالأكاذيب.. لقد باعكِ .. باعكِ ... "
اختارت بأن تصغي لقلبها فهي لم تصغي قط لغيره... فظلت متمسكة ً بأمل بأن يستدير ويعود إليها ... ويبعد هؤلاء الوحوش عنها ...لكن أملها تحطم كالزجاج .. وتبعثرت أشلاءه في قلبها العاشق له ... بمجرد أن أغلق ذلك الباب الذي يفصلها عن الحرية ... لقد رحل بلا عودة ... بلا عودة...
صدمها بذلك الباب المغلق بحقيقته المريرة ... تأوهت تلك النفس المخنوقة بالحقيقة التي كانت كحبل المشنقة التي تطوق عنقها ... و تسلب منها أنفاسها ...
منتدى ليلاس الثقافي
تلك النفس بدأت تعاتب حالها ... وتسترجع ماضيها ... بألم ينبثق من مصدر حياتها .. ذلك القلب المجروح بخنجر خيانة من سكنه ... فقالت بصوت كان الحزن يغلفه:- " ركضت ورائي لسنين ... فجعلتني أعشقك .. وجعلتني أهرب معك وأدنس اسم عائلتي بالعار كل ذلك لأني أحببتك... قلت لي بأننا نحتاج إلى المال... لكي نصبح زوجين ... ويجتمع قلبانا... فطار قلبي من الفرح ... وطاوعتك بأن أعمل مع صديق لك .. قلت بأنه سوف يعطينا مالاً يكفي لكي نعيش كالملوك... استغربت من هذا العمل الذي في ليلة واحدة سوف يعطينا هذا الكم الكبير من المال .. لكن لم أكترث لذلك ... فقد كنت مخدرة بحبك ..وأريد بأن نكلل حبنا بزواج ... ونعيش في بيت واحد ... و...و ... الكثير من الأحلام التي حطمتها بخيانتك .... ظننت بأنك لم تكن تعلم بأن صاحبك وسخ وقذر ... خدعك وأجبرني على عمل هذا العمل الكريه ... الوسخ... لكن الحقيقة التي أدمت قلبي .. بأنك كنت تعلم ... وكنت طرفاً في هذا المخطط الشيطاني ... بعتُ أهلي وناسي ... ونفسي لك ... فما كان جزائي منك إلا أن ترميني هذه الرمية ... وبدراهم قليلة... وتدوس على قلبي كأنه لا قيمة له عندك ... هذا القلب الذي أسكنك فيه... وأحاطك برعايته ... أيها الخائن ... أيها المجرم... لم أعاتبك أنت فقط.... أنا كذلك كنت حمقاء .. غبية... عندما أصغيتُ لك ... ولم أصغي لعائلتي... ولا حتى عقلي... أنا المخطئة لأني بعتُ أهلي واشتريتُ حبك... في حين أنك بعتني من أجل المال ... أنا أستحق ما يجري لي ... أنا أستحق هذا وأكثر...وأكثر ... وأكثر..."
منتدى ليلاس الثقافي
انهمرت دموعها ... وسكنت الأرض .... ليتبعها جسدها المتهالك.. وتسقط هي الأخرى على ركبتيها... فصدمة كانت فوق احتمالها ... تبعها ذانك الشهوانيان .. فهاهي خارت قوى فريستهم .. وانهارت كل دروعها ... وباتت جسداً بلا روح كما كانا يريانها... دوت ضحكات النصر من قبلهما ... لتصم أُذنيها ...
نظرت إلى أعلى بعينيها شبه المفتوحتين... ترجو من بارئها خلاصاً من عذابها ...
وكان لها الخلاص .. الذي اخترق قلبها .. ليفجر دماءها .. وينشر دمها على وجوه هذين المتعطشين لتذوقها... فدب الرعب في أوصالهما ... وبات الخوف مرسوماً على تلك الوجوه الملطخة بالسيئات... و أصبحوا جراءً بعد أن كانوا وحوشاً مفترسة عليها... وأخذوا يتراكضون يمينًا ويساراً هرباً من أن يأتيهم نفس مصيرها...
أخذ يقترب منها بخطى ثابتة.. لا تهزه أية مشاعر داخلية ... و نظرةٌ من الكراهية تتقدُ كجمر ملتهب في عينيه اللتين تعلوهما حاجبان مقطبان... وقف بالقرب منها ... ركع على أحد ركبتيه ... مد يده ناحية شعرها ذي اللون الأسود الغامق..مرر أصابعه من بين خصلات شعرها الحريرية ... وضيق الخناق عليها ... رفع رأسها الذي كان ممدداً على الأرض بلا حراك بسرعة غير آبهٍ بحالها .. ولم تؤثر به أنفاسها الراحلة... وقال بنفسِ واحدِ :- " لقد انتقمتُ لشرفنا أيتها القذرة.."
كان ردها عليه ابتسامة واسعة شقتها على رغم الألم الذي يستول على محياها... أعقبتها بكلماتِ أخذت منها ما تبقى من قوتها التي بدأت تنضب.. حيث قالت:- " شكراً لك ... يا ..يا. ... أخيــــــــــــــــــــ .." لترحل مع هذه الكلماتِ آخرُ نفس من حياتها ... وتعلن استسلامها ورفع الراية البيضاء ... وتسليمها روحها لمن خلقها ... لينتشر دمها الممزوج بالحزن المصحوب بالندم على تلك الأرضية النجسة.....
تمتــــــــــــ ...
01-01-10, 10:08 PM
*** بعتني ***
جديد مواضيع قسم القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
العرض العادي
