يوسف أبو رية في عاشق الحي
بقلم: د. صلاح فضل
يوسف أبو رية قصاص مصري متميز, ينشر مجموعاته ورواياته بانتظام منذ عشرين عاما, مقتربا من العوالم الشعبية الحميمة, ومخلصا في تجسيد نضارة الشعور بالإنسان العادي في معاناته اليومية, متأرجحا بين القرية والمدينة, ومستبطنا حيوات الناس في تجارب فنية لافتة, تكسر المعهود في السرد, بحثا عن وسائل تقنية محدثة, تبوح بالمسكوت عنه في علاقات البشر وحركة المجتمع, برؤية شعرية نفاذة, ومنطق إبداعي مقنع.
غير أنه يقترب في هذه الرواية الجديدة المثيرة' عاشق الحي' من منطقة غائرة وحساسة في قلب الحياة المصرية, حيث تتفاعل بقوة العناصر الغيبية العاتية مع الثوابت العقلية المحكومة بالتفكير العلمي, في شكل صراع محتدم حينا, وتوافق موقوت معطل الهيمنة حينا آخر, فتتوزع سطوة التيارين بين الشخوص الممثلة لهما, لتصب في وعي القارئ مسئولية حل التناقض بينهما بطريقة جدلية مقبولة. وحتي لا نفرض تفسيرا خاصا علي الأحداث التي تفاجئنا بها الرواية, يجدر بنا تقديم عقدتها كما يحكيها الراوي في البداية قائلا:' بإيجاز شديد, كان دسوقي بدران يجلس علي المائدة لتناول الغذاء مع زوجته سميرة, دخل عليهما قط أسود غريب.. قفز إلي المائدة برشاقة, وراح يحدق في العينين المكحولتين للمرأة الشابة. انتبه الزوج لهذا التحديق الدائم, فقال له مستنكرا: -إيه.. عجباك؟ خدها.
فاختفت المرأة في الحال, وتلاشي جسد القط الأسود, وترك الرجل وحيدا, لا يقدر علي رفع يده الممدودة باللقمة إلي فمه.'
سيتكرر هذا المشهد مثل اللقطة المعلقة في فيلم سينمائي أكثر من مرة, والغريب أن دسوقي لم يكن قرويا جاهلا يؤمن بالخرافات, بل كان مدرس اللغة العربية في المدينة الصغيرة, وعندما أفاق من صدمته ارتفع صوته بالصراخ وارتطم رأسه بالحائط, فجاء زميله وجاره الأستاذ علي إبراهيم مدرس التاريخ ليضمد جراحه وينبش الأعماق الأسطورية للقطط وهو يواسي صاحبه ويبحث معه عن حل للحادثة التي لا تصدق, بعد أن عاد إلي شقته' قام إلي رف الكتب, وسحب كتابا تهرأت صفحاته يؤرخ للأسرات التي حكمت مصر في منف وطيبة وبسطة, توقف عند الصفحات التي تقص بداية حكم الغرباء الذين قدموا إلي مصر من جهة الغرب, حتي استولوا علي الحكم بقيادة ششنق الأول, وأبقوا علي طيبة عاصمة دينية, وأسسوا عاصمتهم السياسية في الجانب الشرقي من الدلتا, ثم دفعوا الشعب لعبادة آلهة محلية, مثل' بست' التي نحتوها علي هيأة قط أسود قوي البنيان, حتي لتظن أنه أقرب إلي اللبؤة أو الفهد, تاركين الإله الأكبر آمون راعيا للجميع. ثم جاء حكم ابنه سركون بعد نهضة سريعة ومؤقتة, فنجح في إعادة سيطرة مصر علي الشمال الشرقي في فلسطين والجنوب في النوبة والسودان, لكن لا يلبث ال
انحطاط أن يسود مرة أخري, فيتقلص حكم مصر, ويتم تفكيك المعابد القديمة التي أسست في عصور النهضة, لبناء قصور ومعابد علي أنقاضها للإلهة المحلية بست.
لكن الأستاذ دسوقي لا يكتفي بهذا المخزون الأسطوري في محاولة فهم الأحداث, بل يضيف إليه ما قر في نفسه من قراءة الأدب والشعر العربي القديم, إذ يبدو من بعض شواهده أن الموتي لا يموتون, ولكنهم يتقمصون أجسادا أخري تعود فيها أرواحهم, وها هو يتذكر غريمه في حب سميرة قبل أن يقترن بها, حيث كان' يأتي كل صباح, بقميصه الأبيض الشفاف, مفتوح الصدر, ليبرز شعيرات صدره المشرعة بقوة, ويقف عند البقال المواجه لشرفتها, ويرنو إلي وجهها الطالع مع إشراقة الشمس'. ويتذكر أن ما أنقذه من هذه المنافسة الشرسة هو حادث' موتوسيكل' أودي بحياة غريمه, وأتاح له أن يخطب سميرة ويتزوجها, فما الذي يمنع أن تكون روحه قد تجسدت في هذا القط الأسود؟
يبعث الراوي في نفس دسوقي خمائر هذا التراث الغيبي من الإيمان بالجن والعفاريت, ليروي حكايات كثيرة عن قدرتهم علي التشكل والظهور, كما ترسبت في أعماق الإنسان المصري في البيئات القروية والشعبية حتي اليوم, ولم تنجح طبقات الوعي العلمي الجديد في اختراقها فضلا عن اقتلاعها من وجدانه. وحينئذ يبدأ مع زميله أستاذ التاريخ رحلة البحث عن الشيوخ المتصلين بعالم الجن, لاستعادة زوجته من مخالب القط, في ثنائي طريف يمثل هذين العالمين المتجاورين في الحياة المصرية والعربية; أحدهما الواقعي الذي يري الأشياء من جانبها العلمي, ويلتمس التفسيرات المعقولة للظواهر الغريبة اعتمادا علي الفكر والمنطق, والثاني الغيـبي المتجذر في التراث القديم والأساطير المتداولة والحس الشعبي, فإلي أية رؤية تنحاز الرواية, وكيف تفسر الواقعة الخارقة لقوانين الطبيعة والمنطق؟
البحث عن الزوجة/اليقين:
يصطحب مدرس التاريخ زميله المغدور إلي معبد الإله' بست' في تل بسطة بمحافظة الشرقية, قريبا من بلدتهم' الجزيرة', حيث يري الأستاذ دسوقي تمثال الإله القط فيؤكد أنه بعينه هو الذي اختطف زوجته. ويدلهم الحارس الصعيدي علي عنوان الشيخ' أبو النجا' الذي يفك الطلاسم والأعمال, فيهديهم هذا بدوره إلي الدرويش الشيخ' هداية'-لاحظ رمزية الأسماء-الذي سيجدونه عند الباب الأيمن للجامع الأزهر بمصر, فيصف هذا لهم خرابة القطط, ويطلب منهم حضور صلاة الجمعة فيها, والمثول أمام الإمام وتقديم الشكوي له.' وكانا كلما تقدما في المكان دوي في آذانهما مواء قطط خفية,
يرتفع رويدا حتي اتضح لهما مواء يماثل صوت الخطيب.. تبادلا نظرات الدهشة, فوقعت عيونهما علي الوجوه الماثلة; كانت جميعها بملامح متشابهة, يرتفع تحت فتحتي الأنف شوارب رفيعة تتناثر كخيوط متفرقة, ولا تشبه في شيء شوارب الرجال, الشفة العليا شبه مشقوقة وأنياب صغيرة بيضاء تبرز من الأشداق, مما يجعل الوجوه في حالة مكشرة عدائية' تماسك الرجلان وتقدما إلي الخطيب بعد الصلاة كي يشرحا له الموقف, وبعد سماعهما اتجه الإمام بوجه صارم نحو جماعة المصلين, صائحا فيهم بقوة,' حتي إنهم ماءوا بفزع, وتقوست ظهورهم, ورفعوا مشافرهم مبدية أسنانا صغيرة قوية:
-من الذي خطف زوجة هذا الرجل؟ مشيرا إلي الأستاذ دسوقي.
-أنا يا سيدي
شق الصفوف شاب وسيم, يميل شعره الناعم علي جنب, ويرتدي قميصا شفيفا يبدي عضلات قوية نافرة.' وعندما يسأله الإمام عن سبب إيذائه للرجل وخطف زوجته يجيبه بأنه لم يخطفها, بل هو الذي أذن له بأخذها, ويضيف بأنها لم تخلص له بقلبها أبدا, بل ظلت وفية لحبه, وهي الآن تعيش معه راضية, لكن الإمام يأمره بأن يعيدها إلي زوجها, حتي يجدها في انتظاره عند رجوعه لبيته, فيظهر القط الخاطف امتثاله للأمر, لكن الزوج يعود صامتا مبهوتا,' يمشي بجسد ثقيل, لا يدري هل يسعد بعودة سميرة, أم أن الحياة ربما كانت أفضل بدونها. تسرب ثعبان الشك إلي قلبه, لم تعد كما عاش معها علي الوهم الكاذب, ولم يعد هو نفسه دسوقي الذي قضي معها كل سنواته الماضية في رضا زائف'.
نلاحظ أن زميله الأستاذ علي يندمج معه في منطقة التفسير الغيـبي, يشاهد معه صلاة القطط ويسمع حكم العودة, فهل يرضخ للخرافة أم يظل ممثلا للمنطق والتفكير العلمي؟ ينشب هذا السؤال في ذهن القارئ بأقوي مما تطرح احتمالات عودة سميرة من أسئلة, لكن إجابة الرواية تأتي من منطقة أخري, حيث يعود ذاهلا إلي قريته, فيلاحظ الناس أنه لم يعد واعيا بما حوله فقد أصابه اللطف, وطار عقله مرة واحدة, دون أن ندري علي وجه اليقين; منذ متي صار مستلبا, وهل كل ما روي هو مجرد خيالات ذاهلة.
حاشية وذيل:
للرواية حاشية متمثلة في قصة أخري وذيل يكملها. لكنها قبل تقديم حاشيتها تسجل أبياتا شعرية دالة' لإدجار آلان بو' يقول فيها:
'كل أيامي غيبوبة إثر غيبوبة.
وكل أحلامي الليلة تتوجه
إلي حيث تلمع عيناك السوداوان
وحيث تلمع خطواتك'.
ثم تبدأ حكاية جديدة بعنوان آخر, لزوج أديب عاشق, سافرت زوجته الطبيبة للعمل في المملكة العربية السعودية في ظروف اقتصادية عسيرة, وهو يتبادل معها الرسائل حول تجربته الأدبية والحياتية القريبة من عالم صوت الرواية الأولي, يحكي لها' أحاول هذه الأيام مع نص مراوغ, قطعت مرحلة لا بأس بها. بدأته بجملة كانت تلح بشدة علي عقلي: عجباك, خذها, ولم أخطط لشيء آخر, كل ما في الأمر أن أبدأ النص بهذه الجملة, وستدهشين أن الكلمة هنا لم توجه لبشر ما, وإنما قيلت لقط أسود اقتحم شقة الزوجية ساعة الغذاء. وستدهشين أكثر حين تعرفين استجابة القط, فقد اختفي هو والزوجة التي أسميتها سميرة.. الغريب في الأمر أنني أثناء الكتابة أبتعث الغريم الميت, وأسميه صلاح, وهناك شك في أنه تماهي في جسد قط. إنه نص مجنون وغريب'.
تلئ القصة الثانية, وهي أشبه بحكاية الرواية, وكيفية كتابتها, وإسقاط حالات مؤلفها, وتمثيله لمشاعره العاشقة لزوجته المسافرة, وخوفه من تغير حبهما بفعل الزمن والبعد, تمتلئ بلحظات التراسل, وتفاصيل حيوات الأدباء خلال خلقهم لعوالم مجازية تعبر عن همومهم الشخصية. يمتزج صوت الراوي الأول بالثاني ويتفارقان, تتسع الحاشية لعرض فروض نهايات متعددة للرواية, مما يتيح فرصة جميلة لتأمل كيفية ممارسة المبدع لحرية خياله في تجسيد الواقع الباطني للشخوص والمجتمعات. وتظل أهمية هذا النص كامنة في شجاعته في مواجهة هذا الصراع المحتدم في نفس أبناء الثقافات القديمة, بين مخزونهم الأسطوري الفعال في طوايا نفوسهم وما اكتسبوه من علم ومعرفة لا يكفيان وحدهما للإجابة عن أسئلة الوجود, لكن الجنون لا يمكن أن يصبح حل هذا الصراع, بل يكمن في خلق رحابة روحية قادرة علي احتواء الكون بالعقل والحدس والوجدان في انخطافة واحدة.