أسرعت تلك الأقدام العارية الصغيرة تركض بسرعة رافقتها أصوات ضحكات لأطفال لم تتجاوز أعمارهم الرابعة وهم يركضون في تلك الأزقة القذرة التي غطيت بالأوساخ من جهة ومياه الصرف الصحي من جهة أخرى مكونة بيئة طاردة حتى لأحقر الحيوانات ، ولكن في تلك
منتدى ليلاس الثقافي
البيوت المعدومة والتي وقعت في ضاحية سان لوران شمالي جنوب لندن، لم يكن يشغل بال لألئك الأطفال أي شيء ولم يكن شيء ليوقفهم عن اللعب واللهو طول النهار ففي تلك العقول الصغيرة اليانعة لم تكن هناك مسؤوليات ملقاة على عاتقهم
وأمام أحد المنازل وقفت تلك الصغيرة والتي لم تتجاوز الثالثة من عمرها بشعرها الأشقر الطويل المتسخ بالغبار والأتربة والذي تهدل على ظهرها بغير هدى فيما كانت عينيها تشعان بلون أزرق طفولي تبعث الجمال عليها والذي أخفته تلك الأوساخ التي ملأت وجهها في حين كانت ترتدي قطعة قماش مهدلة بدت كأنها قميص لشخص أكبر منها أما قدميها فكانتا عاريتين قذرتين ملطختان باللون الأسود وعدد من الجروح الصغيرة التي سالت منها الدماء لتختلط مع ذلك اللون مشكلة منظرا لا يسر أبدا
-أرسيول
وجهت الفتاة نظرها نحو صاحب الصوت والذي لم يكن سوى فتاة أخرى بدا أنها في السابعة ، لم تكن تلك الطفلة أوفر حظا من الصغيرة فثوبها كان مثقوبا بعدة ثقوب كبيرة أظهرت أعلى كتفها وجزءا من أقدامها فيما كان شعرها ملقى على وجهها باضطراب وهي تمسك بيدها فتاة أخرى بدت في السادسة تنطبق عليها تلك المواصفات البائسة نفسها ، تقدمت الفتاتين من الصغيرة لتقول الكبرى بتأنيب:
-أرسيول ماذا تفعلين هنا ؟ ألم تطلب منك أمي ألا تغادري المنزل ؟
نظرت الصغيرة إليها بعينين برئتين لا تدركان شيئا مما يحدث حولها ورسمت ابتسامة مرحة على وجهها ، فتنهدت الفتاة بتعب لتقول الصغيرة الأخرى بسخرية:
-لا فائدة من كلامك معها يا كيانا فلن تفهم مهما قلت
-أعرف هذا
وتقدمت نحو الصغيرة مادة يدها
-هيا يا أرسيول علينا أن نذهب للسوق
وهنا بدا الانزعاج على الفتاة :
لماذا تذهب معنا ؟أبقيها هنا تعرفين أنها كثيرة التذمر يا كيانا
نظرت الشابة إن صح التعبير لشقيقتها الصغرى بدهشة
-سوما كيف سنتركها هنا هل جننت ؟
-لا لم أجن إنها مزعجة جدا في السوق
تنهدت سوما بتعب صحيح إن كلام شقيقتها صحيح تماما ، حولت نظرها نحو شقيقتها الصغرى التي كانت تنظر إليها بابتسامة بريئة ، جثت كيانا على مستوى شقيقتها لترسم ابتسامة هادئة على وجهها
-أرسيول عزيزتي عليك بالبقاء هنا حتى نعود حسنا ؟
هزت الفتاة الصغيرة رأسها دون أن تكون حقا قد وعت ما طلبته شقيقتها الكبرى ، وراقبت شقيقتيها وهما تبتعدان عن المكان مخترقتان ذلك الشارع الحقير فيما كانت المنازل الحقيرة والتي كانت أشبه بأكواخ من العصور الأولى ، وقفت الصغيرة وهي تحدق بالفتاتين اللتين ابتعدتا عن المكان حتى اختفتا عن ناظرها
وداخل المنزل والذي كان عبارة عن ثلاث غرفة الأولى هي غرفة نوم لم تكن مساحتها تتعدى الأربعة أمتار فيما الثانية هي
مطبخ صغير لم يكن ليتسع أكثر من الأم لوحدها أما آخر غرفة فهي ردهة الاستقبال الصغيرة والتي احتوت على مقعدين مهترئين حول طاولة صغيرة فيما كانت الأرضية مغطاة بالأتربة وكذلك حال الجدران فالنوافذ لم تكن متوفرة لكل من عاش في عام 1776 ، داخل المطبخ وقفت تلك السيدة التي رسم الزمان الشقاء على وجهها المتعب والذي ملأته التجاعيد فيما كانت ترتدي ذلك الثوب الطويل المهترئ ، وقفت وهي تنظر بعجز لتلك الأواني النحاسية الفارغة ، ولم يقطع عليها هذا الصمت القاتل عدا فتح باب المنزل ودخول ذلك الفتى الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة وهو يلبس ذلك البنطال الذي رقع من أكثر من مكان فيما كان قميصه ممزق كاشفا عن أغلب صدره ، اتجهت نحوه بأمل
-سانتر ماذا حدث؟
رفع نظره نحوها بأسى مزق وجهه الصغير
-لا فائدة أمي
قال ذلك ورمى جسده على الأرض الصلبة دون أن يضيف كلمة أخرى فيما نظرت الأم إليه بأسى ورفعت يديها للأعلى
-يا رب ساعدنا أرجوك
وبدت دمعة خفيفة على وجهها فيما كان سانتر يراقبها بعجز شديد ، إن الأوضاع تزداد صعوبة السياسية والاقتصادية على حد سواء ، فالنبلاء يسيطرون على كل شيء غير عابئين بالفقراء الذين ملئت بهم ضواحي لندن وأزقتها ، والذين لم يجدوا ما يسدون به رمقهم حتى .
وقفت أرسيول وهي تنظر لعدد من الفتية الذين وقفوا يلعبون معا وهم يركضون خلف بعضهم البعض بمرح ، كانت الصغيرة مشدوهة لمنظرهم ففي الحقيقة هي لم تلعب مع فتى من قبل فشقيقيها لم يكونا مهتمان كثيرا باللعب وأبناء الجيران لا يقبلون اللعب مع الفتيات مهما كانت الظروف ، وبينما هي على هذه الحال التفت أحد الفتية نحوها والذي لم يكن قد تجاوز السادسة فب
توماس على وجهه نظرة ماكرة وأشار لرفاقه الثلاثة الذين حولوا نظرهم نحو الصغيرة ، تقدموا نحوها بخطوات سريعة ليحيوا بها مما أدرى لرسم الخوف على وجه الفتاة التي وجدت نفسها محاطة بأربعة وحوش صغيرة تنظر إليها بسخرية
-أنظروا إليها يا أصدقاء
-يا لها من غبية
-ما رأيكم نلقنها درسا قاسيا ؟
وضرب قبضته اليسرى على راحة يده اليمنى بقوة مما رسم الخوف على وجه الفتاة التي أجفلت وبدت الدموع في عينها وما أن هم بالتقدم منها حتى أوقفه ذلك الصوت القوي
-ما الذي تفعله أيها الشقي ؟
نظر أربعتهم لذلك الشاب الذي بدت القوة في عضلاته المفتولة فيما لفحت وجهه أشعة الشمس لتكسوه بلون برونزي وبدت القوة في ملامحه
-لم تجيبوني
وهنا سرى الرعب في أوصال الفتية الذين سارعوا للنجاة بجلدهم ، فيما نظرت أرسيول نحو الشاب لترتسم ابتسامة مرحة على وجهها وهي تركض نحوها فاتحة ذراعيها ، حملها الشاب بابتسامة عذبة
-صغيرتي ارسي لقد اشتقت لك
وطبع قبلة على خدها جعلها تضحك بمرح
-ما الذي كنت تفعلينه هنا لوحدك يا فتاة ؟
-ألعب
خرجت تلك الكلمة من فمها بعفوية فبدت ابتسامة على وجه الشاب
-هذا ما تحبين فعله فقط صحيح؟
-أجل
قالتها ببراءة وهي تضحك فسار الشاب نحو المنزل
-هل عاد سانتر يا ارسي ؟
هزت أرسيال رأسها إيجابا ومدت يدها نحو المنزل
-في الداخل
-إذن هيا لنفاجئهم
صفقت يديها بحماس
-هيا هيا
وقف الشاب أمام المنزل ليفتح الباب ويدخل حيث شاهد شقيقه متمدد على الأرض فيما كانت أمه في المطبخ
-أمي لقد عدت
خرجت من المطبخ وهي تنظر نحوه بحنان
-أهلا مايك
وضع الشاب شقيقته الصغرى على الأرض واتجه نحو والدته ليطبع قبلة ناعمة على جبينها
-اليوم لدي لك مفاجأة رائعة
نظرت إليه باستغراب فيما اتجه إلى حيث كان شقيقه مستلق
-هيا انهض يا فتى
وركله على مؤخرته مداعبا لينظر الفتى إليه بملل
-مايك أكره أسلوبك هذا
جلس على الأرض بلا اهتمام
-أعرف هيا انهض لدي لكم مفاجأة سارة
قال هذا ومد يده نحو جيبه فيما جلست الأم بجانب صغيرتها وهما تراقبانه يخرج من جيبه ذلك الكيس القماشي البني ويفرغ ما بداخله من قطع نقدية على الطاولة ، نظرت الأم بدهشة لتلك القطع وكذلك كان حال سانتر الذي نظر إليه بفم مفتوح من الذهول
-كيف حصلت على كل هذا ؟
نظر لشقيقه منتظرا الإجابة
-لقد ساعدت أحد الرجال اليوم وتبين لي بعدا أنه ثري جدا وقد قدمها لي كمكافئة لما فعلته
بدت الدموع في عيني الأم وهي تنظر إليه ، فيما أمسك مايك بيدها
-أمي أرجوك لا تبكي
لا يا بني أنا لا ابكي
ومسحت دموعها فيما مدت أرسيول يدها نحو إحدى القطع وهي تنظر إليها بإعجاب نظر مايك إليها
-إذن يا أرسي الليلة سنقيم وليمة شهية ما رأيك ؟
لم تفهم الفتاة ما كان يعنيه بالضبط ولكن ابتسامته تلك ومرح شقيقها الأكبر أكد لها أن هذا اليوم هو يوم رائع.
أطل الليل بستاره على تلك الأحياء القاتمة التي طغى عليها اللون الأسود وميزها امتلاؤها بالسكارى الذين تجمعوا في الحانات مرة وفي الشوارع يترنحون كالمجانين مرة أخرى ، ولم تكن الضحكات أمر مألوف في ذلك الحي ولكن الليلة كانت استثناءا ، ففي ذلك المنزل الصغير كان الجميع متحلقون حول تلك الطاولة التي زينت بأطعمة بسيطة ولكنها بدت لمن يراها أول مرة في حياته كوليمة من ولائم الملك ، وحولها كانت الفتيات الثلاث يضحكن مع شقيقيهما فيما كانت الأم تراقب هذا المنظر بسعادة غامرة لم تذقها منذ وفاة زوجها قبل سنتين، لقد اعتقدت وقتها أن كل شيء قد انتهى ولكنها أدركت بعدها أن زوجها ترك خلفه رجالا فمايك وسانتر يبذلان كل جهودهما لإعالة هذه العائلة ، نظر مايك لأمه الشاردة
-أمي ما بك لِم لا تأكلين ؟
أيقظها صوته نيويورك تأملاتها وذكرياتها لترسم ابتسامة على وجهها
-لقد شبعت يا بني كلوا أنتم بالصحة والهناء
-كما تريدين
وحول نظره نحو شقيقاته اللواتي بدين في قمة السعادة وهن يضحكن معا وخصوصا تلك الصغيرة حتى أن سانتر كان مشغولا بالضحك معهن ، إن كل ما يهمه هو سعادة أشقائه فهو مستعد لأن يدفع حياته كاملة مقابل هذا
ولكن لم يكن مقدرا لهذه الليلة أن تستمر بالاحتفاظ بهذه الضحكة ، فبينما هم مشغولن بالحديث والضحك طرق ذلك الباب بقوة جعلت الجميع يجفل وهو يوجه نظره نحو الباب ، عاد صوت الطرق ليرتفع مرة ثانية فالتصقت أرسيال وسوما بوالدتهما فيما بقيت كيانا ملاصقة لسانتر ، وحده مايك هو الذي تحرك من مكانه واتجه ليفتح الباب ولكنه فوجئ بكل أولئك الحرس الذين دخلوا بقوة دافعين الشاب ليسقط أرضا
-مايك بني
صرخت الأم بفزع وهي تنظر لابنها الذي أحاطته تلك البنادق المزودة بالسيوف بواسطة الجنود ، نهض سانتر بغضب شديد وهو ينظر نحوهم
-ما الذي تفعلونه ؟ لا يحق لكم الدخول إلى المنزل بهذه الطريقة
ولكن مايك نظر إليه بحدة طالبا منه الصمت
-يكفي يا سانتر أنا سأتدبر الأمر
وقف أمامهم بلباسه العسكري الأنيق والذي طغى عليه اللون الأحمر والأسود فيما بدت علامات القسوة والسخرية باديتان على وجهه ، رمق مايك باشمئزاز
-يا لك من وقح كيف تجرؤ على الوقوف أمام رجالي
وركله بقوة كبيرة في معدته مما جعله يصرخ من الألم ورسم الرعب على وجوه الفتيات ، فيما كان سانتر يراقب ما يحدث بحدة وهو يضغط على أسنانه بغضب ، جثا القائد أمام مايك وأمسكه من شعره بقوة ناظرا إليه بحقد
-لقد كانت اليوم هي مهلتكم الأخيرة للدفع ولكنكم كما أرى لا تبالون بهذا كثيرا لذا قررنا الحضور للحصول على شيء آخر
ونهض ليدير نظره في المكان باستحقار شديد ، وهو يتامل في وجه الفتيات المرتعب والأم الخائفة ليستقر نظره على أرسيال التي كانت ملتصقة بوالدتها ، فبدت ابتسامة ماكرة على وجهه
-سآخذ هذه
وتقدم ليمسك الفتاة من ذراعها فصرخت بخوف شديد فيما تمسكت الأم بطفلتها وهي تبكي بشدة
-لا أرجوك لا تأخذها أرجوك
ولكن الغضب بدا عليه ليصرخ بقوة
-ابتعدي يا امرأة
وركلها بقوة كبيرة أبعدتها عن الطفلة التي صرخت بخوف وذعر
-أمي أمي
ولكنه جرها من ذراعه وهي تصرخ فوقف سانتر أمامه بحدة
-دعها من يدك أيها الجبان
رمقه القائد العسكري باستحقار
-ابتعد من أمامي أيتها الحشرة قبل أن أخفيك من على وجه الأرض بلحظة
-ماذا قلت ؟
حاول مايك أن ينهض عن الأرض
-سانتر ابتعد عنه أرجوك أنا سأتدبر الأمر
ولكن الفتى تجاهل طلب شقيقه ليستمر واقفا أمام القائد الذي بدا عليه نفاذ الصبر
-ابتعد من أمامي حالا
ولكن العناد كان إحدى أهم سمات سانتر الذي نظر إليه بجمود
-لن أتحرك من هنا
-إذن ستلقى حتفك
وبدون سابق إنذار أخرج مسدسه من جيبه ليطلق رصاصتين استقرتا في قلب الفتى البائس ليعول صراخ أرسيال وشقيقتيها فيما شهقت الأم برعب شديد دون أن تتمكن من تمالك أعصابها أما مايك فكان ينظر لما يحدث بجمود دون ان يتمكن من فعل شيء ، أمسك القائد بذراع أرسيال التي كانت تبكي بحدة وهي تصرخ بقوة
منتدى ليلاس الثقافي
-سانتر أمي أمي
ولكنه مر من خلال جنوده ليقف أمام الباب وملقيا نظرة أخيرة على تلك العائلة نظرة استحقار واستعلاء وخرج ساحبا أرسيال خلفه لتنظر الصغيرة التي بللت الدموع وجهها الشاحب وهي تحاول أن تلتقط أنفاسها من البكاء لتلقي هي الأخرى نظرة أخيرة على عائلتها .