تقديم بقلم فؤاد التكرلي
"
يا سادة،
لقد بدأ العالم بحركة حنون،
فمن أين أبدأ؟
"
(
من مقدمة "شمس القراميد")
هكذا ساءلتُ نفسي أنا الآخر، مثلما فعل الراوي في رواية (شمس القراميد)، من أين أبدأ لأقدم هذه الرواية المتلألئة بجدتها، الغريبة في تأّلقها والمليئة بالرموز والإشارات؟والحيرة تأّتْت من حقيقة كونها نصا روائيا لا يدع لك أن تنساه أو تهمله بعد الفراغ منه، بل إنه يبقى يسكنك بشكل أو بآخر، ويندس في ثنايا ذهنك وقلبك وما بينهما من روح أو وجود؛ يثير فيك أسئلة لا تريد أن تسألها ويوحي إليك بأجوبة ملغزة لا تريح، فلا تجد مناصا من العودة إليه والغرق، طواعيةً، في أمواج لغته الصافية، المتلاطمة، المخدرة
.
إنها رواية نادرة المثال، هذه " شمس القراميد" لمحمد علي اليوسفي، تكاد تميل بك الأفكار إلى اعتبارها ملحمة شعرية متأسسة على منوال الملاحم الإغريقية، إلا أن أنفاسها ذات العطر المعاصر، وما يتراءى لبصيرتك من صور الواقع المألوف الذي تعرفه، تزيح هذه٥ الظنون سريعا وتنهض " شمس القراميد" أمامك بعد ذلك رواية راسخة متحدية حديثة، ذات تعبير ونبرة متميزين ومختلفين تماما.
تتألف الرواية من أقسام ثلاثة، قد لا تبدو مبررة للقارئ المتعجل، لكنها، في خفاء، تؤشر لتغيير في المجال الروائي ولانتقال في الزمان:
مرايا مريم. امرأة المستنقعات. قمر البركة. كل قسم ينشطر إلى فقرات موسومة، تتشظى
مثل نيازك ملونة ثم تلتئم بعدئذ، بعملية سحرية غير مشعور بها، وتلتحم فيقف القسم واضح الحدود مستقلاً بمعناه
. هنالك، في القسم الاول، طفولة مترعة بالحكايات، في إحدى قرى الشمال التونسي الجميل؛ طفولة أسطورية بكل معنى الكلمة، لا تنقصها الأسرار ولا الحيوانات الخرافية ولا المآسي ولا القمر؛ يرتفع فيه اليوسفي إلى ذرى لا تنال بسهولة. وهذا القسم في اعتقادي، يؤشر بمفرده و بدون شك، الى بذرة روائي معلم. وتنتهي الطفولة والحكايات، ويتوجب على الراوي/البطل أن يخوض متاهة المدينة وأن يتحمل السكنى في خان الدواب وبعض المشاق الأخرى مع النساء. و بعد حكاية لم تكتمل ورجم بالحجارة من قبل الشعب، وبسبب اختياره الطريق الخطأ، يزج به السجن؛ وهو ما يختتم به القسم الثاني الذي لا ينتهي إلا ويكون الراوي/البطل قد عاد من حيث بدأ... "ينبغي أن أواصل بحثي عنه مهما كانت صعوبة الرحلة باتجاه أعالي النهر. لا بد من الغطس إذن. لماذا لم أفعل ذلك منذ البداية؟".
ولنا أن نفهم ما نفهم من معنى الغطس في النهر، فقد يكون هو سبيل البحث عن الأخ
الفقيد وقد يكون الطريق الآخر ذا المزالق الذي لم يجربه الراوي بعد؛ وفي كل الأحوال، فإن الرواية هنا تنفتح علينا بقسمها الثالث العجيب
... قمر البِركة.
إنها الصفحات الأكثر إغراقا بالرموز والموحيات والغرائب والإناث والعواطف المبهمة
والتصرفات اللامنطقية؛ تقطعها رحلة البحث عن
" العندالة " برفقة العينوس، ذلك الذئب الذي استبدل الهمزة بالعين؛ ولأن القارئ يأخذه عالم العجائب هذا فينشغل بتفاصيله، لا ينتبه إلى عناصر الرحلة تتجمع وتتوحد وتؤشر للقيام بها
. كانت الرحلة عملا ضروريا؛ مكتوبا على الجبين؛ وهي بشكل لا مفهوم، رحلة الحياة الشاقة المعقدة، المليئة بالآلام وبالأحلام المجهضة؛ ولعلها ذروة ما يريد أن يقوله اليوسفي. ففي ظني، أنه لا يرى إلى الحياة الانسانية رؤيا تقليدية...
بداية واضحة ومسلك و نهاية؛ بل هي عنده كتلة من رموز وألغاز ومتاهات، لا سبيل
لحّلها إلا في الانغمار بها
... في الغطس... بحثا عن الأجوبة في الأعماق. وبسبب هذه الرؤيا الخاصة المسيطرة، التجأ مظطرا، إلى شكله الروائي الفّذ هذا. إنه يبدأ بالإمساك بحدث أو لنقل بواقع معين، فيدخله في بوتقة لغته السحرية ويصهره فيها، ثم يلويه و يلويها، فيخرج منها بعد حين خطاب روائي أو نص أو تعبير لغوي فريد ذو رائحة ونغمة خاصتين جدا؛ فلا هوالحدث٦ نفسه ولا هو غيره، تختلط فيه ذاته مع القناع الذي قنعه به اليوسفي. ومن تحرك هذا "التعبير" اللغوي عبر الزمان، تقدماً و تراجعا و تكرارا، يتكون الهيكل الروائي ل"شمس القراميد".
إنها بناء تغلب عليه نكهة لغوية هي من صميم أسسه؛ فلا يبقى له ومنه شيء إذا ما
سلخت عنه لغة اليوسفي واستعمالاته الطريفة
. هناك تداخل و تعاكس أحيانًا، بين دلالات
اللغة التقليدية وطريقة اليوسفي في استعمالها؛ الأمر الذي يخلق في نفس القارئ صدمة ممتعةأو متعة صادمة؛ قد تتولد عنها فكرة مبهمة في ذهن القارئ عن الحياة و الإنسان لا تزول بسهولة
."
شمس القراميد" رواية مغامرات حلمية، يصعب معها تبين ما حدث فعلاً وما مدى
اقترابه من الواقع المعيش أو ابتعاده عنه؛ ولكنها، في كل الأحوال، مغامرات لها صلة خفية وغير قابلة للفهم دائما، بما عانيناه في الحياة وما ساورنا من أحلام اغتيلت بقسوة وكيف انقلب كل شيء، آخر الأمر، الى أوهام حزينة، لا ندري أمِن الصواب أن نعاود اجترارها، أم نتعقل و نرجع القهقرى؟
إنها رواية متوحشة بلا معنى، تحتوي على كلّ المعاني؛ وهي، ربما، مثل الحياة، مثل
الكون، مثلنا نحن
.
فؤاد التكرلي
تونس ١
٩٩٧