الفصل الثانى
- هل أنت متأكد بأنها فى حالة جيدة ؟ كان " وليم " يبدو عليه القلق والخوف . وعلى الرغم من النعاس الذى يظهر على صوته .
- نعم , إننى متأكد فهى تنعم بالنوم فى سريرى .
والشخص الآخر على الهاتف بقى صامتا لفترة من الوقت ثم قال :
- كنت أعلم بأنها تستطيع الاعتماد عليك .
- هل كنت تعلم بما سيجري لها ؟ استأنف " ديرك " لذلك أعطيتها اسمى , أم أن لديك أشياء أخرى تقولها لي أيها الحاكم ؟
أمره " وليم " بعصبية :
- كف عن محادثتى بهذه اللهجة البوليسية الرسمية عندها أخذ " ديرك" نفسا عميقا . وقال :
- " وليم " يطرق بابى فى الساعة الرابعة صباحا . فأفتح لأجد أمامى فتاة مرعوبة ومنكوبة . ولم أنم سوى أربع ساعات . فلذلك أعانى من صداع كبير فى رأسى واختلالا فى توازني , وهنالك الكثير من المتاعب التى تنتظرنى فأرجو منك أن تتركنى وشأنى .
" فرانكلين " يضحك بخبث :
- كنت أظنك بأفضل حال هناك .
- " وليم " .
- سأتوقف , سأتوقف عن ذلك , ولكن تذكر بأنك مسؤول عن ذلك الفتاة , لأنها إحدى خصوصياتي .
- بماذا تخصك حسب وجهة نظرك ؟
كان سؤاله فظا مع أن " ديرك " لم يكن معتادا على هذا النوع من المواربة في الحديث .
- فهى من بين كل الناس قد أصيبت برصاصة وكنت أنا المقصود .
- ماذا تريد أن تقول بذلك ؟
- منذ عامين أقمت سهرة لأعضاء شركتى فحاول مهووس اغتيالى فألقت " شيرلي " بنفسها على قبل الحارس الشخصي , لكي تحمينى , كانت الوحيدة التي رأيتها حينها فتلقت تلك الرصاصة بكتفها بدلا عني .
- ألم يخبرك أحد عن ذلك فى وقتها ؟
أجاب " وليم " بصدق : منتدى ليلاس
- كلا ...
بعد لحظة من التردد قرر " ديرك " ألا يسأل عن التفاصيل , لأنه يعرف حق المعرفة طبيعة الحياة السياسية .
- أمن اجل ذلك أوجدت لها عملا فى " جيفاتش " ؟
- هذا كان واحدا من الأسباب التى دفعتنى إلى ذلك . كما أننى أخذت على عاتقى العناية بها , وكذلك زوجتى تشاركنى فى ذلك حالتها سيئة للغاية , لقد تلقت الكثير من الصدمات والضربات بما يكفيها ولن تجد أحدا ظروفه سيئة مثلها .
- نعم حقا .
أجاب " ديريك " وهو يرفع صوته . لقد لاحظت ذلك اليوم فى الساعة الرابعة صباحا .
تنهد " فرانكلين " قائلا :
- فالعرج الذى فى قدمها واضح تماما . ويكون إحدى مأسيها السابقة . أحيانا تمر عليها لحظات تنسى كل أحزانها . ولكن عندما تتذكر أوجاعها تنطوى على نفسها كأنها زهرة تنطوي على تويجاتها .
- اتمنى لو تحدثنى عن " جيفاتش " طلب " ديرك " ذلك بعد لحظة من الصمت .
- ليس لدى أشياء كثيرة أقولها لك . أكثر مما تعرفه " شيرلي " وما قالته عن هذه الجمل الغريبة . تذكرنى بالقوانين التى نحن نستعملها بالجيش , وهذا كل شئ أعرفه . " ديرك " تذكر حديث " شيرلي " لمديرها عن هذا الشئ الذى لا يكون موجودا . وتطلبه شركة غير معروفة اسمها من شركتها .
- ماذا تعتقد ذلك ؟
اعترف " وليم " بإرتباك :
- أنا لا أعرف شيئا من هذا , ولا أستطيع أن أقول بأنهم يصنعون ألعابا مسالمة , وإذا لم يكن هناك نموذج عنها فسيكون تصنيعه صعب , ولا أحد يتجرأ على صنعه . المخطط غير كامل , أنا أستطيع .
- من المستحسن أن تبقى خارج الموضوع .
يقاطعه " ديرك " قائلا :
- سأهتم بـ " شيرلي " , واطلعك على مجرى الأحداث إذا أستوجب الموضوع تدخلك .
يرد " فرانكلين " مرغما :
- كما تريد , ولكن إذا ساءت الأمور .
وعده " ديرك " :
- إذا ساءت الأمور , سأعمل على أن تصل " شيرلي " إليك .
- انتبه لها وأول عنايتك الكبيرة بها يقول الحاكم ذلك أخيرا بصوت مقتضب .
يضع " ديرك " سماعة الهاتف ويهرش في رأسه مفكرا , قبل كل شئ عليه أن يأخذ قسطا من النوم , نظر إلى الساعة التى فى يده وتذكر أن المنوم الخفيف الذى أعطاه لـ" شيرلي " سيتركها تنام أيضا لمدة ست ساعات ثم ضبط منبه ساعته ونام على الأريكة .
فى مطلع الفجر على الرصيف كان هناك رجل طويل القامة ثابت لا يتحرك يتأمل الحركة التى أخذت تدب فى الشوارع ثم قطع الشارع ودخل إلى بناية كانت تحت رقابته لفترة طويلة , ومن ثم توقف عند صندوق بريد وأطلق صفيرا وطرف عيناه على أول درجة من السلالم .
كان يبدو عليه التردد والحيرة . تعبيراته ظلت غير مفهومة فى النهاية رجع أدراجه عائدا إلى الشارع منخرطا بين المارين وفى الصباح أوقف سيارة أجرة بعد أن غير ثلاث سيارات توصل إلى قرار وهناك انتظر أيضا لمدة ساعة . يراقب مجددا السيارات قبل أن يدخل بناية أكثر قدما من الاخرى صعد سلالم الدرج إلى الطابق الثالث متجاهلا المصعد ودق بضربات خفيفة باب الشقة المتواجدة على الجهة المقابلة للسلالم .
- نعم ؟ بعد لحظة فتحت امراة شابة مظهرها يشير إلى الجدية .
فأجابها بسرعة :
- لقد وجدت لنفسها ملجأ تأوى إليه .
- أين ؟ ومع من ؟
يصحح جملتها قائلا :
- عند من ؟
شريكته تتأمله غاضبة وهي ترد عليه :
- توقف عن تصحيح قواعدي اللغوية . كانت لهجتها قريبة جدا من لهجته . وأى مستمع لهما سيعرف فى الحال بأن اللغة الانجليزية ليست لغتهم الام .
يجيب الرجل :
- هي عند صديقنا العجوز من " براغ "
تتنهد الفتاة وهي تقول :
- كنت أعتقد بأنه ما زال فى الغربة .
- يبدو عليه أنه عاد .
- لماذا ذهبت عنده بالتحديد ؟
- ليس لدى أدنى فكرة عن ذلك . لقد ذهبت مباشرة إلى عنوانه بعد أن بحثت عنه فى دليل الهاتف فى البداية كنت أعتقد بانها تعرف إلى أين وإلى من هي ذاهبة .
يبدو انها تعرف شيئا ما . لذلك قاموا بتفجير شقتها .
- بعد ذلك ؟
- لننتظر !
نهض " ديرك " فى الساعة السادسة صباحا بعد أن نام لبرهة قصيرة وكانت " شيرلي " ما تزال تغط فى نوم عميق عندما ذهب إلى غرفتها ليتحقق من ذلك , قبل ان يستحم ويحلق ذقنه . فغفوته القصيرة خلصته من جزء صغير من تعبه لا أكثر فقد كان معتادا على النوم كثيرا وخاصة عندما يكون فى صدد مهمة ما . وأحس " ديرك " بعد الاستحمام , وبعد فنجان القهوة الثاني بإنسانيته وبالنشاط والحيوية تدب في عروقه .
وأول الأشياء التى وردت على فكره المتيقظ . كانت قبل كل شئ الإطمئنان على سلامة " شيرلي " والقيام بالتحقيقات اللازمة بواسطة الهاتف . وذلك لمعرفة الأسباب الحقيقية لكل ما جر لـ " شيرلي " ولكن عاجلا أم آجلا كان عليه الذهاب إلى " جيفاتش " واصطحاب " شيرلي " معه فقد كان خارج احتمال ترك " شيرلي " وحيدة فى البيت حتى إنه لم يفكر بتركها عند " وليم " لأسباب مختلفة .
قرر التحرك بسرعة كبيرة . كان عليه إخفاء صلته بـ " وليم " لأنه أحد المشاهير ويستطيع أن يكون عدوا شرسا وصديقا مخلصا على حد سواء وفكر " ديرك " بجعل هؤلاء الذين تسببوا فى الانفجار فى حيرة وقلق دائما . ومهما يكن الامر فـ " وليم " يكون الورقة الاخيرة التى يتوجب عليه كشفها وذلك فى الضرورة القصوى ولا أحد يستطيع أن يكتشف اين تختبئ " شيرلي " , فشعر " ديرك " بانها تكون فى أمان عنده .
ولكنه عاد ليطرح على نفسه أسئلة أدق . فالشكوك ما زالت تراوده , لأن أغلبية الناس في " ريتشموند " يعرفون أن " ديرك روس " الوكيل العامل بصفة شبه رسمية للحكومة . يقطن فى المدينة ويكفى أن يأتى أى شخص من " جيفاتش " ويطرح سؤالا جيدا عليهم فيكتشفون كل شئ . كما أن " ديرك " يعلم منذ زمن طويل بأن أى إنسان يستطيع أن يجد كل العالم إذا فتش جيدا ولن يجد صعوبة بإقتفاء أثر أى شخص تحت أسماء مستعارة وصور مزيفة .
وفى هذه الحالة فـ " شيرلي " لن تبقى معه أمنه لفترة طويلة وماذا إذن عليه أن يفعل ؟ فطاف بنظرة متأملة على صفحات الجرائد التى جمعها من مدخل البيت وفجأة استرعى اهتمامه صورة شخصية . وقال فى نفسه .
" لقد حالفنى الحظ "
أسرع " ديرك " إلى دليل الهاتف مفتشا عن رقم فندق معروف فى المدينة وانتظر لبرهة من الوقت لينتقل من خدمة إلى أخرى لإجراءات أمنية حتى توصل إلى الشخص الذى يريد محادثته قائلا بنبرة قوية :
- التحدث مع الرئيس يكون أسهل بكثير .
عندها انطلقت ضحكة بالطرف الأخر من الخط قائلة :
- " ديرك " ! كم أنا سعيدة بسماع صوتك واعذرنى على الترتيبات الامنية التى يصر عليها " زاك " بإستمرار وخاصة فى الأشهر الأخيرة .
- علمت بذلك فلقد حدثنى " كيلسى " عن " تيريزا "
أجاب " ديرك " بإختصار . كيف حالها الآن ؟
تنهدت " ميسانج لونج " قائلة :
- جسديا بأفضل حال أما معنويا فهى مازالت تحت وقع الصدمة " زاك " وهى كانا يريدان طفلا ...
- أبلغيهما مواساتي .
تضيف بلهجة أكثر رقة :
- لن أنسى أبدا ذلك والان قل لى ماذا تفعل فى " ريتشموند " ؟
- إننى أقطن فيها ؟
فضحكت قائلة :
- وكيف لى أن أعرف ذلك ؟ فأنت فى كل بلد لديك شقة فى " لندن " وأخرى فى " هونج كونج " وإن لم تخنى الذاكرة فلديك قصر فى " فرنسا "
- قصر صغير جدا , ولدى كذلك شقة فى " ريتشموند "
- إنه ميناء تحتمى فيه عند حدوث عاصفة .
تمتمت بلطف .
- هل سمعت ما قيل فى " الجزائر " ؟
- سمعى مرهف . وأنت عملت هناك الضجة الكافية .
بالنسبة لشخص يكره استخدام السلاح النارى . فحسب إعتقادى وبدون أن تترك له فرصة الإجابة . لماذا لا تغط فى نومك فالرجال الأقوياء أيضا يحتاجون لساعات أطول فى النوم ؟
يبتسم " ديرك " حقا إنها " ميسانج " فهى تعرف دائما كيف تصل إلى ما تريد .
- أحتاجك فى خدمة .
- أتمنى أن أسدى لك معروفا . ولا سيما أننى بدأت أشعر بالملل ولا أدرى بماذا أشغل نفسى بعد انشغال زوجى و " زاك " بالانتخابات النقابية . فكيف أستطيع خدمتك ؟
- ببعض المحاضرات .
- بماذا ؟
- بدروس حول ثياب لأمرأة ؟
فانفجرت " ميسانج " ضاحكة :
- حضر نفسك لترى لى كل الحكاية . وما هى المقاسات والألوان ؟
أعطاها " ديرك " المعلومات التى طلبتها , بالإضافة إلى عنوانه .
يقول " ديرك " :
- ربما تكون البناية مراقبة . خذى حذرك .
- سأحضر لك كل ما طلبت , وسأكون عندك بأقرب فرصة ممكنة .
- شكرا .
وضعت " ميسانج " سماعة الهاتف قبله . كان " ديرك " يحدث نفسه إن " ميسانج " تساعد الآخرين دوما , لانها لا تجيد التصرف على منوال آخر . إن المشيئة منحته أصدقاء يستطيع الاعتماد عليهم حقا فى الأوقات الصعبة .
كانت تعرف " شيرلي " وهى تفتح عينيها بانها كانت فى سبات عميق فنظرت بطرف عينيها إلى المنبه للتأكد من صحة ما تعتقد .
ونهضت فجأة وسألت أين تكون ؟ فهذه الغرفة أكبر اتساعا واكثر ثراء من غرفتها .
ولمن هذا القميص والسروال فهذه الثياب التى ترتديها ليست لها وعندها أخذت تسترجع ذاكرتها وكل ما جرى لها ليلة امس .
" جيفاتش " والانفجار وليل طويل من الضياع والوحدة والتعب إلى أن وجدت ذلك الرجل ذا الشعر الأشقر والعينين الداكنتين الذى أستمع إليها وقدم لها العشاء وحملها إلى السرير . ودلك لها الكسر الذى فى قدمها حتى زال الألم ونامت وهو يعتنى بها .
نهضت " شيرلي " وشعرت بان وركها متشنج مع أنها لا تشعر بأى ألم . لقد سمعت أصواتا فى قاعة الاستقبال وبعد لحظة من التردد توجهت نحو الباب وقد كان " ديرك " واقفا وهو يستند بيده على مسند الكرسى مرتديا سروالا أسود وقميصا رماديا كان يظهر أكثر جمالا مما تحفظه فى ذاكرتها . ثم وقعت عيناها على السيدة الجالسة على الأريكة وانتبهت لنفسها فشعرها مبعثر وهيئتها مهملة . وقدماها حافيتان . أحست برد الفعل الذى ستتلقاه هذه المرأة التى أمامها بشعرها الأسود المرفوع " شينيوه " في مؤخرة الرأس فيه وميض أزرق أما بالنسبة لتقاطيع وجهها . إذا لم تكن كاملة فلن تستطيع أن تتجنب تلك العيون البنفسجية والابتسامة الدافئة التى كان توجهها بين الحين والآخر إلى ديرك . وكان العقد الذهبى الملفوف حول عنقها يعكس جمال بشرتها البيضاء الناصعة . كأنها أنقت نفسها لسهرة فأناقتها وذوقها الجميل يعطيانها طابعا منفردا بها . شعرت شيرلى أمامها ولأول مرة كأنها بطة قبيحة وصغيرة .
سأل ديرك شيرلى وهو يتفحصها بدقة :
- هل أنت أفضل الآن ؟
- نعم ، شكرا .
ردت عليه بصوت رنان وهى تقطب حاجبيها ، مد ذراعه لكى يجلسها على الكنبة .... وهو يعرفها بالسيدة الجالسة "ميسانج لونج" . بينما هى تأخذ مكانها ذهب "ديرك" إلى المطبخ ليجهز القهوة .
قالت "ميسانج" برزانة :
- لقد مررت بلحظات صعبة .
- هل حدثك عن ذلك ؟
- نعم . لقد كنا نعمل سويا فيما مضى , أخذت تشرح لها .
"شيرلى" أحست بارتياح تلقائيا . عندما اكتشفت خاتم الزواج الذى كانت ترتديه "ميسانج" وهى تشير إلى العلب الكرتونية الموضوعة فوق الكنبة .
- لا يريد "ديرك" أن يتركك وحيدة فى المنزل . فلذلك طلب منى أن أحضر لك بعض الثياب ، أعتقد أن المقاسات ستكون جيدة . بعد أن لاحظت الرشاقة التى تميز "شيرلى"
تتابع حديثها :
- أما بالنسبة للألوان كانت تبعا لذوق "ديرك" . متجاهلة الارتباك الذى أصاب الفتاة .
- لا أعرف كيف أشكركما .
تحدثت "شيرلى " بضيق :
- سأدفع لك .
قاطعتها "ميسانج" بابتسامة قائلة :
- سنرى فيما بعد .
حاولت "ميسانج" جاهدة مراعاة مشاعرها :
- قبل كل شئ علينا أن ننزع الخوف الذى أراه فى عينيك .
- أنت خارج اللعبة .
يتدخل "ديرك" فجأة فى الحديث :
- لقد قلت لك ذلك قبل الآن .
ويحمل فنجانا من القهوة ويقدمه لـ "شيرلى" . إذا أنا ورطتك فى هذه القصة "جوس" و "زاك" سيعملان على قتلى .
"ميسانج" تبتسم له :
- هما مشغولان عنى بموضوع آخر . أنت تعرف ذلك .
ثم توجه حديثها لـ "شيرلى" زوجى وأحد أصدقائه .
- هما يريدان التدخل وأنا لا أحتمل ذلك ..... يصر ديرك على موقفه .
- دائما عنيد ومتمرد !
- لا أحد يتغير بسرعة كبيرة . أجاب بلهجة جادة .
كانت " شيرلي " تنظر لهما بإستغراب واضح . فلاحظت " ميسانج " ذلك .
- " ديرك " يكره القوانين . والمقصود بالمسائل الخاصة والحكومية . فلا يوجد مثيل لها فهو شخص يستطيع أن يواجه المشاكل الأكثر تعقيدا ويخرج منها بدون أن يفهم أحد قط . كيف يفعل ذلك .
- هذا يكفى , أمر " ديرك " بلطافة مصطنعة .
- يجب على " شيرلي " أن تعرف عند أى الرجال هى تكون . تتابع " ميسانج " حديثها بنفس الإبتسامة . واحب أن أعلمك بأن " ديرك " لا يستخدم السلاح أبدا . ولكنه يسبح كالسمكة وهو يمتلك عيون النسر فهو قادر على أن يستدل طريقه فى قلب الصحراء . وعبر مئات الكيلومترات إلى واحة فريدة ويعود ادراجه بطريق آخر وفى أقل من ساعة ولا يعدل عن رأيه حتى النهاية .
- أنت تريدين الاستمرار بالمديح حتى استسلم وأصدق . سخر " ديرك " وهو يوجه الحديث لـ " شيرلي " .
لكن " ميسانج " استمرت فى حديثها لتثبت صحة ما تقول :
- إننى من غيره لكنت الآن عميلة مزدوجة أعمل لحساب خصمين ومحمولة إلى الشرق كعملة نقدية متداولة .
يطلب " ديرك " منها بلطف :
- من فضلك " شيرلي " اذهبى وارتدي الثياب التى أحضرتها "ميسانج " معها , قد أكون أخطات فى المقاسات .
جمعت " شيرلي " علب الكرتون وعادت إلى الغرفة . أشعل " ديرك " لفافة من علبة السجائر . فقد كانت عنده عادة مستديمة فى التدخين بطريقة غريبة ينفخ دخان سيجارته بتكاسل مشكلا منها دوائر ويبدو مستاء إذا لم تكتمل إحدى هذه الدوائر . كان يقوم بهذه العادة عندما يكون غارقا فى تفكير مستفيض حول مشكلة عالقة . وبدون أن يثير اهتمام أحد ممن حوله .
" ديرك " لم يكن لديه صفات الحرباء فى المراوغة والتخفى . كما عند " كيلسى " لكنه أستاذ فى الشرح واستخدام لغة الجسد . ولا يستطيع أحد أن يسبر أغواره إلا عميل مثله . و" ميسانج " كانت عميلة قديمة كما إنها ممثلة بالفطرة . فكانت تستطيع أن تفهم وبسرعة كبيرة الحركات العصبية السريعة التى كان يقوم بها " ديرك " .
- هل تشعر بالقلق ؟
أسند " ديرك " رأسه إلى الخلف وثبت نظره إلى السقف قائلا :
- هل لحق بك أحد إلى هنا ؟.
- كلا لم يبتعنى أحد ولم ألاحظ أى نوع من المراقبة هل تخاف أن تتعرض للهجوم ؟
كانت هذه العبارة تستعمل دائما بين العملاء فهى تشير إلى الحدس الذى يجب على كل عميل أن يتمتع به فالعميل الذكي يعرف تلقائيا بأن السكون يسبق العاصفة و " ديرك " خبير ومتمرس فى هذا المجال فقد اشتغل فيها لفترة لا بأس بها فى " إنجلترا " .
هز " ديرك " كتفيه قائلا :
- كلا , ولكنى أسال ماذا يقصدون من ذلك ؟ ولماذا يريدون التخلص من " شيرلي " بأقصى سرعة ممكنة ؟ هل لانها رأت بعض الرسائل التى تحوى عبارات غريبة ؟ لماذا لم يجعلوها تحت مراقبتهم أو بوضعها تحت الضوء الأخضر لفترة من الوقت ؟
قالت " ميسانج " :
- ربما هى تعرف عنهم أسرارا أكثر مما تدرك . وهم يخافون من أى خطر يحوم حولهم .
- بذلك هى تكون متورطة مع أناس أشرار وأيديهم ملوثة باعمال وقضايا شائكة .
- لقد أعطيتنى التفاصيل الصحيحة استأذن بالانصراف لأننى وعدت " جوس " بالعودة فورا ... أضافت " ميسانج " وقد بدا عليها أنها شاردة الذهن .
- ليس هذا من طبعك هل تخفين شيئا ما ؟. يلاحظ " ديرك "
لكن " ميسانج " لم تجبه فورا . بل ظلت صامتة حتى وصلت إلى مدخل الباب . ثم استدارت نحوه قائلة :
- لاشىء . راوغت وهى تبتسم لا تتردد إذا أحتجت لأى مساعدة وملجأ أمن مثلا . لدينا الآن مكان خال .
أخذ " ديرك " يراقبها وهى تخرج منتبها للقامة الرشيقة التى تميزها ثم اتجه نحو النافذة ولكنه انتبه بأنها لم تخرج من الباب الرئيسى فقد كانت تاخذ حذرها من أى خطر . قال " ديرك " – وهو ينظر إلى المدخل الضيق من الممر المظلم للجهة الأخرى من الشارع :
- إنه مركز مثالى للمراقبة ولكن الشارع كان مليئا بالمراصد . ثم استدار وهو يطلق زفرة قوية . هل حقا " شيرلي " تخلصت من الذين يلاحقونها ؟ هل ستكون فى مأمن فى بيتى . احتمال ألا تكون ولكن كل شئ ممكن .
- هل رحلت ؟
ارتعش عند سماع صوت " شيرلي " المرتبك .
- نعم يجب عليها العودة بسرعة .
لقد أحسنت " ميسانج " إختيار الألوان التى طلبها " ديرك " لقد أكد عليها اختيار الألوان الدافئة كالأحمر والذهبى الكستنائى فالسروال الذى كانت ترتديه " شيرلي " لونه عاجى وضيق وفوقه قميص احمر من الحرير .
قالت " شيرلي " وهى تنظر إلى الحذاء ذى اللون البيج :
- لقد أحضرت أيضا مجموعة من الأحذية . بالإضافة لأشياء أخرى بيجامات واطقمة مناسبة وفرش للشعر . فأنا حقا لا أعرف كيف أشكركما . ولا كيف أرد لكما هذا المعروف .
- "شيرلي "
عضت على شفتيها .
- أنت حقا جميلة .
لقد كانت هذه الكلمات كوقع الصاعقة على " شيرلي " . " ديرك " وقف أمامها واضعا يديه فى جيبيه وينظر إليها بإستمرار . لقد كان لطيفا جدا معها . لأن اللطافة وقدرة التفهم تكون من ميزاته الأساسية.
ردت " شيرلي " عليه :
- شكرا
ابتسم :
- أنت لا تثقين بكلامى .
عندها استدارت " شيرلي " ورفعت رأسها بشئ من التحدى :
- أنا أعرف نفسى جيدا . لاننى أنظر فى المرآة .
هز " ديرك " رأسه :
- أنت لا تعرفين شيئا عن مدى جمالك . فالمرأة التى تنظرين إليها أحدهم عبث بها . فظهرت على نقيض صورتك الحقيقية وصدقت ذلك .
فرمقته " شيرلي " بنظرة غامضة وهى تتساءل فى قرارة نفسها لماذا لا يتوقف عن النظر إليها ؟ لماذا يحدثها دائما عن المرايا ؟ فهى تعرف كل شئ . ومنذ زمن بعيد .
تنتبه " شيرلي " إلى نفسها وتحاول تغيير مجرى الحديث وتستأنف قائلة :
- لو نتحدث عن " جيفاتش " ؟
- أرسلت بعض العيون هناك لأجس النبض وعلينا انتظار ما سيحدث .
أجابها " ديرك " .
- هل دعوت أحدا ما إلى هنا ؟
- بعض الاصدقاء الذى يعملون فى التكنولوجيا العالمية . وهي جمعية علمية تهتم بالمشاكل الصغيرة التى يتعرض إليها الأشخاص فى النكبات .
كررت " شيرلي " بدون فهم :
- النكبات .
- هل حدثتنى عن المقصود بالمخططات المتروكة ؟
- نعم تقولها بعصبية ., هل تعتقد أن أصدقاءك يستطيعون الاستماع بالتحدث عن ذلك ؟
- هذا يوازى صعوبة التحقيق ويؤكد " ديرك " . " شيرلي " هل تشعرين بالخوف منى ؟.
- الخوف ؟.
كان سؤاله مدهشا تماما لها , لقد لاحظت ان هذا الرجل يستطيع أن يجعل كثيرا من الناس يخشونه إلا هى على عكس ذلك , فقد كانت تشعر بالثقة والاطمئنان منذ أول مرة رأته فيها .
- كلا أنا لا أخشاك
- هل تثقين بى ؟
- نعم تضيف بسرعة لكي لايبدو فى إجابتها سذاجة . لقد جعلنى " وليم " أثق بك قبل كل شئ .
- إننى أطلب منك أن تثقى بى ثقة عمياء فهل تجدين فى نفسك القدرة على ذلك ؟. كان يتحدث بكثير من الجدية .
- لا أفهم ماذا تريد أن تقول .
يؤكد على حديثه السابق وبدون أى نوع من التحفظ قائلا :
- إذا طلبت منك أن تقومى بشئ وحتى لو لم تفهمى لماذا تفعلين ذلك . فعليك أن تفعليه , لان هذا الأمر يتعلق بحياتنا نحن الاثنان .
عندها شعرت " شيرلي " بالخوف ولأول مرة .
- " شيرلي " علينا أن نغادر خلال يوم أو يومين هذا المنزل . فليس من الحكمة بقاؤنا فيه . فهم سيعرفون لاحقا بأنك لجأت إلى فلذلك سنتحرك بأقصى سرعة بدون سابق إنذار . هل تعين ما أقول ؟
- أنا أفهم ذلك . تؤكد " شيرلي " له بحزم
- بدون تردد ؟
سألها وهو يبتسم .
- ليس لدى خيار أخر .
بإبتسامته الساحرة قال :
- أنت حقا عاقلة .
- اعذرنى ., يجب أن أتحدث هكذا لأننى تحت حمايتك وأنت قمت بذلك بدون معرفة سابقة . كما أنك لست مجبرا على حمايتى و ..
توقفت عن الكلام وهى تكاد أن تبكى .
- " شيرلي " حقا أنت جميلة .
أعاد على مسامعها نفس العبارة وكانت كل مرة تنزل عليها كالصاعقة تلعثمت وهى تجيبه :
- لا تقل لى دائما هذه الكلمات .
وبذكائه المعتاد يقول :
- والثقة المطلقة التى وعدتنى بها , هل نسيت ذلك .
شعرت " شيرلي" بأن " ديرك " يملأ بوجوده المكان كله , ولا تستطيع الهروب من نظراته القوية . فأحست بأن الغرفة ضاقت بهما والمسافة أصبحت قريبة جدا بينهما .
وحلقها يحترق ويداها ترتعشان وهمست قائلة له :
- توقف وهى لا تعرف بماذا عليه أن يتوقف .
- كلا
أجاب بصوت هادئ .
- أريدك أن ترى صورتك فى مرآة حقيقية غير مزيفة .
- أنا لا أستطيع ...
- أنا أعرف بأنك لا تستطعين , ولكن يجب عليك أن تثقى بى كل الثقة , لأن أى تردد سيجعل حياتنا فى خطر
يناديها " ديرك " بلطف :
- " شيرلي " سأخبرك دائما عن الحقيقة , وفى كل المستويات .
- أنت حقا جميلة .
- أنا عرجاء ؟
فرد عليها بسرعة :
- كلا .
ماذا يقصد فى ذلك ؟ هل أصبح أعمى لا يرى ؟ وكيف لى أن أثق بشخص لا يستطيع أن يرى الحقيقة ؟.
- أنت لا تعرجين ؟
صرخ " ديرك " بحزم :
- فعلا كنت تعرجين البارحة . ولكن هذا كان بسبب تعبك وتشنجك أما ما أراه اليوم فأنت تمشين بشكل طبيعى وفى معظم الاوقات . وهذا يؤكد بأن هذه العلة نتيجة إحساس داخلى , وهذا ناتج عن الصورة المزيفة التى تشاهدينها فى نفسك والتى حدثتك عنها .
هل هذا ممكن ؟ وتتساءل محدثة نفسها ولكن ...
ولكن أمها كانت تقول لها دائما بانها تعرج ... عندها تذكرت فجأة كلمات صديقتها " جانى " التى جهزت لها الفستان الأحمر .
- أنت لا تعرجين إلا عندما تفكرين بذلك .
أو عندما تتعبين تقريبا كل شئ يسير وفق تفكيرك بكلام والدتك .
- أمى كانت تقول لي دائما إننى عرجاء . فهى تتذكر زيارتها الاخيرة عندما وبختها بأنها تمشى بسرعة .
- مرآتك هذه مزيفة . يكرر " ديرك " ذلك مصمما على رايه فلقد رأت جرحك ولم تستطع أن تنسياه . " شيرلي " عليك أن تصدقينى فهى ليست على صواب ثقى بى .
شعرت " شيرلي " بنفسها كأنها ريشة . وبأن شيئا ما يحملها من بين كتفيها ويرفعها . وهى تذوب بنظراته القوية الجميلة وتنهدت وهى تهمس قائلة :
- أنا أثق بك .
- " شيرلي "
همس لها وهو يبتسم :
- أنت حقا جميلة .
- شكرا .
ولأول مرة بدأت تفكر بذلك جديا .