صاحت كارن شاعرة بالذنب:
" وقتي ضيق يا أمي, وأنا مشغولة دائما, ولكن ما الذي أخَرك عن زيارتي في أي حال؟ أن شقتي قريبة جدا منك".
رفعت مادلين حاجبيها وقالت:
" يا عزيزتي كارن , كلما أتيت لزيارتي أجد نفسي مهملة جانبا, بينما تنهمكين أنت في وضع تصميم جديد أو رسم تلك اللوحات النظيفة, أنك تتحديث معي أحيانا , ولكنني أشعر دائما بأنني أمنعك من المضي في عملك , أنك لم ترحبي بي أبدا رغم أن هذا القول قد يبدو قاسيا".
وشعرت كارن بالأستياء وعدم الأرتياح , كانت تعرف أن كلام أمها صحيح الى حد ما, ولكن حديث مادلين المحدود كان يثير مللها , وكانت تفضل أن تعمل وحدها.
ثم قالت كارن موافقة:
" لقد أوضحت رأيك تماما يا عزيزتي , والآن ما المشكلة؟".
كانت كارن تحب أمها , ولكنها تعرف مدى مبالغتها في تهويل الأشياء , وكان واضحا أن هذه الزيارة لن تكون قصيرة كما تتمنى, وهناك شيء يشغل بال مادلين , ولن ترتاح حتى تقتلعه تماما من تفكيرها, وأخرجت كارن علبة سكائرها , وأشعلت سيكارة , ولكن ما كادت تسمع كلمات أمها الأولى حتى أوشكت السيكارة أن تسقط من يدها, ثم بدأت مادلين تقول بلهجة تعمدت أن تبدو عابرة:
" هل رأيت بول مؤخرا؟".
شعرت كارن أنها تحتاج الى وقت تجمع فيه مشاعرها التي صدمت فجأة , وسحبت نفسا عميقا بتلذذ , وأجابت ببطء:
" كلا, أننا لا نتقابل أطلاقا وأنت تعرفين ذلك , ولكن لماذا تسألين؟ أوه... لعلك قرأت نبأ خطبته في التايمز".
وافقت أمها ببطء وقالت:
" نعم, قرأته , أعتقد أن اسم خطيبته روث ديلاني, أنها فتاة أميركية وابنة رجل ثري على ما أذكر".
تابعت كارن بلهجة جافة:
"أنك على علم تام بالحقائق , حسنا يا أمي , لماذا تتوقعين أن أرى بول؟".
" أعتقدت أنه ربما يكون أتصل بك هاتفيا ليعترض على خروج ساندرا مع سيمون".
اتسعت عينا كارن, وصاحت قائلة:
" سيمون؟ هل يخرج سيمون فريزر مع ساندرا؟ أنه متزوج , ولا بد أنك تمزحين!".
" ليتني كنت أمزح. أنني لا أمزح في أمور كهذه يا كارن, لقد نفذ صبري , أنها ترفض أن تتخلى عنه , رغم أنني توسلت اليها لتفعل ذلك, أنك تعرفين مدى استحالة السيطرة على ساندرا, ومدى عنادها وتمسكها برأيها".
قطبت كارن جبينها وقالت ببرود:
" لا تلومي الا نفسك على ذلك, لأنك كنت دائما تتساهلين معها".
وصاحت مادلين بغضب:
" شكرا, ماذا كنت تفعلين لو تركت وحدك لتشرفي على تربية طفلتين صغيرتين؟".
" كنت أعاملهما المعاملة نفسها, بدلا من تدليل أحداهن والقسوة على الأخرى وضربها بالعصا على ظهرها , في أي حال لا داعي لمناقشة ذلك الآن. أنني أوافق على أن سيمون فريزر لا يصح أن يقترن اسمه بأي فتاة , خاصة اذا كانت بلهاء مثل ساندرا , كيف أكتشفت أنهما يخرجان معا؟ لا أعتقد أنها أخبرتك".
" لا , لقد شاهدتهما احدى صديقاتي يتناولان العشاء معا في الأسبوع الماضي , وأخبرتني , أن ساندرا في السابعة عشرة يا كارن في حين أن سيمون فريزر فوق الثلاثين, أما بول ففي السابعة والثلاثين , أليس كذلك؟".
ردت كارن في صوت مختلج:
" نعم , سيمون ليس الا شقيقه كما تعرفين".
" كما قلت لك, لقد طلبت من ساندرا التوقف عن لقاء سيمون , ولكنها ضحكت مني ولم تهتم لكلامي, تقول أنها قادرة تماما على العناية بنفسها , وأنا وأنت نعرف تماما حماقة هذا الأدعاء مع شخص مثل سيمون , يجب أن نفعل شيئا , أعتقد أن بول هو الشخص الوحيد الذي يستطيع فعل شيء, أريدك أن تتصلي به وتطلبي منه أن يتكلم مع سيمون".
" لا, لن أفعل هذا , لقد طلقني بول في المحكمة قبل عامين ولن أتصل به الآن, لا يمكن".
قالت مادلين في عبوس:
" معنى هذا أن كبرياءك أهم من سقوط أختك . أنها أختك يا كارن".
صاحت كارن وهي تفور غيظا:
" كفي عن التمثيل يا أمي, أنه لن يجدي معي, أن ساندرا في السابعة عشرة كما قلت, وهي ليست طفلة ويجب أن تتحمل مسؤولية خطأها , لقد كنت في الثامنة عشرة عندما التقيت بول, أليس كذلك؟".
ردت أمها بقسوة:
" أنظري ماذا حدث لزواجك , لقد انتهى بعد خمس سنوات, وها أنت الآن سيدة مطلقة في الخامسة والعشرين , أن مسألة الزواج ليست واردة بالنسبة الى سيمون , فهو متزوج بالفعل كما قلت, وهذا يزيد الوضع سوءا".
وبدا وجه كارن شاحبا. لقد أثار هذا الحديث كل الماضي المؤلم الذي حاولت أن تدفنه في العامين الأخيرين, كانت تعرف أن أمها اعترضت على انفصالها عن بول لأسباب أنانية بحتة, فكيف تلقي أمها بالأمر كله في وجهها هكذا؟ كيف يمكن أن تكون مادلين بهذه القسوة؟ كانت كارن دائما فتاة مستقلة مثل أبيها, وكانت مادلين متعلقة بالطفلة ساندرا فأفسدتها تماما من فرط تدليلها , بعد أن قتل أبوهما في حادث طائرة قبل فترة طويلة.
عرفت كارن أن مادلين تريد أنقاذ ساندرا من نفسها ولا يهمها أن ألحقت الأذى بالأخت الكبرى , وشعرت كارن برغبة في الرحيل فورا وترك أمها وأختها تحلان المشكلة وحدهما, ولكنها أدركت أنها اذا فعلت ذلك فأنهما لن يرحبا بها هنا مرة ثانية , لقد كانت ساندرا وأمها كما قالت الأم قريبتيها الوحيدتين, ولا شك أن قطع صلتها بهما سيجعلها وحيدة تماما, فكيف تقدم على شيء كهذا؟
وصاحت أمها:
" حسنا, هل ستتركين حياة أختك تنهار؟".
تنهدت كارن بعمق , كان الأنذار قد صدر ولم تكن مستعدة له. ما الذي تستطيع أن تقوله؟ كيف يمكنها شرح وقول أنها ليست الكبرياء فقط التي تمنعها من الأتصال ببول فهي تخشى أن تخذلها مشاعرها وتخاف أن يلاحظ قلقها! ولكن سيمون كان متزوجا أيضا, ولم يكن يفكر أبدا في زوجته, وكان يجب أن تعتبر ذلكأيضا, من يدري؟ ربما يسعد بول أن يحطم العلاقة , فلم يعد هناك ما يجعله يحب أسرة ستاسي.
وأخيرا وافقت قائلة:
" فليكن الأمر كذلك. ولكن لماذا تتصورين أن بول سيهتم بي أو يتكلم عن سيمون؟".
أجابت مادلين فرحة باستسلام كارن:
" أن بول مغرم جدا بساندرا , كما أنه يعرف سيمون ويعلم أي نوع من الرجال هو".
أطفأت كارن سيكارتها , ووضعت يدها في جيب سروالها. لقد تعهدت بأن تتحدث مع زوجها السابق وتساءلت:
" يا ألهي , أليست الذكريات وحدها كريهة بدون أن يعززها الواقع؟".
كيف يمكن أن تقابل رجلا كانت بينها وبينه صلة حميمة, صلة زواج من دون أن تشعر بسكين يتقلب في داخلها, لقد كانت بينهما علاقة حب عميق , أما الآن؟".
كانت في الثامنة عشرة من عمرها عندما قابلت بول فريزر , وكان يومها رئيس مجلس أدارة شركات فريزر للنسيج , مقرها الرئيسي لندن حيث كانت كارن تعمل مصممة رسوم في الشركة , وعملت هناك نحو عامين , بدون أن تحلم بالأتصال بالرئيس, لقد سمعت الكثير عنه من زملائها , ولكنه لم يكن يشغل نفسه بصغار الموظفين أمثالهم, كان في الثلاثين وغير متزوج والصحف والمجلات الأجتماعية تنشر قصصا عنه أينما ذهب, أشهر رجل عازب في لندن, وكارن تستمع الى الفتيات وأحلامهن عنه, ولكنها لم تكن تشعر بأهتمام خاص نحوه , أذ حظيت باعجاب الكثيرين في محيطها الخاص, ولا تحتاج للتطلع الى مجال أعلى لا فائدة منه, وحدث بعد ذلك أن وضعت تصميما رائعا لسجادة أثار دهشتها كما أثار دهشة الجميع, لقد أنتجت شركات فريزر نماذج متنوعة من النسيج, ولكن تصميم السجادة كان قطعة فنية مبتكرة رائعة, وشعرت كارن بالحرج عندما أستدعاها الرجل بنفسه, واضطرت للذهاب الى مكتبه الذي يقع في الطابق الأعلى من مبنى فريزر, لم تكن عصبية بقدر ما كانت محرجة, ولكن عندما قدمها رئيس قسم التصميم الى بول فريزر , وجدت نفسها مبهورة تماما بسحره وشخصيته , بل وجدت في الأسبوع نفسه شخصيته تفوق سمعته , ولذلك ذهلت عندما أتصل بها تلفونيا ودعاها لتناول العشاء معه, وقبلت بالطبع الدعوة التي حسدتها عليها صديقاتها , وفوجئت بأنه مهتم بها شخصيا لا كمصممة رسوم في الشركة , وفي أسابيع قليلة , توطدت العلاقة بينهما, ومن الغريب أن بول الذي لم ترفضه أمرأة وجد نفسه يتعذب كل لحظة لرغبته في أمتلاكها , وتحول اعجابه بمثلها العليا الى حب ملتهب, وحاولت كارن مقاومة حبه رغم أعجابها به منذ البداية خشية أن يسيطر عليها هذا الحب, ولكن عندما عرض بول عليها الزواج أخيرا كادت تذوب فرحا.
وطارا الى جزر الباهاما لقضاء شهر العسل , وهناك قضيا ثلاثة أشهر ممتعة, ذاقت كارن من السعادة ما لم تذقه في حياتها , وبدا بول سعيدا متراخيا وقد لوحت بشرته الشمس , كان كل منهما يحب الآخر, ولكن عندما عادا الى أنكلترا , حيث المنزل الكبير الذي أشتراه بول بالقرب من ريتشموند , بدأ كل منهما يضيق بالحياة العادية , فيما اضطر بول لقضاء معظم أوقاته في مكتبه , لينجز الأعمال التي تراكمت أثناء غيابه , تاركا كارن وحدها.
لم تشعر كارن بالوحدة أول الأمر , فقد كان المنزل يحتاج الى ديكور جديد, ولم يكن بول جهز الا غرفا قليلة حتى تتولى كارن تأثيث المنزل كله كما يروق لها, وبدأت كارن العمل مع فريق من فناني الديكور وجاءت النتيجة رائعة.
كارن تحب قضاء المساء مع بول عندما يعود الى البيت, ونادرا ما يخرجان , فيجلسان الساعات الطويلة وحدهما يتحدثان ويتغازلان. ومع الوقت وجد بول نفسه مضطرا لزيارة المصانع في ميدلاند في شمال أنكلترا , بعد أن أهمل كثيرا من عمله المعتاد عندما يبقى في صحبة كارن , كان رجلا نشيطا يحب عمله زيهتم به ويكره تركه لمندوب ينجزه له , ومر عام كامل بدون أن يتفقد الشركة, كان يعرف بأنه لن يستطيع التركيز على عمله وهي في صحبته.
في أول الأمر استغرق العمل في منزل تريفاين كل وقت كارن , وكانت تقضي بعضه في حمام السباحة الملحق بالبيت, أو في دعوة الأصدقاء لتناول الشراب أو لعب التنس , ولكن على مر السنين , قلت كثيرا الأوقات التي يقضيانها معا, الا في العطلات التي يأخذها بول, وبدأت كارن تكره طريقة حياتهما الجامدة, وشعرت بالملل لا من بول ولكن من كثرة وقت الفراغ وقلة العمل.
وأخيرا طلبت من بول السماح لها بالعودة الى العمل في الشركة, ولكنه ذهل ورفض بشدة, فبالأضافة الى أنه كان يريدها في المنزل عندما يحتاج اليها فأنه لم يعتبر عملها أمرا ضروريا , وعبثا رجته أن تعود الى العمل لأنها تشعر بالملل , وما لبثت أن وجدت نفسها فريسة القلق والأحباط , وأوجدت هذه المشاعر سلسلة من المناقشات والنزاع حول عملها ووضعها الذي لا هدف له في المنزل, وأقترح بول أن ينجبا أطفالا ويكونا أسرة , ولكن كارن كانت عنيدة حمقاء , فرفضت أن تخضع لرأيه مرة أخرى , وانتابها الهلع عندما فوجئت ببول ينقل ملابسه الى غرفة الضيوف , لقد أفزعتها عواقب تصرفاتها ولكن كبرياءها منعها من التوسل اليه كي يعود اليها.