1- ضيف بلا مزايا
رتبت لورين سرير الضيوف وقالت لوالدتها:
" لا أفهم لماذا نؤجر غرفة في بيتنا , فنحن لسنا بحاجة للمال!
أجفلت السيدة بريل فارس من اعتراض ابنتها وأجابتها:
" هذا صحيح , فنحن لسنا مضطرين لتأجير غرفة بعد أن حصلت على وظيفة معقولة وأنت تعملين مدرسة , أننا بخير".
نظرت لورين الى والدتها التي صفت شعرها عند الحلاق وأخفت معالم الشيب منه, لقد بدت أصغر من عمرها بسنوات , بعد أن تجملت وكست وجهها بمساحيق التجميل باعتدال, كانت لورين تتمنى لو أن والدتها تقبل حقيقة عمرها ولا تحاول أن تخفي السنين, يجب أن تقبل بواقع الأمر وتعيش كأمرأة في متوسط عمرها بدلا من الهروب من الحقيقة, كانت تبدو وكأنها تقول :
" عليَ أن أحافظ على شكلي ومظهري , فربما حظيت بزوج يؤنس وحدتي ويخلصني من حياتي كأرملة..."
توفي والد لورين منذ خمس سنوات بالسكتة القلبية , حزنت والدتها كثيرا لوفاته واضطربت حياتها المستقرة , ومنذ فترة وجيزة بدأت تتقبل واقعها الجديد كأرملة , عادت تتابع حياتها بحزم وتصميم وتفاؤل .
نظرت الوالدة بريل الى أبنتها وهي ترتدي تنورة قديمة بنية اللون مع بلوزة بيضاء , وفوقها جاكيت رمادي عتيق وقالت:
" لورين! ألا توجد ثياب ترتدينها أفضل من هذه؟".
نظرت الى ساعتها وأكملت :
" سيحضر ضيفنا المستأجر بعد قليل, هيا رتبي نفسك قليلا وضعي بعض مساحيق التجميل...".
عبست لورين وأجابت:
" أنت تعرفين أنني لا أضع مساحيق التجميل على وجهي , ولن أغير ثيابي كذلك...".
" أنت جذابة وقدك مياس متناسق , لماذا لا تبرزين معالم جمالك بدلا من أن تخفيها تحت هذه الثياب الواسعة البالية ؟ أنت متزمتة , جدية وقاسية كوالدك , عليك أن تليني قليل".
رتبت زهرية الورود فوق الطاولة , لقد حولت غرفة النوم الى غرفة جلوس أيضا , وأكملت:
"يبدو أنك لا ترحبين بجان..".
" هذا صحيح فأنت تعرفين رأيي في الصحافيين".
" لكن هذا الصحافي يختلف عن غيره , انه ابن صديقتي نانسي داربي وعندما كتبت تخبرني بانتقاله الى هذه المدينة ليعمل في جريدة مسائية , عرضت عليها هذه الغرفة المغلقة في منزلنا دون استعمال منذ زمن طويل , سيستعملها لفترة قصيرة يا عزيزتي ".
كانت بريل مواربة في قولها لأنها في الحقيقة , ترحب بابن صديقتها للبقاء عندها قدر ما يرغب لحين ايجاد غرفة تناسبه , سرحت بريل بعيدا تتذكر.
كان جان صبيا صغيرا هادئا وقليل الكلام , لكن في المرة الأخيرة حين التقيت نانسي , منذ سنتين تقريبا , أخبرتني أنه تبدل كثيرا...""
" هل هو رجل متزوج؟".
" لا , مع أن الرجل في عمره , الخامسة والثلاثين , يفترض أن يكون قد تزوج, أن الفتيات يحمن حوله".
ضحكت ضحكة فتاة مراهقة .
فكرت لورين في نفسها ... لو أنها ليست والدتي لأعتقدت أنها مراهقة تنتظر وصول جان بلهفة.
قرع الجرس وللحال رفعت بريل يدها تسوي شعرها ثم نظرت الى أبنتها وقالت:
" لقد حضر يا لورين , افتحي له الباب وأدخليه".
نزلت لورين السلالم وهي تقول في نفسها أن الصحافي يشبه دود الأرض , والصحافيين حثالة المجتمع.
فتحت الباب ورحبت به ترحيبا باردا, نظر اليها نظرة متفحصة وهو ينتظر أن تدعوه للدخول , جال بناظريه محللا, ومتفحصا اياها من أخمص رجليها الى قمة رأسها حيث وقفت في الباب تسد عليه المنفذ الى داخل المنزل, فتَت أجزاءها ثم جمعها من جديد في دقائق معدودة بحكم وظيفته , تعجبت من تشريحه لها وتمنت لو تعرف رأيه فيها بعد الفحص الدقيق...
قالت بفتور وعدم اكتراث وهي تتحداه بعينيها وبصوت هازىء:
" أتبعني من فضلك يا أستاذ داربي . سأريك غرفتك".
صعدت السلالم أمامه وهو يتبعها مطيعا , كان شابا طويلا عريض المنكبين شعره أسود فاحم, وعند مدخل الغرفة استقبلته والدتها مرحبة به ترحيبا حارا وصافحته مبتسمة , شكرها جان بدوره.
لم تستطع لورين أن تشارك والدتها فرحتها بالضيف المستأجر , وسوف تغير رأيها في الصحافيين لأن جان هو ابن صديقة والدتها , أنها تكره هذا الصنف من البشر, معظمهم عديم الحيلة ولا يختلفون عن بعضهم , وهم لا يؤمنون بالقيم والمبادىء والأخلاق ولا يكترثون لشعور الآخرين وأحزانهم , وهذا الصحافي جان , بالرغم من وسامته ومظهره وكبريائه لن يكون مختلفا عنهم, هذا التفكير بجان يعطيها مبررا لكراهيته وعدم الثقة به, أنه صحافي عابث ... تذكرت نظراته الفاحصة لها قبل أن يدخل المنزل, نزلت غاضبة الى غرفة السفرة لترتب طاولة الطعام وهي تقول في نفسها... أنا لورين فارس مدرسة اللغة الأنكليزية في مدرسة ولكي للبنات , لن أكون حجرة صغيرة في طريق هذا الصحافي يزيلها من دربه.
فرشت شرشف الطاولة وسمعت والدتها تناديه:
" جان, عليك أن تتناول عشاءك معنا هذه الليلة , ويمكنك بعد اليوم أن تتناول وجبات طعامك في غرفتك لو رغبت".
قالت لورين في نفسها , الحمد لله , ثم رتبت ثلاثة مقاعد حول الطاولة وصنعت السلاطة وقطعت اللحمة الباردة , حضرت بريل لمساعدتها وقالت:
" أنه شاب لطيف يا عزيزتي".
عبست لورين لأن والدتها دائما تفترض أن جميع الناس طيبون , أكملت والدتها:
" أتمنى أن تتعايشي معه بسهولة , أعملي جهدك من أجلي يا لورين".
هزت لورين رأسها موافقة, كانت تحب والدتها كثيرا , ولكنها حتما لن تبذل جهدها لأرضائه , حتى ولا من أجل والدتها الحنونة.
" لورين اذهبي الى غرفتك وضعي بودة على وجهك تبدين شاحبة".
هزت لورين رأسها موافقة وارتقت السلآلم الى غرفتها وأغلقت الباب عليها.
رتبت شعرها وعقدته بشريطة الى الوراء كذيل حصان , ثم وضعت طبقة رقيقة من البودرة على وجهها ونزلت الى غرفة الطعام.
كان المستأجر يقف ويداه في جيوبه وقد بدا عليه الأنزعاج , رفع حاجبيه يحييها فردت التحية له بنظرة جافة وقالت:
" يمكنك أن ترتاح في غرفة الجلوس يا سيد داربي".
" أنني مرتاح هنا يا آنسة فارس, لقد أمضيت رحلة طويلة وأنا جالس في القطار".
" هل حضرت من لندن يا أستاذ داربي؟".
" نعم يا آنسة فتلاس".
هرعت بريل تحمل أبريق الحايب ووضعته على الطاولة وقالت:
" أرفعا الكلفة بينكما , هو جان وأنت لورين , لا لزوم لأستاذ داربي وآنسة فارس".
انحنى جان متهكما الى لورين بشكل مسرحي , ونظر اليها نظرة مرحة, أدارت لورين على الفور ظهرها له وقالت بعصبية:
" أنا لا أرفع الكلفة الا مع أصحابي".
اعتذرت والدتها بالنيابة عنها وقالت:
" لا تهتم لكلامها يا جان...".
صنعت لورين الشاي وحملته الى غرفة الطعام.
قالت بريل:
"اجلس يا جان مقابل لورين , لورين , صبي الشاي لجان".
تحاشت لورين النظر الى جان وهم يتناولون الطعام, ولكن بعد العشاء وهي تحتسي الشاي, التقت عيناها بعينيه , كان قاسي الوجه والتعابير وأخرج سيكارة وأشعلها ونفخ دخانها في وجه لورين دون اكتراث , بينما عيناه تتفحصانها وتحللانها , حاولت لورين أن تخفي تعابير وجهها خلف قناع من القسوة لتمنعه من أختراق دخيلتها.
بدأت بريل تتكلم معه عن وظيفته , نظرت اليها لورين وقالت بحدة:
" علينا أن نراقب كلامنا من الآن فصاعدا".
رفع جان حاجبيه متعجبا وأكملت:
" لدينا صحافي في المنزل , أننا تحت المراقبة , كأن هناك آلة تسجيل مخبأة في زهرية الورود أو تحت السجادة, هناك جاسوس يعيش معنا في البيت.
سارعت الدماء الغاضبة في جريانها , ولمعت عينا جان الرماديتان كأن انفجارا صغيرا أصابهما ولكنه حافظ على رباطة جأشه وأخفى أمتعاضه . رغم أن أنفعالاته بانت جلية في عينيه , وبعد أن عاد اليه الهدوء قال :
" الآنسة فارس تعرف العديد من الصحافيين كما يبدو".
قالت بريل:
" لا , لورين لا تعرف صحافيين , أليش كذلك؟".
" نعم , أنا لا أعرف أحدا منهم ولله الحمد ولكن لي أصدقاء يعرفونهم ويعرفون أخبارهم , أنهم يملأون صحفهم بالزبالة واللغة الركيكة, ( ونظرت اليه مباشرة) أنا أقضي معظم وقتي يا أستاذ داربي أحاول اصلاح الأخطاء التي تتركها الصحافة على اللغة الأنكليزية.
نظر اليها جان نظرة باردة مثلجة وأكملت بحماس:
" زبالة الصحافة هي ما يمتصه ويبتلعه الناس يوميا مع فطورهم , أنها تأكل في جذور اللغة كما يفعل السوس في الأسنان الصحيحة.
قالت بريل مصعوقة مما تسمع:
" لورين؟ كيف تقولين ذلك؟ ( ونظرت الى جان تطلب منه أن يسامحها) لا تأخذ بالك مما تقول , أنها مدرسة , تدرس اللغة الأنكليزية في مدرسة للبنات في المدينة , بيني وبينك ... أنها مدرسة رجعية تقليدية وتحتاج لدماء جديدة في الأدارة , حان الوقت لتتقاعد الرئيسة العجوز , أنها تؤثر كثيرا على المعلمين والمعلمات الذين يعملون تحت أدارتها".
قال جان:
" أعتقد أن الدم الجديد ضروري في الأدارة وفي جهاز السلك التعليمي أيضا, طريقتك في تعليم اللغة الأنكليزية متزمتة , وأنت شديدة الحساسية في عملك, يجب أن أذكر لك أن غالبية الناس يلذ لها قراءة الصحافة , أو كما تسمينها الزبالة".
ابتسم وهو ينفض سيكارته في المنفضة الموضوعة أمامه.
يطيب لجان أن يزعجها كلما التقى بها , وأكمل حديثه قائلا:
" لا تحكمي على الآخرين بترفع, فنحن الصحافيين نغذي العالم بأخبارنا ولا نكتب لطبقة معينة من الناس , طبقة المتعلمين والمترفعين أمثالك, اذا نظرت حولك يا آنسة فارس يتمعن , تجدين أن غالبية الناس يتمتعون بذكاء عادي ويحتاجون لقراءة الجرائد ليعرفوا ما يدور حولهم من أحداث بلغة بسيطة وعادية".
" من الواضح أننا لا نتكلم بلغة واحدة يا سيد داربي...".
احمر وجهها , وقال لها وهو يتجاهل انزعاجها وانفعالها:
" أنت تهتمين لما يحدث للغة , تخافين عليها من التغيير الذي تمر به, تعتقدين أنك مدرسة للغة وعلك المحافظة عليها , ولكنني لا أقرك على تصرفاتك ولست مطمئنا لردة فعلك , لا يمكننا أن نحافظ الى ما لا نهاية على اللغة كما كتب بها أجدادنا في الماضي , علينا أن نطورها لتلائم حاجتنا الحاضرة".
لم تفهم لورين ما قصد من كلامه , لقد لسعها انتقاده الجارح ولم تعد تحتمل المزيد , فبدأت تتلهى بتنظيف الصحون بعد أن وجدت أن المحادثة بينهما أصبحت شائكة, وقالت بعصبية:
" أنا أعتبر أن الصحافيين عمال لا مهارة لديهم ويتقاضون أعلى الأجور , وظيفتهم توازي وظيفة كنَاس الطرقات بل تقل عنها , أن كناس الطريق يجمع الأوساخ بينما الصحافي ينشرها".
عم صمت رهيب بينهما , هربت لورين الى المطبخ وهي تشعر بأن كلامها الجارح قد آلمها كما آلم جان , كانت تحس أن ثورتها زائفة وكذلك انتقادها.
يوم الأحد , عادة , تستفيق لورين ووالدتها متأخرتين , هذا الأحد ولوجود ضيف بينهما , كان عليهما أن تستيقظا باكرا , طهت لورين فطور الصباح وحملت لجان فطوره الى غرفته , قرعت الباب وانتظرت أن يدعوها للدخول , كان جان قد استيقظ وارتدى ثيابه وانتهى من ترتيب نفسه , ابتسم لها وهي تضع صينية الفطور على الطاولة وقبل أن تخرج قالت كمن حفظ درسا:
تقول والدتي أنك تستطيع الحصول على كل رغباتك فلا تتردد في طلب ما تحتاج اليه".
نظر اليها نظرة غريبة وقل:
" أفهم, شكرا, ( ثم أكمل ساخرا) هل أنت التي ستقومين على تأمين رغباتي وحاجياتي ... فأنا أحتاج الى سكرتيرة وباحثة , وشخص يرد على الهاتف ويسجل لي المكالمات عدا عن الأعمال المنزلية التي تقوم بها الزوجة عادة , كتركيب الأزرار المقطوعة وغسا ثيابي وكيها و... أشياء أخرى, ( وأضاف يستفزها) كأنني أطلب زوجة, ولا يمكن لشخص يتمتع بكامل قواه العقلية أن يتقدم بطلب زوجة هذه الأيام".
وجدت لورين نفسها تبتسم ابتسامة مفتعلة وتعتبر كلامه مزاحا. لكنه تجهم فجأة وقست تعابير وجهه وهو يقول:
" شكرا لأحضار الفطور".
خرجت من الغرفة بسرعة وكأنها تلميذة طردت من الصف.
بعد الفطور, جلست تحضر ملاحظاتها وأوراقها من أجل الفصل الدراسي الجديد, مرت بريل من قربها وسألتها:
"متى سيحضر هوغ؟".
في الثالثة كالعادة".
" وهل ستخرجان؟".
" لا أعتقد ذلك, أنني أشعر ببعض الكسل والتعب وأحتاج الى الراحة لأستقبال الفصل الدراسي الجديد , أنني أكره أول يوم في المدرسة في فصل الخريف لكثرة ما يدور من جدل حول التفاصيل والترتيبات والتقسيم ,.
صعدت لورين الى غرفتها ورتبت نفسها لأستقبال هوغ , رتبت شعرها وعقصته الى الخلف ثم ارتدت تنورة نظيفة مع بلوزة بيضاء ووضعت قليلا من أحمر الشفاه , ثم نظرت الى نفسها في المرآة , فلم ترق لها صورتها, كان ينقصها الحيوية والنشاط فوجهها لا حياة فيه وروحها كئيبة, أن التزمت باد في تعابير وجهها وكل مساحيق التجميل لا تفيد في اراحة بالها , ربما حضور هوغ لزيارتها سيغير من قساوة ملامحها ويجعل عينيها تشعان والبشر يطفو على وجنتيها , ومعنوياتها ترتفع...
صديقها هوغ أشقر الشعر بشوش الوجه ترتاح اليه, لا ينفعل لشيء , وهي لا تحس بأي أنفعال معه حتى وهو يعانقها , كان جان قد دخل المطبخ وأخذ يتحدث مع والدتها دون كلفة.
قالت لورين تخاطب والدتها:
" سنجلس أنا وهوغ في الحديقة".
قالت بريل تخاطب جان بمرح:
" هوغ صديق لورين ويدرس معها في نفس المدرسة".
" وهل يدرس اللغة الأنكليزية أيضا ويشاطرك كره الصحافيين أمثالي؟".
" لا, أنه يدرس مادة الكيمياء".
" ربما لا أكون تافها بنظره كما هي الحال بالنسبة اليك , مهنة التعليم مهنة محترمة ولكنها تسبب الضجر وهي غير مثيرة , ورتيبة وتقتل روح التوثب, وفي النهاية يصبح المعلم كالمهنة تماما .. مملا ومحترما .
ساء لورين أن يهاجمها جان بهذا الشكل . بدأ يستفزها بكلامه وتعليقاته ووجدت نفسها تدافع قائلة:
" من الأفضل يا سيد داربي أن أصبح على هذا الحال من دون أن أثير العواطف الكاذبة كما يفعل أمثالك الصحافيون, ثم ماذا تعرف أنت عن مهنة التعليم؟".
" أعرف الكثير, لقد قابلت أثناء عملي العديد من المعلمين وأنا أخاطب معلمة الآن...".
كان همه أن يثير غضبها ويزعجها , ولقد نجح, وحاولت لورين أن تخفي دموعها ولكن بعض القطرات نزلت رغما عنها.
قالت بريل:
" أهدئي يا لورين... أنه يثير غضبك لتفقدي رباطة جأشك...".
ابتسم جان ابتسامة عريضة مجنونة ثم تركهما وصعد الى غرفته.
قالت بريل توبخ لورين:
" أنه ضيفنا , لا يمكنك أن تكلميه بهذه الطريقة الخالية من اللياقة , أنه شاب لطيف".
" أنه ليس ضيفا , أنه مستأجر عندنا وهو كثير التدخل وله عينان نفاذتان ومتفحصتان ويسخر من كل شيء هنا".
" ربما يا عزيزتي , ولكن عليك أن تعتادي وجوده وطريقته في المزاح , عليك أن تتعايشي معه بسلام".
هزت لورين كتفيها دون أكتراث وخرجت لتضع الكراسي في الحديقة , وحين وصل هوغ كانت تستريح في كرسيها متكاسلة , أنحنى بلطف وقبلها على خدها قبلة خفيفة وقال:
" أهلا لورين, لقد التقيت المستأجر عندكم وأنا في طريقي ال البيت , كان في طريقه ليضع رسالة في البريد , أنه شاب لطيف ومهذب ولقد تحدثنا سوية".
" عما دار الحديث بينكما؟".
" عدة مواضيع . لقد تشعبت كثيرا في دقائق قليلة".
" أنا لا أحبه".
" لا أرى سببا لهذه الكراهية, أنه ذكي ويتمتع بمعرفة واسعة, صحافي...".
" أعرف أن الصحافيين كثيرو الأعتداد بالنفس يتمتعون بالحيلة, أنهم كالحيوانات التي تقتات على الزبالة ويبحثون دائما عن المشاكل , يحفرون القبور وينبشون الأخبار المدفونة ويفرطونها على الناس بشكل سافر".
حاول هوغ أن يوقفها عن استرسالها في الحديث بحركاته , التفتت خلفها لتجد جان بالقرب منها . شعرت بالذنب وبدأ قلبها يسرع في ضرباته , كان يحمل لها كيس الصوف الذي تحيكه وقد خلا وجهه من أي تعبير.
" أن وألدتك ترسل لك هذا الصوف".
ارتبكت كثيرا ولم تفهم سبب هذا الأرتباك كله , كلما التقته يهتز كيانها, وقف هوغ وطلب من جان أن يشاركهما جلستهما قائلا:
"سأجلب كرسيا آخر لي".
" شكرا يا هوغ , فأنا لا أريد أن أزعجكما في جلستكما الهادئة.
كان جان عابسا وسافرا في كلامه وهو ينظر الى لورين ويبتعد عنهما, وفي المساء صعدت لورين الى غرفتها لتنام , وجدت والدتها تتحدث مع جان في الممر المؤدي الى غرف النوم.
" كنت تعمل في فليت ستريت؟( أهم شارع للمال والأقتصاد في لندن)".
" نعم, كنت مساعد تحرير في الجريدة الرسمية".
" هنا وظيفتك تعتبر ترقية لك!".
" نعم, أنها أكثر راحة وأقل اجهادا من عملي في فليت ستريت , وأنا الآن مدير تحرير الأخبار في الجريدة المسائية في هذه المدينة الكبيرة".
قالت لورين تشاركهما الحديث" وكيف تتواضع لتعمل هنا وتترك فليت ستريت؟".
احمر وجه جان غضبا من تعليقها وقال:
"لا , ربما لا تصدقين يا آنسة فارس , ولكنني لم أحتمل الصراع اليومي ... والتقدم البطيء".
نظر اليها جان نظرة قاسية جعلت جسمها يهتز , تذكرت معطفها المنزلي الشفاف وتحته ثوب نومها الذي يظهر أكثر مما يخفي... ركضت مسرعة الى الحمام وقد اكتسى وجهها بحمرة الخجل , وحين خرجت من الحمام كانا لا يزالان يتحدثان , ألقت تحية المساء عليهما وأجابتها والدتها على تحيتها لكن جان لم يأبه بها...
هبي الى غرفتك وضعي بودة على وجهك تبدين شاحبة".
هزت لورين رأسها موافقة وارتقت السلآلم الى غرفتها وأغلقت الباب عليها.
رتبت شعرها وعقدته بشريطة الى الوراء كذيل حصان , ثم وضعت طبقة رقيقة من البودرة على وجهها ونزلت الى غرفة الطعام.
كان المستأجر يقف ويداه في جيوبه وقد بدا عليه الأنزعاج , رفع حاجبيه يحييها فردت التحية له بنظرة جافة وقالت:
" يمكنك أن ترتاح في غرفة الجلوس يا سيد داربي".
" أنني مرتاح هنا يا آنسة فارس, لقد أمضيت رحلة طويلة وأنا جالس في القطار".
" هل حضرت من لندن يا أستاذ داربي؟".
" نعم يا آنسة فتلاس".
هرعت بريل تحمل أبريق الحايب ووضعته على الطاولة وقالت:
" أرفعا الكلفة بينكما , هو جان وأنت لورين , لا لزوم لأستاذ داربي وآنسة فارس".
انحنى جان متهكما الى لورين بشكل مسرحي , ونظر اليها نظرة مرحة, أدارت لورين على الفور ظهرها له وقالت بعصبية:
" أنا لا أرفع الكلفة الا مع أصحابي".
اعتذرت والدتها بالنيابة عنها وقالت:
" لا تهتم لكلامها يا جان...".
صنعت لورين الشاي وحملته الى غرفة الطعام.
قالت بريل:
"اجلس يا جان مقابل لورين , لورين , صبي الشاي لجان".
تحاشت لورين النظر الى جان وهم يتناولون الطعام, ولكن بعد العشاء وهي تحتسي الشاي, التقت عيناها بعينيه , كان قاسي الوجه والتعابير وأخرج سيكارة وأشعلها ونفخ دخانها في وجه لورين دون اكتراث , بينما عيناه تتفحصانها وتحللانها , حاولت لورين أن تخفي تعابير وجهها خلف قناع من القسوة لتمنعه من أختراق دخيلتها.
منتديات ليلاس
بدأت بريل تتكلم معه عن وظيفته , نظرت اليها لورين وقالت بحدة:
" علينا أن نراقب كلامنا من الآن فصاعدا".
رفع جان حاجبيه متعجبا وأكملت:
" لدينا صحافي في المنزل , أننا تحت المراقبة , كأن هناك آلة تسجيل مخبأة في زهرية الورود أو تحت السجادة, هناك جاسوس يعيش معنا في البيت.
سارعت الدماء الغاضبة في جريانها , ولمعت عينا جان الرماديتان كأن انفجارا صغيرا أصابهما ولكنه حافظ على رباطة جأشه وأخفى أمتعاضه . رغم أن أنفعالاته بانت جلية في عينيه , وبعد أن عاد اليه الهدوء قال :
" الآنسة فارس تعرف العديد من الصحافيين كما يبدو".
قالت بريل:
" لا , لورين لا تعرف صحافيين , أليش كذلك؟".
" نعم , أنا لا أعرف أحدا منهم ولله الحمد ولكن لي أصدقاء يعرفونهم ويعرفون أخبارهم , أنهم يملأون صحفهم بالزبالة واللغة الركيكة, ( ونظرت اليه مباشرة) أنا أقضي معظم وقتي يا أستاذ داربي أحاول اصلاح الأخطاء التي تتركها الصحافة على اللغة الأنكليزية.
نظر اليها جان نظرة باردة مثلجة وأكملت بحماس:
" زبالة الصحافة هي ما يمتصه ويبتلعه الناس يوميا مع فطورهم , أنها تأكل في جذور اللغة كما يفعل السوس في الأسنان الصحيحة.
قالت بريل مصعوقة مما تسمع:
" لورين؟ كيف تقولين ذلك؟ ( ونظرت الى جان تطلب منه أن يسامحها) لا تأخذ بالك مما تقول , أنها مدرسة , تدرس اللغة الأنكليزية في مدرسة للبنات في المدينة , بيني وبينك ... أنها مدرسة رجعية تقليدية وتحتاج لدماء جديدة في الأدارة , حان الوقت لتتقاعد الرئيسة العجوز , أنها تؤثر كثيرا على المعلمين والمعلمات الذين يعملون تحت أدارتها".
قال جان:
" أعتقد أن الدم الجديد ضروري في الأدارة وفي جهاز السلك التعليمي أيضا, طريقتك في تعليم اللغة الأنكليزية متزمتة , وأنت شديدة الحساسية في عملك, يجب أن أذكر لك أن غالبية الناس يلذ لها قراءة الصحافة , أو كما تسمينها الزبالة".
ابتسم وهو ينفض سيكارته في المنفضة الموضوعة أمامه.
يطيب لجان أن يزعجها كلما التقى بها , وأكمل حديثه قائلا:
" لا تحكمي على الآخرين بترفع, فنحن الصحافيين نغذي العالم بأخبارنا ولا نكتب لطبقة معينة من الناس , طبقة المتعلمين والمترفعين أمثالك, اذا نظرت حولك يا آنسة فارس يتمعن , تجدين أن غالبية الناس يتمتعون بذكاء عادي ويحتاجون لقراءة الجرائد ليعرفوا ما يدور حولهم من أحداث بلغة بسيطة وعادية".
" من الواضح أننا لا نتكلم بلغة واحدة يا سيد داربي...".
احمر وجهها , وقال لها وهو يتجاهل انزعاجها وانفعالها:
" أنت تهتمين لما يحدث للغة , تخافين عليها من التغيير الذي تمر به, تعتقدين أنك مدرسة للغة وعلك المحافظة عليها , ولكنني لا أقرك على تصرفاتك ولست مطمئنا لردة فعلك , لا يمكننا أن نحافظ الى ما لا نهاية على اللغة كما كتب بها أجدادنا في الماضي , علينا أن نطورها لتلائم حاجتنا الحاضرة".
لم تفهم لورين ما قصد من كلامه , لقد لسعها انتقاده الجارح ولم تعد تحتمل المزيد , فبدأت تتلهى بتنظيف الصحون بعد أن وجدت أن المحادثة بينهما أصبحت شائكة, وقالت بعصبية:
" أنا أعتبر أن الصحافيين عمال لا مهارة لديهم ويتقاضون أعلى الأجور , وظيفتهم توازي وظيفة كنَاس الطرقات بل تقل عنها , أن كناس الطريق يجمع الأوساخ بينما الصحافي ينشرها".
عم صمت رهيب بينهما , هربت لورين الى المطبخ وهي تشعر بأن كلامها الجارح قد آلمها كما آلم جان , كانت تحس أن ثورتها زائفة وكذلك انتقادها.
يوم الأحد , عادة , تستفيق لورين ووالدتها متأخرتين , هذا الأحد ولوجود ضيف بينهما , كان عليهما أن تستيقظا باكرا , طهت لورين فطور الصباح وحملت لجان فطوره الى غرفته , قرعت الباب وانتظرت أن يدعوها للدخول , كان جان قد استيقظ وارتدى ثيابه وانتهى من ترتيب نفسه , ابتسم لها وهي تضع صينية الفطور على الطاولة وقبل أن تخرج قالت كمن حفظ درسا:
تقول والدتي أنك تستطيع الحصول على كل رغباتك فلا تتردد في طلب ما تحتاج اليه".
نظر اليها نظرة غريبة وقل:
" أفهم, شكرا, ( ثم أكمل ساخرا) هل أنت التي ستقومين على تأمين رغباتي وحاجياتي ... فأنا أحتاج الى سكرتيرة وباحثة , وشخص يرد على الهاتف ويسجل لي المكالمات عدا عن الأعمال المنزلية التي تقوم بها الزوجة عادة , كتركيب الأزرار المقطوعة وغسا ثيابي وكيها و... أشياء أخرى, ( وأضاف يستفزها) كأنني أطلب زوجة, ولا يمكن لشخص يتمتع بكامل قواه العقلية أن يتقدم بطلب زوجة هذه الأيام".
وجدت لورين نفسها تبتسم ابتسامة مفتعلة وتعتبر كلامه مزاحا. لكنه تجهم فجأة وقست تعابير وجهه وهو يقول:
" شكرا لأحضار الفطور".
خرجت من الغرفة بسرعة وكأنها تلميذة طردت من الصف.
بعد الفطور, جلست تحضر ملاحظاتها وأوراقها من أجل الفصل الدراسي الجديد, مرت بريل من قربها وسألتها:
"متى سيحضر هوغ؟".
في الثالثة كالعادة".
" وهل ستخرجان؟".
" لا أعتقد ذلك, أنني أشعر ببعض الكسل والتعب وأحتاج الى الراحة لأستقبال الفصل الدراسي الجديد , أنني أكره أول يوم في المدرسة في فصل الخريف لكثرة ما يدور من جدل حول التفاصيل والترتيبات والتقسيم ,.
صعدت لورين الى غرفتها ورتبت نفسها لأستقبال هوغ , رتبت شعرها وعقصته الى الخلف ثم ارتدت تنورة نظيفة مع بلوزة بيضاء ووضعت قليلا من أحمر الشفاه , ثم نظرت الى نفسها في المرآة , فلم ترق لها صورتها, كان ينقصها الحيوية والنشاط فوجهها لا حياة فيه وروحها كئيبة, أن التزمت باد في تعابير وجهها وكل مساحيق التجميل لا تفيد في اراحة بالها , ربما حضور هوغ لزيارتها سيغير من قساوة ملامحها ويجعل عينيها تشعان والبشر يطفو على وجنتيها , ومعنوياتها ترتفع...
صديقها هوغ أشقر الشعر بشوش الوجه ترتاح اليه, لا ينفعل لشيء , وهي لا تحس بأي أنفعال معه حتى وهو يعانقها , كان جان قد دخل المطبخ وأخذ يتحدث مع والدتها دون كلفة.
قالت لورين تخاطب والدتها:
" سنجلس أنا وهوغ في الحديقة".
قالت بريل تخاطب جان بمرح:
" هوغ صديق لورين ويدرس معها في نفس المدرسة".
" وهل يدرس اللغة الأنكليزية أيضا ويشاطرك كره الصحافيين أمثالي؟".
" لا, أنه يدرس مادة الكيمياء".
" ربما لا أكون تافها بنظره كما هي الحال بالنسبة اليك , مهنة التعليم مهنة محترمة ولكنها تسبب الضجر وهي غير مثيرة , ورتيبة وتقتل روح التوثب, وفي النهاية يصبح المعلم كالمهنة تماما .. مملا ومحترما .
ساء لورين أن يهاجمها جان بهذا الشكل . بدأ يستفزها بكلامه وتعليقاته ووجدت نفسها تدافع قائلة:
" من الأفضل يا سيد داربي أن أصبح على هذا الحال من دون أن أثير العواطف الكاذبة كما يفعل أمثالك الصحافيون, ثم ماذا تعرف أنت عن مهنة التعليم؟".
" أعرف الكثير, لقد قابلت أثناء عملي العديد من المعلمين وأنا أخاطب معلمة الآن...".
كان همه أن يثير غضبها ويزعجها , ولقد نجح, وحاولت لورين أن تخفي دموعها ولكن بعض القطرات نزلت رغما عنها.
قالت بريل:
" أهدئي يا لورين... أنه يثير غضبك لتفقدي رباطة جأشك...".
ابتسم جان ابتسامة عريضة مجنونة ثم تركهما وصعد الى غرفته.
قالت بريل توبخ لورين:
" أنه ضيفنا , لا يمكنك أن تكلميه بهذه الطريقة الخالية من اللياقة , أنه شاب لطيف".
" أنه ليس ضيفا , أنه مستأجر عندنا وهو كثير التدخل وله عينان نفاذتان ومتفحصتان ويسخر من كل شيء هنا".
" ربما يا عزيزتي , ولكن عليك أن تعتادي وجوده وطريقته في المزاح , عليك أن تتعايشي معه بسلام".
هزت لورين كتفيها دون أكتراث وخرجت لتضع الكراسي في الحديقة , وحين وصل هوغ كانت تستريح في كرسيها متكاسلة , أنحنى بلطف وقبلها على خدها قبلة خفيفة وقال:
" أهلا لورين, لقد التقيت المستأجر عندكم وأنا في طريقي ال البيت , كان في طريقه ليضع رسالة في البريد , أنه شاب لطيف ومهذب ولقد تحدثنا سوية".
" عما دار الحديث بينكما؟".
" عدة مواضيع . لقد تشعبت كثيرا في دقائق قليلة".
" أنا لا أحبه".
" لا أرى سببا لهذه الكراهية, أنه ذكي ويتمتع بمعرفة واسعة, صحافي...".
" أعرف أن الصحافيين كثيرو الأعتداد بالنفس يتمتعون بالحيلة, أنهم كالحيوانات التي تقتات على الزبالة ويبحثون دائما عن المشاكل , يحفرون القبور وينبشون الأخبار المدفونة ويفرطونها على الناس بشكل سافر".
حاول هوغ أن يوقفها عن استرسالها في الحديث بحركاته , التفتت خلفها لتجد جان بالقرب منها . شعرت بالذنب وبدأ قلبها يسرع في ضرباته , كان يحمل لها كيس الصوف الذي تحيكه وقد خلا وجهه من أي تعبير.
" أن وألدتك ترسل لك هذا الصوف".
ارتبكت كثيرا ولم تفهم سبب هذا الأرتباك كله , كلما التقته يهتز كيانها, وقف هوغ وطلب من جان أن يشاركهما جلستهما قائلا:
"سأجلب كرسيا آخر لي".
" شكرا يا هوغ , فأنا لا أريد أن أزعجكما في جلستكما الهادئة.
كان جان عابسا وسافرا في كلامه وهو ينظر الى لورين ويبتعد عنهما, وفي المساء صعدت لورين الى غرفتها لتنام , وجدت والدتها تتحدث مع جان في الممر المؤدي الى غرف النوم.
" كنت تعمل في فليت ستريت؟( أهم شارع للمال والأقتصاد في لندن)".
" نعم, كنت مساعد تحرير في الجريدة الرسمية".
" هنا وظيفتك تعتبر ترقية لك!".
" نعم, أنها أكثر راحة وأقل اجهادا من عملي في فليت ستريت , وأنا الآن مدير تحرير الأخبار في الجريدة المسائية في هذه المدينة الكبيرة".
قالت لورين تشاركهما الحديث:
" وكيف تتواضع لتعمل هنا وتترك فليت ستريت؟".
احمر وجه جان غضبا من تعليقها وقال:
"لا , ربما لا تصدقين يا آنسة فارس , ولكنني لم أحتمل الصراع اليومي ... والتقدم البطيء".
نظر اليها جان نظرة قاسية جعلت جسمها يهتز , تذكرت معطفها المنزلي الشفاف وتحته ثوب نومها الذي يظهر أكثر مما يخفي... ركضت مسرعة الى الحمام وقد اكتسى وجهها بحمرة الخجل , وحين خرجت من الحمام كانا لا يزالان يتحدثان , ألقت تحية المساء عليهما وأجابتها والدتها على تحيتها لكن جان لم يأبه بها...
لم يكن من السهل على لورين العودة الى العمل بعد عطلة الصيف , ثم أن وجود المستأجر الشاب الذي يعيش معها تحت سقف واحد شغل بالها أكثر مما توقعت , حاولت أن تطرده من تفكيرها عبثا , أول ما وصلت الى المدرسة التقت صديقتها آن التي بادرتها بالسؤال:
" سمت أن لديكم مستأجرا شابا".
قالت لورين ساخرة:
" أنه صنف ممتاز يا آن ".
قال هوغ معلقا:
"لا أعرف لماذا تسخر لورين منه , لقد التقيته وتحدثت اليه ولا أجد ما يعيبه".
قالت لورين:
" ولكنني واثقة من كراهيتي له, أنه لا يحتمل , وقح , ومعتد كثيرا بنفسه:
قالت آن :
" بدأت أتحرق شوقا لمقابلته , ربما أكون كبيرة في السن ولكن في هذه الأيام لم يعد فارق السن شيئا يعيق العلاقة بين اثنين, ومع قليل من الجراحة التجميلية فسوف أبدو أصغر منه ...".
ضحك الجميع ثم علق هوغ قائلا:
" أعتقد أن لورين هي التي تثيره وتزعجه".
قالت لورين:
" شكرا يا هوغ".
قالت آن:
" عندما التقي الشاب سأتذكر أن أتملقه وأداهنه, ولكنه لن يكون منافسا على قلب لورين يا هوغ".
قال هوغ:
" هذا صحيح , ولكن الشاب مرح وتسر عشرته وجلسته".
بدأت لورين تمتعض وتحاول الأعتراض , ولكن آن بادرتها قائلة:
" أهدئي يا لورين".
قال هوغ:
" أنه ليس من النوع الذي يستهوي لورين وهي أيضا لا تستهويه...".
انزعجت لورين لتصريح هوغ واعتبرته تجريحا , وقالت بعصبية :
" لماذا ؟ ما خطبي؟".
قال هوغ :
" لا شيء... بالنسبة الي ولكن... جان يحتاج الى فتاة أكثر ليونة ولباقة وأكثر...".
قالت لورين:
"مرونة".
هز هوغ رأسه موافقا وبدأت لورين تتأفف وهي تهرول الى صفها تحتمي بتلاميذها , وهكذا فعل كل من هوغ وآن.
بقيت لورين تعمل في صفوفها طوال النهار وكان وصف هوغ دائما في خاطرها ولم تنسه, ألم تقل عنها والدتها (أنت فتاة قاسية ومتزمتة) هذا واضح الآن, هوغ أيضا يوافق والدتها الرأي , جلست في المساء أمام مرآتها تتزين ولأول مرة في حياتها رغبت في تغيير شكلها تماما, لقد أصبحت في السادسة والعشرين من عمرها ولكن الذي يراها يضيف سنوات أخرى على عمرها ,ربطت شعرها الى الوراء وشرعت تضع مساحيق التجميل على وجهها , درست تعابير وجهها بالتفصيل , حاجباها مقوسان وأنفها وفمها مصقولان, وعيناها الزرقاوان حادتان ونظرتهما موحشة.
نظرت الى ثيابها بعد أن انتهت من التجميل فوجدت أنها أصبحت لا تلائم شكلها الجديد الذي بدأت تخطط له, قررت( غدا سأشتري ثيابا جديدة بعد الدوام في المدرسة ) وتساءلت في نفسها... هل وصف هوغ لها هو الذي جعلها تتخذ هذا القرار بالتحديد في شكلها ولباسها , أم وجود هذا الرجل الذي يعيش معها في البيت؟
عادت والدتها باكرا من موعدها , قالت مستغربة ما ترى:
" لورين يا عزيزتي . كم أنت جميلة؟ هل رآك جان؟ أين هو؟".
"في الخارج".
" مؤسف , كنت أريده أن يراك على هذه الحال, كان يقول لي البارحة..".
" سأمسح المساحيق بسرعة...".
" بل أتركيها لحين حضوره".
ولكن لورين لم تستمع الى قول والدتها بل أسرعت الى الحمام تغسل وجها من مساحيق التجميل قبل حضور جان.
حضر جان بعد أن آوت لورين الى فراشها , سمعت والدتها تسأله عن عمله الجديد في الجريدة المسائية.
" عملي ممتاز ومشوق, وأنا كلي حماس ونشاط".
وفي اليوم التالي وقبل حضور هوغ تجملت لورين ولبست بنطلونا أزرق جديدا مع بلوزة زهرية دون أكمام , كانت واثقة بأنها قد غيرت من شكلها كليا ... حين نظر هوغ اليها بسرعة كأنه يراها للمرة الأولى وقال:
" ماذا فعلت بنفسك يا لورين؟ أنت مختلفة كليا".
" لم أفعل شيئا".
ابتعدت هاربة من نظراته بعد أن شعرت بالخجل والأرتباك , لقد لفتت نظره اليها وتمنت لو لم تفعل ... هي حقا لا ترغب في لفت انتباه هوغ , بل غيره... حملت شغل الصوف بيديها وجلست تحيك بينما ال هوغ:
" هل أخبرتك أنني التقيت جان البارحة في المدينة بعد الدوام المدرسي , وتناولت الشاي برفقته وأخبرني أن لديه راديو ترانزيستور يود بيعه".
" جان في الخارج, انه يمضي أمسياته خارج البيت وأنا لم أعد أره منذ عدة أيام".
" لا بأس , اذا حضر قبل خروجي سأتفقد الراديو... انني راغب في شراء راديو منذ فترة وهو يطلب ثمنا معقولا".
صنعت لورين الشاي لهما , ثم بعد أن تناولاه أكملت شغل الصوف , أمسياتها مع هوغ تسير على وتيرة واحدة, كلها رتابة وملل ولا نفع فيها , لم تكن من قبل تشعر بفتور علاقتهما , نظر هوغ اليها وتمنت لورين لو لم يفعل.
سمع هوغ الباب الخارجي يفتح ويغلق , رفع رأسه ورحب بالقادم قائلا:
" أهلا يا جان, تسرني رؤيتك , تفضل شاركنا جلستنا".
ووقف هوغ احتراما , كان جان يقف في الباب بينما بقيت لورين تحيك الصوف دون أن ترفع رأسها.
كانت خائفة لأن هوغ دعاه دون أستئذانها .
قال جان:
" لا أريد أن أزعجكما".
كان صوته متهكما ساخرا".
قال هوغ:
" لورين ؟ هل هناك مزيد من الشاي؟".
وضعت لورين شغل الصوف جانبا وذهبت لتجلب فنجانا للشاي. وقالت ببرودة متعمدة:
" تفضل يا سيد داربي, اجلس".
" كم أنت لطيفة, كان لئيما وهو يبتسم ابتسامة ساخرة ويتفحصها بشكلها الجديد , وعندما عادت لورين تحمل له فنجان الشاي كان يجلس بالقرب من هوغ يتحدث معه.
" هل تريد بعض السكر يا سيد داربي؟".
حملت شغل الصوف من جديد وعادت للحياكة وهي تحاول أن تبدو مرتاحة , كان جان يجيل طرفه بينهما مستوضحا بعض الأمور, ثم نظر الى هوغ وقال:
" أنت متخصص في مادة الكيمياء؟ هل تحب مهنة التعليم؟".
هز هوغ كتفيه وقال:
" كنت أفضل لو أن المدرسة مختلطة . الفتيات مشاغبات ومثيرات في أكثر الأحيان".
ضحك جان:
" هذا شيء لا يقلقني أو يثير نقمتي".
تذكرت لورين والدتها حين قالت( أن الفتيات يحمن حوله كالفراشات حول النور) ارتبكت وعملت أخطاء في شغل الصوف مما اضطرها للتصليح, قال جان يخاطبها:
" وأنت يا آنسة فارس, لقد اعتدت مهنة التعليم كما تعتاد البطة العيش في الماء".
" لا, لقد أنتقيت مهنتي بنفسي يا سيد داربي , لم أجبر على هذا الأختيار , اعتدت على عملي وبدأت أحبه".
هز جان رأسه موافقا وقال:
" الأستقرار الممل , عملك صلب ومتحجر لا أثارة فيه, فأنت لا تحيدين عن دفتر ملاحظتك , تقدمين المادة دون خيال ولا تحاولين تغيير الأسلوب , صفوفك مليئة بالطالبات الذكيات وأنت تتوقعين منهن قبول ما تلقنينه لهن دون نقاش أو جدال على انه هو الحقيقة الوحيدة".
انزعجت لورين من هجومه المفاجىء , لقد ركز هجومه على عملها بثقة تأكيد وكانت ترغب لو تسد فمه بشغل الصوف الذي تحيكه وتجعله يكف عن الكلام.
" وماذا تفهم عن مهنة التعليم... نحن نلقن التلميذات حقائق المعرفة ودقائقها وهذه الحقائق ستفيدهن في حياتهن في المستقبل, نحن لا نفتش في الحياة عن دبابيس وأشواك مدفونة نظهرها للملأ ونجبر الناس أن يتقبلوها رغما عنهم عندما ننشرها على الرأي العام".
ابتسم ابتسامة صغيرة باردة وكانت نظراته الجامدة تقيمها , احمرت وجنتاها , قال:
" أنت دائما تنتقدين انتقادات هدَامة وعاطفية مثل غالبية الناس, لقد أتخذت قرارك مسبقا دون دراسة أو روية وبجهل سافر".
وأكمل حديثه دون أن يسمح لها بالأعتراض:
" نظرتك الى الصحافة والصحافيين لا تختلف عن بقية آرائك , أنت مدرَسة للغة الأنكليزية وتعتقدين أن التقرير الصحافي يجب أن يكون قطعة نثر أدبية يا آنسة فارس, كتابة تقرير صحافي هو اختصاص رفيع المستوى , الصحافة تعمل في التفتيش عن علامات أساسية وركائز للمستقبل من حوادث الحاضر, والصحافي الخبير يكتشف هذه الأسرار ويلفت النظر اليها".
قال هوغ:
" هل تقول أن الصحافي يستطيع أن يرى المستقبل من خلال الحاضر؟".
قال جان:
" هذا يختصر بكلمات قليلة ما أعنيه".
" لا يهمني أن تقنع هوغ بالأمر , فأنت لن تقنعني أبدا . المراسلون الصحافيون يفتشون في الزوايا والخبايا ويجسمون توافه الأمور, وهذا ما يضع الخبر في حجم دون حجمه الطبيعي , ويزيد من أهميته , بعبارة أخرى هي عملية خداع كبرى للرأي العام".
هز جان رأسه آسفا:
" كم أتأسف من أجل تلاميذك في المدرسة لسوء حظهم , لأنهم وقعوا على معلمة مثلك لا تلم بالحقيقة الكاملة".
ضحك هوغ:
"احذر يا جان قبل أن ترميك بشيء ما".
" لا , الآنسة فارس لا يمكنها أن تفقد صوابها وتتصرف كفتاة طائشة ".
" يا الهي, الود مفقود بينكما بالرغم من معرفتكما القصيرة ببعضكما , لنغير الموضوع قبل أن تعلن الحرب سافرة بينكما ... وماذا بشأن الترانسدزيستور يا جان؟".
" تعال الى غرفتي وعاينه".
خرج جان وتبعه هوغ مسرعا كأنه يريد الهروب من الجو المشحون الغاضب, بقيت لورين مع غضبها , رغبت في البكاء ولكنها أمسكت نفسها بجهد.
بقي هوغ في غرفة جان فترة غير قصيرة ثم نزل متأبطا الراديو ورفع يده مودعا , قبَل لورين على خدها قبلة سريعة وخرج.
قال جان بلطف:
" لورين؟".
كانت هذه أول مرة يناديها باسمها , التفتت اليه " أنني أحب السلام وأكره الحرب, خصوصا حرب الأهل , مد يده مصافحا :
" هل نعلن الهدنة".
يقول أنه فرد من أفراد ... العائلة؟ تجاهلت لورين يده الممدودو لمصافحتها.
"عمت مساء يا سيد داربي".