لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القسم الادبي > منتدى الكتب > كتب المسرح والدراسات المسرحية
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

كتب المسرح والدراسات المسرحية كتب المسرح العربي - كتب المسرح العالمي - دراسات مسرحية


جابر قميحة , مسرحية الحكاية المستحيلة أو السيف والأدب

الحكاية المستحيلة أو السيف والأدب أ.د/ جابر قميحة الأول الفصل غرام السلطان المنظر: قاعة العرش الكبرى بقصر السلطان بهمان: سلطان دولة "زعفارستان".

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-04-09, 05:09 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 11622
المشاركات: 1,113
الجنس ذكر
معدل التقييم: معرفتي عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 13

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
معرفتي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : كتب المسرح والدراسات المسرحية
افتراضي جابر قميحة , مسرحية الحكاية المستحيلة أو السيف والأدب

 

الحكاية المستحيلة

أو السيف والأدب

[المسرحية الفائزة بالجائزة الأولى للمسرح السعودي]

أ.د/
جابر قميحة



الأول الفصل

غرام السلطان

المنظر: قاعة العرش الكبرى بقصر السلطان بهمان: سلطان دولة "زعفارستان". السلطان جالس على عرشه، وعلى وجهه أمارات السعادة والسرور، وبجانبه على كرسي أخفض مستوى: وزيره (شرهان).

السلطان: يا سلام يا وزيري شرهان، لقد قضينا ساعات ممتعة حقًّا، ساعات رائعة جميلة مع هؤلاء القصاصين، الذين شئفوا أسماعنا بكل ما لذ وطاب من القصص والحكايات.

الوزير: يا مولاي، إنه ذوق عظمتكم .. الذوق الرفيع الذي يتمتع به سلطاننا العظيم بهمان. إن كل الناس يا مولاي يتحدثون عن تقديركم للفن القصصي الرفيع، وليس أروع منه إلا ذوقكم الذي لولاه ما كان لهذا الفن طعم ولا شهرة، ولا كان لأصحابه من القصاصين مكان ولا قيمة.

السلطان: لا تظلم هؤلاء القصاصين يا وزيري شرهان، فأدبهم رفيع في ذاته، بصرف النظر عن تقديري لهم.

الوزير: ولكن يا مولاي ..

السلطان (مقاطعًا): .. وذلك بدليل تقدير الناس لهم، والتفافهم حولهم في الشوارع والمنتدبات، والإنصات لهم كأن على رؤوسهم الطير وهم يقصون عليهم حكاياتهم المشوقة، فلا عجب أن يفُرغ الناس عليهم كل ما في جيوبهم.

الوزير: .. ولكن ـ يا مولاي السلطان ـ هناك حقيقة لا تنكر، وهي أن عطاءاتكم الهائلة لهم هي التي بلغت بهم هذا الثراء، وجعلت لهم المنزلة العالية بين الناس، لقد أصبح هؤلاء القصاصون يملكون من دنانير الذهب ألوف الألوف، وأفخم القصور، وأخصب الضياع.

كل ذلك يا مولاي ـ من القصص التي يقصونها على عظمتكم، وعلى الناس.

السلطان: (في شيء من الضيق): أوه .. يا وزيري شرهان، إنهم يستحقون ذلك وأكثر، فالقص فن رفيع لا يقدر عليه إلا نوابغ الأدباء، ولا تنس أنه أمتع من الشعر، وأمتع من الخطب، وأمتع من قضايا المنطق ومقولات الفلسفة.

الوزير: هذه حقيقة لا أستطيع إنكارها يا مولاي السلطان بهمان .. ولكن ..

السلطان: ولكن ماذا يا وزيري شرهان؟! .. هيه .. أنا أعرف ما تريد أن تقول، أنت تستكثر على هؤلاء القصاصين ما أمنحهم من مال، أنت تشفق علي، وعلى الخزانة من كثرة ما أعطيهم.

الوزير: دمت مثالاً للكرم والسماحة يا مولاي، فمثلك لا يستكثر منه هذا، ولكن هؤلاء القصاصين تضخمت ثرواتهم إلى درجة أن ...

السلطان: لا تظلمهم يا شرهان، ولا تنس أن هناك فضيلة تسجل لهم، وهي أنهم لا يقصون عليّ، ولا على الناس إلا ما كان واقعًا بعيدًا عن الكذب والخيال الشارد من قصص التاريخ والحكمة، وما فيه الكثير من العبر والدروس.

الوزير: ولكنهم ـ يا مولاي ـ يقصون أحيانًا قصصًا فكهه هازلة، بعيدة كل البعد عن صرامة الجد.

السلطان: هذا صحيح، ولكن ما العيب في هذا؟ هل تخلو من الفكاهة والهزل ـ يا شرهان؟ وأعتقد أنه لا ضير في ذلك إذا جاء بقدر، بعيدًا عن الحرام، وبعيدًا عن الإخلال بالوقار والاتزان.

الوزير: ولكن ثرواتهم .. يا مولاي ..

السلطان (ضاحكً): ها .. ها .. ها .. عجبًا يا وزيري شرهان!! عدت إلى الحديث عن ثرواتهم مرة أخرى. فليكونوا أغنى الناس، ولكن لا تنس ـ يا وزيري العزيز ـ أنك أغنى من هؤلاء جميعًا .. نعم أنت تفوقهم أجمعين: مالاً، وقصورًا، وضياعًا، وعبيدًا، فلا تغبطهم على ما هم فيه.

الوزير: (في لهجة هادئة ضارعة): ولكن ثروتي الحقيقية هي رضائكم عن خادمكم المخلص شرهان.

السلطان: هيه .. حقًّا كانت ليلة ممتعة .. أكثر من خمس ساعات قضيناها مع ثلاثة من القصاصين في ثلاث من القصص الجميلة الرائعة.

(يدخل الحاجب ويحيي بإحناء رأسه إلى الأمام).

ـ مولاي ، ما زال هناك قصاص بالخارج، هل يدخل، أم تأمرون بصرفه؟

السلطان (بلهفة): .. لا بل أدخله .. أدخله .. لقد نسيناه ..

(يدخل القصاص، ويؤدي التحية للسلطان والوزير بإحناء رأسه، ورفع يديه إلى جانبي رأسه عدة مرات) التحية والسلام على عظمة السلطان بهمان، ووزيرنا الهمام شرهان، من العبد المخلص القصاص سلمان.

السلطان: وعليكم السلام .. هيه .. ماذا عندك؟

سلمان: عندي يا مولاي من القصص أشكال وأنواع وألوان، وكل قصة يسعدها أن تُحكى في حضرة السلطان بهمان، ووزيرنا شرهان.

السلطان: اسمع يا سلمان .. أريد هذه المرة قصة من طرائف التاريخ .. نختم بها ليلتنا.

سلمان: سمعًا وطاعة يا مولاي .. إنها قصة واقعية بطل أحداثها الشاعر أبو دلامة، الذي عرف بظرفه وخفة ظله، وقد عاش طيلة حياته يكره إراقة الدم ورفع السلاح، ويقال إنه أكره على الخروج في جيش المنصور الذي أرسله بقيادة رجل يسمى (روح) لقتال "الخوارج الشراة". فلما وقف الجيشان كل منهما في مواجهة الآخر بدأت مرحلة المبارزة الفردية، فخرج بطل من أبطال الشراة يطلب المبارزة، فما كان من أبي دلامة إلا أن قال لقائده "روح":

ـ يا سيدي القائد العظيم: أرى أن تتقدم إليه وتبازره، فهو ـ على ما يبدو ـ جبان، ضعيف الهمة، يستطيع أي فارس أن يقصمه بضربة واحدة.

فأجابه قائده روح: إذا كان الأمر كذلك، فأنت أولى بمبارزته، ولك عشرة آلاف دينار إذا صرعته.

فأسقط في يد أبي دلامة ـ وهو الذي لا يحسن من فنون المبارزة والقتال شيئًا، ومشى إلى فارس الشراة، ووقف أمامه يقول له بصوت خفيض ضارع:
اسـمع مقالة من أتاك ولم iiيكن
واعـلـم بأني لا أخاف iiمنيتي
لـكن أرى سفك الدماء iiمحرمًا
أمـن المروءة أن نريق iiدماءنا
هل كنت من قبل اللقاء iiرأيتني
أم هل طرقت خيام قومك جانيا




فـيـمـا يقول مخادعًا iiمحتالاً
جـبـنًـا، ولا أتهيب iiالأبطالا
وأعـيـذ رأيك أن تراه iiحلالا
سـفها لمطمع طامع iiوضلالا؟
يـومًا وهل مني لقيت iiنكالا؟
أم هـل سرقت بحيهم أموالاً؟

السلطان: ذكي ألمعي والله يا أبا دلامة!! هيه .. ترى ماذا فعل الفارس الكمي بعد سماعه هذه المقالة؟

سلمان:
فرأى الكمي مقاله iiمتعاليا
فعنا وأذعن للحقيقة iiمغمدا
حـقًا، وكل حقيقة iiتتعالى
سيفا أجادته القيون صقالا

الوزير: وبذلك نجا أبو دلامة من موت محقق. لكن ماذا قال أبو دلامة لقائده "روح"؟

سلمان: عاد أبو دلامة إلى قائده يخبره أنه كفاه قرنه البطل الرئبال، وأنه قتله بالقول السديد لا بالسيف المهند، وختم كلامه بقوله:

وأخذت في الهيجا عليه مواثقا ألا يعود ينازل الأبطالا

السلطان (ضاحكًأ): ها .. ها .. ها .. ها .. ما شاء الله .. ما شاء الله .. قصة رائعة .. رائعة حقًا .. يا حاجب اعطه خمسين ألف دينار .. نعم خمسين ألف دينار.

الوزير (في اضطراب): مو .. مو .. مولا لا لاي .. خـ .. خـ .. خمسين .. خـ.. خـ .. خمسين ماذا؟

السلطان (دون أن يلتفت للوزير): خمسين ألف دينار يا حاجب ..

(يدخل الحاجب ويسلم سلمان صرة كبيرة)

سلمان: (وهو منصرف بظهره): أبقاك الله يا مولاي السلطان بهمان، نصيرا للقصاصين، وذخرًا للمحتاجين، وبلسما للفقراء والمساكين.

(ستار)

الفصل الثاني

الخزانة الخاوية

المنظر: قاعة العرش الكبرى التي ظهرت في الفصل الأول، والسلطان بهمان جالس على عرشه، وعلى وجهه أمارات الأسى والحزن والتفكير العميق الطويل، وعلى يمينه وزيره "شرهان" ترتسم على وجهه نفس المشاعر، يقدم إليه الوزير صرة ثقيلة، ينتفض السلطان واقفا فيقف الوزير وهو يحمل الصرة بين يديه.

السلطان: معقول .. معقول يا وزيري شرهان؟ معقول هذا؟ لم يبق في خزينة الدولة إلا هذا المبلغ، مائة ألف دينار فقط بعد آلاف الآلاف.. معقول هذا؟ إنه المستحيل .. المستحيل بعينه.

الوزير: يا مولاي السلطان بهمان .. وما الغرابة في ذلك، وعظمتكم يعلم أن عدونا السلطان "أكلان" قد قطع علينا طرق تجارتنا، واستولى على سفن أساطيلنا، وحرق محاصيلنا و ... و ...

(يجلس السلطان على كرسي العرش، ويعود الوزير إلى مقعده على يمينه)

السلطان: و ... و ... و ... وماذا أيها الوزير شرهان؟!!

الوزير: و ... و ... و .... لا شيء .. لا شيء .. يا مولاي.

السلطان: لا ... لا ... قل .. قل يا شرهان. لقد عودتني على الصراحة، قل بصراحة ... وماذا؟ لا تخف فأنت في أمان.

الوزير: و ... و ... غرام عظمتكم بالقصص والقصاصين يا مولاي، وما تمنحهم كل ليلة من آلاف .. بل مئات الآلاف من الدينارات الذهبية .. حتى أصبح الواحد منهم ـ كما قلت لعظمتكم ـ يمتلك عشرات القصور، ومئات الضياع والبساتين غير الجواري والعبيد .. وأنت ـ يا مولاي ، أطال الله عمرك صاحب الفضل الأول في كل ذلك.

السلطان: دعنا من هذا الآن . فأنا ـ كما ترى ـ أصبحت زاهدًا في القصص والقصاصين، وحط علينا من المصائب والمشكلات ما نكاد تنوء به.

(ينهض واقفا، وكذلك الوزير، وتعلو نبرة السلطان)

فلنكن أبناء اليوم .. نعم فلنواجه مشكلات اليوم بعقلية اليوم .. إننا في حاجة إلى خمسمائة ألف ألف دينار من الذهب لكي ندفع معاشات العمال والجنود وخدم القصر، ومائتي ألف ألف لتصنيع السلاح، وتجهيز تجريدة نضرب بها عدونا السلطان "أكلان" لنسترد أموالنا وسفن أسطولنا.

(يعاود الجلوس على عرشه، ويوجه نظره إلى الوزير الذي عاد إلى مقعده .. ويسأله في نبرة هادئة حزينة:

ـ هيه .. قل يا وزيري شرهان .. ماذا أفعل .. ماذا .. أفعل؟ إنها مشكلة .. مشكلة .. بل إنها كارثة لا يستهان بها.

(الوزير يطرق إلى الأرض برهة، ثم ينهض واقفا وهو يصيح، وقد بدأ البشر على وجهه:

ـ آه .. خلاص .. خلاص .. يا مولاي .. وجدتها يا مولاي وجدتها .. وجدت الحل الناجع الذي لا كارثة بعده ولا مشكلة .. نعم وجدتها .. وجدتها يا مولاي ..

السلطان: لا .. اسمع .. إياك أن تشير علي .. كما كنت تشير كل مرة بضريبة جديدة تفرض على الناس .. لا .. لا .. فعيوني من رجالي قد نقلوا إليَّ أن البؤس والفقر يأخذان بخناق الناس .. ولم يعد في الناس غني واحد .. ما عدا ..

الوزير (بلهجة مندفعة): القصاصين .. نعم يا مولاي .. القصاصين .

السلطان: القصاصين .. نعم .. قلة قليلة لا يتجاوز عددها أصابع اليدين هم أصحاب الثراء الفادح.

الوزير: وما منحه عظمتكم لهم هو سرّ هذا الثراء .. فالحل إذن عندهم .. نعم حل الأزمة المالية في يدهم.

السلطان: (غاضبا): لا أيها الوزير شرهان.. أتريد أن أسترد منهم ما منحته لهم بإرادتي ورضاي مقابل ما أسعدوني به من قصص؟ لا .. لا .. ماذا يقول الناس عني؟ ... لا شك سيقولون سلطان بخيل .. يمنح العطايا ثم يستردها .. لا .. لا .

الوزير: لا يا أعظم سلاطين الأرض .. وزيركم ليس بهذه السذاجة ولكن ذكاء عظمتكم سيوقعهم في الفخ، ونسترد المال بطريقة مشروعة .. نعم مشروعة .. لن يشك في مشروعيتها اثنان.

السلطان: مشروعة .. مشروعة!! .. كيف؟

الوزير: آه .. قلت لي يا أعظم السلاطين. الخطة تتلخص ـ والأمر لكم ـ أن نبعث المنادين في كل مكان .. من سلطنتنا الحبيبة "زعفارستان" يعلنون عن مكافأة كبرى قدرها مائة ألف دينار.

السلطان: (غاضبا): أي كل ما خزانتنا .. ما شاء الله!! وتصبح الخزانة لا درهم فيها ولا دينار!!

الوزير: صبرًا يا مولاي .. صبرًا .. إن ذلك مجرد طُعْم .. نعم مجرد طُعْم .. يأتي بعده الصيد السمين .. أطمع في كرم عظمتكم أن أشرح خطتي للنهاية ..

السلطان: ... قل ...أكمل .. يا .. شرهان.

الوزير: نعلن عن هذه المكافأة .. للقصاص الذي يحضر إلى مجلس عظمتكم، ويحكي حكاية طويلة ليس فيها حقيقة واحدة .. أي تكون كلها خيالا في خيال، وأكاذيب في أكاذيب، ولو دخل هذه القصة الطويلة ـ التي سيحكيها هنا أمامنا ـ حقيقة جزئية واحدة يضرب عنقه، وتصادر أمواله.

السلطان (وهو يهم بالجلوس): هائل .. هائل .. جميل جدا يا شرهان، وطبعا .. لا يمكن أن تخلو أية حكاية من حقيقة، ولو كانت ضئيلة .

الوزير (وهو يهم بالجلوس، وقد ظهرت على وجهه أمارات الزهو والثقة):

طبعا .. طبعا يا مولاي. فالإنسان مهما شرد به الخيال لا يستطيع أن يبني خياله إلا على عناصر من الواقع. وسيعجز القصاصون عن الإتيان بحكايات كلها خيال مائة في المائة، وخصوصا أنهم لم يعودوا أنفسهم إلا على القصص الواقعية التي تكاد تخلو من عناصر الخيال. فالتاريخ هو مصدرهم الرئيسي. وإن اختاروا منه أطرف الوقائع والأحداث.

السلطان: إذن ستضرب أعناقهم لا محالة؟

الوزير: وبذلك نحقق يا مولاي غرضين: الأول تخليص الدولة منهم؛ لأنهم يستنزفون أموال الناس، وأموال الخزانة السلطانية. والغرض الثاني مصادرة أموالهم، وهي ثروة طائلة تكفي لحل مشكلات السلطنة وتسديد ديونها، وتجهيز جيوشها، ودفع مرتبات الموظفين والجنود والعمال.

السلطان (هاتفا في فرح): رائع .. رائع .. رائع .. يا شرهان.

(فجأة يأخذه الصمت، ويعلو وجهه الكآبة ويقول بصوع هادئ متهدج):

لكن .. قل لي افرض .. افرض أن واحدا من هؤلاء القصاصين حكى قصة كلها خيال وأكاذيب .. من أولها إلى آخرها .. من أول خيط إلى آخر خيط فيها، واستحق مائة الألف التي معنا، هه .. ماذا نفعل في هذه الحال؟

الوزير: يا مولاي هذا مستحيل .. نعم مستحيل، ولو حدث ذلك فاضرب عنقي، وصادر أموالي (ضاحكا): نعم .. يا مولاي اضرب عنقي، وصادر أموالي .. (ثم بزهو وانتفاخ).

يا مولاي .. أنا وزيرك شرهان .. رجل التخطيط الدقيق، والتدبير العميق.

السلطان: لكن افرض أن واحدا من القصاصين لم يتقدم لهذه المباراة؟ فأنت تعلم أن مائة ألف دينار لا تعد شيئا بجانب المخاطرة بالنفس، والمخاطرة بالأملاك.

الوزير: (وقد قفز الهم على وجهه): آه .. هذه فاتتني .. حقا فاتتني.

(يطرق برأسه إلى الأرض، ولكنه يرفع رأسه فجأة، وقد علته أمارات الفرح):

ها .. وجدتها يا مولاي: حتى نضمن حضور القصاصين نجعل المكافأة مزدوجة، مائة ألف دينار + ثروة من ضرب رأسه من القصاصين.

السلطان: آه .. هذه لم أفهمها..

الوزير: مثلا لو جاءنا القصاص الأول وحكى حكايته وخسر المباراة تضرب عنقه، وتصادر أمواله، وتكون جائزة القصاص الثاني مائة الألف دينار + ثروة القصاص الأول، فإذا ضربت عنق القصاص الثاني تكون الثالث + جائزتنا + أموال القصاصين الأول والثاني .. وهكذا ...

السلطان: (صائحا): فماذا نكسب إذن؟

الوزير: يا مولاي .. هذا مجرد إعلان .. مجرد إعلان لإغراء أكبر عدد من القصاصين للاشتراك في هذه المباراة التي سيخسرونها جميعا دون شك .. يا مولاي قلت لعظمتكم لو حدث غير ذلك فأضرب عنقي .. وصادر أموالي .. (وبشيء من الزهو): يا مولاي .. أنا وزيرك شرهان .. تلميذكم الأمين يا مولاي.

السلطان: (وهو يهم بالنهوض): رائع يا شرهان .. رائع .. إذن ابعث المنادين في كل مكان .. بسلطنتنا زعفارستان ينشرون الإعلان على رؤوس الأشهاد .. (وبعد لحظة من الصمت يتطلع بنظره إلى الأمام) .. ففي مساء الغد يكون لقاؤنا بالقصاصين ...

الوزير (ضاحكا بعد أن نهض من مقعده): والأموال الهائلة، والأملاك الواسعة والثروات الطائلة .. يا مولاي ..

(ستار)

الفصل الثالث

الجائزة القاتلة


(يسمع خلف الستار نداء المنادي في شوارع السلطنة:

ـ يأيها السكان، في كل مكان، بسلطنة زعفارستان ..

.اسمعوا .. وعوا ...

اسمعوا .. وعوا ...

إليكم جائزة مولانا السلطان بهمان

وليبلغ الحاضر منكم الغائب

(تكرر العبارات السابقة ويسمع لغط جماهير تجمعت حوله)

غدا بعد الغروب

في قاعة العرش الكبرى

يقدم عظمة السلطان

مكافأة من مائة ألف دينار

من خالص النضار

لمن يقص قصة طويلة

كلها خيال في خيال

وأكاذيب .. في أكاذيب

ولا يكون فيها كلمة واحدة يصدقها العقلاء

ومن يفشل في ذلك تضرب عنقه

وتضم أمواله لمن يكسب المباراة

وإلا فلخزينة سلطنة زعفارستان

(يخفت الصوت رويدا .. رويدا، وتتداخل أصوات المنادين .. وهم يكررون النداء ..)

يا أيها السكان .. في كل مكان.

بسلطنة زعفارستان

اسمعوا وعوا .. اسمعوا وعوا..

(يخفت الصوت إلى أن ينتهي تماما)

ويفتح الستار على قاعة العرش، والسلطان على كرسي العرش، والوزير على مقعده، وقد ظهر على وجهيهما البشر والسرور).

السلطان: الليلة ليلة المباراة الكبرى .. يا وزيري شرهان.

الوزير: بل قل ـ يا مولاي ـ إنها ليلة الفرج الأكبر .. ليلة لقائنا مع أموال القصاصين وثرواتهم

السلطان: أيها الحاجب .. كم من القصاصين في قاعة الانتظار؟

الحاجب (وهو يتقدم في شبه انحناء): ثلاثة ـ يا مولاي ـ ثلاثة ..

السلطان: ثلاثة فقط؟ (ناظرا إلى الوزير):

ثلاثة فقط .. يا شرهان؟!!

الوزير: ليكن .. يا مولاي السلطان .. فثلاثة من القصاصين تكفي ثرواتهم نفقات السلطنة عشر سنين على الأقل.

السلطان: (للحاجب): أدخلهم .. أدخلهم أيها الحاجب.

(يدخل الثلاثة).

الأول: التحية والسلام على عظمة السلطان، من عبده القصاص "فشران".

الثاني: التحية والسلام، على عظمة السلطان، من عبده المخلص القصاص "نعمان".

الثالث: التحية والسلام، على عظمة السلطان، من عبده القصاص "كسبان".

السلطان: نعم .. أنا أعرفكم .. فقد جئتم هنا عشرات المرات، وتمتعت بقصصكم الرائعة...

الأول: وأفضتم علينا ـ يا مولاي ـ من كرمكم الكثير .. والكثير.

الثاني: فنحن عبيد إحساناتكم يا مولاي...

الثالث: نعم .. عبيد إحساناتكم يا مولاي ..

السلطان: آه .. كفى هذا الإطراء .. فشران، ونعمان، وكسبان، هيه .. هل عرفتم شروطي المسابقة؟

كلهم (في نفس واحد): نعم يا مولاي .. ولكن ..

السلطان: نعم أعرف وجه الاعتراض .. فالعدل أن نجري قرعة لترتيبكم .. يا حاجب هات ثلاثة أسهم وسلمها للوزير شرهان

(يدخل الحاجب بثلاثة أسهم ويسلمها للوزير)

الوزير: فليأخذ كل منكم سهما .. فلتبدأ يا فشران

فشران (يأخذ سهما وينظر فيه) رقم ثلاثة.

الوزير: وأنت يا نعمان.

نعمان (يأخذ سهما وينظر فيه) وأنا رقم اثنين.

الوزير (موجها حديثه إلى كسبان): إذن فأنت رقم واحد يا كسبان ..

السلطان: إذن سيبدأ كسبان، وبعده نعمان، والثالث فشران. والآن ينتظر نعمان وفشران في قاعة الانتظار إلى أن يأتي دور كل منهما .. (ينسحبان من قاعة العرش) والآن لتبدأ يا كسبان ...

كسبان: إنها حكايتي يا مولاي، وخلاصتها أنني كنت أمتلك قطيعا من الأغنام الأبقار، الوجوه وجوه كباش، والأجسام، أجسام بقر، وبطونها يكسوها الصوف، وظهورها يكسوها الشعر. وكنت أطعمها السكر ونحلب لبنها حلو المذاق.

وذات يوم ذهبت أرعى بها في مرعى بعيد، فتهت بها في صحراء قاحلة إلى أن بلغ العطش بالقطيع أقصى مداه، فلم يجد القطيع إلا ماء البحر المالح فشرب منه، فلما حلب ابني بعض هذه الأبقار الخراف. نزل لبنها مالح الطعم، ومع كل حلبة صغار من السمك، فلما شرب ابني "سندان" من لبنها أصابه مغص شديد وتلبك بليد...

السلطان: تقول من شرب من لبنها أيها القصاص كسبان؟

كسبان: ابني سندان .. يا مولاي.

السلطان (في هدوء):

كسبان: ابن اسمه سندان؟ ابن اسمه سندان؟

كسبان: (في هدوء وابتسام): نعم يا مولاي، ابن عشر سنين .. ذكي جميل، وهو ينتظرني بالخارج .. في قاعة الانتظار بقصركم العامر ، ليفرح معي بالجائزة.

السلطان (مقهقها): ها .. ها .. ها .. لقد خسرت .. سقطت يا كسبان .. أدخلت في القصة عنصرا حقيقيا صادقا وهو ابنك سندان (يظهر الفزع على وجه كسبان).

يا سياف يضرب عنقه فجر الغد.

يا حاجب: تصادر أموال القصاص كسبان.

(يدخل السياف وبعض الجنود والحاجب ويسحبون كسبان إلى الخارج، وهو يصيح):

عفوا يا مولاي .. عفوا يا مولاي .. نسيت والله أعطني فرصة أخرى يا مولاي من أجل ولدي سندان .. عفوا يا مولاي.

السلطان: (وهو ينظر للوزير) عبقري يا وزيري شرهان .. عبقري حقا، ها قد كسبنا الأول.

الوزير: (في زهو): يا مولاي .. أنا وزيرك شرهان .. صنيعة يدي السلطان بهمان.

السلطان: والآن، جاء دورك يا نعمان .. يا حاجب أدخل القصاص نعمان (يدخل نعمان .. محنيا رأسه بعض الشيء).

نعمان: عبدك المطيع يا مولاي ..

السلطان: تذكر أن لك كل ثروة القصاص كسبان، زيادة على جائزتنا وقدرها ـ كما تعلم ـ مائة ألف دينار .. تذكر كذلك أن الشرط الأساسي ألا يكون في قصتك لمحة من الصدق أو الواقع .. هيه هيا .. فلتبدأ ..

نعمان : حكايتي من عجب ـ يا مولاي ـ فقد ولدتني أمي بثلاث عيون وثلاث أرجل، وبعد عشر سنين بلغ عمري سنتين ..

السلطان: نعم؟؟ .. ماذا تقول؟ بلغ عمري سنتين بعد مرور عشر سنين على ميلادك.

نعمان: نعم يا مولاي، ولما رأت أمي أنني بلغت سن الرشد في الثانية، قالت لي:

"يا بني الزمن خوان، والإنسان مع الزمان كفرسي رهان، فادخر عينا ورجلا للمستقبل". فخلعت العين الثالثة، وخلعت الرجل الثالثة، ووضعتهما في بطن سمكة، كنا نحتفظ بها في المنزل لخزن الأشياء الثمينة.

ولكن العين كانت تحن لرفيقتها، فتهرب من بطن السمكة وتلتصق بوجهي في المنام، فكنت أستيقظ لأجد العين الثالثة به، فأخلعها، وأعيدها إلى بطن السمكة، وذات يوم قالت لي أمي ..

السلطان: أمك؟ ومن أمك؟

نعمان (مندفعا دون ترو): أمي .. أمي يا مولاي سهيانة بنت الأقرع" .. طيبة القلب يا مولاي، وهي تنتظرني في قاعة الانتظار بقصركم العامر، لتشاركني الفرحة بالجائزة بعد أن أنتهي من حكايتي.

(ينهض السلطان والوزير مهللين)

ها .. ها .... ها ... كسبنا ... كسبنا وضعت يا نعمان.

(يجلس السلطان، وهو يتدفق فرحا)

السلطان: ها .. ها .. لقد تسربت جزئية من الحقيقة الصادقة لحكايتك .. أمك .. واسم أمك .. هذا حق وصدق وواقع .. أمك التي تنتظرك الآن في قاعة الانتظار بقصرنا العامر ..

يا سياف .. تضرب عنق القصاص نعمان .. فجر الغد.

يا حاجب .. تصادر أموال القصاص نعمان، ولا يترك منها دينار واحد.

(يدخل السياف والحاجب وبعض الجنود ويسحبون نعمان وهو يصرخ ويصيح)..

عفوا يا مولاي .. عفوا يا مولاي .. أنت الذي استدرجتني إلى الصدق، أعطني فرصة حتى أكفر عن صدقي يا مولاي .

السلطان (للوزير) هيه .. ثروتان ضخمتان حتى الآن ..

الوزير: نعم يا مولاي .. مئات ألوف الألوف .. عدا القصور والضياع والجواري والعبيد .

(وبعد لحظات من الصمت يأخذه الزهو، ويواصل الكلام).

أنا وزيرك يا مولاي .. أنا وزيرك يا مولاي .. تدبيري محكم لا مخرج منه .. لم يبق إلا القصاص فشران .. وهو مضمون مائة في المائة يا مولاي.

السلطان: يا حاجب فليدخل القصاص فشران.

(يدخل فشران رافعا يديه محييا في شبه انحناء إلى الأمام ..)

فشران: السلام والتحية لمولانا العظيم السلطان ..

السلطان: هيه يا فشران: إما أن تنال ثروة سابقيك ومائة ألف دينار، وإما أن تفقد ثروتك ورأسك، أنت تعرف هذا طبعا؟

فشران: أعرف يا مولاي.

الوزير: هيا .. هيا .. ابدأ حكايتك.

فشران: خلاصة حكايتي أنني كنت الأخ الشقيق الأكبر لأبي، فقد كان عمري ثمانية أعوام حينما ولد أبي، وجاءت جدتي وأمرتني أن أحمل أبي الرضيع، وأداعبه، حتى لا ينخرط في البكاء والصياح. ولكني لم أتمكن من إسكاته، فظنت أن به جوعا، ويريد أن يرضع لبنه، ولكن أبي الرضيع بادرني قائلا: إن كنت تريدني أن أكف عن صراخي، فخذني إلى السوق.

فحملته وذهبت به إلى السوق، فوجد جماعة من العلماء والأدباء، والشعراء، وقد تحلقوا في دائرة، فأصر على أن يخوض معهم فيما يقولون وينشدون حتى تفوق عليهم جميعا في الشعر والأدب والفلسفة والتاريخ.

الوزير (هامسا للسلطان): جاء دورك يا مولاي .. جاء دورك للإيقاع به، لاستدراجه إلى قطعة من الصدق.

السلطان (موجها كلامه إلى فشران): قلت من هذا الذي غلب ببلاغته العلماء والشعراء والفلاسفة؟

فشران: أبي .. أبي الرضيع يا مولاي.

السلطان: ما شاء الله!! أبوك الرضيع؟

فشران: نعم يا مولاي.

السلطان: ومن أبوك هذا؟

فشران: أخي الأصغر الشقيق يا مولاي.

السلطان: أبوك .. هو أخوك الشقيق؟ وأنت؟

فشران: كنت أكبر منه بثمانية أعوام يا مولاي.

السلطان: أكبر ممن؟

فشران: من أبي الذي هو أخي يا مولاي؟

السلطان: آه .. جميل .. جميل .. وما اسمك أبيك هذا؟

فشران: هذا ما لا أعرفه حتى الآن يا مولاي؟

السلطان: وهو .. أعني أباك .. ما اسمه الذي يعرفه لنفسه.

فشران: هو أيضا لا يعرف اسمه .. يا مولاي.

السلطان: فإذا أردات أمك أن تناديه .. فبأي الأسماء كانت تناديه؟

فشران: إذا أرادته .. لم تكن تناديه يا مولاي .. بل إنها إذا أرادته كان هو الذي يناديها.

السلطان: وتذهب هي إليه؟

فشران: بل يذهب هو إليها. نعم يا مولاي إذا شعر بأنها تريده لأمر من الأمور ناداها هو، فأرد أناعليه، ويذهب هو إليها.

السلطان (في ضيق): ما شاء الله!!.. أكمل حكايتك .. أكمل.

فشران: وبعد أن هزم أبي ـ الذي هو أخي ـ كل العلماء والشعراء، والفلاسفة في السوق، أردت أن أعود به إلى المنزل ولكنه رفض العودة إلا إذا اشتريت له بيضة طازجة لم يمر على وضعها أكثر من دقيقة.

فلما أمسك بها انفتحت قشرتها عن كتكوت ما إن رأى النور حتى أخذ ينمو .. وينمو إلى أن صار في حجم الدجاجة التي أخذت تنمو وتنمو إلى أن صارت الدجاجة في حجم الجحش.. فحمدنا الله؛ لأننا كنا مرهقين وركبنا الدجاجة، وعدنا بها إلى المنزل، ولكننا بعد وصولنا إلى المنزل اكتشفنا أن الدجاجة صارت في حجم الجمل الكبير ...

وأنخنا الدجاجة، وسلمت أبي ـ الذي هو أخي ـ سلمته لجدي ..

السلطان: هيه .. والدجاجة التي كانت في حجم الجمل .. ما أخبارها؟

فشران: كانت شرهة منهومة يا مولاي، أخذت تلتهم كل شيء، حتى نفد ما في بيتنا من قمح وأرز وشعير وخبز وأثاث ..

السلطان: ما شاء الله.. ما شاء الله!! دجاجة تأكل الأثاث.. من مقاعد وأسرّة ودواليب؟

فشران: نعم يا مولاي .. هذا ما حدث دون كذب أو مبالغة .. إنها دجاجة عجيبة يا مولاي.

السلطان: هيه ما علينا .. أكمل ..

فشران: فتشاور أبي مع جدي وأمي في هذه النكبة الجديدة، واتفقوا جميعا على تشغيل الدجاجة في حمل الأخشاب إلى بيتنا .. ورحبت الدجاجة بالعمل الجديد، حتى إنها نقلت إلينا من الصحراء القاحلة غابة ضخمة من مائة ألف شجرة .. كي يبني بها أبي بيوتا له .. وبحمد الله، كان الخشب كافيا لبناء هذه البيوت التي وضعها أبي في حجرته.

السلطان (صارخا وكفاه على رأسه): رأسي يا عالم!! دماغي يا ناس!! رأسي يكاد ينفجر يا مجنون .. دجاجة تحمل على ظهرها غابة من مائة ألف شجرة .. ومن أين؟ من صحراء قاحلة؟ ولماذا؟ ليبني أبوك بها بيوتا .. بيوتا مصنوعة من مائة ألف شجرة .. ثم يصنع أبوك كل هذه البيوت داخل حجرته!! قل يا مجنون .. ما حجم هذه البيوت إذن؟

فشران: حجمها .. حجمها؟؟ يا مولاي لم يكن لها حجم يا مولاي.. نعم ما كان لها حجم..

السلطان (صارخا): يا ألطاف الله .. كيف لا يكون لهذا البيوت حجم وقد كونت من مائة ألف شجرة؟ هه .. أجب يا مجنون؟ أي بيوت هي؟

فشران: يا مولاي على رسلك. لقد كانت بيوتا من الشعر .. نعم بيوتا من الشعر تكون قصيدة كاملة من نظم أبي. ألم أقل لعظمتكم أن أبي الذي هو أخي ـ تغلب من قبل في السوق ـ على كل العلماء والأدباء والشعراء ..؟

آه يا مولاي لو سمعت هذه القصيدة .. إنها رائعة رائعة .. واسأل جدي يا مولاي.

السلطان (ساخرا): .. هيه .. جدك؟ .. وما علاقة جدك بها؟ نعم ما علاقته بهذه القصيدة؟

فشران: علاقته؟ لقد ألقى أبي هذه القصيدة في ختانه .. نعم بمناسبة ختان جدي ..

السلطان (ساخرا): ختانه السعيد طبعا ؟

فشران: نعم يا مولاي لقد كان يوما سعيدا..

السلطان (بعد أن أطرق برهة .. ينطلق بصوت بطيء عميق)

لكن في هذا الجزء من حكايتك نقطة لم أفهمها .. ما علاقة الأشجار .. التي بلغت مائة ألف شجرة بنظم قصيدة من الشعر؟ هه أجب على الفور.

الوزير (بصوت مرتفع مندفع): نعم أجب على الفور. مائة ألف شجرة مع علاقتها بنظم قصيدة من الشعر.

السلطان (بصوت مرتفع مندفع): نعم أجب على الفور.

فشران: سبحان الله يا مولاي!! سبحان الله يا مولاي!! العلاقة أوضح من أن أقف عندها .. فكتابة القصيدة احتاجت طبعا لأقلام .. وقد استهلك أبي كل هذه الأشجرة في صناعة الأقلام التي كتب بها قصيدته .. ونحمد الله .. لقد كفته مؤنة استعارة أقلام من جيرانه.

السلطان والوزير (في نفس واحد وقد وضع كل منهما رأسه على كفيه): يا ألطاف الله!! أكمل .. أكمل يا مجنون.

فشران: نعود للدجاجة يا مولاي .. لقد حدث لها ما أحزننا جميعا .. إذ أصيبت بقرح في ظهرها، سال منه دم وقيح من كثرة ما حملت من أشجار. فغطى جدي قرحها بقشرة من ثمار (جوز الهند) كان ذلك في السماء .. في ليلة من ليالي الحر الشديد، فلما استيقظنا في الصباح وجدنا السماء غائمة، ولم يكن بالسماء سحابة واحدة، ولكن الحقيقة أن قشرة جوز الهند التي وضعها جدي على قرح ظهر الدجاجة نبتت وصارت شجرة جوز هند ضخمة، أخذت تعلو وتعلو، إلى أن منعت عنا ضوء الشمس؛ لأنها كانت تحمل مئات الألوف من ثمار جوز الهند.

واقتضانا ذلك أن نستأجر خمسمائة رجل للصعود إلى الشجرة لجمع ثمار جوز الهند.

وفجأة رأيت لصا يتسلل ليسرق ثمرة من هذه الثمار، فلم أجد ما أضربه به إلا أن أتناول من الأرض حفنة من التراب رميته بها، فتفاداها، فانتشر التراب على أغصان الشجرة، ولم يهبط على الأرض .. بل غطى الأغصان كلها وصنع التراب فوقها أربعين فدانا من الأرض الخصبة.

السلطان: ما شاء الله!! حفنة من التراب تستقر فوق الشجرة، فتصنع تربة خصبة من أربعين فدانا.

فشران: هذا ما حدث يا مولاي.. كأنك كنت معنا يا مولاي، وصعَّدنا إليها قطعاننا من الأبقار والأغنام لترعى ما فيها من حشائش. ثم حرثناها، وأردنا أن نزرعها، فأشار علينا أبي ـ وهو أخي الأصغر ، كما تعلم يا مولاي ـ أن نزرعها بالسمسم، وبعد أن بذرنا فيها حب السمسم، فاجأنا خبير في الزراعة، برأيه فيما فعلنا، وقال لنا أن هذه الأرض لحداثتها ـ لا تصلح لإنبات السمسم، والأصح أن نزرعها بقطع من قرون الخراف.

(السلطان والوزير يقهقان في نفس واحد)

السلطان: ها .. ها .. ها تزرعون قرون خراف في أرض زراعية!! ما شاء الله.. حتى تنتج خرافا.. إه تنتج خرافا طبعا؟؟!

فشران: زادك الله علما ـ يا مولاي ـ هذا صحيح .. ولكن كان أمامنا ـ قبل أن نغرس في الأرض قرون الخراف ـ مهمة صعبة، وهي استعادة حبات السمسم التي بذرناها في الأربعين فدانا، فصعدنا إلى الأرض أنا وأبي، وأخذنا نلتقط حبات السمسم من الأرض حبة .. حبة .. إلى أن جمعناها كلها، وعدنا إلى بيتنا، ولكن حدثت مفاجأة .. مأساة.

الوزير (هامسا للسلطان) يظهر أننا نستطيع أن نوقعه ونصطاده في هذه النقطة ـ يا مولاي (موجها كلامه لفشران).

هيه .. قل لي يا فشران .. ما المفاجأة؟ ما المأساة ؟ قلها، احكها كما حدثت في الواقع هه .. كما حدثت في الواقع.

فشران: المأساة يا سيدي ـ كما حدثت ـ أننا ـ أنا وأبي الذي هو شقيقي الأصغر ـ أخذنا نعد حبات السمسم التي نزعناها من الأرض .. فاكتشفنا أن هناك حبة ناقصة .. فأخذنا الفزع فصعدت بمفردي إلى الأرض مرة ثانية .. وأخذت أبحث عن هذه الحبة شهرا كاملا .. دون جدوى .. وبينما أنا أحاول الهبوط شاهدت نملة تمسك بالحبة، وتسحبها إلى جحرها، فأمسكت بطرف الحبة الآخر، لأنتزعها من فم النملة، ولكنها تشبثت بها، وقاومتني في وقاحة واستماتة، ودار بيننا صراع رهيب.

السلطان (ضاحكا) بينك وبين النملة؟

فشران: لمدة أسبوع كامل .. هي تشد الحبة من ناحية، وأنا أشد بقوة من ناحية أخرى، وأنفاسنا تتلاحق، والعرق يتصبب مني ومنها حتى امتزج عرقانا وصارت الأرض زلقة .. هي تشد من ناحية .

السلطان (ساخرا): وأنت تشد من ناحية .. إلى انشطرت الحبة إلى نصفين .. هه إلى نصفين.

فشران: سبحان الله .. هذا ما حدث يا مولاي بالضبط.. كأنك كنت معنا، تشاهد هذا الصراع يا مولاي .. وبعد أن انشطرت حبة السمسم تدفق الزيت منها بغزارة، واندفع الزيت من الأربعين فدانا المعلقة فوق الشجرة .. في سيل جارف إلى قريتنا، وصنع نهرا عظيما .. نهرا من الزيت لم أشهد مثله في حياتي ..

الوزير (ساخرا): وطبعا أغرق نهر الزيت .. القرية بما فيها .. ومن فيها..

فشران: لا يا سيدي .. عفوا .. لم يحدث هذا إذ أن نهر الزيت لم يزد عمقه على ثلاثة أمتار.

السلطان: ثلاثة أمتار .. ثلاثة أمتار ارتفاع نهر الزيت؟ هذا يمكن أن يغرف القرية بسهولة ..

فشران: عفوا .. يا مولاي .. هذا يكون صحيحا لو لم يصنع نهر الزيت له مجرى.

الوزير: غير مجرى نهر الماء الذي تقع القرية على ضفتيه؟

فشران: بل حل محل مجرى نهر الماء.

الوزير: وماء النهر أين ذهب؟

فشران: شربته دجاجتنا ـ يا سيدي ـ دجاجتنا التي نبتت في ظهرها شجرتنا .. شجرة جوز الهند التي تكون فوقها أربعون فدانا .. الأرض التي بذرنا فيها السمسم ثم جمعنا الحبات من جديد .. إلا حبة واحدة تدفق منها نهر الزيت.

كل ذلك أجهد الدجاجة، وكان العطش الشديد يشتد بها، إلى أن شربت نهر الماء كله.

السلطان (ساخرا) فلما تدفق سيل الزيت وجد له مجرى جاهزا .. فاستقر فيه .. هه؟!!

فشران: ما شاء الله .. هذا ما حدث بالضبط يا مولاي كأنك كنت ...

السلطان (يقف غاضبا) معنا .. معنا .. كأنك معنا يا مولاي.

(ويصمت برهة وهو يهم بالجلوس) قاتلك الله ...

الوزير (وعلى وجهه مسحة من البشر): آه .. لكن قل لنا : الفلاحون .. ماذا فعلوا؟

طبعا ماتت زراعاتهم من الأرز والذرة والقمح والشعير .. فحيث لا ماء .. لا نبات ولا إنبات.

فشران: بل بالعكس ـ يا سيدي .. روى الفلاحون محاصيلهم بالزيت بدل الماء، فارتفعت نسبة الدسم في هذه المحاصيل، حتى أصبح الفلاح يبذر في حقله قمحا فينبت كعكا.

السلطان: والشعير؟

فشران: ينبت شعرية.

الوزير: والأرز؟

فشران: ينبت لحما يا سيدي.

إنها نعم يا مولاي.. لا تحصى ولا تعد ..

السلطان (يهب واقفا وقد وضع كفيه على رأسه ويصرخ): آه .. رأسي يا ناس .. رأسي يا عالم .. ماذا أفعل مع هذا المجنون .. لكن أكمل .. أكمل .. يالكاع .. قاتلك الله.

(يعود إلى كرسي العرش)

فشران: بعد ذلك يا مولاي ركبت أنا وأبي وجدي قاربا من بيتنا إلى شجرتنا.. شجرة جوز الهند التي تحمل أرضنا الخصبة .. ومعنا أكياس تضم آلافا من قطع قرون الخراف، وصعدنا بها إلى أرضنا لغرسها. وكان في الأرض عدد قليل من أبقارنا ترعى بعض بقايا الحشائش، وبينما كنا نحاول غرس قطع قرون الخراف، هبت عاصفة رهيبة كادت تمزقنا تمزيقا، وليس في أرضنا مكان نحتمي به، فأرضنا خلاء كما تعلم يا مولاي.

الوزير: آه .. هذه مشكلة ..

فشران: حقا مشكلة .. وأخذتنا الحيرة .. ولكنا فوجئنا بجدي يصرخ فينا .. "هيا .. بسرعة .. ادخلا فمي .. واختبأنا في ضرسه المنخور ..

السلطان (ناهضا في هياج) نعم ؟؟ نعم يا أكذب خلق الله!! تختبئ أنت وأبوك في تجويف ضرس من ضروس جدك .. في فمه؟ .. هل هذا معقول ..؟

(يعود إلى الجلوس مرة أخرى).

فشران: هذا ما حدث بالضبط يا مولاي .. قفز أبي أولا .. وشد معه إلى تجويف الضرس بقرة سمينة .. وقفزت أنا بعده.

الوزير: كل هذا داخل فم جدك .. هه .. في تجويف ضرسه .. هيه؟

فشران: نعم يا سيدي الوزير، هذا ما حدث بالضبط.

الوزير: والعاصفة ؟

فشران: كنا نسمعها تعوي خارج الضرس في شدة وجنون.

السلطان: وجدك؟؟ كيف تتركونه معرضا للعاصفة؟

الوزير (واقفا ويعلو صوته) هذه أنانية، هذا عقوق، هذا جحود (يعاود الجلوس)

فشران: لم نتركه يا سيدي .. بل قفز معنا .. نعم .. اختبأ معنا.

السلطان: إلى أين قفز؟ نعم أين اختبأ؟

فشران: في تجويف ضرسه أيضا يا مولاي، هل معقول ـ يا مولاي ـ أن نختبئ نحن في ضرسه، ونتركه في الخارج.. وهو أولى منا بضرسه؟

الوزير: يعني جدك دخل تجويف ضرسه معكم؟

فشران (باستغراب): نعم يا سيدي .. ما الغرابة في هذا؟

أنه ضرسه .. ملكه .. وهو أولى منا به..

السلطان: قل لي يا فشران: والضرس بعد أن دخل جدك فيه، وأصبحتم أنتم الثلاثة بداخله..

الوزير: ومعكم البقرة..

السلطان: هذا الضرس .. ضرس جدك.. بعد أن استقر فيه جدك وأنت وأبوك والبقرة، هذا الضرس، أين استقر؟

فشران: في فم جدي يا مولاي..

السلطان: وجدك .. هل دخل ضرسه .. ومعه فمه .. أم ترك فمه في الخارج؟

فشران: طبعا ومعه فمه يا مولاي، هل معقول أن يترك فمه معرضا للعاصفة؟

الوزير (هامسا للسلطان): قطعا .. فشران أصبح قريبا من السقوط يا مولاي .. ضيق عليه الخناق يا مولاي..

السلطان (في هدوء مع الضغط على مخارج الحروف):

يا فشران .. كن معي خطوة .. خطوة .. فرأسي يكاد ينفجر .. أنت وأبوك داخل تجويف ضرس جدك، صح؟؟

فشرا: صح .. صح ـ يا مولاي ..

السلطان: وجدك .. جدك كله بشحمه .. ولحمه .. وفمه قفز إلى ضرسه واختبأ معكم فيه. صح؟

فشران: صح .. صح يا مولاي .. هذا ما حدث بالضبط ترويه عظمتكم كأنك كنت معنا.

السلطان: جميل .. جميل .. الضرس إذن كنتم بداخله أنتم الثلاثة ومعكم البقرة .. أسأل الآن عن هذا الضرس المنخور. هل كان معلقا في الهواء؟ أم كان يرتكز على شيء؟ هه ..

(يظهر البشر والسرور على وجه الوزير)

الوزير: نعم أجب يا فشران: هل كان الضرس معلقا في الهواء؟ أم كان يرتكز على شيء؟

(يميل على السلطان ويهمس في أذنه):

ألم أقل لك يا مولاي. أنه سيسقط لا محالة .. أنا الوزير شرهان ـ يا مولاي ـ أبو الخطط الجهنمية.

فشران: صبرا يا مولاي .. صبرا يا سيدي الوزير .. كيف يكون الضرس معلقا في الهواء؟ إن جدي عمل حسابا لكل شيء، فقد كان يخرج رجله اليمنى ليرتكز عليها ضرسه في مواجهة العاصفة، فإذا تعبت رجله اليمني استبدل بها رجله اليسري، للغرض ذاته حتى انتهت العاصفة بسلام.

(يشحب وجه الوزير والسلطان ينظر إليه في غضب).

السلطان: ... أكمل .. أكمل .. يا فشران.

الوزير (وهو يقف هائجا): انتظر .. انتظر .. يا فشران .. هل أكلتم البقرة حية؟ هه!! هل أكلتموها حية؟ قل يا هذا؟ إن البقرة تحتاج إلى ذبح وسلخ، واللحم يحتاج إلى سكين لتقطيعه، وإلى نار لإنضاجه، فكيف تم ذلك داخل الضرس.. وأنتم لا سكين، ولا نار معكم؟؟ أجب يا كذاب.. أجب.

فشران (في هدوء واتزان): الحقيقة أنها كانت مشكلة، ولكننا تحايلنا، وتغلبنا عليها، فطلبنا من أبي أن يتخذ قرارا قاطعا .. فاتخذ قرارا بأن يزوجني بعد خروجنا من الضرس ببنت خالة جدته السابعة؛ ولأنه؛ قرار قاطع" أخذناه وذبحنا به البقرة.

السلطان (صارخا): ذبحتم البقرة بالقرار القاطع؟

فشران: نعم يا مولاي .. فقد كان قاطعا .. ماضيا .. أمضي من أي سكين.. وأي سيف.

فشران (في استغراب): ما شاء الله يا سيدي .. ما شاء الله .. كأنك كنت معنا يا سيدي الوزير.

السلطان: لكن هل أكلتم اللحم نيئا .. أم أنضجتموه بالقرار القاطع أيضا؟

فشران: الحقيقة يا مولاي .. أننا أكلنا اللحم شواء ناضجا .. وكانت هذه أسهل من الأولى.. أما كيف فإليكما يا مولاي ما حدث .. قلت لأبي الذي هو أخي أنت شاعر مفلق، فأنشد شعرا في جدي تثير به شوقه، فأخذ ينشد شعرا يذكر فيه جدي بمرابع صباه، وذكريات شبابه مع جدتي .. حتى فاض قلب جدي بالحب، واشتعلت نار أشواقه، وكانت فرحتنا .. أخذنا ننفخ فيها حتى قوى لهيبها .. وعليها أنضجنا لحم البقرة.

فشران: نعم يا مولاي .. دب الدفء في أجسادنا، من حرارة هذه النار.

الوزير (في لهجة متهكمة) نار الشوق؟!

فشران: نعم يا سيدي .. إن نار الشوق أشد بكثير جدا من نار الحطب.

(وفي صوت أهدأ كأنما يتحدث إلى نفسه): يا سلاااام .. لم أذق في حياتي ألذ من ذلك اللحم الذي شويناه على نار الشوق الذي بعثه أبي بشعره في نفس جدي.

السلطان (ينظر إلى الوزير في ضيق وغضب، والوزير يزداد وجهه شحوبا .. ثم ينظر إلى فشران):

ما علينا .. أكمل .. أكمل يا فشران .. أكمل ..

فشران: وبعد أن طال بنا المقام في تجويف ضرس جدي، نهضت، وألقيت نظرة إلى خارج الضرس، فاكتشفت أن العاصفة قد انتهت، وأن الشمس قد أشرقت، ولكن كان هناك كارثة أخرى تنتظرنا.

السلطان والوزير (في نفس واحد) كارثة .. كارثة؟

فشران: نعم .. ولكن الله سلم: لما رأينا الجو صحوا، والشمس مشرقة بدأنا ـ أنا وأبي وجدي ـ نخرج ببطء من تجويف ضرس جدي، لنزاول عملنا في أرضنا بغرس قطع قرون الخرفان، ولكننا صدمنا إذ اكتشفنا أن سيول المطر الذي هطل مع العاصفة قد جرف الأربعين فدانا .. فزالت تماما.

السلطان: آه .. وأصبحتم معلقين في الهواء.

فشران: ولكن الله سلم: فأبى بذكائه أخذ شعرة من شارب جدي، وأخذ يفركها بين كفيه بقوة، وكلما ضغط عليها زاد طولها، إلى أن بلغت في طولها ميلا، ثم ثبت طرفها في أحد أضراس جدي.

الوزير: في الضرس المنخور أيضا؟

فشران: لا يا سيدي الوزير، وإلا لانهار بنا، ولكن في ضرس قوي جديد، ثبت أبي الشعرة، وانزلقنا عليها واحدا .. واحدا .. أنا ثم أبي .. ثم جدي.

السلطان (صارخا وهو يضع كفيه على رأسه): يا لطيف اللطف .. يا رب ..

فشران (صائحا) يا لطيف اللطف يا رب .. هذه هي العبارة التي كنا نرددها. ونحن نهبط فوق شعرة شارب جدي، كأنك كنت معنا يا مولاي.

والحمد لله نجانا الله .. لأحظى بلقاء السلطان العظيم.

(السلطان يبدو عليه الغضب والضيق الشديدان وينظر إلى وزيره الذي ازداد وجهه اكفهرارا)

السلطان: (موجها كلامه للوزير وهو يضغط على أضراسه).

هيه .. قل يا وزيري شرهان .. هل عندك شيء تقوله؟ هه .. هل عندك جديد من فيض عبقريتك الفذة .. وتخطيطاتك البارعة؟

الوزير (في اضطراب شديد): يا مو و و لا .. لاي . ي أصل ال .. ال .. ال

السلطان (هائجا): أصل ماذا؟ تلكم.

الوزير (موجها كلامه إلى فشران): سؤال أخير يا فشران: هذه القصة التي قصصتها علينا الليلة، هل هي حقيقية صادقة، أم خيالية كاذبة؟

فشران (وهو يضغط على حروف كلماته): يا سيدي القصة حقيقية، واقعية، صادقة .. من بدايتها إلى نهايتها، وكل حادثة فيها وقعت حقيقية على مسرح الحياة.

(يهب الوزير صائحا في لهجة المنتصر).

هايل .. خسرت المباراة يا فشران . يا مولاي لقد سقط فشران، يضرب عنقه، وتصادر أمواله، لقد قال إن قصته حقيقية صادقة، لا خيال فيها، وأهم شرط في المسابقة أن تكون القصة ـ من أولها إلى آخرها ـ خيالا في خيال .. كذبا في كذب.

السلطان (في صوت مبتهج): هذا صحيح .. غاب عني ذلك .. يا سياف . يا سياف .. أضرب عنقه ..

فشران (في طمأنينة وثبات): على رسلك يا مولاي، على رسلك .. يا مولاي .. أنا التزمت تماما بالشرط المطلوب.. لأني لو قلت إن قصتي هذه كلها كذب وخيال لكنت بذلك صادقا، ولاستوجب ذلك ضرب عنقي ومصادرة أموالي.

لكنني حينما أجبت على الوزير بأن قصتي هذه واقعية صادقة مائة في المائة، فهذا القول مني يعد كذبة جديدة تضاف إلى ما في قصتي من خيالات وأكاذيب. فأنا إذن قد وفيت بالشرط المطلوب يا مولاي.

(الوزير يلقي بنفسه على مقعده في رعب وذهول)

السلطان: نعم هذا صحيح .. فالجائزة لك .. وأموال صاحبيك تضم إلى أموالك.. ولكن بقي حكم لا بد منه (صوت هائج): يا سياف .. يضرب عنق وزيري، وزيري الخائب .. دعيّ العبقرية والذكاء، وتضم أمواله إلى أموال السلطنة لتفريج أزمتها .. وحل مشكلاتها..

(يدخل السياف ومعه بعض الجنود، ويسحبون الوزير وهو يصرخ):

ـ العفو يا مولاي .. العفو والسماح يا مولاي ..

السلطان (ناظرا لفشران):

وأنت يا فشران عقل ذكي .. ونظر ألمعي .. وقريحة نفاذة .. وبيان رائع .. تستحق كل خير.. لذلك فأنت من الليلة وزيري الأول.

أما وزيري شرهان ففي فجر الغد يضرب عنقه وعنق القصاص نعمان وعنق القصاص كسبان.

أما أنت يا وزيري فشران فتمن علي .. ما تطلبه مقضي .. دون تأخير ..

فشران: مولاي السلطان .. أنت أهل الكرم والسماحة، وليس لي إلا رجاء واحد .. لا أريد به إلا وجه الله.

السلطان: قلت لك تمن علي .. وطلبك مجاب ...

فشران: أن يتفضل مولاي السلطان بالعفو عن رفيقي .. وعن الوزير شرهان .. ويكتفي بمصادرة نصف أملاكهم..

السلطان: لك هذا .. بشرط ألا يعود شرهان وزيرا .. وتكون أنت وزيري مدى الحياة ..

فشران : مدى الحياة .. مدى الحياة .. إن شاء الله يا مولاي ..

السلطان: يا حاجب .. يا سياف .. يطلق سراح شرهان .. ونعمان .. وكسبان .. ويكتفى بمصادرة نصف أملاكهم .. استجابة لطلب ـ وزيري فشران ..

(ستار)


نقلا عن رابطة أدباء الشام

 
 

 

عرض البوم صور معرفتي   رد مع اقتباس

قديم 06-04-09, 05:18 PM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 11622
المشاركات: 1,113
الجنس ذكر
معدل التقييم: معرفتي عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 13

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
معرفتي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : معرفتي المنتدى : كتب المسرح والدراسات المسرحية
افتراضي في الاحتفاء بالدكتور جابر قميحة

 

في الاحتفاء بالدكتور جابر قميحة

قلماً مجاهداً

أ.د/
جابر قميحة


وصفي عاشور أبو زيد



لكل أمة رموزها وعلماؤها وأدباؤها وقادة الرأي فيها، وإنَّ من شِيَم الأمم الناهضة المتحضِّرة أن تحتفي وتحتفل بهؤلاء الرموز، وتعطيَهم قدرَهم وتُنزلَهم منزلتَهم، وتُكرِّمَهم بما هم له أهل، وقد كان العرب قديمًا يحتفلون بالشاعر إذا قرض الشعر وظهر نبوغه.

ومما يؤسَف له أن ميزانَ القيم والأولويات أصبح مضطربًا وذا خللٍ كبيرٍ في أمتنا، فالمُقَدَّم اليوم هم لاعبو الكرة والفنانون ومَن على شاكلتهم، أما العلماء والأدباء والمفكِّرون فيعيشون مظلومين مغمورين، حقوقهم مبخوسة، وجهودهم مخبوءة، وشخوصهم مغمورة، لا يعرفهم أحد إلا أهل التخصُّص، والمؤسِف أكثر أننا ربَّما نظلمهم بعد وفاتهم.

فلاعبُ الكرة إذا أحرزَ هدفًا أو اعتزل، والراقصة أو المطربة إذا أقامت حفلاً أو ماتت، انقلبت الدنيا وانشغل الإعلام أيامًا بهذا البطل أو ذلك الفنان أو تلك الراقصة، أما إذا قدَّم العالم كتابًا، أو أبدع الأديب في شعرٍ، أو قدَّم المفكِّر مشروعًا نهضويًّا، أو وافت أحدَهم المنيةُ، فلا تحسُّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا.

والأستاذ الدكتور جابر قميحة الكاتب الناقد، والأديب الشاعر، والداعية المجاهد، واحدٌ من هؤلاء العِظام الذين يستحقون الاحتفاء والاحتفال؛ لِما له من جهود ملموسة، وجهاد متواصل، وقد تعوَّد الناس أن يحتفوا بالعالِم عند بلوغه السبعين أو الثمانين، كما قال الشاعر أبو همام عبد اللطيف عبد الحليم لشيخه الحجة محمود شاكر يرحمه الله، محاكيًا قول الشاعر القديم:

إن الثمانين وبُلغتُها لم تحوج السمعَ إلى ترجمان

وقد تجاوز أديبُنا السبعين بـ 3 أعوام، ومع ذلك لم يتنادَ محبُّوه وتلاميذُه بالاحتفاء به، غير أن المرحوم بإذن الله أستاذنا الدكتور علي عشري زايد (ت: 27/4/2003م) أستاذ النقد الأدبي بدار العلوم بالقاهرة كتب عنه دراسةً بوصفه من الدعاة الأدباء، نشرتها مجلة (الرسالة)، التي يصدرها مركز الإعلام العربي بالقاهرة، كما نوقشت عن حياته وأدبه رسالةُ ماجستير بجامعة الأزهر بالمنصورة.

المولد والنشأة

وُلد جابر المتولي قميحة في مدينة المنزلة بأقصى شمال الدلتا عام 1934م، ودخل الكُتَّاب ثم المدرسة الإلزامية، ثم المدرسة الابتدائية (ومدتها أربع سنوات)، ثم التحق بالثانوية، وكانت خمس سنوات، وكان التخصص يتم من الصف الخامس، وكان تخصُّصه هو الشعبة الأدبية، فحازَ ترتيب الأول على المدرسة، وقد نما حبُّه للأدب واللغة العربية منذ سن مبكرة، ثم التحق في عام 1953م بكلية دار العلوم بدافع حبِّ اللغة، والارتباط بشخصية الإمام حسن البنا ليتخرج فيها عام 1957م.

كان منذ الصغر نهِمًا بالقراءة، وكلما صعب عليه كتاب تصدَّى له من منطلق التحدِّي حتى يستوعب ما فيه، وكان يحكم على نفسه من خلال ما يقرأ وما يستوعب، وكان حفَّاظةً للشعر والنثر، حتى قال عنه الأستاذ الدكتور عمر الدسوقي- أستاذ الأدب بدار العلوم-: "التحق بدار العلوم طالب اسمه جابر قميحة يحفظ حِمل بعير من الشعر، ومثله من النثر".

وبعد الجامعة عيِّن مدرسًا بالتربية والتعليم ثم موجِّهًا، والتحق بكلية الحقوق، وحصل على ليسانس الحقوق عام 1965م، ثم على الدراسات العليا (ماجستير) في الشريعة الإسلامية بكلية حقوق القاهرة عام 1967م، وهمَّ أن يقوم بعمل دكتوراه بعنوان (نظرية التعسف في استعمال الحق بين الشريعة والقانون)، لكن استهواه الأدب، وخاصةً الشعر.

العطاء الجامعي

أُعير أديبُنا إلى الكويت، وحصل من جامعة الكويت على ماجستير في الأدب عام 1974م بعنوان (الفن القصصي في شعر خليل مطران)، ثم حصل من كلية دار العلوم على الدكتوراه عام 1979م، كانت بعنوان (منهج العقاد في التراجم الأدبية(.

وقد درَّس الأستاذ الدكتور جابر قميحة في كلية الألسن بجامعة عين شمس، ثم أرسلته الحكومة المصرية للتدريس في جامعة (يل (بالولايات المتحدة الأمريكية، وبالجامعة الإسلامية بباكستان، وجامعة الملك فهد بالمملكة العربية السعودية.

عاد بعد ذلك إلى مصر ليتفرَّغ للقراءة والكتابة بعيدًا عن السلك الجامعي، ويعتزُّ الدكتور قميحة بتاريخه وخط سير حياته؛ حيث يقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما غيَّرت مسيرة حياتي".

مؤلفات ودواوين

وللدكتور قميحة مؤلفات في الأدب والنقد، منها: منهج العقاد في التراجم الأدبية- أدب الخلفاء الراشدين- التقليدية والدرامية في مقامات الحريري- أدب الرسائل في صدر الإسلام- الشاعر الفلسطيني الشهيد عبدالرحيم محمود- التراث الإنساني في شعر أمل دنقل- صوت الإسلام في شعر حافظ إبراهيم- الأدب الحديث بين عدالة الموضوعية وجناية التطرف.

وله دواوين شعرية كثيرة، منها: لجهاد الأفغان أغني- الزحف المدنَّس- حسبكم الله ونعم الوكيل، وله أيضًا عدد من المسرحيات، إلى جانب عدد من المؤلفات في الدعوة والفكر الإسلامي.

جهوده الدعوية

لن أتحدث في هذه العُجالة عن أدب الدكتور قميحة، فهذا يحتاج إلى متخصِّصين في هذا المجال، كما يليق به دراساتٌ واسعةٌ من جوانب متعددة، فهو شخصيةٌ ثرية أدبيًّا، شعرًا ونثرًا، لكن أتحدث عنه كاتبًا مجاهدًا، ولسانًا صادقًا، وداعيةً مثابرًا، وجنديًّا من جنود الدعوة الإسلامية في هذا العصر.

قد تتفق أو تختلف مع الدكتور جابر حول بعض شعره أو فنونه الأدبية التي كتب فيها من حيث القيمة الفنية، لكنك لا تستطيع أن تختلف في أنه- إضافةً إلى علمه- صاحب خلق كريم وأدب عالٍ، يُشعرك وأنت معه كأنه تلميذٌ وأنت الأستاذ، ويخجلك عند الحديث من تواضعِه أمامك ورفعِه من مقامك، أو عندما يعطيك كأنك المعطي وهو الآخذ، فكأن الشاعر عناه بقوله:

تراه إذا ما جــئته متـهللاً كأنك معطيه الذي أنت سائله

فلو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فـليتق الله سائله

هو البحر من أيِّ النواحي أتيته فلجَّته المعروف والجود ساحله

كذلك لا تختلف في أنه رجلٌ من رجالات الأمة الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله، جعل قلمه وقفًا لله تعالى، وسخَّر كلَّ وقته للشعر والنثر والقصة والمسرحية والمقالة المحترفة؛ من أجل القيام بحق جهاد الكلمة وخدمة قضايا أمته.

فما من حدث من الأحداث التي تمر بها مصر أو تخص قضايا الأمة الكبرى أو تمس حركة الإخوان إلا لبَّاه، بقلمه ينثر مقالات ويسطر شعرًا، وبلسانه يلقِي ما كُتب في المؤتمرات والملتقيات والتجمعات هنا وهناك، لا يتأخر عن دعوة يُدعى إليها تخصُّ الهمَّ الإصلاحي العام، بالرغم من ظروفه الصحية، فهو بحق يمثل الصوت الأدبي لأحداث أمته، وهكذا يجب أن تكون مهمة الشاعر في الحياة.

فكم من حمْلةٍ جائرة تهاوت أمام عمق فكره ورسوخ علمه!! وكم من عاصفة هوجاء تكسرت على صخرة قلمه الذي ينبري لها، مفنِّدًا شبهاتها، ومبينًا شهواتها، وموضحًا تهافتها وضحالتها، معتمدًا في ذلك على منهج له معالم رئيسة وقسمات واضحة!!

أولاً: أهمية اللغة وضبط المصطلح

فمن هذه القسمات وتلك المعالم أنه يعتمد على اللغة والوقوف أمام مضامين المصطلحات بعد ضبطها وعلى استعمالات الكلمة واشتقاقاتها في تفنيد الشبهة أو الردِّ على الافتراءات، ففي ردِّه على فؤاد علام "خبير التعذيب" يقول الدكتور جابر: "فالخبير الأمني- لغةً واصطلاحًا، وعادةً وعرفًا، ونظريًّا وعمليًّا- هو ذلك الرجل الذي درس بتعمُّق علمَ الإجرام، وأبعادَ الجرائم وأنواعها، وأصولها، والدوافع إليها، وسبُل الوقاية منها، وآليات القضاء عليها، يُضاف إلى ذلك دراسة علوم تبعية، مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، وتاريخ المجتمعات البشرية، وعوامل تطورها أو تآكلها، ومكان الجريمة فيها، كما يجب أن يكون ذا عقلية واعية فاعلة؛ بحيث يملك قدرة التخطيط والتنفيذ بأمانة ونزاهة، ومرونة، وسعة أفق، فيجعل همَّه الأساسيَّ حمايةَ الوطن، وحقوق المواطنين، وأن يطبِّقَ رؤيته تطبيقًا عمليًّا، ويطوِّرَها لما هو أحسن تبعًا لمقتضيات الحال، دون مجاوزة القانون، أو إهدار أيِّ حقٍّ لأيِّ مواطن، مهما كان هذا الحق ضئيلاً"، وينطلق من ذلك إلى تهافته وكذبه وسذاجته.

وفي مقال لأسامة سرايا يهاجم فيه الإخوان ومرشدهم قال أديبُنا: وبفوقية مرفوضة يصف "سرايا" مرشد الإخوان بـ"الشيخ"، ومن سذاجته أن يجهل أن إلصاق هذا الوصف بمرشد الإخوان يعدُّ تشريفًا لرجل لم يتعلَّم في الأزهر، وأقول لسرايا- حتى يتخلى عن "فوقيته المرفوضة" إن كلمة "شيخ" كلمة شريفة ترتبط بالعقل لا بالسن، فيقال "شيوخ قريش" أي حكماؤهم، ويقال حكم "الشيخان" بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ويقال في مصطلح الحديث: "رواه الشيخان" أي البخاري ومسلم.

وفي مقال له بعنوان: (بل الحزب الوطني هو المحظور)، يقول: "جاء في معاجم اللغة: الحظر هو المنع والحجْر، وهو ضد الإباحة، وحظره فهو محظور أي محرم" وجماعة "الإخوان المسلمين" تكاد تفرد في الساحة السياسية بإلصاق هذا الوصف بها، فيقال: "جماعة الإخوان المحظورة"، ويجري هذا التوصيف على ألسنة كبار الحزب الوطني ورجال السلطة، ومَن سار على دربهم من الصحفيين وغيرهم، ومن الأوصاف التي تُخلَع على الجماعة أيضًا ما نراه في قولهم "جماعة غير شرعية" أو "جماعة غير مشروعة.."، وأقدم من ذلك قولهم "الجماعة المنحلَّة"، وهو وصفٌ غالط لغويًّا؛ لأن "الانحلال"- وهو يعني التفكك- فعْلٌ ذاتيٌّ وليس فعلاً غيريًّا، فهو يعني أن الجماعة حلَّت نفسها بنفسها، فهي "منحلَّة" أي مفكوكة مبعثرة، من "حلَّ" العقدة أي فكَّها"، كذلك يخالف هذا الوصف "العُرف الاستعمالي" الذي دأب على استخدام الكلمة بمعنى "الانهيار الخلقي"، فيقال "هذا إنسان منحلّ" أي: فاسد عربيد، سيِّئ الخلق والسلوك، ويقال "حزب مشروع" أي يتمتع- قانونًا- بالوجود، ومزاولة النشاط، والمشاركة في الحركة السياسية، ويقال: حزب محظور، أي يحرِّم القانون قيامه ومزاولة نشاطه، وعمله الحزبي كشخصية "اعتبارية"، وإن سُمح بذلك لأفراده بوصفهم مواطنين، وينطلق من هذا كله ويقارنه بوضع الجماعة في الواقع الذي يتناقض مع كل ما سبق.

وهكذا يسير الرجل في نقده وتفنيده للشبهات، مستصحبًا اللغة، وتوضيح المفاهيم، وضبط المصطلحات؛ حتى يأتي على الشبهات من القواعد، ويؤسس عليها بنيانًا صحيحًا.

ثانيًا: فنون البلاغة

كما أنه يستخدم فنون البلاغة فيما يكتب، ولم لا وهو فارسها الأصيل؟! فهو يستخدم التورية فيما يكتب وفي ردوده، وبخاصة مع أسماء الكتَّاب الذين يفنِّد كلامهم، ففي ردِّه على أسامة سرايا المشار إليه قبل قليل قال: "ويسقط "سرايا"- هكذا بين قوسين- في التناقض بعد ذلك مباشرة"، فهو يقصد الاسم حقيقةً ومجازًا يقصد سقوط عمارة "سرايا" في تورية لا ينقصها الجمال في التعبير والصورة.

وحينما كان يرد على ثروت أباظة افتراءاته على الإخوان وصفَه بالكاتب الفحْل، ثم يسير في رده قائلاً: ويقول الكاتب "الفحل"- هكذا بين قوسين- والتورية فيها واضحة.

ومع السيد ياسين حينما وصف شعار الإخوان "الإسلام هو الحل" بأنه شعار غوغائي، قال أديبنا مستخدمًا آلة اللغة والتورية معًا: "كاتب الأهرام الفحل- السيد ياسين- وصف شعار الإخوان "الإسلام هو الحل" بأنه "شعار غوغائي" أي أنه "شعار سوقي"، والغوغاء شيء يشبه البعوض، ولا يعضُّ لضعفه، وبه سمِّي الغوغاء من الناس، وهو ما نطلق عليه حاليًّا "الهاموش"، فيكون المعنى المتكامل "للغوغاء" من الناس أنهم السوقة والدهماء، والجهلة، والتافهون من العامة الذين لا ثقل، ولا همَّة ولا وزنَ لهم، ولا أدري على أي أساسٍ حكم هذا "الفحل" بهذا الوصف على الشعار..؟ هل بالنظر إلى منطوقه، ومنطوقه قيم رفيع راقٍ".

ثالثًا: السخرية التصويرية اللاذعة


ومن الأدوات التي يستخدمها في كتابته والأساليب التي يعتمد عليها السخرية اللاذعة التي ترتسم بها صورة الموقف أمامك، فلا يفتأ يقرأها القارئ حتى ينطرح على ظهره ضاحكًا، ففي المظاهرة التي أقامها الحزب الوطني قبيل حرب العراق ليحاكيَ بها مظاهرة الإخوان المليونية آنذاك يقول أديبنا مبينًا أسباب كون المظاهرة خارجَ (الاستاد) لا داخله كما كانت مظاهرة الإخوان: الأول: أن كل المتظاهرين لن يشغلوا مدرَّجًا واحدًا من مدرَّجات (الاستاد) الذي ضاق بكل مدرجاته وطرقه وملعبه عن الإخوان من قبل.

الثاني: العجز المتوقَّع عن ضبط المتظاهرين وتنظيمهم، ويومها أدرك الشعب الفارق بين حزب "محظور" بأمر الحكومة، وحزب محظور ملفوظ مكروه "بأمر الشعب".

يقول: وضحكت- والله- وأنا أسمع الشريف يخطب الحاضرين قائلاً: "يا مظاهرة المليون.. هذا يوم من أيام مصر.. إلخ، وضحكت وأنا أرى عادل إمام يذكرني بنفسه في فيلم "الأفاكاتو" رأيته يخطب وقد فتح عينه اليسرى "بزيادة" عن اليمنى، فإذا ما عجز عن مواصلة الكلام هتَفَ ليردِّدَ الجمهور هتافه "لا للحرب.. ونعم للسلام"، ويظل يكررها حتى يفتح الله عليه بكلمتين، فيواصل!!

ولم تُخدش أمريكا أو إسرائيل أو بوش بهتاف واحد، ولا حتى كلمة مكتوبة على لافتة، ولكن يبقى الأكثر إضحاكًا كلمة الشريف "يا مظاهرة المليون"؛ لأن عدد المتظاهرين لم يكن يزيد على عشرين ألفًا بأية حال، ولكن استُخدمت "الحيل" السينمائية في التصوير من زوايا متعددة؛ مما يدل على براعة "الكبار" لا في التزوير الانتخابي فحسب، ولكن في "التزوير التصويري" كذلك.

وفي مقالة بعنوان "وزير الأوقاف وتجلياته الزقزوقية" قال: الشيخ الدكتور محمود حمدي زقزوق: وزير أوقافنا ليس شيخًا ولا وزيرًا عاديًّا؛ لأنه صاحب "تجليات" موسمية لا تنقطع، وكلها بحمد الله تجليات "مضروبة" لا تليق به شيخًا، ولا دكتورًا، ولا وزيرًا، فهي تذكِّرني بتجليات مولانا "كبير الهامة" الذي كان يجلس على مصطبة في بلدنا، وقد علَّق في عنقه عشرات من المسابح، وكل عمله أن يهزَّ رأسَه يمنةً ويسرةً، ويمر به العوام يقبلون يده، ويضعون فيها النقود".

وهكذا يمضي في سخرية لاذعة لا تخلو من صورة واضحة يرسمها ببراعة قلمه وسعة خيالة ودقة تعبيره، وهو أمرٌ له أهمية للقارئ لا تخفى.

رابعًا: استصحاب التاريخ

ومن أهم ما يستخدمه أديبُنا في دفع الشبهات ورد الافتراءات أنه يستصحب التاريخ باليوم والشهر مع ذكر المصدر موثَّقًا، وهذه ميزةٌ عنده استخدمها في كثير من المقالات، في ردِّه على ثروت أباظة، وفي ردِّه على الحزب الوطني، وفي ردِّه على كلام هيكل في (الجزيرة)، وفي بيانه لحادث المنشية، وفي ردوده على أحمد عبد المعطي حجازي، وغيرها من الموضوعات يضيق المقام هنا عن الاستشهاد لها.

**********

هذه لفتة سريعة للتنبيه إلى بعض جهود هذا الشيخ الجليل والكاتب القدير، وكلمات قليلة في حق رجل مكثِرٍ من الخير؛ اعترافًا بجهده في الدعوة وفضله في الصحافة والأدب واللغة، وعلى قرَّائه، وإذا كان هو قد تبنَّى الشعراء الشباب الذين لهم شعرٌ معتبَرٌ، وكتب عنهم في سلسلة كاملة أخرجها كتابًا فيما بعد عن فلسطين في شعر الشباب، كما كان يفعل الأدباء الكبار من قبل مع ناشئة الأدب، وهو نموذج نادر في عصرنا الذي أصبحت سمته الأولى المصالح والمال، فلا يكتب أديب أو ناقد عن شاعر صغير إلا إذا كان وراءه مصلحة.

أقول إن كان أديبُنا قام بهذا من أجل إبراز هؤلاء الشباب لا غير، فأَولى بتلاميذه ودارسي الأدب والشعر، وحريٌّ بالشعراء الذين كَتَب عنهم وأخرجهم إلى الوجود أن يهتمُّوا به الآن، ويوجِّهوا عنايتهم إلى أدبه؛ درسًا وتحليلاً وشرحًا ونشرًا .

 
 

 

عرض البوم صور معرفتي   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مسرحية, مسرحية الحكاية المستحيلة أو السيف والأدب, المستحيلة, الحكاية, السيف, جابر, جابر قميحة, والأدب, قميحة
facebook




جديد مواضيع قسم كتب المسرح والدراسات المسرحية
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 01:44 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية