لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > روايات عبير > روايات عبير المكتوبة
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

روايات عبير المكتوبة روايات عبير المكتوبة


158 - مصارع الثيران - فلورا كيد - روايات عبير القديمة ( كاملة )

الملخص الوقت من ذهب ... أما وقتسوريل فهو من تراب ... مدلكة تعمل عند مونيكا المقعدة . اعتقدت سوريل ان الحبينبت بعيداً عن هذه المنطقة النائية ويقطفه فقط سعداء

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-03-09, 02:53 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Nov 2008
العضوية: 103835
المشاركات: 336
الجنس ذكر
معدل التقييم: زونار عضو سيصبح مشهورا قريبا جدازونار عضو سيصبح مشهورا قريبا جدازونار عضو سيصبح مشهورا قريبا جدازونار عضو سيصبح مشهورا قريبا جدازونار عضو سيصبح مشهورا قريبا جدازونار عضو سيصبح مشهورا قريبا جدا
نقاط التقييم: 502

االدولة
البلدKuwait
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
زونار غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : روايات عبير المكتوبة
افتراضي 158 - مصارع الثيران - فلورا كيد - روايات عبير القديمة ( كاملة )

 

الملخص

الوقت من ذهب ... أما وقتسوريل فهو من تراب ... مدلكة تعمل عند مونيكا المقعدة .
اعتقدت سوريل ان الحبينبت بعيداً عن هذه المنطقة النائية ويقطفه فقط سعداء الحظوظ . وعندما التقت خوانرينالدا مصارع الثيران ، احست بأنها مخطئة . لكن رامون رب عملها وزوج مونيكا طردهامن البيت حين علم بلقائها .
لماذا؟ قبل ان تغادر المنزل عرفت بوجود علاقة سابقةبين مونيكا والمصارع وان الحادث الذي اقعدها وقع لها خلال زيارة غامضة وسريةلمزرعته .
عندئذ ذهبت سوريل اليه ووضعت كلها امامه لكن خوان رينالدا اعترف ... ماذا قال لها وهل يمكن ان تكون الحقيقة غير ما توقعت؟

منتديات ليلاس

-بوابة الثلج
من بلدة مانيسالاس المتربعة علىقمة التل ، كانت الطريق الى مركز السومبريرو للتزلج ، تمر عبر مزارع بن تغطيمنحدرات الجبال المنخفضة . وفي ظلال أشجار الموز العالية كانت أوراق شجيرات البن ،المعتنى بها بمحبة ، تلتمع تحت أشعة الصباح ، فيما قاطفو الحبوب ذوو القمصان الحمروقبعات القش يلتقطون الحبوب الناضجة ويضعونها في السلال الكبيرة التي يحملونهابواسطة احزمة تلف خصورهم . سرحت سوريل برستون بصرها خلف الشجيرات المتنوعة الخضرة ،وصعب عليها التصديق بأنها سترى ثلجاً بعد ساعة من الزمن . لقد مضت ستة أسابيع علىوجودها في كولومبيا ومع ذلك ما تزال مندهشة من تفاوت المناخات والارتفاعات في هذاالبلد الاميركي الجنوبي . ففي نهاية الأسبوع الماضي كانت على سطح البحر تستمتع بحمام شمس استوائية على شاطئ متوهج قرب البحر الكاريبي التوركوازي المعمم بالأبيضفي الساحل الشمالي ، وفي نهاية الأسبوع هذه ، هي في طريقها للتزلج على جبال الأنديزالعالية . جاءت اليوم صباحاً من مدينة ميدلين في سيارة الكاديلاك الفارهة التييقودها مخدومها رامون انهل ، وعلى الطريق الدولية الامريكية العريضة انقضوا جنوباًوكأنهم يقفزون من بلدة جبلية الى اخرى . لكن هذه الطريق الى مركز التزلج مختلفةتماماً ، فهي ضيقة وتتلوى كما الأفعى ، وكلما ازداد الارتفاع كلما تلوت ودارت علىنفسها اكثر ، وتبدو احياناً معلقة في الفضاء فوق ممرات مظلمة ضيقة تشق جانب الجبل ،وذات جدران مشجرة تنحدر بقوة لتصل في النهاية الى القاع وحيث تبدو الأنهار كخيوطفضية رفيعة .
قالت سوريل للورا التي تشاركها الجلوس على المقعد الخلفي :
-لنأحبذ فكرة السواقة على هذه الطريق في الظلام .
فأجابتها الفتاة :
-اعتادت أميان تقود السيارة بنفسها صعوداً ونزولا كل أسبوع ، إلا انها كانت سائقة ماهرة آنذاك .
ولورا ، اكبر الأختين ، في الخامسة عشرة من عمرها ، طويلة رشيقة القوام ،بيضاء البشرة زرقاء العينين ، وقد ورثت كل هذا عن امها الانكليزية ، اضافة الىتكلمها وفهمها الممتازين للغتين ، الاسبانية و الانكليزية معاً . اما اختهاغابرييلا الجالسة الى جوار ابيها في السيارة ، فكانت في الثانية عشرة ، ذات حجمصغير مكتنز وعينين براقتي السواد وبشرة زيتونية ناعمة ، تتكلم الانكليزية بلهجةتسحر السامعين اذ تلفظ الحروف الساكنة بفوضوية وتستعمل التعابير الامريكية بكثرة . قالت تعترض على تعليق اختها :
-اذا كانت ماما سائقة ماهرة حقاً ، فأنا لا أفهمكيف تحطمت بها السيارة .
أعقب سؤالها صمت ثقيل ، فحادث تحطم السيارة الذي حوّلمونيكا انهل من امرأة رياضية نشيطة الى اخرى مقعدة تجد صعوبة في تعلم المشي من جديد، لم يكن يذكر مطلقاً في الأحاديث . هذا ما لاحظته سوريل وكأن العائلة لا تريد انتواجه ذلك الواقع .
وأجاب رامون مؤنباً غابرييلا بحدة :
-لقد ارتكبت أمك غلطة . كم مرة يجب ان أفهمك ذلك .
كان الوالد صارماً ، ومن حين جاءت سوريل لتقيم فيبيته ، بدأت تعي بالتدريج ان مونيكا وابنتيها يخشين اثارة غضبه . كذلك بدأت تشعر انالعلاقة بين الزوجين مهتزة جداً ، ليس فقط لأن مونيكا أصيبت بشلل ، بل كانت سوريلمتأكدة من ان شيئاً قد حصل قبل الحادثة وأدى الى لغم الزواج.
تلوت الطريق صعوداًبين جذوع صنوبريات رفيعة قاتمة وسألها رامون :
-هل يضايقك الارتفاع يا سوريل ؟أتشعرين بشيء من الغثيان أو الدوار لكوننا بلغنا هذا الحد من الارتفاع بوقت قصيرجداً ؟
-احس صداعاً بسيطاً ، ليس الا .
ثم سدت أذنيها بيديها وأضافت ضاحكة :
-اوه ، لقد فرقعت أذناي ! هل من المفروض ان احس غثياناً ؟
-قد يحدث لكنكستشعرين حتماً بصعوبة التنفس عندما تغادرين السيارة . لن نقوم برياضة عنيفة هذاالصباح . سنكتفي ببعض التمارين على المنحدرات التدريبية ونؤجل التزلج الجدي الى مابعد الظهر حيث تكونين قد اعتدت قليلا على المناخ .
قاد السيارة حول المنعطفالأخير بين ضفتين من الثلج تكوّم بفعل جرّافة ، ثم اطلّوا على الفندق القائم علىهضبة فسيحة والمشيد من خمس طبقات في شكل نصف دائري . كان الفندق مؤثثاً بترفوبألوان زاهية صافية . جدرانه مكسوة بالخشب وكل ارضيته مغطاة بسجاد سميك .
حملهمالمصعد الى الطابق الثالث حيث تشاركت الاختان غرفة ذات سريرين فيما انفرد كال منرامون وسوريل في غرفة خاصة به .
وكما اقترح رامون ، قضوا بقية الصباحعلى المنحدرات السهلة وصعدوا القمة بواسطة التلفريك . وسرعان ما اكتشفت سوريل انرامون ولا ابنتيه يفوقونها خبرة في التزلج ، وشعرت نحوهم بالامتنان لكونهم صبرواعليها وبقوا معها حتى استطاعت تليين عضلات ساقيها الى حد ما واعتادت تنفس الهواءالجاف الخفيف .
تناولوا الغداء في مقهى الفندق ، وراحت لورا و غابرييلا تراقبانباهتمام شديد دخول وخروج المتزلجين الآخرين وتثرثران معاً بالاسبانية وتقهقهان حتىتضايق رامون من تصرفهما وطلب اليهما ان تتحدثا بصوت مرتفع كي يتمكن هو وسوريل منسماعهما . ولدى توجههم الى بهو الفندق لأخذ أدوات التزلج ، اعترفت لورا بسوريلبقولها :
-كنا نتعرف على بعض الصبيان الذين رأيناهم من قبل . ان بابا لا يسمحلنا مطلقاً بالتعاطي مع الشبان ، ولو استطاع ان يرسل معنا امرأة ترافقنا الى كلمكان لما توانى عن ذلك ، لكن عهد المرافقات ولّى ، وصار موضة عتيقة .
وأضافتغابرييلا بلكنتها الجذابة وابتسامتها الساحرة :
-ولهذا أنت معنا بدلا من الحارسةيا سوريل ، وهذا الوضع افضل بكثير ... اوه ، انظري لورا الى الرجل الواقف هناك .
ثم همست شيئاً في اذن اختها التي اجابتها بسرعة :
-لا تدعي بابا يسمعكتذكرين اسمه .
فهتفت غابرييلا الرافضة لأي كبح :
-لماذا ؟ اوه ، أتذكرين يالورا حين جئنا للتزلج مع ماما واضطررنا الى قضاء الليل في الملجأ ؟
-اصمتي !
لكزتها لورا بكوعها محذرة ، وهنا انتبهت سوريل الى نظرة الشك المفاجئة التيألقاها رامون على ابنته فسألته لتحاول إشغاله بشيء آخر:
-ماهو الملجأ؟
أجابها :
- انه كوخ يمكنك الاحتماء به اذا واجهتك عاصفة ثلجية . هناك عدد من الملاجئموزع على المنحدرات لصالح المتزلجين الذين يحبون التزلج في اماكن غير مطروقه. تعاليهنا. هذه خريطة للمنطقه تبين اماكن هذه الاكواخ.
اشار الى رسم بياني معلق علىجدار البهو وتابع:
-انها خشنة المظهر لكنها مزودة بأسرة نقالة وحرمات ومدفأةوقود واطعمة معلبة.
وخارج الفندق، انتعلوا الزحاليق مجددا وانزلقوا الى حيثالمصعد الكهربائي كي يحملهم الى منحدرات اعلى... وفكرت سوريل وهي تطل من المصعدوتراقب المتزلجين وهم يحفرون طريقهم نزولا على الجبل، ومن محطة المصعد الاخيرة،ارتــقوا منحدرا اخر، وكانت زحاليقهم تحدث رسومات كقطب التطريز على الثلج الطليقالهش. ولما وصلوا القمة، ارتكزت سوريل على عمودي التزلج وهي تشهق طلبا للتنفس، ثمحدقت برهبة الى مشهد الجبال . كانت قممها المشققه، المشحوذة بالريح والمظللة بغيوممتهادية، تتوهج كمنحوتات فضية في الأفق الرمادي الباهت.بدت نائية مهيبة، تمثل تحديامستمرا للجنس البشري.
قالت لورا بحزن:
-هذا المنحدر التزلجي كان المفضل لدىامي.
فعلقت سوريل:
-استطيع رؤية السبب. فالمشهد رائع الى حدالخيال.
وهنا قال رامون بجدية:
-الغيوم تبدو لي مليئة بالثلج. من الأفضل اننبدأ الهبوط فورا.
غابرييلا ، اهبطي أولا وقودي الطريق. سوريل، اتبعيها وظليقريبة منها قدر المستطاع. لورا ستحلق بك وانا ساكون الأخير، اذا في حال وقعت احداكنسأتمكن من رؤيتها وبالتالي سأتوقف وأعود الى مساعدتها.
فقالت غابرييلا الساذجةوالجريئة في الوقت نفسه:
-لكن اذا وقعت انت يا بابا فلن نعرف ذلك.
-لن اقعبالطبع.
رد رامون بتلك الثقه الهادئة التي اكتشفت سوريل بانها جزء من طبيعه كلالرجال الكولومبيين الذين تعرفت اليهم لغاية الان. اضاف رامون:
-حاذرنالصخور البارزة على الطريق. هل انتن مستعدات للانطلاق؟هيا انطلقن.
وهتفت غابرييلابمرح:
-اتبعيني على مقربة ياسوريل، فلا نريدك ان تضيعي.
راقبت سوريل جسمغابرييلا الصغير المدثر ببزة برتقالية وغرزت عمودي التزلج في الثلج وانطلقتنزولا.
همس الثلج تحت زحافتيها،تعرجت يمنة ويسرة على المنحدر، وسرها ان غابرييلا ترتدي لوناً زاهياً يمكنها ان تراه بسهولة عبر المسافة التي اتسعت بينهما لأن الفتاة زادت سرعة هبوطها . لم تر السن الصخرية الصخرية الحادة تبرز كما الرمح أمامها لتستدير وتتحاشاها . بسطت ساقيها في انفراج شديد كي يلتقي طرفا زحافتيها مع بعضهما وذلك في محاولة أخيرة يائسة لإيقاف اندفاعها المتهور فسقطت على الثلج الذي تناثر حولها وانزلقت على جنبها عند قاعدة الصخرة تقريباً . السقوط أفضل من التحطم ، فكرت في نفسها وهي تحدّق الى الصوان القاسي . لو انها اصطدمت به لأصيبت بضرر فادح . وفجأة رأت جسماً أحمر ينطلق أمامها ويغطيها برذاذ من الثلج . لم تدر ان لورا كانت تهبط خلفها بكل هذا الالتصاق ، ومن الواضح ان الفتاة لم ترها وهي تسقط لأنها لم تحاول التوقف بل تابعت هبوطها المتعرج على المنحدر . وقفت سوريل باحتراس وأزاحت نظارتيها الى جبينها . لقد توارت الشمس وراء غيمة رمادية كثيفة ولم يعد هناك أي وهج على الثلج .
سارعت الى فحص أحزمة زحافتيها لتتأكد من ربطها المحكم وما كادت تستقيم في وقفتها حتى انطلق امامها جسم آخر ببزة تزلج بلون القرفة .
-انتظرني يا سنيور !
صرخت بأعلى صوتها وهي تضغط بقوة على عمودي التزلج وتنطلق خلفه.
رأت رامون يسبقها وينزلق بسرعة على مرتفع ثلجي كانت الفتاتان قد قطعتاه منذ فترة فلم ترى لهما أثراً . وبقي لها أمل وحيد ، هو ان تستطيع رؤية رامون عندما تصل المرتفع لكن ذلك استغرقها وقتاً اطول مما توقعت ، وحين بلغته اخيراً لم تر امامها سوى منحدر حاد آخر ، وفي نهايته وشاح من ندف ثلج دوار . لم يشاهدها أحد تسقط وبالتالي لم يتوقف احد لينتظر وصولها ... في أي اتجاه ذهبوا ؟ من المفروض ان تقتفي آثارهم ، لكن الثلج كان يندف بغزارة شديدة ماحياً كل آثار التزلج. ليس امامها الا متابعة الهبوط ، ومتى اخترقت وشاح الثلج فقد تستطيع رؤية أبراج وأسلاك المصعد الكهربائي ، وعندها ستعرف الاتجاه الصحيح ، المؤدي الى الفندق . أخذت تتعرج على المنحدر الذي بدا بلا نهاية وحاداً جداً ، بل أشد انحداراً من أي مكان تزلجت عليه من قبل . هل هو المكان نفسه الذي ارتقوه باكراً ذلك العصر ام انها سلكت اتجاهاً معاكساً ؟ لو ان الشمس تظهر قليلا لتأكدت من ذلك لكن ليس هناك أي بصيص في السماء الملبده التي ازدادت تمازجا مع الوشاح الثلجي مما اشعر سوريل بأنها مغمورة بغطاء رمادي كثيف. ومن خلال هذا الغطاء برزت صخرة اخرى ناتئة فسقطت من جديد وهي تحاول تحاشيها. غطاها الثلج وتقطعت انفاسها، وما ان نهضت بصعوبة حتى كادت تطرح ارضا عندما انقض فجأة متزلج اخر مخترقا وشاح الثلج. لمحت شريطين ابيضين يموجان على ذراع جاكيت التزلج السوداء حين مر بها المتزلج وتابع انزلاقه السريع مبتعدا عنها وهو يشق منعطفاته بيسؤ ودقه كأنه في سباق تزلج. ارتفعت معنوياتها لوجود شخص معها، فلحقت به تحاول الانعطاف بالسرعة ذاتها،ولكن ما ان ارتفعت مرتفعا ثلجيا اخر حتى وجدته قد اختفى وهو الاخر ولم تر امامها سوى مساحات قاحلة مكسوة بالثلج، تمتد نزولا الى صف من الاشجار المتوقفه عن النمو.
ارهقتها محاولاتها المتكررة فوقفت مستندة على عموديها تسترد انفاسها وقد اجتاحها ذعر لكونها فشلت في ايجاد برج المصعد الكهربائي. وفجأة لمحت بصيص نور من خلال الاشجار المنتشرة في قاع المنحدر فبدأت فورا تتزلج صوبه. كان المنحدر مايزال حادا واضطرت الى قطعه عدة مرات وهي تشعر طوال الوقت بأن الريح تشتد تدريجيا وتحول تساقط الثلج اللطيف الى عاصفة هوجاء. لكن بصيص الضوء استمر يشع كمنارة من خلال الضباب. وأخيرا استطاعت رؤية مصدره. ارتفعت معنوياتها فورا، فلابد انه احد الملاجئ التي أراها رامون اياها على الخريطة. ستجد في داخله متزلجين آخرين يحتمون به وستجد دفئا وطعاما، وقد تلتقي حتى برامون وابنتيه. وبشعور ارتياح جارف اخذت تزيد سرعتها على درب يتعرج عبر غابة صغيرة من الصنوبريات وهكذا لم تر رقعه الجليد الا حين اصبحت فوقها وراحت تنزلق هنا وهناك حتى فقدت توازنها وسقطت على ظهرها فيما اخذت ساقاها وقدماها اللمتصقه بالزحافتين تتطوح معهما في الهواء، كذلك ارتطم رأسها بشيء صلب جدا. انتابها ذهول فاستلقت بضع لحظات على الارض وأحست ندف الثلج يستقر بنعومة على وجهها... يجب ان تنهض بسرعة قبل ان يطمرها هذا الندف الرطب اللاصق. رفعت رأسها لكنه دار بها وآلمها،وبالفعل رأت نجوما تتراقص امام بصرها قبل ان تفقد وعيها.
عادت الى رشدها وأحست من خلال الغمام انهافي وضع مقلوب وان رأسها النابض يتأرجح يمنه ويسرة. كان هناك قضيب حديدي يضغط علىساقيها، وتحت معدتها شعرت بشيء قاس ومشدود يتحرك قليلا.
وبعد شيء من الحيرة ادركت انها محمولةعلى كتف شخص ما بالطريقه التي يحمل بها رجل الاطفاء انسانا مصابا. تأرجح رأسها بعنفوسمعت خبط قدمين على درج خشبي ثم صوت باب يفتح . كان هناك شعور بالدفء ورائحة كازوصوت باب يغلق. استمر رأسها يتأرجح ثم أحست بجسمها ينزل بلطف عن الكتف ويمدد علىشيء يصر تحت ثقلها. شخص ما كان يرفع قدمها اليمنى فانهضت رأسها ورأت يدين تفكانرباط جزمتها . ثم رأت شريطين ابيضين على كم جاكيت سوداء لماعه. رفعت بصرها قليلافرأت جانب وجه فوق ظهر مدار، ياقه مفتوحه السحاب، ذقنا بارزة، ثنايا حول زاوية فم،منخرا متسعا لأنف مستقيم دقيق، عظمة خد بارزة تحت حدقة سوداء وجبهة عريضة يعلوهاشعر فاحم السواد ويميل الى الطول. سألته بالانكليزية وقد نسيت اللحظة في اي بلدهي:
-ماذا حدث؟
ادار الرجل رأسه بقوة فرأت عينين فاتحتين تومضانباستغراب.
تذكرت اين هي وكررت السؤال بالاسبانية، فأجابها بالانكليزية وبلهجةاميركية متشدقه:
-لقد سقطت وارتطم قفا راسك بجذع شجرة مما افقدك وعيك . اذاتلمست رأسك ستجدين نتوءا بحجم البيضة. من حسن حظك انني كنت خلفك.
-خلفي؟ حسبتانني كنت الحق بك! الست انت الذي كان يتزلج على المنحدرات؟
اخرج الجزمة ووضعهاعلى الارض ، واجابها وهو يفك رباط الفردة الثانية:
-اجل ،انا. لماذا كنتتلاحقينني؟
-لأني املت ان تقودني الى طريق الفندق. لقد فقدت الاتصال مع من اتزلجثم اختلطت على الاتجاهات بسبب العاصفة الثلجية. الا يوجد احدهنا؟
-كلا، لا يوجدهنا سوانا.
ازاح الجزمة الثانية ووضعها على الارض ثم وقف فبدا يعلوها كمارداسود. رفعت سوريل راسها قليلا واخذت تجبس قفاه باصابعها وهتفت:
-آخ! انه فعلابحجم بيضة، اليس كذلك؟ اتساءل ان كنت لاتمانع في القاء نظرة للتأكد من سلامةالجلد؟
-كما تشائين.سآتي بالقنديل.
آلمها رأسها فاستلقت مجددا، لكن حين سمعتهيعود، ادارته على الوسادة الخشنة لتراقب اقترابه مع المصباح وهي تأمل ان تتمكن منرؤية وجهه بوضوح اكثر. لكن وهج القناديل الخفيف ابرز فجوات وجهه وزواياه واضفى علىالجلد وجنتيه المشدود لمعه ذهبية جامدة
وضع القنديل على كرسي منخفض قربه منالسرير المنتقل الذي تستلقي عليه ثم ركع على الارض وسألها:
-هل يمكنكالجلوس؟
ضغطت بيديها على جانبي السرير الضيق ودفعت نفسها الى اعلى وللمرةالثانية تراقصت المشاهد امامها وكادت تتهاوى الى الوراء لو لم يسارع الى اسنادكتفيها بذراعه. وغمغمت:
-ارجو ان لا يكون لدي ارتجاج دماغي.
-هذا ما ارجوه اناايضا. هل لك ان تقدمي راسك قليلا، من فضلك؟امتثلت لطلبه واحسته يفرق شعرها. كانتلمسته خفيفه لكن ثابتة قال:
-من الصعب ان ارى جيدا بسبب شعرك الكثيف، لكن لايبدوهناك اي اثر للدم.
فأحست بقشعريرة حين لفحت انفاسه اسفل عنقها وسألها:
-هليؤلمك رأسك؟
-نعم ،يؤلمني كثيراً.
-اذن استلقي واستريحي . لقد تذكرت الآن انالراحة والامتناع عن الحركات العنيفة هما أفضل علاج لضربة الرأس.
انصاعت لنصيحتهولاحقته ببصرها وهو يحمل القنديل ويضعه على طاولة مستديرة .
-هل هذاملجأ؟
فاستدار لينظر اليها عبر الغرفة واستند الى حافة الطاولة . كان المصباحخلف ظهره فاستحال عليها ان ترى وجهه جيداً . اجابها :
-انه ملجأ.
-أهو بعيدعن الفندق ؟
-حوالي عشرة كيلومترات.
-اوه ، لم يخطر لي أبداً انني ابتعدت الىهذا الحد . كنت آمل ان اجد المصعد الكهربائي .
-انه الى الشمال من هنا .
قطّبت وهي تحاول ان تتذكر خريطةالمنطقة التي بين لها رامون مواقع الملاجئ عليها ، لكن ألم رأسها كان يجهد ذهنهافعجزت عن تصور الخريطة بشكل واضح .
-تبدين قلقة يا سنيورتا .
صوت الرجلالعميق قطع عليها سيل أفكارها فالتفتت صوبه بسرعة . كان ما يزال يستند الى الطاولةويراقبها . اجابته :
-لست قلقة على نفسي ، بل على الآخرين . سينتابهم الذعرلاعتقادهم بأنني ضعت وسط الثلوج . لا اظن ان هناك طريقة ما تمكنني الليلة منالاتصال بالفندق لأعلمهم بمكان وجودي ؟
فردّبصوت فاتر :
-لا يوجد هاتف ولاكهرباء كما ترين . عليك ان تتذرعي بالصبر وتنتظري طلوع الصباح وحيث من المفروض انتنتهي العاصفة الثلجية .نامي الليلة جيداً لتشعري غداً بالتحسن . سأدلك على الطريقفي ضوء النهار . ان قلقك على أصدقائك لن يجديك نفعاً ، لذا من الأفضل ان تسترخيوتشكري الله على انك سالمة .
فأجابته بسرعة خشية ان يتبادر الى ذهنه بأنها وقحة :
-اني احمد الله جداً . كذلك اشكرك كثيراً على انقاذك لي .
ثم أضافت وهيتبتسم له عبر الغرفة :
-لقد تأخرت بشكرك . أليس كذلك ؟ اخشى ان ضربة رأسي قد شتتذهني ، فأنا لا افهم لغاية الآن كيف جئت خلفي في حين كنت انا وراءك.
-رأيتكتسقطين على المنحدر وكدت القيك على الأرض مرة أخرى . يجب ان تكوني اكثر احتراساًوتنظري حولك لتتأكدي من خلو دربك من متزلج آخر قبل ان تتابعي الهبوط ، فلو أنناارتطمنا ببعضنا لأصيب كلانا بألم وأضرار على الأرجح ، ولو انك لم تعاودي التزلجفوراً ، لكنت توقفت ورجعت لأساعدك . لكن سقطتك بدت لي سليمة فجئت هنا لأحتمي منالعاصفة . دخلت وأشعلت النار والمصباح ثم نظرت الى الخارج ورأيتك تهبطين في اتجاهالاشجار .
توقف قليلا وحكّ جانب وجهه بيده ثم تابع :
-كان فيك شيء مألوف لدي . حسبتك امرأة أخرى أعرفها ولذا خرجت لملاقاتك . مررنا ببعضنا بين الأشجار حيثرأيتك لكنك لم تريني . وهنا أدركت انك لست المرأة التي ظننت انك هي ، واستدرت لألحقبك ، ثم شاهدتك تسقطين مجدداً.
رفع كتفيه وأنهى كلامه بقوله :
-لو لم يحثنيالفضول على الخروج لبقيت حيث سقطت.
ارتجفت سوريل قليلا ومحت من ذهنها صورة تخيلتفيها نفسها تستلقي غائبة عن الوعي والثلج المتساقط يغمرها بالتدريج . ثم قالت بشيءمن المرح :
-أرجو ألا تكون أصبت بخيبة حين وجدت انني غير المرأة التيتعرفها.
لم يجبها فوراً بل استمر يحدق اليها بطريقة حذرة غريبة كما يفعل صياديراقب حيواناً يطارده وينتظر الرد على اية حركة تصدر منه ، مما جعل سوريل تحسبقشعريرة ارتهاب . وقال اخيراً بلطف :
-كلا ، لم أصب بخيبة ، بل العكس هو الصحيح .
وفكرت سوريل مقطبة ، العكس قد يعني انه مسرور لأنها لم تكن المرأة التي يعرفها. لكن التفكير ومحاولة تفسير ما لمح اليه سرعان ما أرهقا رأسها المصدوع فأطلقتتنهيدة صغيرة واستلقت على الوسادة من جديد. وهنا نزع الرجل عنه جاكيت التزلج وقذفبها على كرسي خشبي قريب ثم سألها فجأة :
-ألست جائعة ؟
-ليس كثيراً .
-أيمكنك ان تتناولي بعض الحساء ؟
-ألديك حساء ؟
-هناك نوع معلب فيالخزانة ووعاء لتسخينه على الموقد . ليس عليك فعل شيء فأنا قادر تماماً على تحضيره .
التقت نظرتاهما ثانية في ضوء الموقد وراحا يقيسان بعضهما بعضاً. لم تستطعسوريل ان تعلم شيئاً من وجهه المظلل انما بدا لها انه يراقبها بجسمه كله وليس فقطبعينيه ، وان كل عضلاته كانت مفصلة ومستعدة للانقضاض في حال صدرت عنها مطلق حركة ... قالت بوهن :
-ارحب بشيء من الحساء ، مع الشكر .
ثم احست فجأة بحاجة أخرىملحة فسألته :
-هل يوجد حمام ؟
-نعم . حمام صغير تصلينه عبر الباب في مؤخرةالغرفة .
همت بالجلوس فتحرك كما توقعت ان يفعل وقال :
-انتظري ، سأساعدك . قدتشعرين بالدوار عندما تقفين ولا أريدك ان تقعي ثانية . لقد سقطت هذا العصر بما فيهالكفاية .
-لابد انك تحسبني متزلجة فاشلة ، وأنا فاشلة فعلا بالمقارنة معك فأنتمتزلج ممتاز .
أجابها باستغراب جذل :
-شكراً لك ،سنيوريتا . أنا أحاول اقصى جهدي . والآن ، هاتي يدك .
ترددت وحدقت الى اليدالممدودة نحوها . كانت واسعة الكف ، مربعة الشكل وتبدو صلبة وعضلية كسائر جسمه . لكنها كانت تخاف أي احتكاك حسي ومصممة على الوقوف بلا مساعدة . تمسكت بالسرير جيداًونهضت واقفة الا ان الدوار عصف برأسها وهوت بين ذراعيه مباشرة . فقال هازئاً :
-اذن انت واحدة من النساء المتحررات اللواتي يسخرن من يد الرجل الممدودةللمساعدة .
وهذه المرة حركت انفاسه شعر صدغيها وبعواقب مهلكة ، اذ اجتاحتاعصابها مشاعر غريبة ، وأحرقت كيانها رغبة فجائية في الالتصاق به.
وقالت مؤكدة :
-انني الآن على ما يرام . استدارت بدون ان تنظر اليه وأرغمت نفسها على السيربثبات في اتجاه الباب المذكور .
وعندما رجعت الى الغرفة شعرت ان الاغتسال خففصداعها الى حد ما. وجدت الرجل واقفاً امام الموقد يحرك محتويات وعاء أسود يرتفع منهبخار شهي الرائحة . سارت حول الطاولة المستديرة الموضوع عليها القنديل وجلست علىاحد الكراسي تقول بتهذيب :
-رائحة الحساء شهية .
-انه حساء لحم يحتوي على قمحمجروش ، مغذ جداً ومناسب تماماً في طقس كهذا .
سار الى الطاولة حاملا الوعاءوراح يغرف الحساء ويسكبه . سقط شعاع من ضوء المصباح على خده الأيمن فكشف عن ندبةبيضاء بشعة ، تمتد من أسفل أذنه حتى زاوية فمه كما لو ان أحداً تناول سكيناً في مرةما وجرف اللحم من وجهه . وهتفت شاهقة دون تفكير :
-اوه ، وجهك ! ماذا تراك فعلتبه ؟
خيم الصمت متوتر ثقيل حين أخذ يحدق اليها ، ثم تلاقت أهدابه السوداءالطويلة مغطية بريق عينيه القاسي وارتفع جانب فمه الأيسر عندما ابتسم . انزلالمغرفة من يده ورفع اصابعه يتحسس الندبة ، وعلق ساخراً :
-لا يفترض منك انتذكريها بل يفترض ان تشيحي عنها وتتظاهري بأنها غير موجودة . ألم يخبرك احد بأنك لايجب ان تعلّقي على اي تشوه جسدي ؟
أثرت سخريته في سوريل اكثر مما يجب فتمتمتبحرج :
-انا ... آسفة لم انتبه لها بتاتاً . لم أقدر ان أراك بوضوح قبل الآنو...
فقاطعها بصوت جاف :
-لا تقولي اكثر من ذلك ، اني اتفهم مقصدك ، بل أظنانني أفضل تعليقك الجريء على النظرات المختلسة والصمت المتعمد . والآن ، هل لك انتتناولي الحساء ؟
-اذا كنا سنأكل معاً ونقضي الليلة هنا فيجب ان نتعرف الى بعضنابعضاً. أنا سوريل برستون .
-سو...ريل . هل هذا اسم انكليزي ؟
-انه اسم يطلقعلى لون أحصنة معين .
ضحكت قليلا لنظراته المندهشة وأردفت تشرح :
-انه لونبني يميل الى الاحمرار . والدي سماني هكذا ، وهو مدرب خيول في انكلترا .
-هل انتهنا في اجازة ؟
-كلا ، اني اعمل في منزل رجل اعمال في ميدلين ، كرفيقة لزوجتهولابنتيه .
فسألها معلقاً :
-ورفيقة له ايضاً !
حدقته بنظرة باردة أملت انتؤثر فيه وردّت بحدة :
-تعليقك هذا تخطى حدود الأدب .
-ليس من غير المألوف انيكون للرجل المتزوج رفيقة في هذه البلاد ، وحتى في ميدلين حيث يميل الناس الىالاستقامة الخلقية التي تتناسب مع مراكزهم الصناعية الوقورة .
أجابته بجمود وهيتحاول السيطرة على أعصابها :
-لكني لست رفيقة رامون انهل ولا أريد ان اكون كذلك .
-رامون انهل ، رئيس شركة انهل للنسيج ؟
-اجل ، هل تعرفه ؟
-سمعت به فقط . لماذا يحتاج رفيقة لزوجته وابنتيه ؟
-زوجته اصيبت بضرر بالغ في تحطم سيارة قبلبضعة أشهر ولا تستطيع المشي . انا مدلكة بدنية متدربة وأساعدها يومياً على تمرينعضلاتها .
-اما كان باستطاعة مدلكة كولومبية ان تقوم بهذا العمل ؟
-اجل ، لكن مونيكا انهل لم تقدر ، اولم ترد التعاون مع مدلكات المستشفى . انها انكليزية مثلي ومن بلدتي نفسها . لقدجاءت امها لزيارتها بعد الحادث فقلقت على وضعها ووافقت على محاولة ايجاد مدلكةانكليزية تأتي هنا لتساعدها . قرأت الاعلان الذي أدرجته امها في الصحيفة المحليةفتقدمت لهذا العمل . كنت ارغب دائماً في زيارة امريكا الجنوبية ، وبما اني اتكلمبعض الاسبانية فقد زكت السيدة بولتون مؤهلاتي وأوصت بي لدى السنيور انهل .
-اسبانيتك جيدة . اين تعلمتها ؟
-من امي التي هي نصف اسبانية . كان والدهامهندس مناجم بريطانياً في اسبانيا وتزوج آنذاك امرأة من الأندلس .
-فهمت . الشعرالأحمر والعينان السوداوان تقريباً ، هما خيط غير عادي .
تطلعت اليه فرأته يلصقظهره بالكرسي ويحدق اليها . وتابع :
-هل تصبغين شعرك ام تلبسين شعراً مستعاراً؟
-هذا الخليط ليس اكثر ندرة من خليط الشعر الاسود الفاحم والعينين الرماديتين . هل شعرك طبيعي ام انك تلبس قطعة اصطناعية منه لتخفي صلعاً متزايداً يا سنيور ... سنيور ؟
توقفت عمداً ورفعت حاجبيها متسائلة وهي تأمل ان يزودها باسمه .
لكنهعلق بجفاف :
-انك تستلين أجوبتك من تحت ابطك .
ثم رفع يده الى شعره ليشدالخصل القصيرة التي انسلت الى جبينه وتابع:
-أترين ، انها لا تسقط . امتحنيهابنفسك ان شئت .
فحدقت الى شعره المرن الكثيف ووجدت نفسها تقلص يديها على حضنهاكي تقاوم اغراءا ملحاً بمد يدها وتمرير اصابعها في تلك الخصلات الكثة . وغمغمت :
-كلا ، شكراً ... لم تخبرني اسمك .
فاستوي جالساً وأجاب بلا اكتراث :
-يمكنك ان تسميني دومينغو .
-لكن ذلك يعني يوم الأحد بالاسبانية .
-وماذا في ذلك ؟ لقد ولدت في يوم أحد وأمي ...
وهنا ظهرت ابتسامته الجانبيةالهازئة وأردف :
-لابد انك تعلمين عناد الأمهات في مايختص باطلاق الأسماء علىابائهن ، انهن يشبهن الآباء في طريقة تسميتهم لبناتهم .
-لكن سوريل هو اسميالحقيقي .
-ودومينغو هو اسمي الحقيقي ايضاً.
-اتعيش في الجوار؟
-تقريباً.
-اوه ، اتعقد انك لا تريد اخباري أي شيء عن نفسك .
-لقد اعطيتكاسماً.
-اعطيتني اسماً لفقته من عندك .
-كلا ، ثقي اني ما فعلت ذلك ياسنيوريتا ، فدومينغو اسم مألوف في هذا البلد .
-أجل ، هو عادي الى حد انه لايعني شيئاً بدون اسم العائلة . دومينغو ماذا ؟
-اختاري مايحلو لك من الاسماء. اناطلاعك على اسمي الكامل ومكان سكني ونوع عملي لن يزيدك ثقه بي كما تعلمين، فبوسعيان انسج لك حفنه من الاكاذيب حول نفسي وتأخذينها على محمل الصدق.
اضطرت الىالاقرار بأنه مصيب في قوله، فأية معلومات يزودها بها لن تجعله موضع ثقه ان لم يكناهلا لها قطب حاجبيها وتفحصته بفضول. ندبة خده ، عيناه القاسيتان الفاتحتان اللون،فمه المتماسك الحسن التكوين وانحناؤه الساخر، بروز فكه المشاكس والمعبر عن صلابةخشنه.بدا وكأنه يعايش الاخطار ويمارسها.
هبطت نظراتها الى عنقه والى سترتهالعاجية المحاكة من اجود الصوف، وخمنت بأنها قد صممت وصنعت على يد دار ازياء رجاليةمعينة متخصصة في تصميم الملابس الرياضية لأهل التوثب والثراء. كانت قد لاحظت انبزته التزلجية وجزمتيه وزحافتيه من اجود الاصناف واغلاها ثمنا. من الواضح انه ثريجدا، ومع انه يتكلم الانكليزية بلهجة أميركية إلا ان لغته الاسبانية قتالية محضةكالتي يتكلم الكولومبيون ذوو الأصل الاسباني.
وقال متشدقا بهزأ:
-اياك انتحكمي على رجل من خلال شكله او ثيابه، بل احكمي عليه من خلال تصرفاته.
-مالذيساقك الى الظن بأنني احكم عليك؟
-الطريقة التي تنظرين بها الي.
فأجبت مدافعه عن نفسها:
-انني انظر اليك بالطريقه نفسها التي مازلتتنظر بها الي طوال الوقت
-لا استطيع موافقتك، فأنت تحكمين علي وتحاولين تحديدنوعيتي بين الرجال.اما انا، فقد استمتعت وما ازال استمتع بالنظر اليك دونما شبع، اذقليلا ما احظى برفقة امرأة مثلك.
-أوه، لا استطيع تصديق ذلك، فقد قلت قبلا انكحسبتني امرأة تعرفها.
فقاطعها برقة:
-لم أقل اني لا احظى ابدا برفقةامرأة
وهنا حدث تغيير دقيق في طريقة نظره اليها اذ زالت القسوة من عينيهالرماديتين وبدت نظرته تضغط عليها بلطف وهي تتلكأ على كل قسمة من قسمات وجهها، ثمتهبط ببطء الى عنقها الذي تكشفه ياقة بلوزتها المفتوحه. واضاف:
-قلت امرأة مثلك. سوريل، الم يخبرك احد انك ذات جمال غريب نادر؟
افقدها تعبير عينيه رباطة جأشهافأشاحت وجهها عنه. كانت الغرفة تعج بالظلال وليس هناك من اصوات عدا فحيح القنديلالخفيض وطقطقه النار وانين الريح المتسرب من النافذة خلفها. كانت لوحدها في كوخمنعزل مع رجل غريب اعترف لتوه بأنه يستمتع بتأملها، وينظر اليها الان بطريقه حميمهمفترسة تبعث في اعصابها رهبة زاحفه. التفت اليه بحذر. كان ماضيا في مراقبتها واهدابهالسوداء الكثه تخفي بريق عينيه تقريبا، وللمرة الثانية تكون لديها انطباع بأن كلعضلاته كانت ملتفه مع بعضها البعض استعدادا للانقضاض لدى قيامها بمطلق حركة. سألهابهدوء:
-ايقلقك وجودك معي بمفردك؟اتراك تتمنين لو انني تركتك على الثلج لتموتيمن الصقيع
فأحست بقشعريرة تغزو عمودها الفقري اعقبها شعور مفاجئ بتعب جارف،وبدون ان تعي تماما رفعت يدها وفركت جبينها بحركة قريبة من الانهزام، فالتزلجالمضني الطويل على المنحدر الحاد أرهق قواها، وشعرت الان بألم في كل اوصالها وبدارأسها ينبض من جديد. ولشدة آلامها وضيقها تأوهت قائلة:
-اوه ماذا سأفعل؟ ماذااستطيع ان افعل؟
نهض الرجل واقفا ببطء ثم ازاح كرسيه وقال بفتور:
-الحلالافضل ان تنامي.
فجأة، ماعادت تبالي بأية ترتيبات قد يقترحها وسألتهبوهن:
-اين أنام؟
-على السرير اياه الذي استلقيت عليه قبلا. سأقربه من الموقدوسأرتب امر النار لتظل مشتعله طوال الليل. توجد هنا حرامات ومن المفروض ان تكونيمرتاحه تماما.
احسته كما في الحلم يتحرك هنا وهناك حين جلست الى الطاولة واسندترأسها النابض على مرفقيها. لكنها اجفلت بعنف حين شعرت بلمسة على كتفها ورفعت وجههالتجده واقفا قربها. قال بصوت هادئ:
-سريرك اصبح جاهزا.
سرها انه لم يساعدهاعلى النهوض واستطاعت ان تمشي الى السرير بثبات معقول ثم استلقت عليه قريرة النفسواغمضت عينيها . شعرت بحرام يلقح عليها وسمعت خطاه تبتعد عنها. وعلى الفور استرختاعصابها وانتابها احست بأنها تسقط وتسقط الى هاوية عميقه سوداء ثم تغلب عليهاالنعاس فنامت.

**************************************************
-طرد بلاانذار!

استيقظت سوريل على مهل ورمشتعينيها في نعاس باتجاه نور الفجر الرمادي المتسلل عبر نافذه صغيره. اين هي؟ ذعرتلكونها لم تتعرف فورا الى الغرفة واستوت جالسه تحدق في ارجائها . عاد بصرها بطبيعةالحال الى السرير النقال الاخر الموضوع في ناحية الموقد الاخرى. كان يستلقي عليهشخص يبدو غارقا في النوم لايبدو منه الا رأسه المكلل بالشعر السلكي الاسود، اماسائر جسمه فمغطى بحرام هندي زاهي الالوان كالحرام الذي يغطيها.
مشهد شعره الاسوداعاد الى ذهنها ذكرى الليلة الفائتة بشكل متسارع فتحسست قفا رأسها ولم تجد هناك اينتوء. ادارت رأسها فلم تحس اي صداع، كذالك لم تشعر بشيء من الارهاق الذي سلبها كلقواها عصر امس . لقد تحسنت كثيرا واصبحت قادرة تماما على مواجهة الخطر المتمثل فيالرجل النائم على السرير الاخر. عبرت الغرفة على رؤوس اصابعها وسارت الى النافذةلتستطلع حالة الطقس.
لقد توقف الثلج ، وفي ضوء الشمس بدت المنحدرات الجبليةملتمعه، بعضها اصفر وبعضها زهري في سماء باهتة الرزقه. وبحثت في الخزانه فوجدتمرطبانا من القهوة ووعاء اخر ملأته بماء من الابريق ووضعت الوعاء على الموقد، ثمطوت الحرام الذي تغطت به وجلست على حافة السرير تنتظر غليان الماء. ركزت مرفقيهاعلى ركبتها وغمرت ذقنها بيديها وراحت تحدق الى الرجل النائم على السرير المقابل. كان قد استدار واستلقى على ظهره فسقط الضوء على جانب وجهه المندب، وهنا تدافعتالاسئلة الى ذهنها، كيف اصيب بالجرح؟لماذا؟ متى؟ اين؟ انحنت الى الامام لترى الندبةاكثر، ثم انزلقت عن السرير ودبدبت على ركبتيها حتى انحنت عليه وكأنها اذا تمعنت فيوجهه تستطيع التوصل الى الاجوبة المطلوبة. ما اكثف اهدابه وما اشد سوادهما! كم هومغر فمه المائل وكأنه يبتسم لفكرة ساخرة راودت فكره. لابد انه كان وسيما جدا قبلاصابته بهذا التشوه، كلا، مايزال وسيما بشكل قاس، عنيد وكامل الرجولة . ومضت عيناهمن خلال اهدابه السوداء. كان قد استيقظ واخذ يراقبها. بدأت تتحرك بعيدا عنه لكنهكان اسرع منها اذ ارتفعت ذراعه اليسرى كما البرق ولفت عنقها بثقل مما اضطرها الىحناء راسها حتى اقترب وجهها من وجهه الى حد استطاعت معه ان تحس بشعر ذقنه القاسييخز بشرتها الناعمة، ثم عانقها بسرعة. همس قائلا:
-صباح الخير، سنيوريتا. اردتان افعل ذلك اليلة امس لكنك كنت مرهقه ، والان سأعيد الكرة.
فهتفت سوريل وهيتزيح راسها بعنف وتحاول الافلات من قبضته:
-كلا. اطلق سراحي.
-ليسالان.
شدد ضغطه عليها فحاولت التملص منه بدفع صدره بكفيها وفشلت.
وهناانتابها ذعر شديد احسته يقبض على قلبها ويفرز منها عرقًاً بارداً ثم يقلصها. دفعتهعنها ثانية واستطاعت هذه المرة ان تتحر منه .هتفت بانفاس لاهثه وهي تحشر حافةبلوزتها تحت خصر بنطلونها:
-لماذا فعلت ذلك ؟
-لأنك اردت ان تفعل دائماًماتريد؟
-معظم الوقت ، وعندما تتاح لي الفرصة .
جلس نصف جلسة واضعاً احدمرفقيه على الوسادة ومسنداً رأسه على يده ، فاعتراها نصف خوف من امكانية اعتقالهلها مجدداً . فابتعدت عنه زاحفة على ركبتيها . التقى حاجباه في عبسة حائرة وسأل :
-ما بك ؟
-الا تقدر ان تحزر ؟ لقد استغليت موقفي . هذا سبب ضيقي .
-استغليتك ؟ لكنك دعوتني بنفسك الى عناقك .
فشهقت قائلة والحنق يضيقانفاسها :
-لم افعل !
-بل اعتقد انك فعلت . فعندما فتحت عيني ورأيتك تنحنينعلي ، قلت لنفسي ، هاهي السنيوريتا تشعر بتحسن كبير هذا الصباح وترغب في شكري علىانقاذي لها من العاصفة الثلجية .
-لم اشأ عناقك .
ارتجفت داخلياً وتمنت لوانها بقيت على سريرها مغطاة بالحرام . فمرأى صدره العاري وعضلات كتفيه البارزة منتحت قميصه القطني الابيض جعلها تشعر بشكل ما بشدة سحره .
لمس ندبة خده باصابعهوسأل :
-أبسبب هذه ؟ لدي المزيد منها في أماكن اخرى ليست معروضة الآن للنظر انمايمكنك رؤيتها اذا شئت ...
-لا ، لا .
قالت ذلك بحدة ، اذ خشيت من جهة انيظنها تقرف من ندبته ، ومن جهة ثانية ان يقدم على نزع قميصه ليريها الندوب الأخرى ،فأضافت بسرعة :
-انا لم افكر فيها بتاتاً .
-اذن لم تنفرين مني ؟ ولماذاتمثلين هذا الدور ..؟
توقف وفرك مفكراً ثم قفش بسبابته وابهامه وتابعساخراً:
-دور العذراء الثائرة ؟
فاحتجت بزعل :
-انه ليس تمثيلاً.
ثمقضمت شفتها السفلى وقلصت قبضتيها على جنبيها لتضبط فورة الغضب التي اجتاحتها لمرأىالسخرية في عينيه ، واردفت تفح كالأفعى:
-لا اريد ان يعانقني ... رجل على شاكلتك .
-واي نوع من الرجال انا ؟
-من خلال الحكم على ماقمت به قبل قليل فأنت مننوع أعرفه جيداً . انك تعتقد ان المرأة لا تصلح إلا لشيء واحد ، وكنت تأمل ان تتوجلقاءنا العرضي هذا به . اليس كذلك ؟
-اقر ان الفكرة راودتني لكنني افهم من غضبكالناري علي انك لا تشاركينني رغبتي .
-اجل ، لا اشاركك اياها . اوه ، ماذا تظننيفي الواقع ؟
فجرفها بنظرة متمهلة وبإعجاب مغرور ألهب الدم في وجنتيها واوقدشرارات غضب في عمق عينيها ، وقال بالاسبانية :
-اظنك امرأة رائعة ومثيرة .
ايقاع اللغة الجميل جعل هذه العبارة البسيطة تبدو كأغنية حب . وتابع متشدقاًبانكليزية مقتضبة :
-من دواعي الأسف الشديد ان عروقك تحوي ثلجاً بدل الدم . فمنخلال حكمي على لون بشرتك توقعت ان تكوني اكثر دفئاً وحرارة عاطفية .
ابتسم بشيءمن المرارة واردف بلهجة استسلامية :
-اني ، كما ترين ، فعلت بنفسي ما حذرتك منفعله ، لقد حكمت عليك من خلال شكلك .
تنهد ثم سألها والمرارة تنتشر على صفحةوجهه :
-اي نوع من الرجال يروق لك ؟ وأين هو ؟ لماذا لا يأتي ليحميك مني ومنالوقوع في مخالب رجل على شاكلتي ؟
-لا ... لا احتاج الى اي رجل كي يحميني فاناقادرة على حماية نفسي .
نهضت واقفة واستدارت كالعمياء الى الموقد وهي تضيف :
-سأصنع القهوة .
-حسناً.
لم يضف الى ذلك ، وسمعت صرير سريره حين قفز عنهالى الارض ثم وقع قدميه وهو يعبر الغرفة الى الحمام .
ارتجفت يداها بشدة والى حدتناثر معه مسحوق البن على الطاولة وطقطقت الملعقة على جوانب الفناجين الفارغين . لماذا ترتجف هكذا ؟ الأن رجلا غريباً قد اخترق خطوط دفاعها ؟ ام لأنه احتضنهابطريقة لم تعهدها منذ أيام مارتن ...؟
تذكرت لمسة اصابع الرجل الغريب اللطيفةالمغرية وترنحت حيث تقف فأغمضت عينيها بقوة . كلا ، مارتن لم يحضنها ولم يعانقهاابداً بهذه الطريقة ، ولو انه فعل لما كانت الآن في جانب آخر من العالم والى حيثهربت لتنسى حقيقة ان مارتن لم يحبها ولن يحبها ابداً .
-حسبتك قلت انك ستصنعينقهوة ؟
تكلم الرجل مؤنباً فاستفاقت من حلمها النهاري ثم رفعت الوعاء وسكبتالقهوة .
-اود العودة الى الفندق في أسرع وقت ممكن .
كان في كامل ثيابه ،يرتدي بزة التزلج ويبدو رجلاً خفيف الحركة متين البنية ، يسير برشاقة مختالة غريبةكما لو انه معتاد على العمل المسرحي .
تناول الفنجان منها وقال بجفاف وهويراقبها كما الصقر بعينيه اللامعتين القاسيتين :
-ان تجعلك في مغادرة المكانيسيء الى كرامتي قليلاً . لا خوف عليك مني، كما تعلمين ، فأنا لن المسك ثانية إلااذا رغبت في ذلك .
-ليس هذا سبب ...
بترت عبارتها ثم همست وهي تخفي وجههابيديها :
-اوه ، ارجوك . الا يمكننا ان ننسى الذي حصل ؟
-وأي جزء منه تريدينان تنسي ؟ الطريقة التي تجاوبت بها ام طريقة انذعارك وانسحابك ؟
-اريد نسيانالحادثة برمتها .
-لا اظنني استطيع ذلك أو أرغب فيه .
-لكن ...لكن .
ثم تابعت بازدراء :
-اوه ، لا احسبكستقول ان الأمر عنى لك شيئاً.
عاد يرمقها بشفقة ثم اكمل شرب قهوته ووضع الفنجانعلى الطاولة .
سألها فجأة :
-من فعل بك ذلك ؟
-فعل ماذا ؟
-جرح مشاعرك . أغلب الظن ان رجلاً ما قد اعطبك عاطفياً.
اذعرها تخمينه الصائب فحاولت اخفاءرعبها بالرد عليه بعنف :
-اسمع يا سنيور "فلان الفلاني" ، لا يجب ان تفترض وجودعلة في امرأة معينة لمجرد انك لم تحصل على مبتغاك منها لأول مرة في حياتك . انتمخطئ في افتراضك ، فأنا لااشكو اية علة ، وكل مافي الأمر انني لا احب ان يعبث بياي رجل تلقيه الصدف في طريقي .
لم يقل شيئاً ، انما استمر يحدق اليها حتى عجزتسوريل عن احتمال تلك النظرة الثابتة التي كانت خليطاً من الشفقة والارتياب ، فاشاحتعنه بصرخة ضيق قصيرة وراحت تنظر من النافذة الى تلال الثلج الملساء والمتوهجة تحتاشعة الشمس .
ثم استدارت فجأة وواجهته قائلة :
-اريد الذهاب لأنني قلقة علىالسنيور انهل اذ لابد انه منشغل الباب علي. حاول ان تفهم ذلك ... ارجوك ثق ... انذهابي لا علاقة له بتاتاً بما حصل .
-ربما انا اتفهم الوضع اكثر مما تظنين . فمنالجائز ان يقرر مخدومك بأنك رفيقة غير صالحة لابنتيه عندما يعلم بانك قضيت الليلبمفردك مع رجل غريب في كوخ .
وهنا مال فمه بانحناءة ساخرة فقالت سوريل باصرارمخلص :
-لقد عاملني بعطف ورعاية ولذا لا اريد ان اسبب له قلقاً زائداً لا لزومله .
ثم انتابها ضيق مفاجئ اذ اقرت بان الرجل قد يكون مصيباً . فمن الجائز انيعترض رامون انهل على قضائها الليل خارج البيت ... اردفت :
-ارجو ان يتفهمتبريري عندما اشرح له كيف ان العاصفة الثلجية ارغمتني على البقاء هنا .
-سوفتخبرينه الحقيقة اذن ؟
-بالطبع ، على الاقل ماهو ضروري .
-اتمنى لك التوفيق . حسناً ، لنستعد للذهاب . الطقس جيد هذا الصباح ومن المفروض ان يكون التزلج سهلاً . دعينا نستمتع به معاً . هل توافقين ؟
وحالما خرجا من الكوخ لسع الهواء الباردوجنتيها وبدا انه يمزق منخريها وسقف حلقها كلما تنفسته .
كان الثلج الناعم يحدثصريراً تحت زحافتيها حين ارتقت المنحدر الكائن خلف الملجأ وهي تدوس على الزحافتينالمتوازيتين جانبياً وصعوداً وتغرز العمودين في الطبقات البيضاء الكثيفة . توقفتمراراً لتلقط انفاسها ولتنظر حولها الى جمال الجبال المتوهج البارد ، وفي كل مرة ،كان الرجل المدعو دومنيغو والذي يعلو مكانها على المنحدر ، يتوقف ايضاً وينتظرها ،فيبدو كظل اسود على منحنى ابيض ، فيما نظارتاه الكبيرتان تخفيان عينيه وشعره الاسوديرفعه النسيم الخفيف . وجدته ينتظرها على قمة المنحدر حين وصلتها لاهثة نافخة ،وقال :
-هنا تقاطع دربانا يوم امس .
ثم اشار الى منحدر بعيد يقع الى يمينهاوتابع :
-كان يجب ان تسلكيه بدل ان تتبعيني ، انظري ، ان برج المصعد الكهربائيالاعلى يظهر قسم منه على متن المنحدر ، ولولا تساقط الثلج لاستطعت ان تريه وتتزلجيفي اتجاهه .
رمقها بنظرة جانبية واردف متعمداً :
-ولما كنا التقيناابداً.
هل يلمح الى ان لقاءهما احدث في نفسه اثراً ؟ كان كلاهما قد ازاح نظارتيهالى فوق ، وعندما التقت عيونهما وتشابكت احست للحظة بتجاوب فرح عنيف مع الدعوةالمتوهجة في حدقتيه . بيد انها اشاحت عنه فوراًوهي ترفع ذقنها وتقلص شفتيها .
اعادت نظارتيها الى عينيها ثم قبضت على عمودي التزلج استعداداً للانظلاق وقالتبجمود :
-احسبني سأستطيع ايجاد طريقي من هنا . لا تكلف نفسك عناءمرافقتي.
انطلقت فوراً فلحق بها وماهي الا لحظات حتى ادركها ، فاضطرت الىالاقرار الضمني بسرورها لوجوده معها ومشاركته اياها بهجة الانزلاق على ناحية الجبلفي ذلك الصباح المشمس الصافي . وهذا لا يعني انها استطاعت التزلج بدون ان تسقط بضعمرات ، لكن لدى سقوطها كان يعود لمساعدتها ، وللضحك معها وليس عليها ، ولينفض الثلجعن ثيابها ويزودها بالارشادات اللازمة لتفادي السقوط . واخيراً بلغا قمة المنحدر.
كانت هناك مجموعة متزلجين قرب البرج الأعلى تتحلق حول رجل يرتدي سترة تزلج حمراء ، تمثل اللباس الموحد لأدلاء الجبال ، وجميعهم خبراء في التزلج ، ويستخدمهم مركز التزلج في البحث عن المفقودين والضائعين . توقف دومينغو وحدق الى المجموعة ومالبثت سوريل ان لحقت به وتوقفت قربه . أزاح نظارتيه اليها قائلاً بجفاف :
-الآن ، سأدعك تذهبين بمفردك .
ادركت لحظتها كم هي مدينة له ، ربما بحياتها نفسها ، فقالت باندفاع :
-اشكرك على ... مجيئك معي وعلى انقاذي مساء امس .
-لا موجب للشكر ، كان ذلك مدعاة لسروري يا سنيوريتا .
أشاح بصره عن مجموعة المتزلجين وأعاد نظارتيه الى مكانهما وشرع يقول :
-اتمنى فقط ...
توقف ناظراً الى الناس ثانية ثم استدار اليها وقال بسرعة :
-سوريل ، اصغي الي . اذا واجهت مصاعب مع مخدومك فهل لك ان تعلميني بذلك ؟
-وكيف افعل وانا اجهل اسمك الثاني ومكان اقامتك ؟
-قد تعرفين ذلك قريباً وبأسرع مما تظنين .
التوى فمه بوجوم وهو ينظر من فوق رأسها الى الناس المتجمهرين ، وفي تلك اللحظة شق الفضاء صوت انثوي عال وحاد راح يهتف :
-سوريل ! سوريل!
انه صوت غابرييلا يزعق مبتهجاً ولا يمكن ان يكون صوت انسان آخر.


تلفتتسوريل حولها فرأت الجسم البرتقالي ينسلخ عن جمهور المتزلجين ويتهادى نحوها عبرالثلج . وهتفت الفتاة حالما وصلتها :
-اوه ، سوريل . لقد قلقنا جداً عليك ! اينكنت ؟ ومن الشخص الذي جاء معك ؟
نظرت سوريل ثانية الى ماحولها . لقد ذهب دومنيغووكان يشق طريقه بسرعة على المنحدر في اتجاه الفندق . حدقت خلفه تتأمل رشاقتهالتزلجية ، وعجبت لشعور الخيبة الذي طعنها بحدة لكونه تركها من دون ان يودعها .
وفي اللحظة التالية حاولت خنق هذا الشعور . لماذا تهتم للأمر ؟ يجب ان تكونمسرورة لانه تركها واتاح لها ان تشرح الوضع بدون وجوده الذي قد يصعب التفسير. استدارت الى غابرييلا وسرعان ماوجدت نفسها محاطة بجمهور المتزلجين ، وجميعهميمطرونها بأسئلة منفعلة بالاسبانية :
-ماذا حصل ؟ اين كنت طيلة الليل ؟
اماوجه رامون انهل الضيق الشاحب فكان جامداً وصارماً.
وبدأت تشرح له :
-لقد سقطتولم ترني .
لكن الناس بدئوا ايضاً يتكلمون دفعة واحدة فاستحال عليها ان تتابعكلامها . اطلق رامون هتاف انزعاج ، وقال بالانكليزية رافعاً صوته ليطغي على هرجالناس الانفعالي :
-لا يمكننا التحدث هنا . سأطلب من الدليل ان يوقف عملياتالبحث . ثم ننزل الى الفندق . اعتقد انك سترحبين بتناول الافطار .
اومأت برأسها، وفي خلال ثلث ساعة كانت تجلس في مقهى الفندق الدافئ تشرح لرامون ولابنتيه كيفانها تاهت في العاصفة الثلجية فيما النادل يقدم لها الطعام . وسألها رامون :
-متى ادركت انك سلكت الاتجاه الغلط ؟
-عندما رأيت صف الاشجار والضوءالمنبعث من النافذة . كان الثلج ينذرف بغزارة وسرني ان اجد ملجأ يحميني .
فاستوضحها بحدة وارتياب :
-اين كان الملجأ ؟
-الى الجنوب من هنا وعلىبعد عشرة كيلومترات تقريباً.
فقالت غابرييلا بحماسة وهي تحاول المساعدة :
-اعرف . انه الملجأ الذي قضينا فيه ليلة مع ... اوه ، لورا ، لماذا ركلت قدمي؟
وعاد رامون يسأل سوريل :
-اكان معك شخص آخر هناك ؟
-اجل ، رجل احتمىايضاً من العاصفة . لم يكن لي خيار إلا ان ابقى هناك فما كان بوسعي ابداً ايجادطريقي الى الفندق تحت انهمار الثلج . آمل ان تتفهم وضعي .
كانت تتكلم باسترحامواحست بوخزة اضطراب لما رأت الشك يغزو عينيه مجدداً .
وقالت غابرييلا بصوتكالصفير :
-الرجل الذي كان معك عندما رأيتك ؟
-اجل ، جاء معي هذا الصباحليدلني الى طريق الفندق .
فاستوضحها رامون :
-اين هو الآن ؟لماذا لم يبق معك الى حين وجدتنا ؟
-لا ... لا أدري . لقد تركني حين نادتنيغابرييلا .
تلفتت حولها ولديها نصف امل بأن ترى الوجه المنّدب تحت ريش الشعرالاسود الفاحم بين وجوه الناس لجالسين في المقهى . ثم انتبهت الى ان غابرييلا ولوراكانتا تتهامسان في جدال عنيف . ووبخهما رامون بحدة :
-الا تكفان ابداً عن الشجار؟
فأجابته لورا :
-تقول غابرييلا انها تعرفت على الرجل الذي جاء مع سوريل . لا أدري كيف استطاعت ذلك لأنهكان يلبس نظارتيه .
فردت غابرييلا بحنق :
-بلعرفته من خلال بزته التزلجية .
استفسرها رامون :
-ومن هو بحسب اعتقادك؟
-خوان رينالدا .
والقت نظرة متحدية على وجه اختها الذي بدا تعيساً على حينغرة .
وهتف رامون :
-رينالدا ؟ مصارع الثيران ؟
اومأت غابرييلا بالايجاب . فقالت سوريل بلطف :
-اظنك مخطئة يا غابرييلا فقد اخبرني ان اسمه دومنيغو .
فأكدت الفتاة بعناد :
-انه "الشجاع " انا متأكدة انه هو الذي كان معك .
سألها ابوها بحدة :
-وكيف توصلت الى معرفة " الشجاع " الى درجة مكنتك منتمييزه من مسافة بعيدة ؟ فتبعاً لمعلوماتي ، لا اذكر انك حضرت اية مصارعة إلا اذاكنت حضرت واحدة من دون علمي . هل فعلت ؟ وأنت يا لورا ؟
التفتت البنتان يضيقالى بعضهما البعض . ثم قالت لورا بتردد بطيء :
-اجل ، فعلنا ذلك مرة واحدة ، فيشهر كانون الاول (ديسمبر) من السنة الماضية ، وخلال مهرجان اقيم في كوبايا .
-اكانت امكما معكما ؟
-نعم ، سنيور .
بدا الخوف على لورا فتابع راموناستجوابه قائلا :
-ورأيتن رينالدا هناك ؟
-اجل .
فقال رامون مفكراً :
-كان ذلك قبل المصارعة في مانيسالاس حيث اصابه الثور بجرح بالغ
ثم رمقلورا بنظرة حادة اخرى وتابع يسألها :
-من دعاكما وامكما الى حضور المصارعة؟
-الخالة ايزابيلا ، فأخ زوجها هو دييغو كورتيس متعهد مباريات المهرجانات .
لم تقدر غابرييلا ان تصمت طويلاً ، فاندفعت تقول :
-كانت الحفلة مثيرة جداً، ولدى انتهاء المصارعة تقدم " الشجاع " وانحنى امام المقصورة التي كنا نجلس فيهامع السنيور كورتيس ، وبعد ذلك عرفنا اليه .
فسألها رامون :
-وهل كان يرتديبزة التزلج آنذاك ؟
طربت غابرييلا لسخرية ابيها فقهقهت بعصبية وقالت :
-بالطبع لا . كان يرتدي لباس مصارع الثيران ! سترة رائعة مطرزة بأكملهابالستراس الاحمر والاسود . بدا وقتها وسيماً جداً ، وما يزال وسيماً لولا الندبةالطويلة على جانب وجهه الأيمن حيث نهشه الثور .
كادت سوريل ان تختنق بطعامها .. فعاد رامون يحدجها بارتياب وحدة . ثم استدار الى غابرييلا وقال بنفاد صبر ظاهر :
-لكن حصولك على الامتياز السخيف لرؤية رينالدا يصارع في الحلبة حاملاً الوشاحالاحمر لا يفسر معرفتك لنوع بزة التزلج التي يرتديها .
-عرفت ذلك لأني رأيته هذاالصباح عن قرب وفي هذا المقهى بالذات .
اليس كذلك يا لورا ؟ لقد رأيناه هنامراراً حين كنا نأتي مع ماما ، واضطررنا في احدى المرات الى الاحتماء واياه مع اناسآخرين في الملجأ ذاته حيث قضت سوريل الليلة الفائتة .
فنظر رامون الى سوريلبقسوة وعيناه تلتمعان في وجهه الصارم وقال:
-اذن حلّ اللغز يتطلب ان نسأل سوريلاذا كانت هناك ندبة على خد الرجل الذي شاركها اللجوء الى الكوخ .
منتديات ليلاس
فسألتهاغابرييلا وبدون ان تعي مبلغ احداثها للمشاكل :
-سوريل ، هل رأيت على وجهه ندبةتمتد من هنا الى هنا ؟
ورسمت باصبعها منعطفاً بدأته من تحت اذنها اليمنة وحتىزاوية فمها ، وتابعت :
-وهل كان طويلاً ، اسود الشعر وذاعينين رماديتين فاتحتين ؟ وهل ابتسم هكذا ؟
اكتفت سوريل بايماءة ايجابية لعجزهاعن النطق فصفقت غابرييلا بانتصار وقالت متبجحة :
-الم اقل لك ه ذا يا لورا ؟ كنتعلى حق ! على حق!
فسألت لورا والقلق الشديد يبدو عليها جلياً:
-اذن لماذااخبر سوريل ان اسمه دومينغو ؟
فقال رامون مستوضحاً سوريل :
-هذا سؤال وجيه . لماذا فعل ذلك يا آنسة برستون ؟
ارعبتها حدة صوته البارد ورسميته المفاجئة ، كمالو انه اكتشف لتوه انها اقترفت خطيئة ما ، وبالتالي انقلب ضدها . اجابته :
-لاادري السبب ، اعتقد انه لم يشأ ان يدعني اعرف هويته .
ازاح كرسيه الى خلف ونهضواقفاً ثم علق ناظراً اليها بغضب :
-هل تريدينني ان اصدق ان هناك مصارع ثيرانيصل الى هذا الحد من التواضع وانعدام الغرور ؟ لا يمكنني والله ان اصدق ذلك ، فالذياعرفه عن رينالدا انه اكثر المصارعين غروراً ، ولا عجب ، فهو في نظر معجبيه بطلشعبي اصيل ، ولد هنا في كولومبيا ولم يُستورد من اسبانيا او المكسيك . انه كمعظمفصيلة المصارعين ، رجل استعراض وتفاخر حتى رؤوس اصابعه !
رمقها بنظرة عدائيةمستعرة واردف :
-هناك سبب آخر يحدوك الى تسميته بهذا الاسم دومينغو ، وأنا عازمعلى اكتشاف السبب .
ثم استدار الى ابنتيه وقال لهما محتداً :
-اذهبا واجمعاحوائجكما . سوف نعود فوراً الى ميدلين .
فاحتجت لورا بقولها :
-لكن الظهر لميحن بعد والطقس ممتاز للتزلج .
وهتفت غابرييلا ثائرة وعيناها تطفحان بالدموع :
-لا اريد العودة الى البيت بهذه السرعة .
اما سوريل فبدأت تقول :
-سنيورانهل ، لم يخطر لي ابداً ...
فقال لهن بنزق :
-اصمتن جميعاً ! لن اسمح لأيمنكما بالمجيء هنا مرة اخرى ! لا يمكنني السماح لبناتي بالاختلاط مع مصارعي ثيرانواناس على شاكلتهم .والآن ، اذهبا واجمعا اغراضكما ...
رحلة الاياب كانت مزعجةبالمقارنة مع رحلة الذهاب الى مركز التزلج، فلورا وغابرييلا جلستا في صمت حاد ،فيما بدا رامون متغطرساً ومنعزلاً خلف مقود السيارة وقد استطاع ان يعبر عن استيائهوغضبه من ابنتيه ومن سوريل من خلال قيادته المجنونة حول المنعطفات ومسابقته لكلالسيارات بتزمير عال يصم الآذان .
صمت رفاقها جعل سوريل تنعزل مع افكارها الخاصةوهي تجلس في زواية المقعد الخلفي تراقب اشكال التلال البعيدة القاتمة والمحنيةالظهر في الافق الغربي المشمس وقد بدت انها تتحرك وتغير اشكالها الى نماذج جديدةتبعاً لانعطاف الطريق حولها .
مصارع الثيران ! كان يجب ان تحزر مهنته من خلالمشيته الرشيقة المختالة او من خلال الطريقة التي راقبها بها كما لو انه يراقبوينتظر ثوراً يتقدم الى منتصف الحلبة ، أو من خلال الندبة على خده وحيث بدا اناللحم قد مزقه قرن حيوان هائج ... الآن ، وقد عرفت ، فمن السهل ان تتصوره مرتدياًالقبعة السوداء المثلثة . السترة القصيرة البراقة ، السروال اللاصق بالجسم ،الجوربين الزهريين والحذائين الاسودين وهو يغري الثور ويخدعه بهزه من وشاحه الصوفيالاحمر .
ارتعدت قليلا . فهي لم تشاهد مصارعة ثيران واحدة وما رغبت ابداً فيمراقبة رجل يواجه ثوراً ثائراً ويشتبك معه في معركة مميتة . لقد اعتبرتها دائماًعملية استعراض قاسية للحيوانات ، ولغاية الآن لم يخطر لها اطلاقاً انها قد تكونقاسية ايضاً على المصارعين انفسهم .
ولكن لماذا حجب عنها اسمه ؟ لماذا كذب عليها؟ ولم ارتاب رامون انهل الى هذا الحد في اتصالها العابر بمصارع الثيران ؟ ما الذيينفره منهم ويجعله يرفض ارسال ابنتيه الى اي مكان قد تلتقيان فيه بواحد منهم؟
وما ان اوقف السيارة خارج المدخل الامامي المزين بالاعمدة حتى ظهرت امرأة علىرأس الدرج كانت نحيلة ، صغيرة الحجم ، سوداء الشعر وترتدي فستاناً انيقاً من حريرالجيرسيه لونه ابيض واسود .
هبطت الدرج صوبهم فحياها رامون قائلا بدفء :
-آه، ايزابيلا ، يسرني ان اراك . هل جئت لتؤنسي مونيكا ؟
ابتسمت له بعينيها البنيتين الغامقتين ، والغائرتين قليلاً تحت حاجبين مقوسين دقيقتين قبل ان ترمق سوريل ، المترجلة من السيارة ، بنظرة فضولية جانبية . اجابت :
-نعم ، لقد خابرتني بالتلفون وقالت انها تشعر بالوحدة في غيابكم وارسلت بيدرو ليأتي بي ؛ لم نتوقع ان تبكروا في العودة الى هذا الحد ، فما السبب .؟
-حدث شيء . تعالي الى الداخل لاطلعك عليه .
احاط كتفها بذراعه وقادها على الدرج الى داخل البيت .
فقالت غابرييلا وهي تنظر خلفها عابسة :
-انا لاافهم ، لماذا باباغاضب الى هذا الحد ؟
فردت لورا متذمرة وهي تساعد سوريل على انزال الزحافات منعلى سقف السيارة :
-لأنك لم تكفي عن الحديث عن خوان رينالدا . لما1ذا لاتستطيعين اقفال فمك مرة في العمر ؟
-لم افعل شيئاً سوى التعريف عنه . اي خطأ فيذلك ؟
-اخطأت في كل شيء وكان من الافضل لو بقيت صامتة ، فبابا سيؤنب الخالةايزابيلا لكونها باعتنا البطاقات لحضور تلك المصارعة ، وماما ستواجه مشاكل لأنهااخذتنا اليها بدون اذنه . اما نحن فسوف نحرم من التزلج في المستقبل .
-لكني لاافهم السبب . اي خطأ هناك في حضور مصارعة ثيران او في التعرف الى مصارع ؟
-انهتصرف خاطئ بالنسبة الى بابا ، فهو يقول ان مصارعة الثيران ماهي الا استعراضات وحشيةمشينة ويجب ان تحرم قانونياً.
-لا اعتقد انها كذلك بل اجدها مثيرة ودراماتيكيةو...
لكن لورا تابعت بصوت طغى على صوت اختها :
-ويقول بابا ان المصارعين رجالخشنون وبلا مبادئ خلقية وان من كان في مركزنا الاجتماعي فلا يجب ان يختلط بهم .
-يالهذا الهراء ! في رأيي انهم رجال فائقو الشجاعة ، واعتقد ان الثيران شجاعةايضاً. كذلك اعتقد ان خوان رينالدا هو اشجع الشجعان بالرغم من انه بلا ... كيفعبّرت عن ذلك قبل قليل ؟
-بلا مبادئ خلقية . اوه ، غابرييلا ، لا تقولي انكتجهلين معنى ذلك !
-بل اعرف ماذا يعني لكن لا يهمني ان كان رينالدا من هذا النوعسأروي لماما ما حصل معنا ، تعالي معي يا سوريل فأنا اكيدة ان ماما تحب ان تسمعتفاصيل المغامرة .
-سأفعل حالما أبدل ملابسي . علي ان اعيد اليها بزة التزلج .
اغتسلت سوريل وارتدت فستاناً اخضر من الكتان ذا ياقة مستديرة بسيطة زينتهابايشارب حريري مزركش ودخلت الغرفة الفسيحة المشمسة في الطابق الارضي والتي حُوّلتالى غرفة نوم وجلوس للسيدة المقعدة .
وجدت مونيكا تجلس كعادتها على الكرسيالمتحرك الذي اعتادت الطواف به ارجاء البيت ، وبقربها غابرييلا تجلس على كرسي منخفضوتثرثر بلا هوادة . وقالت سوريل لمونيكا :
-اشكرك لكونك اعرتني البزة . لقدناسبت جسمي تماماً. هل أضعها في الخزانة .؟
فابتسمت لها عبر الغرفة واجابت :
-نعم ، من فضلك .
كانت مونيكا شقراء الشعر تعقصه على قمة رأسها ، ذات وجهمستدير دقيق التكوين وعينين زرقاوين غامقتين . زارت كولومبيا لأول مرة في سنالثامنة عشرة ، وكانت برفقة ابيها الذي رئس آنذاك بعثة تجارية بريطانية ، وقد التقترامون حين زارت مهرجان النسيج والزهور في ميدلين ، وبعد خطوبة قصيرة تم زواجهما . الآن بلغت الرابعة والثلاثين من عمرها وما تزال تحتفظ بقسط من جمال الشباب مع انهاتمر في حالات اكتئاب تهدل فمها وتحفر خطاً عميقاً بين حاجبيها الجذابين .
وقالتتثرثر كغابرييلا الى حد ما :
-هل استمتعت بالتزلج يا سوريل ؟ اليست الجبال رائعة؟ اوه ، كم كنت شغوفة بالتزلج وكم اتمنى ان امارسه ثانية .
اهتز صوتها قليلاوارتجفت شفتاها لكنها حاولت الابتسام مجدداً واردفت :
-تعالي ، اجلسي هناوخبريني عن الرحلة . غابرييلا ، اذهبي الآن وغّيري ثياب التزلج .
قفزت الفتاةواقفة وعانقت امها بحرارة ثم غادرت الغرفة تاركة الباب مشقوقاً .
انحنت مونيكاالى الامام قليلاً وقالت وعيناها الزراقاوان تتألقان اهتماماً :
-اخبرتنيغابرييلا انك قضيت الليل مع رجل في الملجأ . كانت تقول لحظة دخولك ان لديها فكرة عنهوية الرجل . هل كان خوان رينالدا بالفعل ؟
-من الجائز ان يكون هو لكنه لم يقللي ذلك .
عادت مونيكا الى خلف وعيناها تبرقان ثماومأت وكأنها فهمت السبب الذي جعل الرجل يخفي هويته . سألت :
-كيف شكله؟
وصفته سوريل باختصار فاصغت اليها مونيكا بدقة ثم اومأت ثانية وقالت بصوت لاهث :
-انه خوان . هل ذكرت له شيئاً عن نفسك او عنا نحن ؟
-اجل ، فعلت.
فعادتمونيكا تميل الى الامام وسألتها بلهفة :
-وماذا قال ؟ هل علّق بشيء ما ؟ خبرينييا سوريل ، هل بلّغك رسالة لتوصليها الي؟
اسكتتها الدهشة لبضع لحظات . وحين همتبالقول ان خوان رينالدا لم يظهراهتماماً كبيراً لدى سماعه اسم مونيكا ، احست شعرعنقها يقب محذراً ، فاستدارت تنظر صوب الباب وهي متأكدة من وجود شخص يسترق السمعخلفه مباشرة .
وسألتها مونيكا بالحاح :
-ماذا قال يا سوريل ؟ ما بك ، لم لاتريدين اخباري ؟
-هناك شخص خلف الباب يستمع الى حديثنا .
فنادت مونيكا بشيءمن نفاد الصبر :
-غابرييلا ؟ أأنت هناك ؟
-لا ، هذه انا .
انفتح البابودخلت ايزابيلا كورتيس الغرفة وتابعت تقول :
-الديكما مانع من دخولي ام انكماتتبادلان الاسرار من جديد ؟
-كلا ، كلا ، انا وسوريل لا نتبادل الاسرار ، اننانتحدث عن اشياء كثيرة لكوننا من بلد واحد ونتكلم اللغة نفسها . كانت تروي لي كيفاعتقلتها العاصفة الثلجية على الجبل يوم امس وضيعت طريقها الى الفندق.
تقدمتايزابيلا اكثر وقالت لسوريل باهتمام ظاهر :
-لا ريب انها كانت تجربة مخيفة وكانمن الجائز ان تضيعي الى الأبد . اعتذر عن مقاطعتي لحديثكما لكن هناك شيء يجب اناطلعك عليه يا مونيكا قبل انصرافي . انه امر مهم جداً وله علاقة بما حدث امس علىالجبل .
وفكرت سوريل ، ان لايزابيلا اسلوباً هادئاً حميماً في الكلام يجعل الشخصالذي تخاطبه يشعر دائماً بأنها تهتم بمصالحه اشد الاهتمام ولا تتوانى عن فعل اي شيءكفيل بمساعدته ! نهضت واقفة وقالت بتهذيب :
-سأترككما تتحدثان على انفرادواستأذن بالانصراف .
فنادت مونيكا وهي تخرج :
-عودي في وقت لاحق يا سوريلفانا احتاج الى بعض التدليك قبل ان آوي الى فراشي ليلاً . لقد افتقدت رعايتك كثيراًهذين اليومين . لاتنسي ان تأتي.
-لن انسى .
اما ايزابيلا ففتحت لها البابلتخرج ، وربما لتغلقه بنفسها وتتأكد من انغلاقه قبل ان تبدأ حديثها مع مونيكا ،وغمغمت بألطف ابتسامة وارقها :
-كم انت متفهمة يا سوريل .
خرجت سوريل الىالممر وعبرته الى الحديقة سارت على الدروب المتعرجة المحفوفة بشجيرات ، واخذت تفكرفي ايزابيلا . كانت تعلم انها ارملة اوريليو كورتيس الذي اختص في تطوير الرياضةوالذي قتل قبل ثلاث سنوات في حادث تحطم طائرة على جبال الأنديز . ومنذ ذلك الحينبدأت ايزابيلا تتردد بكثر على منزل آل انهل حتى اصبحت صديقة مقربة من مونيكا . ولكنفي اثناء اقامة سوريل مع العائلة لاحظت ان المرأة تصرف وقتاً في التحدث مع رامون فيمكتبه هو مماثل تقريباً للوقت الذي تصرفه مع زوجته . هل من الجائز ان ايزابيلا كانتسبب الشقاق الحاصل بين الزوجين ؟ تنهدت سوريل متضايقة من منحى افكارها المتطرف ،فهذه الامور ليست من شأنها بتاتاً ولا يجب ان تتورط اطلاقاً بمشكلات اية مريضةتعالجها ، بل ان تلزم حدودها المهنية.
الا انها كانت تشعر احياناً بالشفقة علىمونيكا وبرغبة في مساعدتها.
ابتسمت بمرارة اذ تذكرت ان هذه الشفقة نفسها هي التيورطتها مع مارتن... كان يتعالج اذ ذاك في مستشفى بلدتها حيث تدربت وعملت كمدلكةبدنية مختصة . لقد ساعدته هو الآخر على تعلم المشي من جديد وفي غضون ذلك وقعت فيحبه او توهمت انها فعلت . لقد اصغت الى مشكلاته الزوجية واملت ان يفي بوعده بأنيحصل على الطلاق ليستطيع الزواج منها . ثم ، في احد الايام ، جاءت زوجته الىالمستشفى واخذته معها الى البيت ، وهكذا تحول كل حبها السابق له الى ... قرف .
وهنا هتفت شيئاً عبّر عن ضيق صدرها ثم استدارت على عقبيها وقطعت الدرب بخطواتثابتة عائدة الى البيت . وفيما هي على منتصف الدرج سمعت رامون يناديها من البهومستوقفاً ويقول :
-اريد التحدث اليك . تعالي الى غرفة مكتبي من فضلك .
-نعم ،سنيور .
عادت تهبط الدرج وتبعته الى الغرفة المرصوفة بالكتب وحيث يقضي معظموقته خلال وجوده في البيت وحين اشعل المصباح الكهربائي على طاولة المكتب واضاء وجههالطويل الضيق ، فكرت في نفسها ، انها غرفة قاتمة صارمة تشبه صاحبها الى حد كبير ... قال لها :
-اجلسي .
بدا منفعلاً جداً بسبب امر ما ، لكنه توقف اخيراً قبالتهاوقال بانكليزية دقيقة:
-لقد قررت ا بقاءك هنا قد بات مستحيلاً . اريدك ان تغادريالبيت غداً صباحاً.
-ولكن لماذا ؟أي خطأ ارتكبت ؟ اوه ، انك غير راضلأن زوجتكلا تتحسن ظاهرياً لكن ترويض المفاصل المشلولة على الحركة يستغرق وقتاً أطول ...
فقطاعها قائلا ً:
-تقدم زوجتي او عدمه لا علاقة له بفصلك من خدمتي . بالطبع سأدفع لك ثمن تذكرة الاياب الى انكلترا كما سأدفع لك الراتب حتى نهاية هذاالشهر . هذا كل ما لدي من كلام ويمكنك الآن ان تنصرفي .
فهبت واقفة على قدميهاواخذ قلبها يخفق منفعلاً حين اجتاحتها رد فعل غاضب على معاملته المتغطرسة هذه ،وهتفت حانقة :
-ليس هذا كل مالديك من كلام ! فبوسعك ان تعلمني سبب فصلك لي منالخدمة ، ومن حقي ان اعرف!
بدأت عصبيته تثور هو الآخر فتقلص فمه والتمعت عيناهوهو يجيبها :
-لست مضطراً لأن اشرح لك مطلق شيء فأنا سيد هذا البيت وصاحب الكلمةالاخيرة فيه .
تنفس بعمق وسار الى النافذة بخطوات واسعة حيث ازاح الستائرالثقيلة المطرزة ، وتابع قائلا :
-صدقيني يأني اقدم على هذا بأسف كبير لأنك جئتالينا بأفضل التوصيات ، سواء من المستشفى حيث كنت تعملين او من والدة مونيكا التيهي ايضاً صديقة لامك ، كما علمت . لقد بذلت جهوداً كبيرة في مساعدة مونيكا ، واناممتن جداً لذلك ، انما لا استطيع المجازفة بتكرار الحادثة .
-تجازف بتكرار ايةحادثة ؟
رمقها بنظرة عصبية وعاد يذرع ارض الغرفة ثم توقف فجأة امامها واتهمهاقائلا:
-اذن انت تتظاهرين بجهلك لكامل العلاقة ! تصرفك هذا لايدهشني لانه ينسجممع كذبتك بخصوص هوية الرجل الذي قضيت واياه ليلة في الملجأ.
ارتفع مافيها من دملاتيني قليل الى درجة الغليان واجابت بحرارة :
-لم اكذب . الهذا السبب تريد فصلي؟ الأعتقادك بأنني كذبت عليك ؟
-نعم . لقد اتضح لي ايضاً انك لست اهلاً للثقةوانك متورطة مع زوجتي في مؤامرة .
وسألت وهي لا تصدق اذنيها :
-اية مؤامرة؟
ثم ضحكت فجأة واردفت :
-اوه ، ممن سمعت ذلك ؟
-لم اكن بحاجة الى معلوماتاحد ، فانا ادرك تماماً ان زوجتي تأتمنك على اسرارها . وكان يجب ان اتكهن بحصولالأمر حين طلبت الي ان آتيها بمدلكة من انكلترا ، بشخص اكثر عطفاً وتفهماً ، على حدتعبيرها !
ثم هتف غاضباً :
-يا الهي ! كيف قدرت مونيكا ان تخدعني طوال هذالوقت !
قالت سوريل ببرود وقد استردت هدوءها:
-ليست لدي اقل فكرة عما تتكلم . لكني لم اكذب عليك بخصوص ذلك الرجل . كنت اجهل هويته ، وهو رفض التعريف عن نفسه ،واصر على ان اسميه دومينغو . ولو ان غابرييلا لم تكشف هويته لما عرف احدنابشيء.
-ولهذا السبب بالذات لا استطيع المجازفة بان تُرسلي لملاقاته ثانية .
-لكن لا احد ارسلني لملاقاته ، اللقاء حصل عرضاً. لقد اخبرتك انني ضللت الطريقو ...
فقاطعها قائلا بمرارة :
-وهو وجدك على اهون سبيل ، اذ كنت ترتدين بزةمونيكا التزلجية وهكذا رأى فيك شيئاً يرتبط بها .
شهقت سوريل وغطت فمها بيدها اذتذكرت قول الرجل انه حسبها امرأة كان يعرفها . وتابع رامون قائلا :
-اوه ، كانتخطة متقنة ... لقد رآنا مجتمعين في المقهى فلحق بنا الى قمة الجبل ، وعندما شاهدكتسقطين ، استعان باغراءه وجعلك تقصدين الكوخ . ليس هناك من هو اقدر على الاغراء منرينالدا! انه خبير في الثيران وفي النساء ، وماعليك إلا ان تسألي اي متتبع لهذاالنوع من المصارعة ليؤكد لك هذه الحقيقة !
-ليتني افهم السبب وراء هذه الجلبة ... فزوجتك سألتني اذا كان الرجل قد حملني رسالة اليها ، وها انت ...
فهتف رامونبانتصار :
-اذن كنت مصيباً ... لقد استعملوك فعلاً !
ادركت انها اخطأت في ذكرالرسالة ، فسألته بقلق :
-من استعملني ؟
-زوجتي و رينالدا .
حدقت اليهبخيبة اذ وعت انه قد يكون محقاً . فمن الجائز انها قد استعملت كوسيط بغير ان تدري . سألته :
-ولكن لماذا ؟ ارجوك ان تخبرني السبب . من حقي ان اعرف .
فأجاب بصوتجامد :
-لا استطيع ذلك انها قضية تمس شرفي .
مبدأ الشرف الاسباني الذي مازالبعض الرجال الكولومبيين يحافظ عليه ! انها تعلم عنه ما يكفي لجعلها تدرك ان رامونلن يبوح لها بأي شيء . اشار الى المكتب وقال :
-انه هنا ، وصل مالي باسمك ،والمبلغ يغطي نفقات عودتك الى وطنك وبقية راتبك . خذيه من فضلك . غداً صباحاًسيأخذك بيدرو الى المطار ، ورجاء ان تسقلي اول طائرة الى انكلترا .
التقطت الوصلولم تجد اية جدوى من رفضه . فحتى لو لم ترجع الى وطنها ستظل في حاجة الى المال . قالت :
-حسناً ، سأذهب لأنه ليس هناك شيء استطيع فعله كي اثبت لك انني لم اتآمرمع زوجتك ولم اقم بدور الوسيط وبينها وبين رينالدا ! اعتقد انك سخيف جداً !
سألها بصوت اجش وقد اتقدت عيناه وجن جنونه :
-اتجرؤين على انتقادي؟
-اجل ، اجرؤ ، فانا لا ارتعب منك كما هو الحال مع زوجتك وابنتيك ، ولذا اجرؤعلى نعتك بالسخافة لانك لا ترى ابعد من انفك الاسباني المتكبر ! لا ترى ان زوجتكتحبك ولا تحب سواك . تصبح على خير يا سنيور .

3-مهمةفاشلة

تناولت سوريل عشاءها كالعادةمع لورا وغابرييلا في غرفة الطعام الصغيرة القريبة من المطبخ وحين استأذنت سوريلبالانصراف قبيل انتهاء العشاء قائلة انها تريد رؤية السنيورا انهل ، التفتت اليهامدبرة المنزل التي كانت تجمع الاطباق عن الطاولة وقالت بسرعة :
-السنيورا ليستعلى مايرام . لقد آوت باكراً الى فراشها وطلبت اليّ تبليغك أن لا تذهبي اليها .
فعادت سوريل الى غرفتهاتصعد الدرج بتمهل وهي تشعر أنّ الخطوة الوحيدة التيبقيت لها قد سدّت الآن في وجهها . فهي ان لم تستطع أن تشكو لمونيكا الطريقة الظالمةالتي طردها بها رامون ، فلمن تشكو امرها ؟
وهنا تذكرت عبارة الرجل الذي زعم اناسمه دومنيغو ...
" اذا واجهت مصاعب مع مخدوك ، فهل لك ان تعلميني ؟"
لابدانه كان يتوقع حصول مشكلة في حال اكتشف رامون هويته . اذن ، ألا يعني ذلك انهومونيكا استعملاها فعلاً كوسيط ؟ ولكن ، ما سبب حاجتهما الى وسيط ؟ شهقت بغضب حيناجابت سؤالها بنفسها .
إن خوان رينالدا هو السبب وراء اهتزاز الزواج . لابد أنهومونيكا كانا على علاقة عاطفية قبل حادث السيارة ، ويحاولان الآ ن احياء تلكالعلاقة.
لهذا السبب ايضاً ، اقترحت عليها مونيكا ان تذهب للتزلج في نهايةالأسبوع لعلمها بأن خوان سيكون في مركز التزلج وسوف يمرر اليها رسالة ما .
لكنهناك حلقة مفقودة واحدة ، فخوان لم يسلمها رسالة الى مونيكا ، بل لم يأت على ذكرهااطلاقاً ، وبدلاً من ذلك حاول جهده أن يبدأ علاقة معها هي بالذات .
آوت الىفراشها والأفكار تتصارع في ذهنها فقضت نصف الليل تتقلب ارقة وهي تحاول فك الخيوطالمتشابكة التي تلفها . لكن ذلك مستحيل بدون مساعدة مونيكا ، وهكذا ظل الحلمستعصياً عليها عندما نامت أخيراً.
لم تستيقظ الا حين احست بيد تهز كتفيها وبصوتمدبرة المنزل يهتف بها :
-سنيوريتا ، سنيوريتا ، الوقت متأخر والسنيورا انهاتريد رؤيتك فوراً !
استوت جالسة وأزاحت شعرها عن عينيها ثم سألت وهي تقفز منالفراش وترتدي روبها بسرعة :
-هل هي مريضة ؟
-كلا ، كلا ، انها متعبة فحسب . لم تذق طعم النوم ليلة امس .
-وهل السنيور انهل في البيت ؟
-كلا ، ذهب الىمكتبه . لقد طلب ابلاغك ان بيدرو سيرافقك الى المطار بالسيارة عندما تستعدين للذهاب . يؤسفني كثيراً انك ستتركينا فالسنيورا تحسنت كثيراً منذ مجيئك .
فابتسمت لهاسوريل وقالت وهي تغادر الغرفة :
-شكراً، لكنني لم ارحل بعد.
وجدت مونيكا فيسريرها على الوسائد الحريرية وهي تعبث بطعام الافطار . كان جفناها محمرين من البكاءهتفت بسرعة :
-اوه ، احمدالله انك هنا ! قال لي رامون انه سيطلب اليك الرحيل . توسلته الا يفعل لكنه رفض الاصغاء الي ، ونتيجة لذلك أرقت طوال الليل .
جلستسوريل على حافة السرير وسألتها :
-وهل تشعرين بعذاب الضمير ؟
-اجل ، فأناالسبب وراء فصلك من الخدمة .
ثم اطلقت ضحكة واجمة قصيرة وأردفت :
-يعتقدرامون انني ارسلتك عمداً الى مركز التزلج كي تتصلي بخوان نيابة عني .
-الم تفعليذلك حقاً؟
-كلا ! اوه ، لقد املت بشكل ما أن يكون خوان هناك وأن يقول شيئاًللورا أو لغابرييلا ، انما لم اخطط لأي شيء.
-لكنك سألتني ان كان خوان قد حملنيرسالة اليك .
-فعلت ذلك لأنك اخبرتني انك حدثته عني ، وحسبت ، لشدة غبائي ، انهسيهتم كفاية ليسأل عن صحتي .
وهنا ارتجف صوتها على رغم منها ، وأردفت :
-لكنهلم يفعل ، على مايبدو .
-كلا ، لم يسأل ، بل لم يلمح اطلاقاً الى معرفته السابقةبك .
فتقلص وجه مونيكا كأنها اصيبت بطعنة سكين . استلقت على الوسائد وأغمضتعينيها ثم غمغمت :
-وتلك كانت رسالته على ما اعتقد . ما عاد يهتم بأمري بتاتاً . يا الهي ، كم كنت غبية حمقاء !
فتحت عينيها وقالت ناظرة الى الفتاة :
-والآن غطستك أنت ايضاً في ورطتي ! آسفة جداً يا سوريل . ليتني استطيع فعل أي شيء لمساعدتك .
-يمكنك اعلام زوجك انه مخطئ في حقي وانك لم ترسيليني لملاقاة خوان.
-فعلت ذلك مراراً لكنه لا يصدقني ... يعتقد انني خنته مع خوان .
-وهل خنته بالفعل ؟
فقالت متنهدة :
-كلا . ولا مرة واحدة بالفعل . لم تتح لي الفرصة ابداً ، انما بالنسبة الى ماهي عليه سمعة خوان أو ما كانت عليه ، فلن يصدق أحد هذه الحقيقة ابداً ... رامون يعلم انني ذهبت لرؤية خوان في مزرعته قرب ايبارا عندما تحطمت بي السيارة ، مع انني كنت اجهل معرفته الأمر ولغاية ليلة امس ، حين اخبرني قراره بفصلك وانه اذا لم اتوقف عن محاولتي رؤية خوان فسوف يذهب الى محاميه ليبحث معه الترتيبات اللازمة للطلاق.
-لِمَ ذهبت الى رينالدا ؟ اي علاقة كانت بينكما ؟
-اوه ، كيف لي أن اشرح تلك العلاقة المعقدة ؟ كان هناك شيء ولم يكن هناك شيء في الوقت نفسه .
-الا تستطيعين ذكر الأجزاء المتعلقة بتورطي في الموضوع ؟ اعلم انك تعرفت اليه بعد حضورك احدى مصارعات الثيران ، وحيث عرفتك اليه صديقتك ايزابيلا ، اليس كذلك ؟
-صحيح ، وهي التي الحت علينا بحضور مصارعة في كوبايا ، لكنني لم أره ثانية ولمدة تسعة اشهر تقريباً بعد اصابته بجرح بالغ في مصارعة جرت في مانيسالاس ، اذ استغرقه الشفاء وقتاً طويلاً.
-وماذا حدث حين التقيته ثانية ؟
-وقعت في حبه ، على ما اظن ..
استدارت سوريل تحدق اليها فتابعت تقول :
-اعلم أن هذا يبدو سخيفاً بالنسبة الى امرأة في سني ، انما لا يمكنك أن تتصوري مدى الضجر الذي كنت اعانيه آنذاك . فرامون كان دائماً مشغولاً ، بمصنع النسيج ، والبنتان في المدرسة طوال النهار . لم يكن لدي ما أفعله سوى الجلوس في البيت أو دعوة صديقاتي الى لعب البريدج أو لعب الغولف أو الذهاب للتزلج .
وهنا ارتجف صوتها قليلاً وتابعت تقول بتعاسة :
-ومن حين فقدنا الصبي الصغير ، بدأنا أنا و رامون ، نبتعد عن بعضنا بعضاً.
-اي صبي صغير ؟
-ابننا الذي توفي بعد بضعة ايام من ولادته . كان رامون يرغب دائماً في انجاب ابن وهذه رغبة ملتصقة بمذهب التعصب الذكري الذي يعتنقه بعض الرجال اللاتينيين اذ يعتقدون أن حصولهم على ابن يثبت رجولتهم أو شيئاً سخيفاً من هذا القبيل . في أي حال ، قال الأطباء آنذاك أن لا انجب اطفالاً آخرين ، وهكذا ...
هزت كتفيها وكسا وجهها شجن وهي تضيف :
-فقد رامون اهتمامه بي ... يمكنك تخيّل حياتنا منذ ذلك الوقت ، كلانا في اتجاه ، انما نعيش تحت سقف واحد ، ويمكنك أن تتصوري ايضاً حالتي النفسية و العاطفية عندما التقيت خوان وحيث كنت في حاجة ماسة الى الحب و الصداقة . كان قد تعلّم التزلج كنوع من الترفيه بعد مرضه الطويل، وبدا لي مختلفاً عن أي شخص التقيته من قبل . كان يمتلك نوعاً من السحر الخشن وعساك تفهمين ما أعني . قيل لي أن سحره هذا نابع من كونه مصارع ثيران وحيث توجد دائماً هالة رومانسية حول هؤلاء المصارعين لأنهم كثيراً ما يلاصقون الموت أثناء المصارعة ! لكن لا بد لي من الاعتراف بأن تصرفي لم يقل سخافة عن تصرف فتاة مراهقة تشغف بنجم سينمائي ! كنت الحقه هنا و هناك وأذهب الى الأماكن التي اعرف انه سيتوجه اليها .
فسألتها سوريل :
-هل علم بشعورك نحوه ؟
-هذا ما ظننته . على الأقل ، لم يدر لي ظهره ابداً وطالما تزلجنا معاً ، لكنك كنت اكثر حظاً مني اذ لم أقدر ابداً ان اجلس واياه منفردين . ثم مضت فترة طويلة لم أره خلالها وصارت الحاجة الى رؤيته تزداد في نفسي يوماً بهد يوم . كنت أعلم عنوانه من ايزابيلا ، وهكذا ذهبت ذات يوم الى مزرعته بسيارتي . اعتقد اني كنت مزمعة وقتها على ترك رامون والبنتين في حال رضي خوان أن يبقيني معه .
-ماذا حدث ؟
فغمغمت مونيكا مجيبة :
-اتمنى احياناً لو اني ما قصدته ابداً . اوه ، حدث شيء مريع ، مهين ... ومع ذلك اعتقد انه كان عقاباً عادلاً على طيشي . لا ... لا أستطيع اخبارك ما حدث ، الاّ انه اعادني الى رشدي وجعلني أعي مدى تهوري . خرجت من بيته أعدو و صعدت الى سيارتي . كان هدفي الوحيد ان ارجع الى هنا ، الى حيث الأمان و الضجر و رامون ... قدت السيارة بسرعة هائلة وعند أحد المنعطفات انحرفت بها عن الطريق . عندما استعدت وعيي في المستشفى تظاهرت بأني نسيت أين ذهلبت ذلك اليوم. أملت ان لا يكتشف رامون الحقيقة ابداً لكنه كان يعرفها طوال لاالوقت . وهكذا يعتقد الآن بوجود علاقة سابقة بيني وبين خوان ، وبأننا نحاول اليوم احياء تلك العلاقة ، وهذا غير صحيح ، غير صحيح ، لكن الدلائل كلها ضدي يا سوريل ، ولا تبدو هناك أية طريقة تمكنني من أن اثبت له عكس اعتقاده .
-هناك طريقة واحدة .
انحنت مونيكا قليلاً وسألت بلهفة :
-ما هي ؟
-بوسعك أن تطلبي الى خوان رينالدا أن يأتي و يوضح لرامون الحقيقة .
-لكن كيف يمكنني ان افعل ذلك ؟
-اكتبي اليه ، أو ربما بوسعك أن تخابريه بالتفون .
-لا . لا استطيع . فبعد ما حدث في المزرعة لا يمكنني ذلك ، سيكون الأمر في ... منتهى الاذلال بالنسبة الي .
فقالت سوريل بصبر :
-اسمعي ، اذا كنت تريدين زواجك فعليك أن تجازفي بتعرضك لبعض المهانة . ان طلب المساعدة من رينالدا هو في رأيي الطريقة الوحيدة لاقناع زوجك بأنه كان مخطئاً في ظنونه ، ليس فقط بشأنك بل بشأني كذلك .
فبدا الغضب على مونيكا وأجابتها بانفعال :
-اذن ، اذهبي أنت و اطلبي الى خوان بأن يأتي ويكلم زوجي ! اذهبي الى مزرعته واكتشفي أي نوع من الاستقبال ستواجهين !
وضعت سوريل يديها في جيبي روبها ، وأجابت على تحدي مونيكا قائلة بصوت هادئ :
-حسناً ، سأفعل . لكن عليك أن ترشديني الى كيفية الوصول الى هناك .
حدقت اليها مونيكا بذهول ثم سألت ببطء :
-انت تقصدين ما تقولين ، اليس كذلك ؟
-بالطبع ، اعني ما اقول ، فلقد فصلت من عملي بطريقة جائرة و بلا رسالة تزكية ولا يمكنني أن أرضخ بصمت لما حصل . يجب أن أفعل شيئاً لأبرئ سمعتي ، ولأتمكن في الوقت نفسه من مساعدتك على ترميم زواجك وذلك بتوضيح الحقيقة لزوجك .
-لكني لست متأكدة يا سوريل ان كان يجب ان اسمح لك بالذهاب .
-ليس باستطاعتك أن تمنعيني ! في أي حال ، لقد ذهبت مرة بنفسك فلم لا أذهب أنا أيضاً ؟
فتمتمت مونيكا قائلة :
-ما كان يجب أن أتهور بالذهاب . هذه ليست انكلترا كما تعلمين . انها بلاد كبيرة عنيفة وأهلها لا يتصرفون دائماً بطرق راقية متحضرة . لنفترض أن شيئاً حدث لك ، فماذا سأقول لأمي أو لأبويك ؟
-وماذا يمكن أن يحدث ؟
-قد يخطفك أحد أو يسرقك باستعمال العنف أو يغتصبك حتى .
-هل حدث لك أي من هذه الأشياء ؟
-كلا . لكني ذهبت في سيارتي الخاصة . أما أنت فعليك أن تأخذي الطائرة الى مانيسالاس ومن ثم تستعينين بشكل من أشكال النقل المحلي ، لست متأكدة من أنواع المواصلات هناك ، كما أن المزرعة بعيدة جداً ، وقد يتصرف معك خوان بشراسة فتضطرين الى ايجاد طريق عودتك...
فهتفت سوريل :
-هل لك أن تكفي عن القلق ؟ لن يحدث لي شيء ، ومادمت أعلم الآن كيف ابدأ الرحلة فسأعرف كيف اكملها بنجاح . سأدع بيدرو يأخذني الى المطار وكأني ذاهبة لاستقل طائرة الى انكلترا ، وبدلاً من ذلك سوف استقل واحدة الى مانيسالاس . سأجد طريقي الى المزرعة بشكل ما ، وأحاول العودة غداً ، الاّ اذا استطعت اقناع رينالدا بأن يأتي هذا المساء .


بعد ساعة كانت حقائبها مودعة بأمانفي احدى خزائن المطار ، وهي داخل طائرة تقلها الى مانيسالاس . أخذت معها حقيبة سفرصغيرة في حال اضطرت الى المبيت في ايبارا أو في مانيسالاس بعد زيارتها لمزرعةرينالدا . كانت واثقة تماماً من نجاح مهمتها فمن المؤكد ان مصارع الثيران سيسارعبلهفة الى انكار التهم الزائفة التي الصقت به .
لدى وصولها الى مانيسالاس ، قيللها في مكتب الاستعلامات السياحي في المطار ان باستطاعتها الوصول الى ايبارا بواسطةالباص المحلي الذي عليها أن تستقله من الساحة الرئيسية والذي يغادر في الساعةالثانية تقريباً . شعرت سوريل كأنها في اجازة . فاستمتعت بالرحلة في ذلك الباصالهرم و المطقطق . لم تكن المناظر برية كما توقعت بل أشبه بمنتزه فسيح ذي اراضٍعشبية مشمسة ، مرقطة بشجيرات صغيرة أو غيض أشجار ، و يخترقها نهر متلألئ تتدفقمياهه على الصخور العديدة . كانت ايبارا عبارة عن مجموعة بيوت طينية ذات أسطح من التنك المغضن أو من القرميدالعتيق الذي تحوّل لونه ، بفعل التقلبات الجوية الى لون رمادي مخضر . سائق الباصأشار الى سوريل بأن تسأل في الفندق عن طريقة نقل توصلها الى مزرعة رينالدا ، وبعدأن ترددت لبضع لحظات بسبب رهبتها من مشهد الفندق المتداعي ، عبرت ابوابه المهتزهالى ردهة المدخل المعتمة .
ولما اعتادت عيناها على العتمة رأت أن هناك عدة رجاليجلسون بارتخاء امام المقصف ، وأنهم توقفوا عن الحديث و الشراب ليحدقوا اليها بدهشةشديدة .
-ماذا تريدين يا سنيوريتا ؟
كان المتكلم امرأة قصيرة مكتنزة ذات شعرأسود مبعثر و بشرة دهنية ، تدخن سيكارة بنية طويلة و تحمل صينية مكدسة بالأطباق . فأجابت سوريل وهي تجعد انفها قرفاً من رائحة المكان وقذارته :
-اني ابحث عنسيارة توصلني الى مزرعة رينالدا .
فأشاحت المرأة برأسها الى شخص كان يقف خلفسوريل ونادت قائلة :
-بانشو ؟ وجدت لك راكبة .
ثم القت على سوريل نظرةتقييمية من عينين يضيقهما دخان السيجارة ، وقالت لها :
-سيأخذك بانشو وستكونينمعه في أمان لأنه يعمل لدى رينالدا .
بعد خمس دقائق كانت سوريل تتمسك بمقبضالباب داخل شاحنة ثابتة تشقطريقها قفزاً على طريق محددة متعرجة ، وتساءلت ان كانتفي أمان فعلي مع بانشو الذي عكف على قيادة الشاحنة بسرعة هائلة وكأنه لايعرف معنىالتمهل .
سألها صارخاً ليطغى صوته على ضجيج المحرك :
-لماذا تأتين الىالمزرعة ؟
-لأقابل السنيور رينالدا لأمر هام .
-هل يتوقع قدومك ؟
-اجل .
ليست هذه الحقيقة تماماً لكن خوان رينالدا طلب أن تتصل به في حال واجهت مشاكلمع مخدومها . وعاد بانشو يسألها زاعقاً :
-هل أنت اميركية ؟
لم يكن السؤالجديداً بالنسبة اليها وقد رح عليها عدة مرات منذ مجيئها الى كولومبيا، فحين يسمعهاالناس تتكلم الاسبانية بلهجة انكليزية خفيفة يفترضون فورا انها من الولايات المتحدةالاميركية. اجابته:
-لا، انا من انكلترا.
فأهداها ابتسامة عريضة بيضاء،وهتف:
-يا الهي! انها بعيدة جدا من هنا. حسبتك صديقة للسينورا لأنها كانت تعيشفي اميركا.
اية سينورا يقصد؟زوجة خوان رينالدا؟ بالطبع، لماذا لم تفطن الى هذامن قبل؟ الان فهمت لماذا ذكرت مونيكا تعرضها للاذلال حينما زارت المزرعة. لابد انهاالتقت بزوجة خوان رينالدا. سرها ان تتسلح بهذه القطعه الجديدة من المعلومات فأحستبمودة مفاجئة نحو الشاب الذي يقود الشاحنة. سألته:
-ماذا تعمل فيالمزرعة؟
-اعمل مع الثيران واتعلم من "الشجاع" كيف اصبح مصارع ثيران. في الوقتالحاضر انا مجردمروض، اغرز الرماح في الثور كي اجعله يتهيج في الفصل الاول منالمصارعة. هل تفهمين ما اقول؟فلم تملك الا ان تقول:
-ياللثور المسكين! الا تخافان تخرج كما حصل للسينور رينالدا؟
-اجل. اخاف، لقد جرحت مرتين لغاية الان، لكنمصارعة الثيران تشكل امتحانا عظيما لشجاعة الرجل، يقولون ان "الشجاع"فقد جرأته بعدمصارعته الاخيرة لانه اصيب بجرح بالغ. لكنني لا اصدق ذلك.
ثم خفض بانشو صوتهوقال بهمسة دراماتيكية:
-لقد حضر تلك المصارعة. رأيتهم يحملونه خارج الحلبةووجهه كتلة من الدم وثيابه ممزقة.
فأحست سوريل بغثيان لم يتسبب فقط عن ترنحالشاحنة وقالت بسرعة:
-اوه،ارجوك،لاتخبرني المزيد... اعتقد ان مطلق انسان يجرفالثور لحمه من شأنه ان يفقد جرأته.
-لكن ليس خوان رينالدا ابمن رودريغو رينالداوعضو اشهر العائلات الاسبانية في مصارعة الثيران! انا محظوظ جدا لكوني اتعلم منشجاع اين شجاع. انظري سنيوريتا. لقد وصلنا البيت تقريبا. اليس جميلا؟
كان بالفعلجميلا. بناء مستطيل، منخفض ومترام، له نوافذ صغيرة مغطاة بحواجز حديدية مزخرفة،يقوم على ارض مرتفعه تطل على النهر الجاري. خلفه، كانت الاراضي تتالق تحت اشعةالشمس، وعلى جدرانه البيضاء ظلال سوداء تطرحها شجيرات مزهرة. الدرب الذي اقترباعليه الى البيت، انعطف حول الجدران البيضاء ثم تحت قنطرة والى ساحة رئيسية حيث اوقف بانشوالشاحنة والتفت الى سوريل يقول ببسمة انشراح:
-هاقدوصلت. سأنزلك هنا
مد ذراعهمن امامها وفتح الباب الى جانبها لتهبط واردف:
-اذهبي الى الباب هناك. مدبرةالمنزل ستعلم السنيور رينالدابقدومك. مع السلامة.
فترجلت وصفقت الباب خلفها . تحركت الشاحنة من جديد وانطلقت بسرعة مثيرة الغبار لدى مرورها العاصف تحت القنطرة. وقفت سوريل وحيدة، تصغي الى صدى المحرك المتباعد وتتأمل ماء ينساب على تمثال برونزيلصبي قائم في منتصف بركة صغيرة تحيط بها اكوام من الزهور.
استدارت على مهل صوبالبيت وحرارة الشمس تلسع ظهرها وعنقها. مرت تحت قنطرة ثانية الى رواق مسقوف مبلطالارضية ويلف البيت من ثلاث جهات. اما الباب الخشبي الثقيل فذو مفاصل حديديةمزخرفة، وقبضة عبارة عن حلقة ضخمة من الحديد ذاته. كانت على وشك ان تقرعه حين فتحالباب فجأة، هتفت الشابة التي فتحته:
-يالهي! لقد ارعبتني! من انت؟ ماذا تبغينهنا؟
كانت طويلة مكتنزة،ترتدي تنورة بنية مخملية وجزمة طويلة من الجلد البني. بلوزتها حريرية بلون الكريم، وسترتها قصيرة تشد الخصر، بنية مخملية كما التنورة. اما شعرها فكان بنيا غامقا ذا غرة جانبية تطل على عينين رماديتين متباعدتين ومعقوصاالى خلف بتسريحة ذيل الفرس. وعلى يدها الممسكة بحافة الباب رأت سوريل عدة خواتم،معظم فصوصها من الزمرد والماس وذات الق وهاج شد بصرها بانسحار. تحت الخواتم رأتمحبسا ذهبيا سميكا. وفجأة، قالت الشابة بلهجة اميركية على انكليزية:
-حسنا، انتلا تفهمين الاسبانية. سأحاول ثانية. من انت وماذا تريدين؟
فاقتلعت سوريل بصرهامن الثروة المتألقة على اصابع الشابة وقالت:
-اسمي سوريل برستون. جئت لاقابلالسنيور خوان رينالدا. اهو موجود؟
اتسعت العينان وراحت نظرتهما تجرف سوريل منقمة شعرها الاحمر كورقة سنديان خريفية الى بلوزتها القطنية الصفراء وتنورتهاالغجرية المزهرة وحتى صندليها الجلديين البنيتين، وغمغمت:
-يالهي! ماذا تراه فعلالان؟
ثم استجمعت شتات نفسها واضافت ناظرة في عيني سوريل:
-كلا، انه خارجالبيت يلاحق الثيران في مكان ما على اراضي المزرعة، يجب ان يأتوا بها استعدادالمصارعة يوم غد. يمكنني ارسال شخص لاستدعائه ان كنت لاتمانعين في الدخولوالانتظار.
اجابت سوريل وهي تعبر العتبة:
-شكرا. كيف عرفت انني اتكلمالانكليزية؟
فردت الاخرى بصوت هادئ:
-من ثيابك. تفضلي، من هنا.
قادتهاالمرأة الى غرفة واسعة مستطيلة تطل على مروج مشمسة تنحدر الى تلال مشجرة مستديرة،وسألتها:
-كيف جئت؟
شرحت لها سوريل التفاصيل فأومأت برأسها. جلست على حافةمكتب انيق وقالت:
-سمعت صوت شاحنة وهذا ماجعلني افتح الباب, كنت انتظر وصولسيارة من كوبايا لتحملني بعيدا من هنا. لقد سئمت هذا المكان.
طوحت يدها البراقةفي حركة شملت الغرفة وما وراءها واردفت:
-اني راحلة. منذ مدة وانا افكر فيالرحيل لكنني لم اطلع خوان على قراري الا مساء امس. منذ متى تعرفينه.؟
-لقد... التقينا... يوم الاحد.
فاتسعت العينان مجددا، ثم قوست الشابة عنقها الرائعواطلقت ضحكة طويلة. رمقت سوريل بنظرة ناقدة وقالت:
- ما اسرع خوان في التحرك!هللديك طباع حاد تنسجم مع شعرك الناري البديع؟ اذا كان الامر كذلك، سيواجه خوان اياماعصيبة يستحقها! لقد حان الوقت لان يجد من يروضه!
هبطت عن المكتبواردفت:
-استأذنك الان لاكمل توضيب حقائبي. سأطلب من احد الصبية ان يستدعي خوان. في رعاية الله يا سنيوريتا وتمنياتي لك بالتوفيق. لقد مرت ستة اشهر على وجودي هنا،انما لدي شعور غريب بأنك ستمكثين مدة اطول ، اطول بكثير...
غادرت الغرفة بسرعة ،مثيرة في سوريل شعورا جارفا من الحيرة. هل جاءت في اللحظة المناسبة لتشهد زواجايتحطم؟ فمع ان المرأة لم تعرفها باسمها ، الا ان سوريل مقتنعه بانها زوجة خوان،السينورا التي ذكرها بانشو وقال انها جاءت من الولايات المتحدة.
لقد تكلمت الانكليزية بلهجة امريكية، وتلبس محبسزواج، اضافة الى قولها انها سئمت العيش هنا. ستة اشهر! قبل ستة اشهر جاءت مونيكاالى هذا البيت الجميل وتعرضت لمهانة واذلال. من اهانها؟ الشابة التي تركت الغرفةلتوها؟ ربما... وهل اهينت مونيكا هنا، وسط كل هذا الجلد الاحمر والستائر الحمراءوالخشب الداكن والزخارف الفضية والنباتات المعربشة والصور الفوتوغرافية العديدة علىالجدران؟
انفتح الباب فتقلصت عضلاتها اذ توقعت رؤية خوان رينالدا يدخل عليها ،لكنها رات امرأة هجينة ضئيلة ،تتقدم بصينية عليها ابريق قهوة وفنجان وطبق حلوى. قالت المرأة وهي تضعها على طاولة قرب مقعد سوريل:
-طلبت السنيورا انيز ان اتيكبهذا، وقد ارسلت تستدعي السينور خوان.
-شكرا
-لاشكر على واجب.
استدراتالمرأة صوب الباب فاستوقفتها سوريل قائلة بسرعه:
-لحظة من فضلك. اود التكلم معثانية مع السنيورا.
-لاجدوى من ذلك فقد رحلت.
ثم غادرت الغرفة بهدوء كمادخلت. احست سوريل بحاجتها الى شراب ينعشها فسكبت القهوة في فنجانها واخذت تقضم قطعةحلوى من جوز الهند، وهي تأمل ان ياتي خوان في اقرب وقت.
وبعد فنجان ثان منالقهوة وقطعة من الحلوى نهضت تجول في ارجاء الغرفة وتتامل باعجاب نماذج رائعةلمعدنيات هندية محلية، معروضة في خزانة زجاجية الواجهة من خشب الورد. العديد منالقطع النحاسية والبرونزية كانت نسخا طبق الاصل عن قطع من الذهب الخالص شاهدتها منقبل في زيارتها الوحيدة لمتحف مصرف الجمهورية في يوغوتا. وفي خزانة اخرى رات مجموعةمن الاثريات الفضية، قدرت ثمنها بالوف الجنيهات.
انتقلت الى الصور الفوتوغرافيةالتي تغطي معظم مساحات الجدران ، وكل واحدة تظهر مشهداً متحركاً في مصارعة ثيران ،اضافة الى صورتين نصفيتين ، احداهما لرجل خمنت انه رودريغو رينالدا ، والد خوان ...
عينان قاسيتان وفم مائل في وجه نحيل خشن . اما الصورة الثانية فتمثل امرأةشقراء الشعر ذات عينين رماديتين ضاحكتين . زوجته ؟ والدة خوان؟ وفيما هي تحملق فيهاشعرت فجأة بخفوت ضوء الشمس فنظرت بسرعة الى ساعتها واذا بها تناهز السادسة . كانتالشمس تغرب ، ومن خلال النافذة استطاعت رؤية الحقول تتألق كذهب عتيق تحت اشعة تميلعليها من تحت غيوم رمادية ملبدة ، تنذر بالمطر .
حان الوقت لأن ترجع الى ايبارا، لكن خوان لم يظهر بعد . ثلجت الخيبة اطرافها ... هل اخطأت غابرييلا في التعرف الىشخصيته ؟ ربما اتضح في النهاية ان الرجل الذي قضت معه ليلة في الملجأ هو غير مصارعالثيران الشهير ؟ كم ستشعر بغبائها وهي تشرح لرجل غريب تماماً ، سبب مجيئها لرؤيته ! وراحت تحدق بذعر الى الصور ، علها تجد صورة تشبه الرجل الذي التقته . عجزت عنالرؤية الواضحة بسبب العتمة المتزايدة فأشعلت أحد المصابيح الكهربائية واستدارت الىالجدار المقابل حيث بدت نوعية الصور اكثر عصرية . لم تجد بينها صورة نصفية . جميعهاتظهر مشاهد مأخوذة أثناء الصراع ، الثور يخفض قرنيه وهو يهجم بجنون على رجل في لباسالمصارعين يمسك بعباءة لصق جسمه . استحال عليها ان ترى وجه الرجل . و لكن ، أليستوقفته مألوفة ؟ وتوالت هذه المشاهد المتشابهة حتى توقفت أمام الصورة الأخيرة وحيثاصيبت برعدة خفيضة لأن الثور كان يقذف الرجل في الفضاء . الم تؤخذ هذه الصورة فيمصارعة رينالدا الأخيرة ؟
جلّست ظهرها وحدقت الى صور اخرى ثم أحست بالصمت المخيمعلى البيت . لم يأت خوان رينالدا لأنه لم يعرف اسمها ، لأنه غير الرجل الذي التقتهفي الملجأ ! يجب أن تغادر هذا البيت فوراً . هرعت تلتقط حقيبتها الصغيرة وما انتقدمت في اتجاه القنطرة المؤدية الى الردهة حتى قفزت مندهشة وغطت فمها بيدها لتمنعنفسها من الصراخ . رأت شخصاً في العتمة ، يقف ساكناً يراقبها ، وفيما هي تشخص اليه، دخل الغرفة ببطء واذ به ، في ضوء المصباح ، رجل متين البنية يرتدي بنطلوناً ،داكناً ، فضفاض الرجلين وسترة جلدية مفتوحة حتى الخصر . رجل تبرق عيناه الرماديتانفي وجهه النحيل الأسمر وعلى الأيمن ندبة طويلة ، قال لها :
-مساء الخير يا سوريل، اعتذر لأنني جعلتك تنتظرين ، لكني حسبت انيز تمارس معي لعبة احتيال عندما قيل ليان هناك امرأة انكليزية ذات شعر احمر تنتظر رؤيتي ، ولذا تقاعست عن المجيء . ان لهاطريقة خبيثة في المزاح .
غمرها الارتياح لكون غابرييلا لم تخطئ التعريف ، فأحستارتجافاً مفاجئاً في ساقيها وخفقاناً في قلبها . ارتياحها هو حتماً السبب الحقيقيلانفعالها ،
وليس فرحها برؤيته . تمالكت نفسها ، فوقفت أمامه متماسكة وقالت بصوت فاتر :
-كنت على وشك الذهاب .
مر من أمامها وتقدم ليجلس على حافة المكتب كما فعلت تلك الشابة التي افترضت انها زوجته . قال لها :
-لاحظتك تتأملين الصور ، هل تروق لك مصارعة الثيران ؟
-لم ... اشهد اية مصارعة . هل كل تلك الصور لك انت ؟
-نعم . و معظمها التقط اثناء مصارعتي الأخيرة .
فألقت نظرة سريعة على التي تمثله مقذوفاً في الفضاء وأشاحت عنها مرتعدة واذ بها تواجه بريقاً ساخراً في عينيه الراصدتين حركاتها . فغمغمت قائلة :
-لم اكن ادرك أن المصارعة قد تؤذي المصارع و الثور معاً . انها لعبة قاسية ومحطة للكرامة .
-اهذا رأيك ؟ هي في الواقع أقل خزياً للرجال من خزي الملاكمة أو المصارعة البدنية ، وأقل قسوة على الثيران من قسوة سباق الحواجز على الخيول . فالثيران الشجاعة يصفق لها الناس هنا مثلما يصفقون للرجال الشجعان .
ابتسم لها واردف :
-لكنك لم تأتي هنا لنناقش هذا الموضوع . تفضلي بالجلوس و دعيني أقدم لك شراباً.
انزلق عن حافة المكتب وسار الى خزانة مقفلة فتحها و قال :
-اتحبين شراب قصب السكر ؟ انه منعش و لذيذ المذاق .
-ارجوك ، لا تزعج نفسك . يجب أن أذهب .
سار الى حيث تجلس وقدم لها احدى الكأسين قائلاً :
-ليس قبل ان تطلعيني على سبب مجيئك . البنت غابرييلا عرفتني صباح امس ، اليس كذلك ؟
-اجل .
-يالسوء الحظ! اذن واجهت متاعب ؟
اومأت بالايجاب ورشفت الشراب متذكرة انها لم تأكل شيئاً مغذياً منذ وجبة الافطار . و قال برقة :
-ضعي حقيبتك جانباً وتعالي نجلس لتروي لي كل ما حصل .
أخذ الحقيبة من يدها وألقاها على الارض ثم قاد سوريل الى مقعد مزدوج من خشب الماهوغاني مكسو بقماش مزين بالرسوم كان يملأ فجوة النافذة . أدهشها لطفه وطغى عليها فلم تبد أية مقاومة . و قال يحثها :
-والآن ، ماذا حدث ؟
-فقدت عملي .
أطلق سباباً بذيئاً بالاسبانية مما جعلها تنظر اليه جفلة ، فقال باسماً :
-انها لغة خاصة بمصارعي الثيران ... هل ذكر لك السبب الذي حداه الى فصلك ؟
-قال السنيور انهل انني كذبت عليه وتعمدت اخفاء هويتك حين زعمت ان اسمك دومينغو . واعتبرني غير اهل للثقة واتهمني بتورطي مع زوجته في مؤامرة و لهذا لن يسمح باستمرار اقامتي في بيته ... لماذا لم تطلعني على اسمك الحقيقي ؟ لماذا كذبت علي ؟
حدّق اليها للحظة ثم اشاح وجهه عنها و قال مسنداً ذراعيه على ركبتيه :
-الشرح ليس سهلاً ... لكني حالما علمت انك تعملين لدى رامون انهل توقعت ان تجابهي مشكلة اذا اكتشف انك قضيت الليل معي انا بالذات .


توقف ليرشف من كأسه ثماضاف بصوت مشحون بالمرارة :
-ان نجاحي كمصارع ثيران اقتضى مني ان اعيش القسمالاكبر من مراهقتي تحت اضواء الشهرة الساطعة . كنت اذا نظرت فقط الى احدى النساءيفترض الناس فوراً انها عشيقتي أو انها ستصبح كذلك .
التفت اليها من وراء كتفهوسألها مقطباً :
-اتفهمين ما أعني ؟
-أظن ... ذلك .
-اذن قد تفهمين ايضاً، لماذا فكرت أنه من الافضل لمصلحتك الاّ اذكر لك اسمي الحقيقي ، وذلك خشية انتذكريه لمخدومك . انا لم اكذب ، فدومينغو هو اسمي الثاني .
جرع بقية الشرابمحدقاً الى الكأس الفارغة :
-لقد فشلت خطتي ويؤسفني جداً انك فقدت عملك بسبباضطرارك الى قضاء الليل معي .
استدار فجأة صوبها ثم مد ذراعه على ظهر المقعد وقال ناظراً اليها من بين اهدابه الكثيفة :
-حين افترقنا امس لم يخطر لي اننيسأراك ثانية بهذه السرعة .
شعرت باشارات خطر تتعرج في داخلها . كان قريباً جداًفتحس الدفء ينبعث منه . كانت ممزقة بين رغبتين ، رغبة في لمسه و الاستسلام لدعوةالحب المتألقة في عينيه ، و رغبة فيالقفز و الهرب من الغرفة و من البيت ، و العودة الى ميدلين بأقصى سرعة ممكنة . العودة الى ... كيف وصفتها مونيكا ؟ آه ... العودة الى الأمان و الضجر .
لكنهالم تنفذ أياً من الرغبتين . تحاشت نظرته المركزة و نظرت الى كأسها قائلة :
-لولم تلح علي مونيكا بالمجيء لما أتيت . انها توافقني على أنه من الظلم أن افقدوظيفتي و أحمل وزر ذنب لم اقترفه .
لقد كذبت قليلاً ، لكن مبالغتها قد تجعلهيدرك انها لم تأت فقط لتراه و تجعله بالتالي يلتزم حدوده .
-أنا أوافق أيضاً ، وليتني استطيع اصلاح الأمور ...
فقاطعته قائلة بلهفة :
-اوه ، بوسعك أن تصلحهاو ذلك بأن تعود معي الى ميدلين لتقابل رامون انهل وجهاً لوجه و تخبره بأنك لمتتواطأ مع مونيكا على استعمالي كوسيط.
-المعذرة ، اني لا افهم معنى لكلامك .
لقد ابتعد عنهاعلى الأقل ، و عاد نبضها الى طبيعته . قالت موضحة :
-اصرتمونيكا على أن أرافق الفتاتين في رحلة التزلج مما جعل زوجها يعتقد الآن ، أنالتقائي بك كان خطة مدبرة ، أي أنها طلبت الي أن أجدك لأبلغك رسالة منها و انقلاليها رسالة منك .
تبخر الدفء من عينيه وبدتا قاسيتين و باردتين كما الصوان .
-رسالة ؟ من أي نوع ؟
فأجابته بحدة :
-لم اتورط في شيء كهذا من قبل ولذالا يمكنني الاجابة على سؤالك .
شعرت سوريل بالأمان حين نهض واقفاً وسار بعيداًليملأ كأسه من جديد. فتابعت تقول :
-لكنني اعلم أن رامون انهل يعتقد أن زوجته ،أو أنت ، أو كليكما ، يحاول احياء العلاقة التي كانت بينكما قبل حصول الحادثة .
استدار ليوجهها و قال بسخرية قاسية :
-مع امرأة مقعدة ؟
فردت بحدةمماثلة :
-ستتمكن من المشي عما قريب ، فمنذ بدأت أشرف على تمارينها و تدليكها ،تحسنت كثيراً عن ذي قبل
-فهمت .
وضع كأسه جانباً ، وسار اليها ليقف امامهامشبوك الذراعين منفرج الساقين و قال :
-و هل تعتقدين حقاً ، أنني اذا قصدت رامونانهل و أفهمته بأني لا اهتم بتاتاً باعادة هذه العلاقة ، ستستردين وظيفتك ، وستسترد هي ثقته بها ؟
ضايقها ارتيابه الواضح ، فاستقامت في جلستها وواجهت نظرتهالساخرة بقولها :
-لو لم أعتقد أن الأمر جدير بالمحاولة لما جئت اليك . هلا فعلتذلك من فضلك ؟
فأجاب بصوت حازم قوي :
-كلا . لا استطيع .
-لكنك قلت انكتود اصلاح الأمور ؟
-اصلاحها بالنسبة اليك لا بالنسبة الى تلك التافهة التي ورطتنفسها بنفسها من خلال تصرفاتها الحمقاء ! الى أين تذهبين ؟
كانت ، لشدة غضبها منموقفه الساخر اللاذع ، قد قفزت واقفة و هرعت تحمل حقيبتها لتخرج من الغرفة لكنهاتوقفت فجأة حين وجدته امامها ، يسد فتحة القنطرة بقامته و ذراعيه الممدودتين . فقالت بنظرة متأججة :
-اريد العودة الى ايبارا .
سألها بلطف :
-لم انتغاضبة مني الى هذا الحد ؟
-بسبب موقفك من مونيكا! قد تقول بعد قليل ، انها هيالتي ركضت وراءك بدون أن تحرك أنت ساكناً !
-هذا صحيح ، فأنا لم اركض وراء ايةامرأة في حياتي .
فهتفت بصوت ثائر :
-تعني أن النساء كن يركضن دائماً وراءك ! اوه ، ما أشد غرورك !
-لماذا انا مغرور ؟ لأنني ذكرت الحقيقة ؟ مونيكا انهل هيالتي كانت تلاحقني الى السومبريرو لتتزلج نعي في كل مرة اذهب الى هناك و لم اطلباليها ذلك . كما لم ادعها انا الى المجيء الى هنا ، لتعتدي على خصوصيتي .
-لابدانك فعلت شيئاً . لا يعقل أن يكون كل ذلك قد حصل من جانب واحد.
-بل حصل ، فهيليست من النوع الذي يمكن له ان يجذبني ، ولو أن رامون انهل كان يقوم بواجبه الزوجيكما يجب لما اضطرت هي الى البحث عن صديق .
وهنا لاحت على جانب فمه ابتسامة خفيفةورقت عيناه وهو يتابع :
-هناك طرق عديدة لارضاء الزوجةولتحبيبها الى بيتها ، ومعظمها طرق ممتعة جداً.
-اذن ، ما الذي منعك من استعمالهذه الطرق مع زوجتك نفسها ؟
سقطت ذراعاه الى جنبيه و قال محدقاً اليها بذهول :
-زوجتي ؟ انا لست متزوجاً .
-اوه ، انت بالفعل لا تطاق ! حسناً ، ليس لكزوجة لأنها تركتك .
-بماذا تهذين بحق السماء ؟
-زوجتك كانت هنا بعد الظهر . هي التي أدخلتني وأرسلت تخبرك انني هنا. اسمها انيز.
حدق اليها بنظرة متأملة وهويكتف ذراعيه ويتأرجح على قدميه ، ثمابتسم بالتواء وتشدق قائلاً:
-آوه ، نعم ،انيز انها جميلة ، اليس كذلك ؟ لكنها ليست زوجتي .
-اوه .
أحست للحظة انهاغبية جداً ، لكن حين فطنت الى حقيقة علاقة اخرى ، لابد انها تربطه بأنيز ، احستبسخونة تصبغ وجنتيها وبرغبة ملحة في الهرب من ذلك البيت فوراً . تذكرت تحذير مونيكافغمغمت وهي تتقدم الى الردهة :
-ماكان يجب أن اتهور بالمجيء الى هنا ..
لكنهسد طريقها ثانية وقال برقة :
-ومع ذلك انا مسرور لأنك اتيت ، وأرجو انتبقي.
-ابقى هنا ؟
كم هو وقح هذا الرجل ليقترح عليها البقاء ! خنقها الغضب ثمتنفست بعمق و تابعت :
-لابد انك تمزح ! سأرجع الى ايبارا لأبيت فيالفندق.
فأجابها متحدياً:
-وكيف ستصلين الى هناك ؟
-مشياً على قدمي . هللك ان تفسح لي الطريق ؟
حاولت ان تزوغ منه يمنة ويسرة الاّ انه كان يستبقها ويسد طريقها . انه يتحرك بسرعة الفهد ولن تنتصر عليه في هذه اللعبة . اذعرها فشلهاففقدت اعصابها و صرخت :
-اوه ، هل لك ان تكف عن معاملتي كواحد من ثيرانكالمسكينة ، وتدعني امر ؟
-هذه مقارنة صائبة فأنت كثور صغير ، ثور احمر عصبي ،وتريدين تمزيق لحمي .اتعلمين ان لدينا رقصة في كولومبيا تسمى التشتشيمايا وحيث تمثلالمرأة دور الثور وتحاول ظعن شريكها ؟ اذن حاولي مرة ثانية ، ايتها الثورة الصغيرة، وانظري ماسوف يحدث لك .
اثارتها سخريته ، فاندفعت بقوة الى الامام حين انتحىجانباً ورأت الطريق سالكة الى باب البيت . لكنه سرعان ما اعتقل خصرها بذراعه ثمالصق ذراعيها بجنبيها . فهتفت تطلب منه افلاتها وهي تضرب ساقيه بحقيبتها في محاولةركيكة لايذائه ولتجعله بالتالي يرخي قبضته . اجابها بفتور :
-لن افلتك .الآن وقداصبحت هنا ، سوف ابقيك هنا لتعيشي معي.
فشهقت قائلة :
-اعيش معك ؟ لابد انكفقدت عقلك !
ثم قذفت رأسها الى الخلف كي تستطيع النظر اليه . وتابعت بصوت ثائرلاهث :
-ادركت الان لماذا لا يسمح رامون انهل لابنتيه بأن تختلطا مع مصارعيالثيران .أنت لست فقط بلا اخلاق بل مجنون ايضاً ! لا . لا اريد العيشمعك.
-ستفعلين ذلك . بعد ان تمكثي هنا فترة من الوقت .أنت الآن غاضبة جداً الىحد لاتعرفين معه ماتريدين.
ثارت فيها نزعتها الاستقلالية فأحست نفسها ترفض بعنفاية محاولة لتقييدها ، وهتفت هائجة :
-لن ابقى ، وأنت لا تستطيع ارغامي علىالبقاء.
-اجل ، استطيع ان اسجنك في غرفة واقطع عنك الطعام الى انتستسلمي.
وللحظة ظهرت قسوته الاسبانية الموروثة في تقلص شفتيه ، وحذرها بريقعينيه الفولاذي من مغبة معارضته لكنها قالت :
-من تظن نفسك ؟ قاتل النساء ، ذواللحية الزرقاء ؟
-لا ارغب في منافسة ذلك الوحش ، بل افضل استعمال الاقناع بدلالعنف.
ثم حنى رأسه باغراء قرب رأسها وأردف :
-سوريل ، ابقي معي . سترتاحينهنا اكثر بكثير مما سترتاحين في ذلك الفندق المليء بالبق و الحشرات . ستكونين ايضاًفي امان اكبر .
-اوه ، لا ريب سأكون مرتاحة وسط هذا الترف المحيط بك . لكن ...أمينة ؟
مالت على حاجز ذراعيه مبعده وجهها عنه و تابعت :
-امينة ، معك انت؟ اشك في ذلك كثيراً.
-قضيت النهار اتساءل عن طريقة تمكنني من رؤيتك والاتيان بكالى هنا . لكنك جئت من تلقاء نفسك ولذا لن اسمح لك الآن بالرحيل .
تسللت يده الىعنقها من تحت ستارة شعرها الحريرية وجذبها نحوه ولامس فمه خدها في قبلة ناعمة وهمسلها :
-احبك يا سوريل و اريدك.
فأجابت بعذوبة ساخرة :
-كبديلة لانيز؟
وهنا ابتعد عنها فجأة فشعرت انها حققت انتصاراً مهماً عليه ، وأردفت :
-الميخبرك احد انك لاتستطيع ان تحصل دائماً على ماتريد ؟
-اجل ، سمعت ذلك عدة مراتفي طفولتي لكنه لم يؤثر فيّ بل جعلني اكثر تصميماً على نيل بغيتي او على ايجاد طرقلنيلها . لكن ماذا كنت تقولين بخصوص انيز ؟
-قلت اني لست مثلها .
-هذا صحيح . فلو كنت مثلها لما رغبت فيك .
-قصدت بأنني لست من النوع الذي يمكنك ابتياعهبالثياب الفاخرة و المجوهرات النادرة .
-لا افهم . هل لك ان توضحي ذلك ؟
-اوه . لااخالك تفهمني اكثر مما افهمك ، فنحن نختلف اختلافاً شاسعاً في نظرتنا الى كلشيء ، واهذا لن أبقى هنا لأعيش معك . تصبح على خير يا سنيور .
استدارت ومشتبسرعة على ارضية الردهة اللامعة ثم اتجهت الى الباب الخشبي الكبير ، مستقيمة الظهر، مرفوعة الرأس . توقعت بأن يلحق بها ، وتساءلت كيف ستتصرف في هذه الحال ، لكنه لميفعل ، بل لم يناديها ليستوقفها ، وهكذا استطاعت ان تفتح الباب وتغادر البيت . وحالما اصبحت خارجة ، ركضت عبر الباحة المضاءة وتحت القنطرة ثم سلكت الدرب المتعرجنزولاً على التل و المؤدي الى طريق ايبارا.

سجينة مع الثيران!


كانت حقيبتها ترتطم بساقيها وهيتهرع راكضة على الدرب المنحدر. الليل معتم جدا، فلا بيوت مضاءة ولانجوم في السماءالمغطاة بالغيوم . وبدأت تمطر، رذاذا ناعما مسمرا، مالبث ان غرق شعرها وتسلل الىجسمها من خلال ثيابها الصيفية الرقيقة. اضطرت اخيرا الى التوقف والتقاط انفاسها . فعندا خفقان قلبها ولهاثها لم تسمع سوى تساقط المطر على اوراق شجر الاوكالتبوسوخرير المياه وهي تتدق على الارض كما البرك ييدو ان لا احد لحق بها.
وعادت عبارةخوان تطرق جوانب ذهنها وتقلص شفتيها "لم اركض وراء اية امرأة في حياتي". انه مغرورمسيطر، ومئات المعجبين افسدوا اخلاقه بتملقهم لبطولاته. يجب ان تشعر بالسرور لانهلم يكسر هذه القاعدة ويجري وراءها هي.
نقلت حقيبتها الى يدها اليسرى وتابعتسيرها. لاداعي للركض ما دام ليس هناك من يلحق بها. كم تبعد ايبارا؟ حوالي عشرةكيلومترات. ما كان يجب ان تختار هذا الفصل الكولومبي الماطر، كما يسمون الشتاءهنا،لتسير في الليل بصندل مفتوح وبلا معطف واق من المطر. لابج انها مصابة بالجنوننفسه الذي اتهمت خوان به.
ليتها اصغت الى مونيكا الاكبر سنا منها واتعظتبتجربتها! لماذا اصرت على المجئ؟ لانها وثقت بصدق رجل عرفته باسم دومينغو، واعتقدحقا انه سوف يساعدها في استرجاع وظيفتها. لكنها اكتشفت انه ما اراد اصلاح الامورالا ليحصل على مأرب خاص يستفيد منه وحده. وسرعان ما اختفت الاشجار اذ وصلت الىنهاية الدرب المتصل بالطريق العام. لكن، ايا من الاتجاهين يجب ان تسلك الى ابيارا،الايمين ام الايسر؟ اجتاحها الذعر لما وعت جهلها للاتجاه الذي سلكه بانشو الىالمزرعه. ينبغي ان تتابع سيرها وتجازف بسلوك الاتجاه الايسر ، على امل ان تلتقيسيارة على الطريق يوصلها السائق الى ايبارا. بعد ان قطعت مسافة قصيرة سمعت فجأةهدير محرك وراءها مالبث ان تبعه حفيف دواليب على الطريق المبتلة ورأت المطر يتوهجفي ضوء مصباحين اماميين. استدرات بتفاؤل فسقط الضوء عليها مباشرة. مرت بها السيارةعلى مهل ثم قفزت سوريل بفرح حين اتضح انها الشاحنة نفسها التي ركبتها ذلك العصر الىجواربانشو، توقفت على مقربة منها، فهرولت صوبها وهي متأكدة ان بانشو الودود سيوصلهاالى ايبارا.
وما ان وصلت باب الشاحنة الخاص بالركاب حتى انفتح من الداخل امعنتالنظر فطالعتها قبعة عريضة الاطراف كالتي كانت على رأس بانشو سألتبحذر:
-بانشو؟
-هه؟
-اذهب انت الى ايبارا؟
-نعم
وضعت حقيبتها علىمنتصف المقعد وصعدت الى الشاحنة الدافئة ثم اقفلت الباب وغمغمت:
-الحمدلله . كمانا مسرورة لرؤيتك.
لم يجبها، لكنها ادار المحرك وتقدم قليلا ،وفجأة رعقتالدواليب حين قام بدورة كاملة على الطريق وانطلق في الاتجاة المعاكس.
ارتجفتسوريل برغم الدفء وهتفت:
-الم اكن اسير على الطريق الصحيح؟
فأجابها صوتمألوف:
-لا اظن ذلك.
-اوه، انت! اعتقد انه لاجدوى من الامل بان تتصرف بشهامةوتوصلني الى ابيارا؟
-اجل ، لاجدوى هناك، فليس من الشهامة ، في نظري، ان اوصلكاليها والقيك في ذلك الفندق المتداعي. سوف تبيتين الليلة في بيتي على الرحبوالسعه.ان اقل شيء يمكنني فعله هو ان اقدم لك منزلي حين لا تجدين مكانا اخر تذهبيناليه.
-هل تأخذني غدا الى ابيارا اذا وافقت على المبيت؟
-غدا؟هل تتوقعين فعلاان يخطط اي كولومبي لوقت بعيد كهذا؟ من يدري ماقد يحدث من بقائك معي هذه الليلة. ليس امامك خيار اخر.
وهنا انعطفا على الدرب المؤدي الى البيت، ولما توقفتالشاحنة في الفناء ظلت سوريل تجلس ساكنة حتى انفتح بابها على اتساعه وسألها خوانبصوت حازم:
-هل ستأتين ام ستضطرينني الى جرك وادخالك البيت محمولة علىكتفي؟
هبطت الى ارض الفناء فصقف باب الشاحنة وقادها من ذراعها صوب الباب الاماميالذي انفتح بهدوء لدى اقترابهما من قبل المرأة الضئيلة السوداء التي جاءت لسوريلبالقهوة قبل ساعات. ازاح خوان قبعته ونزع عباءته الصوفية المخططة بالاسود والقرمزيثم نظر الى سوريل وهتف:
-يالهي! ثيابك تقطر ماء! اذهبي مع جوفيتا لتدلك الى مكانالاستحمام.
كان جسمها بأكمله في حاجة ماسة الى حمام ساخن، ولذا سارت طوعا خلفالمرأة الهزيلة التي قادتها عبر رواق مضاء الى غرفة فسيحة مؤثثه بسرير مزدوج لهاربعة قوائم مجللة بستائر دمقسية بلون العاج والذهب، وبطاولة زينة ضخمة ذات مرآةكبيرة تحتل القسم الكبر من الجدار الملصقه به.
السجادة قرمزية سميكة،والنافذتانالضيقتان تتهدل عليهما ستائر عاجية شفافة، مزدانة الاطراف بكشاكش ومحاطةبجلالات ثقيلة مقصبة. فتحت جوفيتا بابا اخر ولجته واختفت وراءه، فسمعت سوريل صوتماء يتدقف من حنفية. بعد لحظات عادت العجوز تحمل على ذراعها رداء طويلا، مطرزا بقصبقرمزي واسود. قالت لسوريل:
-انزعي ثيابك المبللة ياسنيوريتا. لقد جئتك بهذاالرداء لتلبسيه بعد الاستحمام.
وضعته بعناية على السرير ثم عاد الى الحمام. خلعتسوريل تنورتها المبللة، فخامة الغرفة اصابتها بصدمة بسيطة، كما ان جود ديكور انثويكهذا في منزل رجل عازب اثار فيها ظنونا عديدة. هل تراها صممت واثثت خصيصا من اجلانيز؟التقطت الرداء عن سرير. حجمه اكبر بكثير من حجمها وليس لديها اي شك في هويةصاحبة لبسته وقربت فتحتيه الطويلتين من بعضهما البعض على صدرها ثم عقدت الحزامالمخملي الاسود حول خصرها بالحكام وهي تفكر في روعه الرداء البربرية والمشابههلشخصية صاحبه. وقفت جوفيتا على عتبة الحمام وقالت:
-سنيوريتا، الحمام جاهز،تفضلي.
شهقت سوريل لروعة الحمام اذ كان حلما جماليا آخر، كله مرايا وبلاطة عاجيموشي بلمسات قرمزية وسوداء ساحرة الى درجة الخيال! المغطس من الرخام الاسود، مستديروغارق في الارض، وكان مفعما برغوة عاجية
-والان ادخلي المغطس ياسنيوريتا.
ثمبادرت الى فك الحزام من حول خصرها، فتراجعت سوريل وقالت محتجه:
-كلا، ليس قبل انتخرجي من الحمام.
-لن اخرج سأبقى هنا لاساعدك.سأغسل ظهرك وشعرك كي تبدي اكثرجمالا.
ابتسمت المرأة فجأة، مظهر اسنانا معافاة، واردفت:
-هذا ما افعله دائماللسنيورا انيز.
-لا.لاشكرا. سأتدبر اموريبنفسي.
فأجابت جوفيتا بلهجة تملق فجائية:
-لكن السينور خوان اوصاني بالاعتناءبك وبتأمين راحتك اثناء اقامتك معنا، وسيغضب مني ان خالفت اوامره
ردت سوريلبعناد:
-سوف استحم واغسل شعري بنفسي، واذا حاسبك السينور رينالد! على تقصيركاخبريه عن لساني انني افضل الاعتناء بأموري الشخصية.
احدثت كلماتها الحازمةالاثر المطلوب اذ امتثلت جوفيتا لطلبها وغادرت الحمام بالرغم من القلق البداي علىوجهها. اغلقت سوريل الباب بعد خروجها ثم نزعت الرداء ونزلت الى المغطس محترقهالفقاقيع المتألقه.
ازدحمت الرغوة حولها وانعش الماء الدافئ جلدها الرطب. القتنظرة جانبية على المريا فلم تر من جسمها سوى كتفيها العاريتين وعنقها الطويل ووجههاالمحاط بشعر لاصق مبلل. كان هناك خرطوم ومرشة من الكروم فاستعانت بالمرشة على غسلشعرها بالشامبو.
جففت جسمها بسرعة ونفضت شعرها الناشف جزئيا ثم لبست الرداءالمقصب ودخلت غرفة النوم. هذه الليلة يجب ان تقوم بمحاولة هرب اخرى، قبل ان تواجهمصارع الثيران مجددا. لقد استطاع ان بعذبها في الساعتين الاخيرتين، والله وحده يعلممايخبء لها في الجولة الثانية، ولذا يجب ان ترحل قبل ان تبدا.
وفي غرفة النوموجدت جوفيتا تنتظرها بصبر، فسألها بسرعة:
-اين ثيابي؟
-اخذتها لتغسل. كانتمغمسة بالماء ولايمكنك ارتداؤها.
-لكن لا استطيع ان البس هذا طوال الوقت . انهواسع جدا. انظري بينت لها الفتحة الواسعه على صدرها وتابعت:
-تركت حقيبتي فيالشاحنى وهي تحوي ثيابا اخرى. هل لك ان تحضريها لي من فضلك؟
هزت جوفيتا رأسهانفيا وقالت:
-لا علم لي بأية حقيبة . تعالي سنيوريتا هنا امام المرآة لاجفف شعركواسرحه.
تمالكت سوريل اعصابها وجلست على الكرسي المبطن امام طاولة الزينة. خطرلها انها قد تحصل من المرآة على تعاون اكبر ان هي طاوعتها، وهكذا راحت تراقب انعكاسيديها المجعدتين وهما تفركان شعرها بالمنشفه. هنا كانت تجلس انيز ونساء عديدات منقبلها... وفجأة احست بغيرة عنيفه غير معقولة فعبست متوجعه. بدا الاهتمام على وجهالعجوز الشبيه بوجه قرد حزين وسألتها:
-هل آلمتك سينوريتا؟
-لا. كنت اتساءلفقط عن صاحبة هذه الغرفة.
-كانت تخص السنيورا.
-سنيورا انيز؟
-كلا ،السينورا جوان زوجة السنيور رودريغو، والدة السنيور خوان.
لطالما جففت لها شعرهاكما فعل الان معك. كانت طويلة ، شقراء الشعر ذهبية البشرة، عطوفة وذات ابتسامةدائمة. كانت تركب الخيول كما الرجل وتصارع الثيران ايضا. جميعنا بكيناها كالاطفالعندما قتلت.
-قتلت؟ كيف؟
- كانت تروض حصانا لكنه القاها ارضا فكسرعنقها.
-ياللفظاعه!
-اجل السنيور رودريغو اصيب وقتها بصدمة هائلة لم يشف منهاابدا كان يكبرها كثيرا بالسن، بحوالي عشرين عاما ، وقد تزوجا متأخرين ،اي عندماتقاعج هو عن مصارعة الثيران. ابتاعا معا هذه المزرعة ونصرفا الى تربية الثيرانالصغيرة الصالحة للمصارعة. كانت عائلة السنيورا جوان تملك مزرعه كبيرة فيكاليفورينا ولذا تعلمت الكثير في ادارة المزارع والان ، هل افرشي شعرك ليبدو لامعاكالحرير؟
ضربات الفرشاة اللطيفة والطويلة راحت اعاب سوريل فاسترخت على الرغممنها مستمتعه بما يحيط بها من ترف غير معتاد واحست برغبة في معرفة المزيد عن عائلةرينالدا الساحر فسألت العجوز:
-منذ كم تعملين هنا يا جوفيتا ؟
-منذ ولادةالسنيور خوان . جئت كمربية خاصة له . كنت احممه ، البسه ثيابه ،آخذه في نزهات واضعهفي الفراش . فعلت الشيء نفسه مع اخيه الاصغر . وبعد مقتل السيدة جوان بقيت لأساعدالسنيور رودريغو الذي وقع فريسة مرض شديد والى ان توفي قبل سبع سنوات . بعد ذلكذهبت لاعيش مع اختي في ايبارا ، لكن عندما اصيب السنيور خوان في تلك المصارعةالاخيرة ، رجعت لاعتني به . شفاؤه استغرق وقتاً طويلاً ، وبعد ان التأمت جراحهتغيرت طباعه.
هزت العجوز رأسها الشائب بحزن فسألتها سوريل :
-كيف تغيرت؟
-بدا الأمر كأن خوان رينالدا الذي كنا نعرفه جيداً ، قد مات فجأة وان روحاًاخرى احتلت جسمه . لقد فقد حماسته السابقة . ورفض ان يرى اياً من اصدقائه القدامى ،والتزم المزرعة طوال الوقت .
-اتظنين انه فقد شجاعته ؟
-على مصارعة الثيران ؟لا اظن ذلك لأنه استمر يصارعها هنا ليعلم بيدرو، وبعض الشبان الآخرين ، كيف يصبحونمصارعين . لكن انعزاله عن الناس و العالم اساء كثيراً الى نفسيته ، وقد فرحت جداًعندما جاء السنيور كورتيس و اقنعه بان يرافقه لحضور افتتاح مركز جديد للتزلج . ومنحينها ، بدأ يمارس هذه الرياضة بكثرة ، والآن عاد اليه اهتمامه بالمصارعة .
امسكت بثنايا شعر سوريل الكثيفة وسألتها وهي تلفها على رأسها كالتاج :
-اتحبين ان اسرح شعرك هكذا ؟ كثيراً ما كنت اسرح شعر السنيورا انيز بهذهالطريقة .
فأجابت سوريل بحدة :
-كلا ، شكراً!
فمع ان هذه التسريحة العاليةتضفي عليها اناقة رصينة الاّ ان معرفتها بان انيز كانت تصفف شعرها هكذا جعلتها تنفرمنها بشدة . وتابعت بصوت الطف :
-احبه ان ينسدل طويلاً مع فرق فيالوسط.
صففته جوفيتا كما طلبت ، و قالت :
-والآن ، هل انت مستعدة لتناولالعشاء مع السنيور خوان ؟
-ليس تماماً ، اريد الاتيان بحقيبتي من الشاحنة . لايمكنني الجلوس معه بهذا الشكل .
تخيلت ما سيكون عليه الوضع اذا جلست قبالة خوانو راجت نظراته تتلكأ على كل ما تكشفه فتحة الرداء الواسعة ، واردفت :
-يجب انارتدي لباساً لائقاً قبل مشاركته العشاء . يمكنك ان تنقلي اليه كلامي اذا شئت .
فومض في عيني العجوز بريق مرح حليم لكنها لم تقل شيئاً . وهنا استدارت سوريلاليها و قالت متوسلة :
-ارجوك ، يا جوفيتا ، اطلبي الى السنيور خوان ان يحضر ليحقيبتي من الشاحنة . لقد تركتها على المقعد وهو يعرف شكلها .
منتديات ليلاس
فأومأت جوفيتا وغادرت الغرفة ، فيما اتخذت سوريل تتجول فيها . فتحت الخزانات فوجدتها خالية منالثياب كذلك لم تجد شيئاً في ادراج طاولة
الزينة ولا في ادراج الخزانة المرافقة لها و المصنوعة مثلها من خشب الورد . ليس هناك اثر للمرأة التي احتلت الغرفة حتى صباح اليوم ، مما حملها على الاقتناع التدريجي بان انيز لم تستعملها ابداً . ولسبب غريب ما ، ارتاحت بعض الشيء انما ظلت توجس شراً من ان يكون خوان قد اختارها لتحتل مكان امرأة اخرى . جلست امام المرآة تتفحص مظهرها بعين ناقدة . الفتحة المخملية السوداء تبرز جلدها الناعم بلون الكريم ، وشعرها المسرح النظيف يشع كما الياقوت في اضواء الغرفة الخافتة . صوت عند الباب جعلها تستدير بتحفز لكنها رأت جوفيتا تعود بصينية محملة باطباق طعام ، وضعتها امام سوريل على طاولة الزينة و قالت :
-جئتك بالعشاء لكونك تخجلين من الظهور في غرفة الطعام في هذا الرداء. لديك يخنة بلحم العجل . قليل من سلطة الافوكاته ، و بعض فطائر السكر وكوب من عصير المانغا . كلي جيداً سنيوريتا.
تفهم المربية العجوز اشعر سوريل بود نحوها فشكرتها بمحبة وبدا الطعام شهياً برائحته و شكله . لكن جوفيتا كانت ستخرج بدون ان تذكر الحقيبة ، فاستوقفتها سوريل قائلة :
-لحظة من فضلك . الم تسألي عن حقيبتي ؟
-لم اقدر ان آتيك بها ، فشخص ما اخذ الشاحنة مع الحقيبة لكن السنيور خوان قال انه سيسلمك اياها غداً . الآن تناولي طعامك اللذيذ وسأعود لاحقاً لأخذ الصينية .
اذن ، هو لن يدعها تسترجع ثيابها . عصفت الظنون برأسها وهي تأكل الطعام الشهي ، وقررت ان تطلب الى جوفيتا ان تأخذها الى خوان رينالدا كي تحسم الموضوع نهائياً ، لكن حين عادت جوفيتا وطلبت اليها ذلك هزت المرأة رأسها و قالت :
-آسفة ، سنيوريتا ، فالسنيور خوان خارج البيت .
تقدمت من السرير ، فأزاحت غطاءه الدمقسي وطوته باتقان و قالت :
-يمكنك ان تنامي وقتما تشائين . أتوقع ان يأتي السنيور خوان لرؤيتك حين يعود . هل تريدين شيئاً آخر لاجلبه لك ؟
القت سوريل نظرة سريعة و مرتبكة على السرير و قالت متلعثمة :
-انا ... لا ، شكراً هل تعلمين موعد عودته ؟
-كلا . لم يعلمني به .
-اتعرفين اين ذهب ؟
-لا . سأذهب الآن اذا سمحت . تصبحين على خير .
-وانت ايضاً.

بعد خروج المربية ، جلست سوريل تفكر كيف ان محاولتها الثانيةللهرب من المزرعة قد فشلت قبل ان تبدأ حتى بتنفيذها . فهي بدون ثياب مناسبة لايمكنها ان تقطع رحلة عشوائية في الريف ، وحتى لو استطاعت الوصول الى ايبارا فليسلديها مال و لا اوراق من اي نوع تثبت هويتها .
كلها كانت في حقيبة يدها التيبقيت في الشاحنة مع الحقيبة الاخرى . وفيما هي جالسة تفكر احست فجأة بالصمت المخيمعلى البيت . اين يمكنها ان تجد بعض الثياب ؟ برقت الخاطرة في ذهنها و جعلتها تستقيمفي جلستها .
وجاءها الجواب بسرعة . ستجدها في غرفة خوان ... قميص و بنطلونيخصانه لكن يجب اولاً ان تجد غرفته . نهضت وسارت الى الباب . ادارت المقبض وجذبتهلكن الباب ظل مغلقاً بعناد . عادت تجذبه مرة تلو المرة لظنها انه يحتاج قوة اكبرلفتحه حتى تأكدت اخيراً انه مقفل من الخارج .
انحنت بسرعة ونظرت من ثقبه . لميكن فيه مفتاح!
قفز الغضب منها كألسنة اللهب واضطرت الى التعبير عنه باحتجاجعنيف...طرحت نفسها على الباب وراحت تطرق خشبه بقبضتيها وتزعق باعلى صوتها ، حتىتقطعت انفاسها . ثم الصقت اذنها بالثقب علها تسمع وقع اقدام في الممر لكنها سمعتفقط ضربات قلبها المذعور.
استدارت تبحث في الغرفة عن طريقة للهرب . سارت الىالنافذتين وازاحت الستائر الشفافة جانباً . كانت النافذتان ضيقتين ووراءهما فتحتانعميقتان . نظرت من خلال الزجاج فاستطاعت ان تميز اشكال قضبان حديدية تغطيهما منالخارج . حتى لو استطاعت فتح احدى النافذتين فلن تتمكن من اختراق هذه القضبان التيتجعل الغرفة اشبه بزنزانة سجن.
اطلقت هتاف خيبة وغضب ومشت بعزم الى الحمام . ليسفيه نافذة انما يوجد باب آخر . سارت اليه تدير قبضته وتجذبها ... بقي مغلقاً ايضاًولم تجد مفتاحاً في ثقبه . لعنة الله عليه! لقد نفذ ماهدد بفعله : اخذ ثيابهاالمبتلة و الجافة التي في الحقيبة ، وسجنها في غرفة ليس فيها اي منفذ للهرب .
لابد انه مجنون! لايمكتن ان يكون هناك تعليل آخر لتصرفه الغريب هذا .
المتقل جوفيتا ان خوان رينالدا الحقيقي قد مات ، وان روحاً اخرى احتلت جسمه بعد تلكالمصارعة التي انتهت بجراح بالغة ؟ هل هذه طريقة اخرى للقول انه باتمخبولاً؟
الساعة الاثرية الصغيرة على طاولة الزينة ارسلت طنيناً موسيقياً اعلمهاان الوقت بلغ العاشرة ليلاً . تثاءبت وتمطت . كان يوماً حافلاً و السرير المريحيدعوها اليه . نهضت واقفة حيث نزعت الرداء و القته على الكرسي واندست بين الشراشفالحريرية الناعمة التي لامست جلدها برقة منعشة . اطفأت المصباح الكهربائي المجاورللسرير واستلقت في الظلام تشنف اذنيها وهي تأمل من جهة ، و تخاف ، من جهة اخرى ، انتسمع المفتاح يدور في القفل وترى الباب ينفتح بهدوء . هل سيأتي لرؤيتها لدى عودته ؟وماذا سيحدث عندما يأتي ؟ طغى انفعالها على نعاسها ، واذهلها الى حد الصدمة ،حنينها اليائس الى مجيئه فأطلقت تأوهاً خفيضاً واستلقت على جنبها ، ثم اغمضت عينيهابقوة وارغمت نفسها على النوم.
ايقضها انغلاق الباب وسرعان ماتبادر الى ذهنها انخوان رينالدا قد رجع. تلاحقت خفقات قلبها و استلقت مغمضة العينين تتظاهر بالنوموتتساءل كيف سيوقظها . لكن شيئاً لم يحدث ، ولم تسمع احداً يتحرك في ارجاء الغرفة ،وسمعت فقط صوت ماء يتدفق في الحمام . فتحت عينيها واستوت جالسة وهي تلصق الاغطيةبجسمها . الوقت صباحاً وليس في الغرفة احد. الرداء المقصب اختفى عن الكرسي حيثوضعته مساء امس ورأت حقيبتها تحتل مكانه . من وضعها هنا ؟ جوفيتا ؟ غادرت السريربسرعة متعثرة وركضت الى الباب . ادارت المقبض وجذبته فانفتح الباب بسهولة ورأتالمفتاح في ثقب القفل الداخلي . القت نظرة سريعة على الممر فوجدته خالياً وممشحاًبأشعة الشمس الصباحية المتسربة اليه من نافذة في نهايته.
اغلقت الباب ثم سارتالى حقيبتها الجلدية وفتحت سحابها . وفي بضع دقائق كانت ترتدي التنورة الصيفيةالاخرى و البلوزة البيضاء اللتين جلبتهما معها . مشت الى حيث الحمام ودقت بابهالمغلق بقبضتيها ، وحين لم تسمع جواباً فتحته ودخلت لترى مراياه مغطاة بطبقة خفيفةمن البخار ، و الماء يتساقط من مرشة الدوش ، كما رأت بابه الآخر منفرجاً قليلاً . شعرت بشيء يغؤيها على الاستقصاء فتقدمت صوب الباب وفتحته اكثر فاذا بهاتطل على غرفةرائعة الاثاث والتصميم جعلت عينيها تتسعان دهشة واعجاباً . هنا ايضاً يطغى اللونالقرمزي و العاجي ، فيما اللمسات السوداء اختيرت خصيصاً لتحدث جواً خيالي الروعة فيمعتزل ذكري محض . كان خوان رينالدا يرتدي فقط بنطلوناً أسود ضيق الردفين وهو يقفامام خزانة عريضة وطويلة السقف ، يختار قميصاً من مجموعة القمصان المعلقة فيها . انتقى واحداً واستدار ناحيتها فوقع بصره عليها وهي تتلكأ على العتبة . القى القميصعلى السرير المشوش بالاغطية وتقدم منها قائلاً:
-صباح الخير يا سوريل . هل لديكشيء تودين قوله ؟ الهذا جئت باكراً الى غرفتي ؟
-آسفة ، لم ادر اطلاقاً ان هذهالغرفة تخصك . وجدت الباب مفتوحاً ، وخطر لي ...
توقفت عن الكلام اذ تذكرت فجأة انالباب كان مقفلاً ليلة امس ، فشمخت بأنفها واضافت بحدة :
-عليك ان تفسر اشياءكثيرة ياسنيور رينالدا !
-احقاً ؟ ماذا تريدينني ان افسر ؟
-تصرفك ليلة امس .
التمعت عيناه ببريق غريب ... خطا حواها فاستدارت لتهرب انما تأخرت كثيراً اذكان قد اغلق الباب المؤدي الى الحمام وارتكز عليه ، حدق اليها بعينينه الصافيتينالقاسيتين وقال متمهلاً ، وهو يعبس قليلا وكأنه يجد صعوبة في التذكر :
-ليلة امس ...آه ، تذكرت ... جئت البيت متأخراً وكنت نائمة .
ازاح ظهره عن الباب ورفع يدهالى خدها فارتدت بسرعة الى الخلف وسقطعت ذراعه على جنبه ... تابع يقول برقة :
-كم تبدين جميلة وانت نائمة ، كتمثال صغير من العاج ، لكن قلبي لم يطاوعني علىازعاجك . هل انت متكدرة لأنني لم اوقظك ؟
-كلا! اريدك ان تخبرني لماذا اقفلت عليغرفة النوم ، ولماذا لم تدعني احصل على حقيبتي ؟
فقال وهو يصطنع دهشة بريئةجعلته ترغب في لبطه :
-اكان الباب مقفلاً ؟ اني اعتذر وأرجوك ان تقبلي اعتذاري .
تقدم منها ثانية فتراجعت الى خلف ، وعاد يتقدم بسرعة وكأنه يمارس رقصة غزليةوتابع يقول :
-لابد ان جوفيتا اقفلت الباب قبل ان تغادر البيت ، اذ لم يرق لهاعلى الارجح ان تترك شابة مثلك بلا شخص يؤنس وحدتها ويحميها .
فزعقت فيه وهي تلبطالارض بقدمها :
-اوه ، هذا هراء ! اذا كانت جوفيتا أقفلت الباب فقد فعلت ذلكبناء على تعليماتك .
-وما الذي يحدوني الى فعل شيء كهذا ؟
-لتمنعني من مغادرةالبيت اثناء غيابك .
فقال معلقاً بجفاف :
-اذن كنت مصيباً في تخميني . كنتتزمعين الهرب ثانية . لماذا ؟
ردت بصوت كالفحيح :
-طالما انك حزرت نيتيفبوسعك ايضاً ان تحزر السبب ! لم اشأ ان ابقى في بيت رجل ينظر الى النساء وكأنهن ... كأنهن ادوات تسلية صممت خصيصاً لامتاعه ! انا فتاة حرة التصرفات ، اروح واجيءحيثما ومتى اشاء. لقد قصدتك لأطلب مساعدتك على انقاذ زواج سينهار ، وبدل ان تساعدنيرحت تعاملني كما ...
قطعت عبارتها حين جذب بصرها باب الغرفة المؤدي الى الرواقوهة ينفتح ببطء ، ثم ظهرت جوفيتا تحمل صينية عليها ظقم قهوة فضي ، وقالت:
-صباحالخير سنيور خوان . لم اجد السنيوريتا في الغرفة الاخرى فجئت بالقهوة الى هنا .
انتقلت عيناها السوداوان الى سوريل ، التي سارعت الى تغطية خديها الملتهبينبكفيها ، واردفت :
-صباح الخير سنيوريتا . ارجوان تكوني استمتعت بنوم مريح .
وضعت الصينية على طاولة تتوسط الغرفة وخرجت بهدوء فهتفت سوريل على الفور :
-اوه ! اية افكار بشعة ستراودها عني !
فسألها خوان وهو يشرع في سكب القهوة :
-من ؟ جوفيتا ؟ هل يهمك ما تظنه فيك ؟
-اجل يهمني . لا اريدها ان تظن بيشيئاً انا بريئة منه .
فحدجها بنظرة غاضبة وهتف:
-يا الهي ! لماذا تصريندائماً على تعقيد الامور الى هذا الحد ؟ ماهو الشيء الذي انت بريئة منه ، وتخشين انتتهمك به جوفيتا ؟
-انا لست بديلة للمرأة التي رحلت يوم امس . لم آت هنا لاصبحرفيقتك التالية .
وفوجئت به يلقي ابريق القهوة بعنف على الصينية وحيث تسبب عنذلك وقوع فنجان و انسكاب محتوياته على السجادة ، ثم رأته ينتصب اماها مكفهر الوجهثائر العينين مما جعلها تتراجع الى خلف وهو يسألها :
-عما تتحدثين بحق السماء؟.
-قصدت انيز . المرأة التي كانت هنا . قلت انها ليست زوجتك ، اذن لابد انهارفيقتك .
فراحت شفتاه المتقلصتان تطلقان سباباً عنيفاً جعلها تسد اذنيها بكفيهاحتى انتهى منه ، ثم قال من بين اسنانه :
-ماذا قالت لك تلك الشيطانة الصغيرة حتىجعلتك تظنين انها كذلك ؟ انيز هي شقيقتي ، ومولعة بالعبث واحداث القلاقل . لقد تركتزوجها قبل بضعة اشهر وركضت الي تشكو قسوته عليها . نصحتها بالبقاء هنا لبينما تجدحلاً لمشكلتها و يبدو أنها توصلت الى ذلك الحل . لكن اقسم بالله انني سأعاقبهاحالما اراها ثانية . سوف ادق عنقها لأنها قالت لك ذلك ...
اذعرها غضبه فقاطعتهبسرعة :
-كلا ، لا يجب ان تلومها فالذنب لم يكن ذنبها ، هي لم تقل شيئاً ، انمابانشو قال شيئاً جعلني اخطئ في ظني و ...
فسألها بصوت مرعب :
-وماذا قالبانشو ؟
-حسبني من الولايات المتحدة فسألني ان كنت صديقة للسنيورا . افترضت انهيقصد زوجتك ، وحين استقبلتني اختك ، جزمت بانها السنيورا رينالدا... كانت تلبس خاتمزواج ولم تعرفني باسمها ، كذلك قالت انها سترحل لانها ماعادت تطيق العيش معك .
ضاقت عيناه بارتياب ، ثم جعر قائلا:
-كان الشعور مشتركاً !
-كانت تتكلمالانكليزية مثلك ، بلهجة امريكية شمالية .
فرد قائلاً:
-لانها تعلمت اللغة منالمصدر نفسه ، من امنا الامريكية في كالفورنيا . حسناً ، فهمت لماذا سهل عليكالافتراض بأنها زوجتي ، انما ما الذي جعلك تفترضين انها كانت رفيقتي ؟
-حيناخبرتني انها ليست زوجتك خطر لي ... خطر ...
خفضت بصرها هرباً من نظرته المتهمةوارتج عليها ، فقال بالنيابة عنها :
-افترضت مجدداً وبنيت افتراضاتك ، حتماً ،على المعلومات التي اخذتها من رامون انهل ، او ربما من زوجته ، تلك الغبية .
قالت بجمود :
-آسفة .
وقف امامها بلا حراك ، وكان قريباً الى حد سمعتفيه دقات قلبه المنتظمة ، ورأت العرق النابض في فجوة عنقه واشتمت رائحة الصابونالمعطر الذي يستخدمه .
وقال اخيراً :
-الآن بدأت افهم سبب غضبك يوم امس . لمترق لك فكرة احتلالك لمكان امرأة اخرى ، بعد رحيلها مباشرة .
فأقرت بصراحة :
-لا ، لم ترق لي .
-اني اتفهم ذلك . لكن مادمنا قد وضحناهذه النقطة ، فهل لنا الآن ان نبدأ من البداية ؟ هل تبقين وتسكنين معي يا سوريل؟
فبدأت تقول :
-انا ...
ثم امحى صوتها حين احاط وجهها بيديه فسألته بحذر :
-ما الذي تنوي فعله ؟
-احس برغبة جارفة في عناقك . انها تتملكني في الصباح، عندما اراك منتعشة ومتألقة بعج نهوضك من النوم . لهذا اريدك ان تعيشي معي ،لاستطيع عناقك كل صباح .
فقالت وهي تحاول التملص منه :
-لكن لا يحق لك انتعانقني ان كنت لا ارغب في ذلك .
انزلقت يداه الى عنقها و قال مغمغماً:
-او ،سوريل كيف يمكنك ان تتحدثي عن الحقوق ؟ ان ما يحدث بيني و بينك لهو فوق كل نقاشبارد كهذا .
حاولت ان تتجاهل المشاعر التي بدأت تنبض في عروقها واحتجت تقولباهتزاز :
-لاشيء يحدث بيننا . لا شيء ! لن ادعه يحدث . الا تقدر ان تفهم ؟ هلغرورك هو الذي يعميك عن رؤية الحقيقة ؟ انا لست من ذلك النوع الذي يؤيد اقامةعلاقات مع رجال بالكاد يعرفهم . انا لا اريدك لأني لا احبك ، ومن دون الحب لااستطيع ...
اسكتها بعناقه ، ومع ذلك قاومته بشدة وبقيت تحاول الافلات حتى سجنهاتماماً بين ذراعيه القويتين فبدأت تحس بقلبها يرتعش كطائر خائف ، سمعته يتنهدمتأوهاً فأخفت وجهها في عنقه .
ثم رفع رأسه فجأة فاحست بحركته وفتحت عينيها لترىتعبيراً غامضاً في وجهه الاسمر وسمعته يقول بسخرية لاذعة :
-هل قلت قبل قليل انكلا تريدينني ؟ اظن انني برهنت الآن عكس ذلك . هراء كان تظاهرك باللامبالاة ! فانتتريدينني بمقدار ما اريدك ، وهذا الصباح مناسب مثل اي وقت آخر .
-كلا!
كانالخجل و الغضب يلسعانها لان قلبها الغبي غدر بها ، تملصت من بين ذراعيه ثم رفعتيدها وهوت بكفها على وجهه في صفعة عنيفة بدت ذات صدى تردد في سكون الغرفة . تراجعالى الوراء رافعاً احدى يديه الى خده، فاغتنمت فرصةاندهاشه وركضت الى الحمام تجمعأدوات زينتها ثم عادت الى الغرفة التي نامت فيها ، فأغلقت الباب وأدارت المفتاح فيالقفل . لا وقت لديها لتخطيط الخطوة التالية و ينبغي ان ترحل فوراً قبل ان يجد خوانوقتاً للحاق بها ولاستعمال قوته الفائقة في ارغامها على الرضوخ له. حتى لو استطاعتبلوغ الفناء ستكون ، على الاقل ، خارج البيت وسوف تجد من يسمعها اذا صرخت تطلبالنجدة .
جمعت الاغراض التي تناثرت من حقيبة يدها حين سقطت من يدها ، ودست كلشيء من الحقيبة الجلدية ثم غادرت الغرفة مهرولة . تنفست الصعداء لما وجدت الممرخالياً ، وتوجهت منه الى البهو لتقطعه بخطوات واسعة عفوية المظهر . فتحت البابالامامي وخرجت حيث الهواء رطباً دافئاً ، وسرعان ما وقع بصرها على الشاحنة ذاتاللونين الابيض و الاحمر .
رأت غطاء محركها وكان بانشو ينحني على المحرك ليصلحشيئاً ما . سارت الى حيث يقف و قالت :
-صباح الخير يا بانشو . هل ستذهب الىايبارا هذا الصباح ؟
فاستقام في وقفته و ابتسم لها مرحباً وهو يمسح يديهالمزيتتين بخرقة ثم اغلق غطاء المحرك و قال :
-صباح الخير سنيوريتا ، هذا الصباحسأمضي الى ابعد من ايبارا ، سأذهب الى كوبايا لحضور المهرجان .
-اين تقع كوبايا؟
-ليست بعيدة من هنا ، حوالي ثلاثين كيلومتراً . انها مدينة صغيرة على ضفة نهرجميل . مناخها ادفأ من مناخنا وفيها بيوت عتيقة ساحرة . اما بالنسبة الى نسائها ...
وهنا غرب عينيه ولثم اصابع يده التي ضمها الى بعضها البعض وتابع :
-انهناجمل نساء كولومبيا واكثرهن وداً وعاطفة . في مثل هذا الوقت من كل عام تفتتح كوبايامهرجاناتها الشتوية وحيث تقام استعراضات دينية من كل الانواع ، ويرقص الناس فيالشوارع ، وبالطبع تقام ايضاً مصارعة ثيران .
كوبايا . لقد سمعت عائلة انهلتتحدث عنها وبما انها مركز سياحي معروف ، فلابد ان فيها مطاراً يؤمن رحلات منتظمةالى ميدلين وبوغوتا .
وعادت تسأل بانشو :
-متى ستنطلق ؟
-في اسرع وقت ممكنفلقد سبقتنا الشاحنة الكبيرة المحملة بالثيران .
-اذن سآتي معك .
اتسعتابتسامته واجب :
-يسرني ذلك ، اصعدي من فضلك ، هناك متسع لك .
استغربت انتحظى سريعاً بهذا الانقاذ وشكرت الله على ذلك .
صعدت الى الشاحنة واغلقت البابالى جانبها . بدا بانشو غير مستعجل على الانضمام اليها اذ سمعته يصفر لحناً طروباوهو يتشاغل باصلاح شيء في مؤخرة السيارة .
ثم توقف الصفير وسمعته يتكلم ... احستتوتراً يزحف في اعصابها ثم انفتح الباب الى جانبها فنظرت بحذر من طرف عينيها لترىخوان يقف هناك وقد ارتدى كامل ثيابه . قميص مموج من الحرير القرمزي تحت سترة قصيرةمفتوحة الازرار من القمش الاسود وعلى رأسه قبعة عريضة الاطراف خفيفة العلو . كانتعيناه الغاضبتان ترمقانها ببريق شرير لكنه قال لها بصوت ناعم كالمخمل :
-افسحيلي مكاناً من فضلك .
-المعذرة ؟
حيرها طلبه اذ توقعت ان يأمرها بمغادرةالشاحنة ، فأجابها بفظاظة :
-لقد سمعتني . افسحي لي مكاناً كي اجلس الى جانبك . انا ذاهب ايضاً الى كوبايا للاشتراك في المصارعة . يدهشني انما يسرني ، انك تريدينمرافقتنا لتريني اصارع الثيران .
فاستدارت سوريل بسرعة كي تمر من تحت المقودوتقفز من الباب الآخر ، لكن بانشو كان قد استقر في مقعد القيادة . استدارت يميناً،كحيوان سجين ، لتجد خوان قد اخذ مكانه الى جوارها ، وراح يزيحها الى الوسط بحركةخشنة . ثم صفق الباب ، وادار بانشو المحرك فاهتزت الشاحنة وانطلقت قدماً في اتجاهالمقنطر.

باقة الأوركيديا

قادبانشو الشاحنة على الدرب المنحدر وانعطف على الطريق العام محدثاً زعيقاً رهيباً فيالدواليب ، وهو يسوق بسرعته المعتادة المجنونة ويكلم خوان بانفعال حول المصارعةالوشيكة . كانت سوريل تجلس كعمود بين الرجلين ، تحدق الى الطريق أمامها وذهنهامنشغل بمشكلة اخرى ، كيف ستخرج من المصيدة الجديدة التي أوقعها فيها خوان رينالدا ؟استمر بانشو يثرثر ويسأل و يعلق لكن خوان اكتفى بالاجابة على كل ذلك بهمهمات لم تشفغليله جعلاه يكف عن الكلام و ينتقل الى الصفير . استرقت سوريل نظرة جانبية الى خوانفوجدته ملقياً رأسه على ظهر المقعد ومغطياً عينيه بطرف قبعته العريضة وكأنه نائم . قفزت بهم الشاحنة قليلاً حين اصطدمت بنتوء على الطريق فلعقت سوريل شفتيها الجافتيهاوأحست غثياناً في معدتها ، وهنا تذكرت أنا ما اكلت ولا شربت شيئاً ذلك الصباح .
في شارع ايبارا الرئيسي و الوحيد ، رأت نساء هنديات يرتدين تنانير طويلةوعباءات مخططة ، وقبعات مائلة عريضة الأطراف عالية التيجان ، ويحملن على أذرعهنسلالاً وهن يصعدن الباص المهترئ الشكل الذي استقلته يوم امس من مانيسالاس .
وفجأة قفزت الى ذهن سوريل خاطرة جديدة ، فمالت صوب بانشو وهمست له :
-هل لكأن تقف هنا وتدعني انزل ؟
فرمقها بنظرة جانبية مرتابة ، ولما عاد ينظر الىالطريق اطلق شتمية حارة وهو يدير المقود بعنف ليتحاشى دعس ولد كان قد اندفع من بيتهراكضاً الى الطريق . هذه الحركة جعلت الشاحنة تتمايل بقوة و تطرح سوريل على خوانالذي هب جالساً ثم دفعها عنه وسأل بحدة :
-ماذا حدث ؟
فأجابه بانشو بفيض مناللغة الاسبانية الرشيقة ووضع كل اللوم على سوريل . ثم انطلقت الشاحنة من جديدتقعقع على الحصى و الحفر ، واصبحت ايبارا خلفهم .وسألها خوان بالانكليزية كيلا يفهمبانشو حديثهما :
-لِمَ اردت الترجل من الشاحنة ؟
-اشعر بالجوع و العطش وبشيءمن الغثيان .
عادت الى جلستها المتشنجة السابقة وهي تحس تعاسة شديدة من جراء فشلخطتها الصغيرة للهرب الى مانيسالاس بواسطة الباص ، والحق الأكبر على بانشو الذييدين بكل ولائه لسيده ، مثل جوفيتا تماماً . وأجابها خوان :
-ستأكلين عندما نصلكوبايا . يوجد مطعم في مركز المصارعة . أنا ايضاً لم اتناول فطوري اذ انشغلنا بشيءآخر الهانا عن الطعام ، ان كنت تتذكرين.
-لن اذهب الى المدرج . لا اريد ان اشاهدمصارعة ثيران .
-اذن لماذا تركبين هذه الشاحنة المهدمة .
-حسبت أن بانشوسيوصلني الى كوبايا حيث يمكنني السفر الى ميدلين . لم أدرِ انك ستأتي ايضاً. ظنتانك تخليت نهائياً عن احتراف المصارعة.
-تخليت عنها لفترة . لكن مؤخراً ، بدأتاتضايق من الآراء القائلة بأني فقدت شجاعتي بعد تلك المصارعة الأخيرة ، وهكذا ،عندما جاءني متعهد المصارعات المحلية وطلب الي ان اصارع في افتتاح مهرجان كوباياوافقت على طلبه ، فهذه فرصتي لأثبت اثباتاً قاطعاً بأني لست جباناً.
كان يتكلمبمرارة ثم اطلق ضحكة قصيرة متهكمةوتابع يقول :
-خلال العامين المنصرمين بدأتنسبة الحضور تحف في حلبة كوبايا . لم تعد هناك اثارات ومنافسات عنيفة تشبع نهمالمعجبين الجائعين الى الاثارة . لكن اليوم سيكون هناك جمهور كبير يتعطش الى رؤية "الشجاع" يعود الى الحلبة . هؤلاء الناس سيأملون الى حد ما ، أن يروا بطلهم يتمزقكما تمزق في مصارعته الأخيرة في مانيسالاس قبل عامين تقريباً.
-اوه ، كلا !
انطلقت هذه الصرخة من عمق قلبها فتوقف بانشو عن الصفير والتفت اليها منجفلاًثم سمعته يسأل عما حصل . أجابه الآخر مهدئاً من روعه فعاد الشاب الى صفيره المرح . اندفعت تسأل خوان بلهفة وقد نسيت للحظة همومها الخاصة :
-أأنت مصمم على المصارعة؟
استدار نحوها متعجباً وقال هازئاً:
-لا تقولي انك قلقة بالفعل .
-اجل ،انا كذلك .
فالتوى فمه باحتقار وأجاب :
-قلقة على الثور بالطبع .
-لا ،قلقة عليك انت . فقد ... فقد يخرق لحمك ثانية ويفترسك المرض كما حدث في المرةالأخيرة.
هز كتفيه وأشاح عنها ينظر الى يمينه من فتحة النافذة ثم تمتم بلااكتراث :
-وماذا يهم ؟ ان ذلك جزء من اللعبة ، فالثور يفوز احياناً.
فهتفتبحماسة ولهفة :
-لكن ... لكن جوفيتا قالت انك كدت تموت آنذاك . اوه ، ارجوك ياخوان ألاّ تدخل الحلبة هذا اليوم .
فأجاب بصوت بارد وقاسٍ:
-البرنامج قد تقررولا بد لي من الاشتراك.
-من الجائز أن تقتل .
استدار اليها ليحدجها بنظرةضيقة مزدرية وهمس بهزء :
-اذن يجب ان تفرحي.
-كيف يمكنك ان ترضى بذلك ؟ كيفتسمح لنفسك بأن تُستغل في ما لايعدو كونه خدعة اعلانية لتحميس عدد اكبر من الناسعلى شراء التذاكر ؟ كيف يمكنك ان تدخل الحلبة وتتعمد اغراء الثور على ان ينطحكويمزق لحمك ؟ كيف تقدر أن تعرض نفسك لهذا الخطر يا خوان ؟
وعلى حين غرة ، فاضتالدموع في عينيها ، وراحت تنتحب وهي لا تدري أن سبب بكائها هو عدم احتمالها فكرةتعرضه للأذى أو للموت بحد ذاته . ومن خلال دموعها الغائمة رأته يحدق اليها بعينينمتسعتين من شدة الحيرة ، فأدركت للمرة الثانية كم هما متباعدان في مواقفهما ووجهاتنظرهما . ثم رفع يده وبلمسة لطيفة من رأس اصبعه ، مسح دمعة تدحرجت على خدها ، وقالبرقة :
-احتفظي بدموعك لتبكي على الثور اليوم عصراً ، اذ سيحتاجها حتماً.
خفضيده مشيحاً عنها بسرعة ثم سألها وهو ينظر خارج النافذة :
-لِمَ أردت الذهاب الىميدلين ؟
-لأخبر مونيكا أنني فشلت في مهمتي وعجزت عن اقناعك بمقابلة رامونلتفهمه انكما بريئان من تلك العلاقة . لقد وعدتها بأن اعود اليوم لرؤيتها.
-وأينستذهبين بعد ذلك ؟ هل سترجعين الى انكلترا ؟
-ربما . لست ادري.
أسندت ظهرهاالى المقعد تمسح خديها المبللين بأصابعها وتتساءل عن سبب بكائها عليه . لماذا هذاالشعور والقوي لديها ، تجاه أي شيء يفعله ، أو فعله سابقاً ؟ لماذا يؤثر علىعواطفها بطريقة لم يؤثر بها عليها اي انسان من قبل ، بطريقة تدفعها الى فعل وقولاشياء غريبة تماماً عن طبيعتها ؟
على الأقل ، غريبة تماماً عن الفتاة التي حاولت دائماً ان تكونها ،الفتاة الرابطة الجأش ، والخالية القلب .
هل تحبه ؟ اغمضت عينيها وارتخت كتفاها على ظهر المقعد . كلا ، لا يمكنها أن تحبه ، لا يجب ان تحبه.
فتحت عينيها فآذاهما وخج الشمس الساطع ثم نظرت حولها فرأت المشاهد تتبدل وهو يهبطون سلسلة منعطفات قوية في اتجاه الوادي الذي يخترقه نهر عريض . الريف هنا اكثر خضرة وأكثف تشجيراً ، وبدأت تظهر للعيان ، بيدوت ذات شرفات مظللة تتدلى من عليها متسلقات تتفتح براعمها بأجمل الألوان وأزهاها . وبرغم ضجيج المحرك استطاعت سوريل أن تسمع بوضوح صوت الموسيقى وايقاع الطبول المنتظمة وألحان الزمارات الهندية العنيفة . وحين عبروا طريقاً جانبياً آخر لمحت اناساً مقنعين في ثياب عجيبة الأشكال والألوان كانوا يهتزون ويدورون في رقصة جماعية تتقدم الى شارع أوسع . ثم مروا على طريق جانبية ثالثة فرأت موكباً دينياً حافلاً يتميز بشموع مضاءة وباقات ضخمة من الزهور الحمراء و البيضاء. لدى بلوغهم مفترق الطرق التالي سلك بانشو درباً انحدارياً يخترق بيوتاً منخفضة ذات شرفات صغيرة ، ومروا بمجموعة من الأولاد يقومون باستعراض خاص بهم . في نهاية الدرب برزت الجدران العالية التي تحيط مدرجاً مستديراً وتحمل ملصقات مزركشة لماعة تعلن عن مصارعات الثيران.
قد بانشو الشاحنة عبر بوابة عريضة ثم أوقفها الى جانب شاحنة كبيرة لنقل المواشي مكتوب عليها بالدهان ، مزرعة رينالدا . فتح خوان الباب وترجل، وسرعان ما أحاط به الرجال الذين جاؤوا بالثيران . وحتى بانشو ترك الشاحنة وهرول راكضاً لينضم الى المجموعة المثرثرة بلهفة وانفعال.
وفكرت سوريل أن الفرصة سانحة لتنسحب بهدوء وبدون أن ينتبه لها أحد.
أمسكت حقيبتها ودفعت جسمها الى حافة المقعد لتقفز الى الارض لكنها فوجئت بخوان يسد طريقها ، وقال واضعاً يديه على ردفيه :
-المطعم فوقك مباشرة . لقد تأخر موعد الافطار وعساك لا تمانعين في تناول الغداء بدلاً منه . لا اريدك أن تصابي بالاغماء من جراء الجوع .
ترجلت من الشاحنة فبادر هو الى صفق الباب صارخاً ببعض التعليمات الى بانشو ، ثم امسكها من كوعها وساقها على أرض الساحة المتوهجة بنور الشمس الحار ، وعبرا ابواب البناء الزجاجية الدوارة .
كانت طاولات المطعم مكسوة بأغطية ذات مربعات بيضاء وحمراء ، ومصفوفة بمحاذاة الجدران بين مقاعد منجدة مستطيلة ذات ظهور خشبية عالية. رأت اناسا كثيرين يتناولون وجبة الغذاء وهم يضحكون ويتسامرون، وبعض الرجال حيا خوان بصوت عال وهو يرسل نظرات جريئة وفضولية في اتجاة سوريل. جلسا الى طاولة منزوية حيث حجبهما المقعدان العاليا الظهر عن النظرات الحشرية. جاءتهما المضيفة التي بدا انها تعرف خوان اذ راحت تثرثر معه بمرح وهي تسجل طلبه لشرحات لحم مشوية، بطاطا حلوة وخضار. ثم احضرت لهما فنجانين كبيرين من القهوة ورجعت الى المطبخ لتأتي بالطعام.
اخذت سوريل ترشف القهوة الساخنة وهي تحس توترا متزايدا لوجودهما منفردين في عزلتهما النسبية. وفاجأها سائلا اياها بالانكليزية:
-لماذا صفعتني؟
اضطرت الى اجابته فغمغمت من دون ان تنظر اليه:
-لم يرق لي قولك انني ارغب فيك.
-لم تكن تلك الحقيقة.
-لمن اكن امثل دورا.
-اذن كنت بارعة في تمثيل ذلك الدور. لقد خدعتني بالفعل وجعلتني اعتقد...
-وهل اغضبك ذكر الحقيقة؟
حدقت اليه بغضب عبر الطاولة، ثم مالبثت ان شهقت وغطت فمها بكفها اذ ادركت انها قد ناقضت نفسها بنفسها. وحين رأته يبتسم ساخرا، اردفت متأوهة:
-اوه، الحق عليك! انت الذي ارغمتني.
-اذن انا لست سوى وغد اسود القلب اجبرتك على عناقي، لكن لم يكن بوسعي ان اثير فيك ذلك التجاوب لو لم تكن في داخلك شرارة تنتظر من ينفخ فيها.
زفر متضايقا ومرر اصابعه في شعره ثم انتفض عضل في خده كما لو انه يصر على اسنانه ليكبح عاطفة قوية تتأجج في كيانه، قال بصوت متقلص:
-والله انت قاسية، اتعلمين ذلك؟ لو انك لم تصفعيني وتهربي ، لكنا اصبحنا حبيبين هذا الصباح.
صراحته المتناهية هزتها في الصميم، فهمست:
-كلا، كلا ، لم يكن ذلك ليحدث.
-بل كان سيحدث لاننا انجذبنا الى بعضنا البعض منذ لقائنا الاول،
لكنك ترفضين الاعتراف بهذا. انك ترفضين الانصياع لمشاعرك لانك عندما تتوقفين لتفكري بعقلك تقرين بانني لست من النوع الجدير بحبك...
انت تنعتينني بالااخلاقية لاني اتصرف بالطرق التي تنسجم مع مبادئك الخلقية... تصيفنني بالانحطاط لاني اصارع الثيران من اجل كسب عيشي... ثم تصفعينني لاني اشعر بانجذاب اليك.
حدجها بنظرة وقحة جارفة اجفلتها وتابع يقول:
-لقد غلطت هذا الصباح لاني اتحت لك مجالا للتفكير. كان يجب ان اقفل فمي واحصل على ما عرضته علي، حتى لو كان من دون حب آلمتها مرارته بشكل فاق احتمالها فصرخت تحتج بعنف:
-لم اعرض عليك شيئا!
-هذا ماتقولينه باستمرار ولست مضطرا الى تصديقك
جاءت المضيفة بطعامهما حيث وضعت الطبقين امامهما وسكبت لهما مزيدا من القهوة ثم ابتعدت. شرع خوان ياكل على الفور،فيما اخذت سوريل تراقبه بحسد. كانت ماتزال منذهلة من عنف هجومه، اما هو، فبدا ان عصبيته لم تؤثر بتاتا على شهيته. في الاخير بدأت تأكل لعلمها بانها اذا لم تفعل فسوف تندم على ذلك في مابعد.


امتد الصمت بينهما اثناء الطعام وزاد توتره ضجيجالاصوات المنبعثه من الطاولات الاخرى. احست سوريل انها تأكل تبنا لكنها ارغمت نفسهاعلى ازدراد اللقم الجافة وهي تفكر على الرغم منها في مصارعة الثيران الوشيكة وفيماقد يحدث خلالها للرجل الجالس امامها. من الجائز ان يقتل ، اذن كيف يمكنها انتفارقه غاضبة؟ كيف يمكنها ان تدع علاقتهما القصيرة والحميمة تنتهي بكلمات جارحةومرة؟ عجزت عن اكمال طعامها. جرعت مزيدا من القهوة ثم نظرت اليه ومدت يدها نحوهوقالت بصوت اجش:
-خوان... يؤسفني اني لا استطيع ان اكون ما تريدني اناكون.
-كيف لك ان تعرفي ما اريدك ان تكونيه وانت لم تدعيني اخبرك اياه ابدا؟ لقدامضيت الوقت القصير الذي قضيناه معا تقفزين الى استنتاجات زائفة، وتنسجين افتراضاتمغلوطة عني وتحكمين علي بما يروق لك. ما الذي تحاولين فعله بحق السماء؟ان تعاقبينيعلى ذنب اقترفه رجل اخر بحقك؟
لسعتها قسوته فردت باختصار:
-لا. انا لااعاقبك.
نهضت واقفة على قدميها وقد نسيت رغبتها في ان تفارقه وديا، ثم اختطفتحقيبتها ودارت حول الطاولة لتجده يسد الطريق قائلا:
-اين تظنين نفسكذاهبة؟
-الى المطار. سأبتعد عنك بقدر ما تسعفني المسافات.
توقف ازيز الكلام حولهما واحست سوريل برؤوس تستدير وبعيو تحدق اليهما معا. دارت على عقبيها . وبدات تسير في اتجاه الباب لكن يد خوان امتدت بسرعة البرق لتقبض على ذراعها بشراسة مؤلمة ثم اجبرها على مواجهته. ومع انها ذعرت من الغضب القافز من عينيه كنار باهتة، الا انها احست حنقا لاهبا لانه جرؤ على لمسها في مكان عام واما جمهرة من الرجال الفضوليين، وبينهم شرع يبتسم ويطلق تعليقات وقحة، فحاولت ان تنزع ذراعها من قبضته، وزعقت مهتاجة وخداها يلتهبان بالدم الذي تصاعد اليهما:
-كيف تجرؤ على لمسي!
فقرب وجهه من محياها الى حد استطاعت معه ان ترى مسامات جلده وآثار القطب الخفيفة التي تحف بندبته، وقال من بين اسنانه البيضاء لمطبقة :
- اسمعي ، انت التي قررت اللعب بخشونة حين كنا في المزرعة ولذا سأرد عليك بخشونة اكبر حتى اتمكن من ترويضك ايتها الثورة الصغيرة. من الافضل ان تنسي الوعود التي قطعتها لمونيكا لانك ستبقين هنا وستحضرين المصارعة هذا العصر
-تألق شعرها وتماوج وي تهز رأسها بعنف وتقول:
-كلا كلا. لايمكنك ان ترغمني على حضورها، لايمكنك!
-بل استطيع وانت ستكونين هناك وتحضرينها حتى النهاية! ستكونين جالسة في مقصورة الرئس، مع المتعهد دييغو كورتيس وزوجته عندما انحني امام الجمهور وبعد ذلك اكون قتلت الثور. سوف تنتظرين هذا العصر حتى انهي مهمتي وبعد ذلك نذهب معا لنعقد زواجنا امام رجل الدين تغلبت دهشتها على خوفها وغضبها فرددت بهمسة مبحوحة:
-نعقد زواجنا؟
-اجل. ما كان في نيتي ان اعرض عليك الزواج بهذه الطريقة امام حشد من المتفرجين لكنك ارغمتني على كشف اوراقي بتصرفك السخيف العنيد. الا صرت على علم بما اريدك ان تكونيه. اريدك ا ن تكوني زوجتي في السراء والضراء. وفي الصحة والمرض. لايمكنك حنما ان تجدي في ذلك شيئا منافيا للاخلاق؟
بدأ عدد من معارفه يهتفون ويصفقون له مشجعين، فحدجهم بنظرة غاضبة ، ثم قال بسرعة:
-هيا لنخرج من هنا.
حثها على التقدم ويده ما تزال تقبض على ذراعها فشعرت كأنها لعبة يديرها محرك دمى قوي اليدين، وسارت معه مسلوبة الارادة لفرط الدهشة المسيطرة عليها.
خرجا من المطعم فتلقفتها حرارة الشمس الساطعة. اجتازا الساحة امام مبنى المطعم واتجها الى باب يؤدي الى مبان داخلية تحت المدرج.
دفعها امامه عبر الباب الشرع حتى وقفا امام باب اخر دقه خوان بقبضتيه فجعلها الصوت تفيق من ذهولها، فحاولت ثانية ان تنزع ذراعها وحين اخفقت قالت مغمغمة:
-انت مجنون. لابد انك كذلك لترغب في الزواج من امرأة تعرفت اليها منذ ثلاثة ايام فقط..
اجابها بنظرة متهكمة:
-لست مجنونا انما اقدر على اتخاذ القرارات الحاسمة عند الاضطرار، لاني من النوع الذي يعرف مايريد ويدرك قيمة هذا الشيء عندما يراه.
يمكنك القول ان تجاربي مع النساء الاخريات تساعدني الى حد ما .
سمع صوتا يدعوه الى الدخول فأدار مقبض الباب وفتحه بقوة ثم دفعها بخشونة امامه الى غرفة مكتب فسيحة رأت فيها شخصين ، رجل مسترخ وراء طاولة مكتبية كبيرة، وامرأة تجلس على اريكة. هب الرجل واقفا وهتف:
- خوان! مالذي اخرك بحق السماء؟
كان عريض الكتفين معتدل الطول، شعره الاسود الكث والاجعد بدا يشيب عند الفودين، وعيناه السوداوان صغيرتين وثاقبتين تحت جفنين مغمضين. كان يرتدي بزة رمادية خفيفة، قميصا ابيض، ربطة عنق سوداء انيقة ويقبض بأسنانه على سيكار طويل غليظ فيبدو نموذجا لرجال الاعمال الكولومبيين ، تابع يخاطب خوان بقوله:
-انسيت ان استعراض المصارعين يبدا في خلال عشر دقائق، وانك ما تزال في ثيابك العادية؟
-جئت بأقصى سرعة ممكنة. هل قمت بالترتيبات اللازمة بشأني؟
فأجابت المرأة عنه:
-اجل ، اتممنا الترتيبات.
نهضت عن الأريكة وتقدمت منهم . كانت طويلة متناسقة القوام ، تلبس رداء جميلاً من حرير القز ، لونه أحمر داكن ، وخيل الى سوريل انها ترى شيئاً مألوفاً في عينيها الرماديتين وهي تنظر اليها من تحت حاجبيها المقوسين بجمال . مدت لها يداً نحيلو و قالت مبتسمة :
-انا اوهينيا كورتيس وهذا زوجي ، دييغو . خوان حدثنا عنك يا سوريل، هل لفظت اسمك لفظاً صحيحاً ؟ اننا نرحب بجلوسك معنا في المقصورة.
ثم نظرت الى خوان بمحبة و قالت له برقة :
-لا تقلق يا صديقي ، سوف نعتني جيداً بعروسك العتيدة .
حنى رأسه وقبلها على وجنتيها قائلاً:
-شكراً لك . كنت واثقاً من استطاعتي الاعتماد عليك .
فبادلته عناقه وغمغمت :
-اذهب في رعاية الله.
ثم استدارت الى سوريل التي كانت تقف مشدوهة فهزتها من ذراعها وقالت تحثها:
-هيا ، عانقيه و امنحيه بركة دعائك . الا تدركين انه سيخاطر بحياته هذا العصر ؟
لا جدوى من الرفض أو الممانعة أمام هذين الزوجين ، وفي اي حال ، لا تريد أن ترفض لأنها الآن ، وقد اصبحت على وشك أن تفارق خوان، لا تريد إلاّ أن تتعلق به وتناشده عدم دخول الحلبة اطلاقاً . تقدمت منه وأحاطت عنقه بيديها ثم همست وهي تقرب رأسه من وجهها :
-احترس ، أرجوك .
قبلته على خده لكنه سرعان ما احتواها بين ذراعيه معانقا اياها ، ثم ابعدها عنه بقوة وخرج مغادراً الغرفة . كانت ساقاها ترتعشان وأنفاسها تتلاحق فتمسكت بظهر المقعد لتثبت نفسها . عادت اوهينيا تمشي متهادية الى حيث الأريكة لتجلس عليها باسترخاء رشيق . كان دييغو قد غادر الغرفة في اعقاب خوان وهو يحثه على الاستعجال ، وبقيت المرأتان بمفردهما. قالت اوهينيا :
-اذن سوف تتزوجين ابن اخي ، مع انني لم اسمع باسمك الاّ يوم امس. هتفت سوريل :
-ابن اخيك ؟
شعرت فجأة بحرج بالغ وتمنت لو أنها ترتدي لباساً اكثر اناقة من تنورتها الغجرية الصيفية وبلورتها القطنية البسيطة . اجابتها اوهينيا باستغراب واضح :
-اجل . ألم يخبرك ذلك ؟ أنا الشقيقة الصغرى لرودريغو رينالدا ، والد خوان . تعالي ، اجلسي الى جانبي و اخبريني اين التقيت خوان . ان قراره المفاجئ بالزواج منك هذا المساء لهو قرار مثير ورومانسي جداً لكنه ينسجم تماماً مع تقاليد مصارعة الثيران ، فزواج المصارع كثيراً ما يتم بسرعة ، ويعقد احياناً ، وللأسف في مستشفى في لحظات احتضاره .
لحظت الرعدة السريعة التي انتابت سوريل على الرغم منها ، فلمست ذراعها مواسية و قالت :
-سامحيني ، ماكان يجب أن أذكر ذلك .
وفكرت سوريل في نفسها ، إذا روت لأوهينيا كل شيء فلربما تفهمت وضعها وكيف أنه يستحيل عليها أن تبقى و تتزوج خوان ، ولربما ساعدتها ايضاً على العودة الى ميدلين فسألتها :
-متى حدثك خوان بأمري .؟
-جاء مساء امس الى كوبايا ليزورنا و ليطلب الينا أن نقوم بالترتيبات لاجراء زواج سريع بعد انتهاء المصارعة . لكني كنت سمعت عنك قبل ذلك ، من ابنة اخي انيز ، حين قامت بزيارتي وهي في طريقها الى بوغوتا . كانت مفعمة بالشيطنة كعادتها ، وأخبرتني كيف بعثت تستدعي خوان بقولها ان هناك اميرة انكليزية جميلة ذات شعر أحمر رائع قد جاءت لزيارته . كانت مهتمة جداً بوصولك المفاجئ الى المزرعة و الذي تزامن مع ساعة رحيلها فاعتقدت ان خوان قد دعاك الى المزرعة لتعيشي معه كرفيقة . هل فعل ؟
فردت سوريل متعلثمة :
-كلا ، أنا ... أنا قصدته لأطلب مساعدته في انقاذ زواج ... زواج مونيكا انهل.
وهنا رأت التعجب يغضن وجه اوهينيا ذا التقاسيم الاسبانية الدقيقة ، فاندفعت على الفور تروي لها قصة التقائها بخوان في مركز التزلج وكل ما نتج عن ذلك اللقاء من ملابسات . وهتفت اوهينيا لما انتهت :
-الهذا السبب وحده ، قطعت كل تلك المسافة من ميدلين الى المزرعة ، بمفردك ؟ انت و الله فتاة متهورة ! الم يحذرك أحد من الخطر الذي قد تتعرض له شابة مثلك في مناطق الريف النائية ؟ كان من المحتمل أن تصابي بمكروه .
فأجابت سوريل شامخة الأنف :
-لم أتعرض لأي مكروه ، على الاقل ، قبل ان احاول الهرب من منزل ابن شقيقك .
-وماذا حصل وقتها ؟
-حاول أن يمنعني . وأخيراً ، حين تمكنت من الخروج ، لحق بي وأصر على أن ابيت الليل في منزله .
فقالت اوهينيا بحماسة :
-حسناً فعل . يسرني أن اسمع ذلك . لقد تصرف بما هو صواب .
-صواب ؟ وهل من صواب أن يحتجز ثيابي و يقفل عليّ باب غرفة النوم ؟
برقت العينان الرماديتان المركزتان عليها و قالت صاحبتهما :
-كان يفكر فقط في حمايتك .
فأضافت سوريل بصوت اجش :
-وهذا الصباح ... حاول أن ...
-من البديهي أن يحاول خوان ذلك ، فأنت ، حتى في هذه التنورة الرهيبة و البلوزة العادية ، فتاة نادرة الجمال ، كزهرة اوركيديا حمراء ، وخوان يحمل تقديراً عظيماً لكل الجمالات النادرة .
ثم تابعت تسألها بجدية تامة :
-هل تضايقت من بادرته ؟
غطت سوريل خديها الملتهبين بيديها واعترفت قائلة بارتباك :
-انا ... انا ... لا ، لم أتضايق . لكن من الخطأ أن نفعل ذلك اذ لا يمكنني التنازل عن مبادئي لأجاريه في مطالبه . اننا بالكاد نعرف بعضنا بعضاً.
ردت اوهينيا قائلة :
-هذه المعرفة تتوطد عادة بعد الزواج و ليس قبله .
-هناك فوارق عديدة بيننا . فكلانا نشأ بطريقة مختلفة ، كذلك وجهات نظرنا تختلف عن بعضنا تجاه امور عديدة .
-اتظنين ان هذا شيء نادر الحدوث ؟ ثقي انه ليس كذلك ، فدائماً هناك أناس من مجتمعات و أوطان مختلفة ، يتزوجون بعضهم بعضاً. الفوارق قد تكون عاملاً ايجابياً ومثيراً في الحياة الزوجية ، كما أن الحب كفيل بالتغلب عليها .
وهنا نهضت واقفة وأردفت :
-هيا ، لقد حان موعد ذهابنا الى المقصورة كي نشهد استعراض المصارعين .
فقالت سوريل بعناد :
-لن اذهب . لا استطيع مشاهدة مصارعة كهذه . لا استطيع ! سأصاب بغثيان ان فعلت .
-لكن يجب أن تكوني جالسة في المقصورة . خوان سيتوقع أن يراك هناك ، هيا بنا ، هذا وقت يحتاج فيه الى وجودك ، وعليك أن تقدمي مصلحته على مصلحتك .
فاحتجت سوريل قائلة :
-وماذا سيعنيه الأمر سواء كنت هناك أم لم اكن ؟
في تلك اللحظة فتح الباب ، ودخل دييغو يقول ونظرته الثاقبة تروح جيئة وذهاباً بين سوريل وزوجته :
-هل انتما مستعدتان لمشاهدة الاستعراض ؟
ثم اقفل الباب وأردف سائلاً :
-مالخطب ؟
اجابته زوجته بامتعاض :
-انها ترفض مشاهدة المصارعة . تقول ان ذلك سيصيبها بالغثيان . افهمها أنت يا دييغو . افهمها لماذا يجب أن تكون هناك . لماذا لا يجب أن تخذل خوان في هذا اليوم بالذات .
هتفت سوريل تبرئ نفسها :
-كلا ، أنا لا أخذله .
فقال دييغو :
-بل ستصيبه خيبة قوية . اوهينيا ، اسبقينا الى المقصورة فضيوفنا الآخرون قد حضروا.


فتح الباب لزوجته ولما اغلقه بعد خروجها ، ارتكز عليه ثم عقد ذراعيه علىصدره وراح يحدق الى سوريل . وفي الأخير قال بصوت اجش من كثربة التدخين :
-يبدوواضحاً يا سنيوريتا انك لا تعرفين الاّ القليل عن مصارعة الثيران وعن الرجال الذينيشتركون فيها . هل تعلمين كيف نشأت هذه الرياضة عندنا ؟
فهزت رأسها نفياً وهيتشعر كما لو انها تستمع الى عظة اخلاقية من مدير مدرسة صارم لكونها اهملت واجباتهاالمدرسية . وتابع دييغو يقول بتمهل :
-نشأت منذ القدم بسبب حاجة الانسان الىاصطياد الغذاء ، منذ أن كان الرجال البدائيون يطاردون الثيران البرية ويذبحونها فيالعراء ليقتاتو بلحومها . آه ، يبدو انك بدأت الآن تهتمين بالموضوع.
كانت قدتوقفت عن التحديق في يديها ورفعت رأسها لتصغي اليه عن قرب . لكنها ردت محتجة :
-ما كان يمارسه الناس من رياضة وحشيةفي القرن الحادي عشر لا علاقة له بالقرن العشرين . انه مشهد محط للكرامة ليسالاّ.
-اذن انت تعتقدين فعلاً اننا اكثر تمدناً في هذا العصر ؟
هز رأسه يمنةويسرة وتابع حديثه :
-لا ، لا اعتقد اننا كذلك ، فالطبيعة البشرية لا تتغيركثيراً على مر العصور ، ومايزال الرجل يتجاوب مع التحدي الذي تمثله الوحوش البرية ،ويجب أن يمتحن شجاعته امام سطوة الحيوانات الكاسرة ... مع حلول القرن الثامن عشر ،تعاظمت أهمية ذلك الخادم الذي كانيحمل حياته على كفيه ويتقدم ليستجلب الثور بواسطةوشاح أحمر يهزه امامه في مناورات خداعية . وهكذا اصبح هو بطل هذه الرياضة وليسالفارس على ظهر الجواد . و شيئاً فشيئاً أصبحت المصارعة تعتبر تأدية دراماتيكية ،وحيث تمكن المقارنة بين مهارة وفن المصارعين و بين مهارة وفن الممثلينالمسرحيين.
توقف لينظر الى ساعته وأردف قائلاً:
-الوقت لا يتسع لمزيد منالشرح واكتفي الآن بالقول ان المصارع انسان مزاجي كأي فنان لامع آخر فهو يلعب معالموت نفسه ، وأية حركة خاطئة أو غلطة صغيرة من جانبه كفيلة بالقضاء عليه من قبلالثور المنتصر . هذا ما حصل في تأدية خوان الأخيرة . فقبل أن يدخل الحلبة ، حدث شيءلا يمكنني البوح به ، شيء ضيّع عليه تركيزه الى حد جعله يرتكب غلطة بسيطة ويتيحللثور بأن يصرعه . اليوم ، لا أريده أن يفقد تركيزه بأي شكل . فهو ان رفع بصره الىالمقصورة في الجولة الأولى ولم يرك فيها ، سوف يتساءل عن مكانك وقد يشتت ذهنه ويصاببأذى خطير . اتريدين أن يحدث له ذلك ؟
هزت رأسها ببطء و قالت بصوت كسير :
-لاأريده أن يتأذى ابداً ، كما لاأريده أن يصارع بعد اليوم .
قال دييغو:
-قديتوقف عن المصارعة بعد الزواج . والده تقاعد عنها لكي يتزوج . لكن خوان مدين لنفسهولمعجبيه بمصارعة واحدة فقط كي يستطيع الانسحاب بكرامة ، وليطهر اسمه من وصمة الجبن . والآن ، هيا بنا يا عزيزتي . انا واثق من استعدادك لمساعدته على بلوغ هدفه بوجودكفي المقصورة ، وأعدك بأن الأمر لن يكون سيئاً كما تظنين . بوسعك أن تغطي عينيك اذااستحال عليك أن تتابعي المشاهدة .
فكرت سوريل بالندبة على وجنة خوان ، ثم تذكرتصورة الثور وهو يقذفه في الفضاء ، وتذكرت قول جوفيتا انه كاد يموت آنذاك . لا مفرلها من كبت نفورها الخاص من هذه الرياضة ، وحضور مصارعة خوان الأخيرة ... نهضتواقفة و قالت وهي تمسد تنورتها المشوشة :
-سأمشط شعري قليلاً ثم أذهب معك . ليتني ارتدي ثياباً غير هذه لكن ليس لدي سواها .
فابتسم لها دييغو و قال بشهامةو تهذيب :
-تبدين رائعة كما انت . كنت اعلم أنك ستراعين مشاعر خوان متى أدركتماقد يتعرض له .
لدى وصولهما نهاية الممر ارتقيا درجاً خشبياً يؤدي الى مقصورةتشبه صندوقاً كبيراً ، مزينة بالاعلام و الزهور ، وتقع في وسط مقاعد المدرج المحيطةبدائرة كبيرة من الرمال الزاهية . كان الاستعراض قد إبتدأ ، وحشود الناس تهتف بصخبمغرقة صوت الفرقة الصغيرة المكونة من طبول وزمارات وأبواق . كانت تعزف لحناًحماسياً وهي تتقدم غارزي الرماح و الحراب ، ومهتهم تعذيب الثيران في الجولة الأولى . وخلفهم مر المصارعون وهم يرتدون اللباس المقصب ويردون على هتافات الجماهير بتلويحقبعاتهم المثلثة الزوايا . وحين مروا من أمام المقصورة ، رأت سوريل بوضوح تامالنظرة المتألقة التي صوبها اليها خوان من عينيه الرماديتين قبل أن ينحني لها .
لم تزح بصرها وهو يتهادى حول الحلبة ، ملقياً عباءته الحمراء على كتفه ، ويسيرمختالاً في حركات رشيقة من ردفيه وكتفيه تشكل جزءاً لا يتجزأ من دوره كمصارع ،وهكذا ، بالكاد استوعبت أسماء الضيوف الآخرين في المقصورة حين عرفتها اوهينيا اليهم .
ثم انحنت اوهينيا صوبها و قالت هامسة :
-هل ادركت الآن اهمية وجودك فيالمقصورة ؟ عظيم . بعد انتهاء المصارعة سآخذك الى بيتي واختار لك ثوباً مناسباًللزفاف بدل هذا الذي ترتدينه .
ثم ضغطت على يدها بمحبة وأردفت :
-لا تقلقي ياحبيبتي ، سأنوب ، أنا و دييغو ، عن وجود والديك أثناء الزفاف.
يبدو الأمر وكأنهم ينتزعون مقود حياتها من يديها ... فكرت سوريل وهي تجلس واجمة على مقعدها ،وتسمع هدير الهتافات حين هجم ثور اسود راكضاً الى الحلبة وهو يلبط بقائمتيهالخلفيتين وينظر هائجاً حوله.
غطت عينيها بيد واحدة كي لا ترى الحراب تغرز فيالثور ، وتساءلت عن الشيء الذي حدث لخوان في مصارعته الأخيرة وجعله يضيع تركيزه .
شعرت بارتياح لأن دييغو كورتيس ، وبرغم ضيق الوقت ، شرح لها السبب الموجبلوجودها في المقصورة لدى تطلع خوان اليها . كل ذلك لم يحببها اكثر الى هذه الرياضة، لكن بعد مافهمت شيئاً عن تاريخها وتتطورها أصبح بامكانها ان تحترم وتقدر الرجالالمصارعين اكثر بكثير عن السابق . ومع تلاحق المشاهد المثيرة على الحلبة المتألقةفي وهج الشمس ، ومع ازدياد هياج الثور لحظة اثر لحظة ، بدأت تراقب بانتباه علىالرغم منها ، وتشعر بتوتر يتنامى في داخلها ، وما أن ابتدأت الجولة الأخيرة حتىوجدت نفسها تجلس على حافة مقعدها كسائر الناس حولها ، وعيناها لا تفارقان المصارعالثالث ذا القوام المتين الخفيف الحركة ، الذي كان يهز عباءته الحمراء الزاهيةبحركات رشيقة متعددة ليحث الثور على مهاجمته ، وينتحي جانباً في الدقائق الأخيرةفقط ، فيمزق الثور ، بقرنيه عباءة الرجل القريبة جداً من جسمه. وكلما تكررت الهجماتو تقارب الالتصاق كلما علت هتافات الجماهير ودوّت في الفضاء .
وشيئاً فشيئاً بدأالثور الصغير يستسلم للتعب وحيث قلت هجماته وازدادت شجاعة الرجل . كان يلف عباءتهحول احدى ذراعيه لحمايتها ، ويمتشق سيفاً بيده الأخرى ، وهو يتقدم ببطء شديد منالحيوان اللاهث المتعرق والذي دل رأسه المخفوض على انهيار قواه . وهنا صمتالمتفرجون وحبسوا أنفاسهم رهبة وتوقعاً . جلست سوريل يتوتر ، تقلص يديها على فمهاوكل اعصابها ترتجف خوفاً ، ليس على الثور ، انما على الرجل الذي يترصده .
-احمهيا الهي من كل اذى ! احمه من كل اذى .
راحت تكرر الدعاء بدون أن تعي وجودجيرانها في المقصورة أو ماقد يصدر عنهم من انتقاد . وفجأة هجم الثور . هبت سوريلواقفة على قدميها كمئات الناس حولها وقد تملكها اقتناع بانها سترى جسم خوان ينقذففي الفضاء ليسقط على الرمل ويدوسه الثور بحوافره ، لكنها دهشت اذ رأته مايزالواقفاً على قدميه ، ثم استدار بسرعة ليواجه الثور الذي هجم عليه من جديد فيما كانالمتفرجون يلوحون بمناديل تعبيراً عن اعجابهم . بعد ذلك جاءت النهاية بسرعة وغطتسوريل عينيها . تراخت على مقعدها وهي تشعر بغثيان يحل مكان التوتر .
ثم رأتجميع جيرانها في المقصورة يقفونويصفقون فوقفت في الوقت المناسب لترى خوان يقترب منهم وينحني كما تقضي تقاليدالمصارعة .
ثم ناولتها اوهينيا باقة من الأوركيديا الحمراء وقالت تحثها :
-هيا ، اقذفي بها اليه . انها بادرة تظهر له حبك وستفرح الجمهوركثيراً.
فانحنت على حاجز المقصورة وقذفت بالباقة الى تحت حيث سقطت عند قدمي خوان . التقطها ولثمها ثم انحنى لسوريل من جديد . وهنا عبر المشاهدون عن استحسانهمبهتافات مدوية وراحوا يمطرون خوان بباقات الزهور دلالة على اعجابهم الكامل بتأديتهالشجاعة ذلك النهار . وفي الوقت نفسه اقتحم المقصورة عدد من المعجبين المتحمسين كييهنئوا دييغو كورتيس على تقديمه مصارعة رائعة . ساد هرج ومرج فوعت سوريل أن اوهينياقد نسيت امرها مؤقتاً ، وبالتالي زودتها بفرصة ذهبية للهرب .
هبطت الدرج بسرعةوهرولت راكظة على الممر والى مكتب دييغو.
استرجعت حقيبتها وفي بضع ثوان كانتتغادر المدرج مع حشد من المعجبين المنفعلين . سارت بينهم الى الردب الضيقة وقررت أنتبقى معهم كي تهتدي بواسطتهم الى ساحة البلدة حيث تجد سيارة اجرة تقلها الى المطار .
سارع رجل الى مساعدتها بعطف وتفهم فمشى معها ليدلها على الشارع المخصص لوقوفالسيارت لكن سائق التاكسي البدين ذا الشاربين الكبيرين لم يظهر لها أي عطف وبدامصمماً على سلوك أظول طريق امكنه سلوكه الى المطار . جلست على حافة المقعد الخلفيمتوترة الأعصاب تضرب اخماساً في أسداس ، اذ خشيت الاّ تجد ظائرة تقلع في هذا الوقتالى ميدلين ، أو أن تكون الطائرة قد أقلعت وسوف تضطر بالتالي الى الانتظار بضعساعات حتى تقلع اخرى . خنقها الحر لعدم وجود مكيف هواء في السيارة و النافذةالمفتوحة لم تخفف منه شيئاً.
في الأخير ، أصبحت البيوت أكثر تباعداً عن بعضهاالبعض وبدأت الطريق تلتف بمحاذاة النهر العريض المحفوف بالأشجار . ثم استطاعت أنترى سواري المطار اللاسلكية . وأخيراً انعطف التاكسي على الطريق المؤدي الى مبنىالمطار . رفعت الحقيبة وفتحت سحابها لتخرج حقيبة يدها المحتوية مالاً كي تدفع اجرةالسائق . أخرجتها وراحت اصابعها تبحث عن ملمس المحفظة الجلدية في داخلها ، انماعبثاً. فتحت الحقيبة على اتساعها ودققت النظر في محتوياتها فلم تجد أثراً للمحفظة . أذهلها هذا الاكتشاف فجلست مصعوقة فيما كان التاكسي يخفف سرعته ويتوقف امام مبنىالمطار.
أخرجت يدها ببطء وأقفلت السحاب . ثم رطبت شفتيها الجافتين ونظرت الىالسائق ... لا تستطيع التوجه الى اي مكان من دون مال .
ليس امامها الاّ أن تطلباليه ارجاعها الى المدرج على أمل ان تجد خوان هناك ويدفع الأجرة عنها . لكن العودةتعني استسلامها لخوان ، وهذه النتيجة واضحة كعين الشمس .
وقال الرجل محتداً :
-سنيوريتا . لقد وصلنا المطار . ادفعي لي من فضلك .
فبدأت تقول :
-اودذلك لكنني فقدت محفظتي المحتوية كل ما لدي من مال .
ثم أجفلت حين بدأ يوجه اليهاسباباً ورأته يفتح بابه بعصبية مهدداً باستدعاء البوليس . هتفت بصوت يائس :
-ارجوك لا تستدعي البوليس . ارجعني الى المدرج ، حيث تقام مصارعات الثيران . اني اعرف شخصاً هناك ، وهو سيدفع لك اجرتك.
عاد يجلس على مقعده وسألها بنظرةضيقة مرتابة :
-ما اسمه ؟
-خوان رينالدا .
بدا الاسم مجهولاً لديه فأردفتمفسرة :
-الشجاع ، مصارع الثيران .
رد باحتقار :
-ها ! أنت صديقة الشجاع ؟اتتوقعين مني أن اصدق هذا الكلام ؟
وانخرط في سيل آخر من الشتائم ، ناعتاً اياهابالكذب و اللصوصية ولكن لحسن الحظ ضاعت غالبية عباراته القاسية في ضجيج طائرة مقلعةوربما الطائرة نفسها التي كان من الجائز أن تسافر بها .
و فجأة ، مرت بهما سيارةفارهة وتوقفت أمامهما مباشرة . انفتح احد البابين الخلفيين ، وهبط منها رجل يرتديقميصاً قرمزياً وبنطلوناً أسود. فقذفت سوريل نفسها على مقعد التاكسي الخلفي وصرختوهي تخرج رأسها من النافذة :
-خوان ، خوان ! انا هنا !
كان يهم بدخول المبنىلكنه توقف ناظراً خلفه ثم تقدم صوب التاكسي . حدجها بنظرة قاسية متأججة وفتح البابآمراً اياها بقوله :
-اخرجي.
وعلى الفور قفز سائق التاكسي من مقعده وهرول الىخوان يؤشر بيديه غاضباً وبدأ يشرح له القصة . توقف فجأة وبحلقت عيناه ثم غمرتالابتسامات وجهه وهو يمد يده لخوان ويربت على كتفه بحب واعجاب.
قال له خوانشيئاً ثم أخرج من جيبه مالاً ونقده اياه . فقال السائق مبتهجاً وهو يدس المال فيجيبه :
-الف شكر يا سنيور .
ثم التفت الى سوريل وأردف :
-اعتذر سنيوريتاعما حدث بيننا من سوء تفاهم .
وحالما انطلق بسيارته بدأت سوريل تسير في اتجاهالمبنى لكن سرعان ما قبض خوان على ذراعها وأرغمها بخشونة على مواجهته . قال من بيناسنانه :
-لن تسافري . ستأتين معي .
رفعت بصرها اليه فطالعها وجهه المقنهبقسوة ورأت في حدقتيه بريقاً غريباً جعلها تنكمش داخلياً وتحسب الف حساب لعواقب ذلكالغضب الرهيب . قال تتوسله :
-ارجوك يا خوان . يجب أن أرجع الى مونيكا ... اذا ... اذا دفعت عني ثمن البطاقة .
اجاب بصرامة :
-لقد اقلعت الطائرة قبل قليل .
شدد قبضته على ذراعها وبدأ يدفعها صوب سيارة الليموزين حيث رأت سائقاً في لباسرسمي يجلس بصبر وتهذيب . فقالت بالحاح وهي تحاول التملص منه :
-سوف انتظرالطائرة التالية .
فأجابها وهو يفتح الباب الخلفي :
-سنزور آل انهل بعدزواجنا . أعدك بذلك . اما الآن ، فاصعدي امامي .
-كلا ! دعني اذهب ، ارجوك . الاترى أن زواجنا سيفشل ؟ اننا مختلفان جداً عن بعضنا وغير متكافئين .
قال بوقاحة :
-اخرسي ! لا تدعيني اضربك على قفاك على مرأى من الناس ، ولا تظنني للحظة اننياهددك جزافاً !
توسلته بنظرة أخيرة يائسة ثم صدقته . صعدت السيارة كالسلحفاة ،وحالما جلس الى جانبها انطلق السائق عائداً بهما الى كوبايا .

عروس لليلة واحدة

جلست سوريل بعيداً عن خوانقدر المستطاع ، وسرحت ببصرها الى النهر العريض الصافي الذي يعكس ألق الشمس الغاربة، ويجري كذهب مسيّح بين حفافي الأشجار الداكنة . على الضفة الأخرى ، وخلف الأشجار ،بدت الحقول الخصبة مزنرة بظلال زرقاء وهي تنطوي أمام بصرها كغيوم ارجوانية ، فيمابيوت المزارع المتباعدة تتألق كأجنحة بيضاء وأسطحها الحمر تتوهج كما النار .
هذاالمشهد الهادئ و الوجه الآخر لكولومبيا ، بلد التناقضات ، لم يجلب الراحة لأفكارسوريل . فعواطفها تتوه في دوامة ، وهي تجلس متهدلة الكتفين على المقعد الخلفي ، لاتدري ماذا تفعل أو تقول . شبهّت نفسها بالثور في نهاية المصارعة ، خائرة القوى ،وتصميمها على المقاومة في درجة الصفر تقريباً . وجاءها صوت خوان على حين غرة ، يهمسفي أذنها وأنفاسه تلمس خدها كريشة ، مما جعلها تعي أنها صارت تجلس لصقه بدون أنتتذكر قيامها بذلك :
-والآن ، ما رأيك بتأديتي ؟ ألن تعززي غروري كما هو مطلوبمن الزوجة الفاضلة ؟ ألن تقولي انني ادّيت دوري ببراعة فائقة ؟ قبل بضعة ايام ، لمتترددي في امتداح براعتي التزلجية .
فردت بصوت خفيض :
-انا لست زوجتك .
ظلت مشيحة عنه كي لا ترى السخرية التي تصورتها مرسومة على فمه المائل . قالمؤكداً بغرور :
-ستصبحين زوجتي عما قريب .
-لا اريد ذلك . لا استطيع الزواجمنك ونحن بالكاد نعرف بعضنا بعضاً.
-ولهذا السبب بالذات ينبغي أن نتزوج ... لكينوطد هذه المعرفة .
فاستدارت تتفحص وجهه بعينيها الواسعتين ، ولم تخرج بنتيجةسوى أنه بدا متسلياً بفكرة ما . قالت بارتياب :
-لابد ان هناك سبباً آخر . لااصدق أنك تبغي الزواج مني كي نوطد معرفتنا .
أجابها بصوت أرق وقد اقترب منهااكثر :
-لم تتركي لي أي خيار . يجب أن أفعل شيئاً لأمنعك من الهرب . لقد جعلتنيألحق بك مرتين . ألا يلفتك هذا الى شيء عني ، يا سوريل ؟
-يلفتني فقط الى انكتبدو عاجزاً عن تقبلك لأول هزيمة عاطفية تمنى بها . انك تواجه لأول مرة ، امرأةتختلف عن الأخريات ، امرأة لم تصرعها بتلك الهالة البطولية الرومانسية التي تتلذذفي احاطة نفسك بها . ولو انني لم اضيع محفظتي لكنت الآن في طريقي الى ميدلين .
-اجل ، فكرت في ذلك .
ضغط على خدها برفق ثم ازاح شعرها الكث عن عنقهاالناعم بأطراف اصابعه ، وتابع يقول :
-لهذا السبب لم أرجع اليك المحفظة عندماوجدتها .
-انت ... وجدتها ؟ اين كنت ؟
-سقطت منك في غرفة النوم . وعلى الأرجحلم تنتبهي لسقوطها في غمرة استعجالك الهرب هذا الصباح .
-اذن ، اعطني اياهافوراً ! اوه ، اني اعتبر احتفاظك بها عملاً خسيساً !
حاولت ازاحة يده بعنف لأنضغط أصابعه اللطيف كان يضعف مقاومتها لسحره لكنه اعتقل يدها بيده الأخرى ورفعها الىشفتيه ، ثم ضغط بها على صدره كي يدعها تشعر بخفقات قلبه ، و قال بهدوء متأملاًوجهها :
-عندما أتناور مع ثور صغير و متهور ، أحاول دائماً ان اتكهن بالوجهةالتي سيهجم منها ولذا خمنت أنك ستحاولين العودة اليوم الى ميدلين ، وكان عليّ أنأجد طريقة ما لأعيق ذهابك . دييغو و اوهينيا ساعداني من جهتمها على اقناعك بحضورالمصارعة ، وأنا أخفيت محفظتك لأزيد من تأخيرك و لأتمكن بالتالي من اللحاق بك فيالوقت المناسب.
-لم ارَ على غرارك رجلاً مجرداً من المبادئ الى هذا الحد .
-اني اتجرد منها حين أكون راغباً في الحصول على أمر ما ، وأنا أريدك زوجة ياسوريل .
حاولت أن تبعده عنها بدفع صدره الى الوراء انما كانت كمن يزحزح حائطاًصخرياً ، وحين حركت رأسها لتتفادى وجهه وجدت يده تقفز الى خدها وتلوي وجهها صوبه . همست :
-لن تجبرني على الزواج منك . سأرفض ذلك . سأقول ان هناك اسباباً عديدةتحول دون زواجنا . سأزعم انك خطفتني بالاكراه . سأقول لرجل الدين اننا لا يجب اننتزوج لأننا لا نحب بعضنا بعضاً.
-تتحدثين دائماً عن الحب مع أنك بدأت لتوكتتعلمين شيئاً من عذابه اللذيذ ، والآن سأعطيك مزيداً من الدروس .
لمس محياهابرقة ، وجنتيها ، جبينها ، جفنيها وذقنها فارتعش قلبها وأصبح التفكير في مقاومتهشيئاً منسياً . عطر شعره ووجهه أشعرها بضعفها وخفقات قلبه أسمعتها الحاناً رقيقة ،فما عادت تهتم أين هي ولا درت بشيء عن حلول الغسق ولا عن قناديل الشوارع التي كانتالسيارة تخترقها بهدوء وسلاسة . الكون كله كان يدور ويتركز في هذه العواطف الملهوفة . مرر اصابعه في شعرها وقال ناظراً في عينيها بتوق ، وصوته يخرج كثيفاً بفعل عاطفتهالمشبوبة :
هل عرفت الآن شيئاً عما سيحدث بيني وبينك ؟ عما قد يحدث هذه اللحظةوفي هذا المكان بالذات ؟
-اجل .
-هذا ماحاولت أن تتحاشيه من خلال هروبك . كانبمقدوري أن أدعك ترحلين وأنساك ، ربما مع امرأة اخرى ، لكني لم أشأ فعل ذلك لأنياريدك انت بالذات يا سوريل ، لذا ابقي معي وتزوجيني إن كانت هذه هي الطريقة الوحيدة .
غمرت وجهه بيديها وهمست بحرارة :
-نعم . نعم . سأبقى معك واتزوجك .
تمهلت السيارة ثم توقفت أمام بيت قديم ، ذي جدران خارجية بيضاء تلتمع بنعومةفي الضوء الذهبي المنبعث من قنديلين يتدليان قرب المدخل .
لم تكن سوريل قد افاقتتماماً من مشاعرها فدخلت البيت كالحالمة لتجد نفسها في ردهة فسيحة تشعشعها اضواءثريتين كبيرتين . كانت اوهينيا كورتيس هناك ، وبعد حوار قصير مع خوان تأبطت ذراعسوريل وصعدت بها الى الطابق العلوي وادخلتها غرفة نوم جذابة مزينة بورق جدران منثوربالورود ومؤثثة بفرش أبيض و ذهبي .
اغلقت اوهينيا الباب و قالت بحيوية :
-هذهالغرفة ستكون تحت تصرفكما ، انت و خوان ، اثناء مكوثكما في كوبايا . يوجد حمام ملحقبها ، وستجدانها هادئة على ما اظن . لقد وجدت لك ثوباً مناسباً للزفاف ، فلحسن الحظ، لم تأخذ ابنتي روزينا كل ثيابها عندما تركت البيت عروساً . انت وهي متعادلتان فيالطول تقريباً، لكنك انحف منها ، ولذا عليّ ان اضيق الثوب ليناسب جسمك . اذهبي الآنواغتسلي لبينما آتي به .
كان الرداء عاجي اللون من قماش الكريب دوشين الثقيل ،وزنه انيق رغم بساطة خطوطه . قالت اوهينيا وهي تساعد سوريل على ارتدائه :
-لقد ارتدته روزينا في حفلتها الراقصة الاولى حيث صمم لها خصيصاًعندما بلغت الثامنة عشرة قبل ثلاث سنوات ، لكنني واثقة من انها ستفرح من ارتدائكاياه ، كما ارجو الاّ تمانعي انت في ارتدائه كثوب عرس . ان لبس شيء مستعار ، منالمفروض ان يجلب للعروس ، اليس كذلك ؟
-اجل .
حدقت سوريل باستغراب الى مظهرهاالجديد المنعكس في المرآة الطويلة . فالثوب جعلها تبدو مختلفة كثيراً عن الشكل الذيتوقعته ، اذ بدت كفتاة تخرج من صورة في كتاب قصصي اسطوري !
بدا لها انه لم يكنهناك اي تباين يذكر بين لون الثوب ولون بشرتها ، ونتيجة لذلك بدا شعرها الاحمر اكثرلمعاناً وروعة ، وعيناها اغمق لوناً وكأنهما بركتان عميقتان من السواد.
كانتاوهينيا قد ضيقت حواشي الفستان قليلاً بواسطة الدبابيس وبدأت تخيطها بسرعة حول جسمسوريل . سألتها بعد قليل :
-ما رأيك في الثوب ؟ هل اعجبك ؟
-اجل ، اعجبني انهللطف كبير منك ان تعيريني اياه . لقد كلفكما خوان عناء كبيراً ، انت وزوجك ، حينقرر ان يتزوج بهذه السرعة من فتاة التقاها لتوه.
ثم اضافت بلهجة اعتذار :
-ومع ذلك لا تبدين مندهشة من تصرفه .
اطلقت اوهينيا ضحكة قصيرة وردت :
-لا يمكن ان يدهشني مطلق تصرف يصدر عن خوان ، فكلانا من السلالة نفسها . لقدكان منذ ولادته قانوناً بحد ذاته ، وذا نزعة عنيدة جداً الى نيل ما يريد ولو اضطرفي سبيل ذلك الى اقلاق الآخرين او حتى الى ايذائهم . من فضلك ، استديري قليلاً الىاليمين ، علي ان اخيط الثوب وانت ترتديه ، اذ لا وقت لاصلاحه بآلة الخياطة .
اطاعتها سوريل واطلقت تنهداً بطيئاً خفيضاً عبر عن ارهاقها ، فنظرت اليهااوهينيا باهتمام وغمغمت :
-ياصغيرتي المسكينة ، انت منهكة جداً . ما كان يجب انتهربي بتلك الطريقة اذ جعله ذلك اكثر تصميماً على امتلاكك ، انه يحب كل انواعالتحديات ، ولو لم يولد لعائلة تحترف مصارعة الثيران اباً عن جد ، لاختار ربماشيئاً آخر يشكل تحدياً مماثلاً : كتسلق الجبال او الطيران البهلواني او سباقالسيارات ، اي شيء يضطره الى استعمال مداركه وبراعته ليتجنب الموت في العاب الموتهذه .
عادت سوريل تحدق الى صورتها في المرآة ، انها تشعر فعلاً بارهاق وخوار . كذلك تحس انها وحيدة جداً ، فهاهي تستعد لزواجها من رجل غريب في ارض غريبة وتبعدكثيراً عن اي اهل او اصدقاء . لماذا تقدم على هذا ؟ اين ذهبت ارادتها القويةونزعتها الاستقلالية ؟ قطعت اوهينيا خيطاً بمقص صغير وتراجعت قليلاً لتتفحص نتيجةاصلاحها ، ثم قالت :
-هذا اقصى ما استطيع فعله ، والآن ، جربي هذين الحذائين . من المفروض ان يناسبا قدميك . وبدلاً من الطرحة التقليدية ، لدي هذه الطرحة المخرمةالتي كانت لامي.
فاحت من الطرحة العاجية رائحة الخزامى المجففة التي خزنت بها ،فلامستها سوريل باغتباط ، وقد تأثرت لمعرفتها بانها كانت تخص جدة خوان .
-هيا ياحبيبتي ، حاولي ان تبتسمي قليلاً ، الزواج خطوة رائعة لأنه بداية الحب وليس نهايته . لننزل الآن الى الطابق الأول حيث يقدم اليك دييغو شراباً منعشاً يزيل الذبول عنمحياك .
بعد نصف ساعة كانت سوريل تقف الى جانب خوان أمام رجل دين ضئيل الجسماسود الشعر ، يشبه جوفيتا الى حد بعيد ، وتحاول ان تركز على ما كان يقوله بعباراتاسبانية سلسة وهو يبارك اتحادهما ويوصيهما بالحفاظ على العهود التي قطعاها علىنفسيهما قبل لحظات .
غام لهب الشمعة امام بصرها واحست بدوار بسيط بفعل حرارةالجو العابقة بالبخور . ترنحت فسارع خوان الى احاطة خصرها بذراعه ، ثم ازاح الطرحةعن محياها وقبلها بلطف ، وفي الاخير تأبط ذراعها ، واستدارا معاً ، يهبطان الدرجاتالقليلة ويسيران خارجين على الممر الطويل بين صفوف المقاعد.
لو ان هناك شخصاًواحداً من اهلها يقف الآن بين الصفوف المعتمة ، قريباً او صديقاً ينتظر مرورهاليهديها ابتسامة حلوة . لكن لم يكن هناك سوى اوهينيا ، و دييغو ، بانشو ، الرجالالذين اشتركوا في المصارعة ذلك النهار وبعض المعجبين بخوان من اهالي البلدة الذينسمعوا اشاعة تقول ان بطلهم المحبوب سيتزوج هذا المساء فجاؤوا ليحظرواالاحتفال.
عاد الى منزل دييغو ، وحيث تحولت الحفلة الخاصة بالمهرجان الى احتفالبزفاف . و لكن كم تختلف هذه عن كل حفلات الاعراس السابقة التي حضرتها قبلاً ! فهنالا يجلس المدعوون الى موائد طعام طويلة و لاتسمع انخاب هادئة مهذبة تعقبهما وصلةرقص و شراب . هنا يعطون الاولوية للرقص و الشراب اللذين كانا في عزهما عندما وصلت وخوان الى البيت.
وماهي الا لحظات حتى انتزعها شاب مجهول من جانب عريسها واخذيدور بها في ارجاء القاعة في رقصة كولومبية تفيض بالحيوية ، تصاحبها غيتارات محليةيعزف عليها شبان متحمسون . وبعد نصف ساعة ، وقد توردت وجنتاها وتبعثر شعرها لكثرةمارقصت مع عدد وفير من المدعويين ، تلفتت حولها تبحث عن خوان فرأته واقفاً عند احدالمداخل المقنطرة لقاعة الاستقبال الفسيحة ، وهو يتحدث الى امرأة بدت مألوفة جداًبشعرها المعقوص عالياً وعنقها الطويل وقامتها النحيلة ، انها ايزابيلا كورتيس ! احست سوريل ان وجود ايزابيلا كان جزءاً متمماً للمشهد الخيالي العجيب ، وقد يعنيذلك انه سينتهي قريباً وستفيق هي لتجد نفسها في غرفتها في بيت عائلة انهل ، وان كانكل ما حدث لها من حين تركت رامون في مكتبه مساء الاحد ، لم يكن سوى اضغاث احلام .
بدأت تسير صوب خوان و ايزابيلا ، وهي تتوقع الى حد ما ان يتبخرا في الهواء لدىاقترابها منهما . لكنهما بقيا مكانهما ، ورأت خوان يستدير عنها و يتقدم بضع خطواتليرحب بصديق له قدم في تلك اللحظة. اما ايزابيلا فكانت تتلفت حولها عابسة وحالماوقع بصرها على سوريل ، اختفى عبوسها وحلت مكانه ابتسامة خفيفة ساخرة وهيتقول:
-آه ، الآنسة بريستون .
ثم وضعت اصبعها على فمها تتظاهر بالامتعاض ،واردفت :
-المعذرة ، يجب ان اقول السنيورا رينالدا . ها نحن نلتقي ثانية ، وفيظروف غريبة حقاً.
-ماذا تفعلين هنا ؟
-دييغو هو شقيق زوجي ، وقد جئت ازوره واوهينيا بمناسبة المهرجان، اظنني تأخرت قليلاً في الوصول .
قطبت ثانية وبدت قلقةجداً وهي تردف :
-قضيت وقتاً طويلاً مع مونيكا فتأخرت على موعد الطائرة التيتقلع عصراً من ميلدين . اني لأتساءل عما ستقول مونيكا حين تسمع خبر زواجكما.
ثم تلفتت حولها وكأنها تريد التأكد من انهما بعيدتان عن مسمع الحاضرين ، واضافت هامسة :
-اخبرتني اليوم أنها تأمل في عودة المياه الى مجاريها بينها وبين رامون، وانها قد فكرت في وسيلة لاقناعه بأنها لم تعد رفيقة لخوان.
فردت سوريل بتوكيد :
-لكنهما لم يكونا رفيقين في أي وقت من الاوقات .
-كيف عرفت ؟ هل اخبرتك هي ذلك ؟
بدت ايزابيلا مندهشة ، لكن حين أومأت سوريل برأسها . ضحكت المرأة باطمئنان و قالت :
-لم تخبرك بذلك الاّ لتكسب عطفك ، وأفضل وسيلة لاستمالتك الى جانبها هي ان تزعم براءتها من قصة خيانتها لرامون . لا تنسي اني اعرف كل شيء عنها وعن خوان اذ اطلعت على علاقتهما منذ البداية وراقبت تطوراتها . الم تكن هي التي طلبت اليك ان تأتي هنا لتري خوان ؟
-نعم ... كلا ...
وفجأة لم تعد سوريل متأكدة ، هل كانت هي صاحبة الفكرة ام مونيكا ؟ رأت ايزابيلا تبتسم هازئة فاضافت بضعف :
-انا حثثتها على طلب مساعدته ، وهي وافقت على ذهابي لمقابلته .
فقالت ايزابيلا متشدقة :
-وهكذا وقعت في مصيدتها الصغيرة . لقد شجعتك على الذهاب لكي يعلم خوان ان رامون قد اكتشف ما كان يجري بينهما و بالتالي كي يبادر خوان الى ذر بعض الرماد في عيني رامون ليعميه عن رؤية الحقيقة .
بدأت سوريل تفقد حيويتها السابقة التي احدثها الرقص و المرح ، وشعرت ببرد وارهاق و حيرة فغمغمت :
-انا لا افهم .
-لا تفهمين ؟ كم يؤسفني اني لم استطع رؤيتك قبل مغادرتك بيت رامون امس . فلو حصل ذلك ، لاستطعت منعك من الحضور لرؤية خوان . فانا اعرفه جيداً ، واعرف قدرته على استغلال الامور لصالحه وحيث لا يتوانى عن استعمال الناس وخداعهم لما يخدم اهدافه الخاصة ، وهنا لابد لي من الاعتراف بأنني لم اتصور ابداً ان تصل به انانيته الى حد استخدامه الزواج من فتاة شابة وبريئة مثلك ، ولعله اضطر الى هذا الزواج ليقنع رامون بان علاقته مع مونيكا قد انتهت الى غير رجعة ، ولتستطيع مونيكا ان تحتفظ بزوجها وبرفيقها معاً.
وفكرت سوريل في نفسها . الآن حان وقت الاستيقاظ كي نضع حداً لهذا الحلم الذي يتحول بسرعة الى كابوس . لكنه يرفض ان ينتهي ، وهي ماتزال تقف مكانها ، تحدق الى ايزابيلا ، وتشعر بغضب جامح يتنامى في داخلها .

ابتسمت ايزابيلا بشيء من المرارة ، و قالت :
-اما خطر لك ان تتساءلي عن فجائية هذا الزواج ؟ لقد استطاع خوان ان يخدعكبسهولة بسحره القوي ، اليس كذلك ؟ بعد شهرين من الآن سوف تحملين طفله في احشائك ،ويعود رامون الى الانغماس في اعماله ، وتستعيد مونيكا قدرتها على السير ، وبوسعك انتتصوري ماسوف يحدث آنذاك .
وهنا تنهدت ايزابيلا وتابعت :
-اوه ، يؤسفني ياعزيزتي ان اضطر الى اخبارك كل هذا . يبدو ان دوري في الحياة صار يقتصر على ان اكشفللآخرين ما لا يستطيعون ان يروه بأنفسهم . وحتى رامون ، رجل الاعمال الناجح ، وقدوقع فريسة لهذا الخداع المزدوج من قبل زوجته و عريسك . ولكن ، ماذا ستفعلين الآن ؟
-لست ... لست ادري لغاية الآن ... ليّ ان افكر . اشعر بارهاق شديد ومن الافضلان انام .
منتديات ليلاس
رفعت طرف ثوبها بيديها واستدارت تسير مهرولة وهي تشق طريقها بينتجمعات المدعوين الصاخبة . ولما وصلت الردهة رأت خوان يرفع بصره اليها وسمعتهيناديها الاّ انها تجاهلت نداءه وصعدت الدرج مهرولة ، ثم استدارت الى اليمين فياتجاه الغرفة التي غيرت فيها ثيابها قبل اجراء الزواج . وحالما دخلتها اغلقت بابهاوارتكزت عليه لتلتقط انفاسها، ثم سارعت الى قفله بالمفتاح.
لم يكن ظلام الغرفةدامساً اذ كانت اضواء مصابيح الفناء تتسرب من النافذة العريضة التي تطل عليه وتلتمععلى زجاجها . سارت اليها سوريل ، وثوبها الحريري يصدر حفيفاً ناعماً و اقفلت بابيهاالزجاجيين باحكام . وفجأة استدارت بسرعة ، كحيوان محاصر ، حين احست بوجود شخص يديرمقبض الباب ويحاول فتحه بالقوه . وجاءها صوت خوان يهتف بحدة :
-سوريل ! افتحيالباب من فضلك .
تعرقت يداها على حين غرة فمسحتها بفستانها . حدقت الى البابوكلمات ايزابيلا تضرب رأسها كمطرقة ... انها في حاجة الى وقت لتفكر في تلكالمعلومات ولتخطط شيئاً في ضوئها .
وعاد خوان يناديها بصوت ارق ، وبشيء من المرح :
-سوريل ، اعرف انك هناك ، افتحي الباب ارجوك !
-خوان ، هل تستطيع سماعي؟
فهز مقبض الباب واجابها :
-اجل ، لكنني افضل ان اراك . هيا ، افتحي . ايةلعبة هذه التي تلعبينها ؟
-ارجوك يا خوان . حاول ان تفهم . انا ... انا متعبة واريد ان انام .
فقال بلهجة مداعبة :
-اذن دعيني ادخل وانام ايضاً من حقي الآنان افعل ذلك ، وانت ايضاً يا حبيبتي من حقك ان تنامي معي.
-كلا ، ليس الآن ، فيما بعد . سيكون من الافضل لكلينا ان استريح اولاً. ارجوك يا خوان .
اجابها الصمت . انتظرت باعصاب متوترة اذ توقعت ان يتصرف بعنف فيحطم القفل بلبطة محكمة الهدف ،لكنه ظلّ ساكناً ولم يهز مقبض الباب ايضاً . مرت اللحظات ثقيلة بطيئة ثم اغضبهاصمته فنادت قائلة :
-خوان ، هل تسمعني ؟
الصقت اذنها بالباب واصغت ، فما قدرتان تسمع شيئاً . هل ذهب ؟
حيرها رد فعله هذا ، او بالأحرى عدم رد فعله تجاهالباب المقفل ، فابتعدت عنه ببطء ، وهي تقاوم رغبة في فتحه و اللحاق بخوان كي تتهمهوجهاً لوجه بما قالته لها ايزابيلا .
كانت تشعر بالحيرة و الارهاق ، وبوجعالخيبة يمزق احشاءها . نزعت الثوب العاجي و القته كبركة من الحرير على السجادةالوثيرة ، ثم ارتقت السرير العالي القوائم واندست بين الاغطية الناعمة بارتخاء. اغمضت عينيها المثقلتين وبدا لها ان ايقاع الموسيقى الراقصة المنبعث من تحت كانيمتزج مع ضربات قلبها و يجلب لها النعاس تدريجاً.
خيل اليها انها على متن طائرةتحلق فوق المحيط الاطلسي ، وان الكابوس قد انتهى اخيراً ، واحست نفسها تبكي بقلبكسير لأنها لا تريد فراق خوان و لايهمها ان كان يخدعها . تريد فقط ان تكون معه . وحتى في احلامها استطاعت ان تحس دفء يديه وحرارة انفاسه وان تسمع خفقات قلبه تتحدمع خفقاتها .
فتحت عينيها فاذا بنور الفجر الباهتيتسلل من النافذة المفتوحة قليلاً و التي تظهر منها زاوية سطح احمر ... لم تكن علىمتن طائرة ، انما في منزل آل كورتيس في كوبايا !
رفعت يديها فاصطدمتا بيديناخرتين ، كبيرتين قويتين . ادارت رأسها على الوسادة فانزلقت اليدان فوراً مبتعدتينعنها . هبت جالسة على الفراش ونظرت الى الرجل المستلقي على ظهره الى جوارها . كانالضوء الباهت ينطرح على خده المندب ، واهدابه الكثة تبدو كمروحة سوداء تضلل ما تحتعينيه وفمه الجميل ينحني بهزء كما لو انه يبتسم لفكرة ساخرة .
كيف دخل الغرفة ،وكم من الوقت مضى وهو هنا الى جوارها ؟ انحنت عليه بفضول . اهو نائم ام يتظاهربالنوم ؟ لمست الندبة على خده و لاحقتها بلطف بطرف اصبعها . ثم لمحت بريقاً بيناهدابه ورأته يراقبها. انزلت يدها وجلست بلا حراك . مرت لحظة مشحونة بتوتر مثير ثمتحرك خوان كالبرق المرعد ولف عنقها بذراعه جاذباً اياها صوبه ، وغمغم :
-صباحالخير سينيورا رينالدا . كنت انتظر اسيقاظك . ارجو ان تكوني نمت جيداً وزال تعبك ،لأن وقت العناقازف من جديد .
فهتفت وهي تدفعه عنها :
-لا ، انتظر يا خوان . هناك شيء يجب ان اعرفه واريد التكلم معك بشأنه.
-انت تتكلمين اكثر من اللزوم ،لكني اعرف طريقة جيدة لاسكاتك.
احسته يعاملها بلا رحمة وكان ملمس يده يوقظعواطفها و يشل قدراتها.
بعد ذلك استلقت الى جانبه في صمت راجف وقد ادهشهااستسلامها الكامل له.
سمعته يغمغم :
-اصبحنا الآن متحدين جسماً وروحاً . هلتظنين فعلاً انك تستطيعين منعي باقفال باب علي ؟
كانت تحس ارتخاء ينتشر فيمفاصلها و يغريها بالبقاء طيلة النهار الى جانبه .
وسألته :
-كيف دخلت؟
-عبر الحمام الذي له باب يفتح على الرواق .
شبك اصابعه في شعرها وتبعضاحكاً بخفوت :
-لابد انك كنت مرهقة جداً فلم تفكري في اقفال باب الحمامايضاً.
لكن التعب لم يكن السبب الذي حداك الى اقفال باب الغرفة ، وهناك سبب آخر . هل تريدين الافصاح عنه يا حبيبتي ؟
-اردت ذلك قبلاً لكنك منعتني ... اقفلتالباب لأنني اردت ان افكر في شيء سمعته عنك من شخص ما .
-شيء لم يرق لك؟
-اجل يا خوان ، فأنا لماذا قررت ان تتزوجني .
ضحك ثانية ورد وهو يعانقها :
-بالطبع تعرفين ، فأنا اخبرتك السبب وقد اثبته لك فعلياً قبل قليل.
تزوجتكلأحول دون هروبك ، لابقيك معي ، ولأعرضك بافتخار لكل اقربائي و اصدقائي ولأزهو بكامامهم ...
فأضافت تتهمه بصوت خفيض :
-ولتذر الرماد في عيني رامون ؟
هبجالساً ليواجهها وهتف بحيرة و عبوس :
-ماهذا الذي تقولينه عن الرماد وعن رامونانهل ؟
-انت تعلم جيداً ما اقصد ، لذا لا داعي لأن تتظاهر بأنك لا تفهم . قلت ليامس ان هناك سبباً اخر لزواجك مني اضافة الى رغبتك في توطيد معرفتنا ، وقد اكتشفته ! سوف تستعمل زواجنا كغطاء لتحمل رامون على الاعتقاد بأن علاقتك مع مونيكا قد انتهت، اليس كذلك ؟
استمر يحدق اليها واجاب بوجه قاس :
-من اخبرك ذلك؟
-ايزابيلا كورتيس .
-اتعرفين ايزابيلا ؟
-بالطبع . تعرفت اليهاوالتقيتها عدة مرات في بيت رامون و مونيكا . انها صديقة العائلة ، ومن المفروض انتعرف انت ذلك لانها هي التي عرفتك الى مونيكا.
-حقاً ؟
هز كتفيه بلا اكتراثثم اضاف وهو ينهض :
-لقد نسيت ، وانصحك بأن تنسي انت ايضاً.
راحت تلاحقهببصرها وهو يرتدي ثيابه . انه لم ينف اتهامها بشكل حازم بل رد عليه باسئلة اثارتفيها مزيداً من الارتياب ، فغمغمت :
-لا اقدر ان انسى .
رمقها بنظرة حذرة ثمحمل قميصاً نظيفاً على ذراعيه وهم بمغادرة الغرفة، فسألته :
-الى اين تذهب؟
فاستدار قائلاً :
-الى الحمام ، كي اغتسل واحلق ذقني . اود من كل قلبي اناقضي الصباح معك لكنني مضطر الى زيارة الحلبة لاهتم بأمر الثيران .
افترفمه عنابتسامة خفيفة واردف :
-لا تقلقي يا حبيبتي ، سوف نستمتع بشهر العسل بعد انتهاءالمصارعات .
-لكنك لم تجب على سؤالي .
فرد باختصار :
-حسبتني فعلت . لقدطلبت اليك ان تنسي الأمر ، اذ لا يعنيك اي شيء من احداث حياتي الماضية .
-بمافيذلك علاقتك بمونيكا ؟
-اجل ، تلك ايضاً.
-تصرفاتك الماضية لا تعنيني لكنتصرفاتك المستقبلية تهمني .
-بدأنا الآن نقترب من لب المشكلة ! انك تغارين منالنساء اللواتي قد التقيهن وانظر اليهن مرتين.
هز رأسه ضاحكاً و قال وهو يفتحباب الحمام :
-سوريل ، لم يخطر لي انك ستكونين غيورة الى هذا الحد . لكن الذيتلمحين اليه لن يحدث اطلاقاً طالما انت تتصرفين كزوجة مثلى وترحبين بتقرباتيالعاطفية .
رمقتها بنظرة ولهى جعلت قلبها يخفق بقوة ، واضاف بصوت اكثر رقة وعمقاً :
-مثلما فعلت هذا الصباح .
-كفى ، كفى ! لا تحاول خداعي وايهامي باننيسأبقى المرأة الوحيدة في مستقبل حياتك .
-لكنك كذلك يا حبيبتي .
-طالما اناخاضعة لمشيئتك وساكتة على تصرفاتك ، اوه ، ماذا فعلت بنفسي ؟ كان يجب ان استمربالهروب بعيداً عنك ، والا اسمح لك بامتلاكي ! اوه ، كيف سأتصرف الآن ، ماذا سأفعل؟
ثم اجهشت في بكاء عاصف حين ادركت ان خوان لا ينوي دحض اتهاماتها . لقد اخذ هذا الصباح بغيته منها ، لكن بالرغم من تعهداته الزوجية مايزال مصمماً على خداعها . اجابها :
-يمكنك ان تحاولي الوثوق بي.
قال ذلك بصوت بارد جعلها تزيح يديها عن وجهها وتنظر اليه ، فبدا لها شاحباً الى حد البياض . قالت بعنف :
-كيف استطيع ذلك وانا لم ار منك الا الخداع ؟ ففي لقائنا الاول خدعتني برفضك ذكر اسمك الحقيقي . ثم عرضت ان تساعدني فصدقتك لكن حين قصدتك لتساعدني رفضت ذلك ، بل لم تتورع عن سرقة محفظتي...
-لم اسرقها بل وجدتها على طاولة الزينة . اما بالنسبة الى باقي الاتهامات فقد حاولت ان اشرح لك دوافعي ومبرراتي ، لكن ان كنت عاجزة عن فهمها فيبدو انني اخطأت فهمك بدوري . و بالنسبة الى مونيكا...
صمت فجأة ومرر يده في شعره ثم تابع مستديراً الى الحمام :
-اوه ! ماجدوى التفسير مادمت مصممة على ان تصدقي ايزابيلا كورتيس ، و بالتالي لا يمكنني دحض اتهامك . اعتقدت آملاً ان زواجي منك سيضع حداً للحديث عني وعن مونيكا .
فهتفت تلسعه بلا وعي :
-اذن كان بوسع اية فتاة اخرى ان تخدم هذفك هذا !
آلمتها خيبتها العميقة اذ تحققت مما اوحت به ايزابيلا ، وجرفتها الكآبة فلم تسمعه يشهق كما لو انه طعن بسكين.
التهبت عيناه كنار وسط وجهه الشاحب وصرخ فيها بصوت اجش :
-كم انت مصيبة ! لكنني كنت شديد الغباء حين اخترت فتاة باردة الدم على شاكلتك ! الآن عرفت لماذا هرب الرجال منك قبل ان التقيك !
صفق باب الحمام خلفه ، فأعولت سوريل متعذبة وطرحت نفسها على السرير تنتحب بشدة وتضرب الوسائد بقبضتيها ، متمنية لو انها لم توجه اليه مطلق اتهام ، ولو انها ماتزال الى جواره وهو يحضنها ويهمس لها بأعذب كلمات الغزل الاسبانية .
لم تدري كم من الوقت بكت ، لكنها هدأت شيئاً فشيئاً وبدأت تواجه حقيقة الوضع . لقد تزوجت رجلاً من النوع الذي حاولت دائماً الابتعاد عن طريقه ، رجلاً خشناً ، صلباً و مغروراً ، يجني آلاف الدولارات من تأدية رياضة عنيفة ، ويحبه مئات المعجبين الى حد الوله ، رجلاً اثار فيها عواطف كانت هاجعة في كيانها ، رجلاً اعترف لتوه بأنه ماتزوجها الا ليوقف اشاعة تتناوله وامرأة اخرى !لا يمكنها العيش معه في ظل هذه الحقيقة . لا تطيق الجلوس بلا حراك ، منتفخة البطن بطفل منه ، وهي تعلم انه يلتقي امرأة اخرى في الخفاء . يجب ان تتركه في اسرع وقت قبل ... قبل ... شهقت سوريل وهي تواجه حقيقة اخرى ... يجب ان تتركه قبل ان يتعمق حبه في خلاياها الى حد الاستسلام لكل الحقائق الأخرى .
هبطت ببطء من على السرير ، وسارت الى طاولة الزينة تلتقط محفظتها الملقاة هناك وتتفحص محتوياتها . لا شيء قد مس فيها ، فالمال الذي سحبته من المصرف في ميدلين مايزال موجوداً.
يجب ان تعود الى مونيكا لتروي لها ما حدث ولترى ردة فعلها . الفكرة فرخت على مهل في ذهنها الا انها كبرت بسرعة هائلة جعلتها تبادر الى ارتداء التنورة و البلوزة التتين لبستهما في اليوم السابق . سوف تغتنم غياب خوان و تنسل من البيت واهله نيام .
ولما ايتعدت للرحيل اخرجت مفكرتها من حقيبة يدها ونزعت منها ورقة كتبت عليها رسالة قصيرة لخوان جاء فيها :
-لقد تركتك . لا تحاول اللحاق بي . لا استطيع العيش مع شخص خدعني.
وضعتها على الطاولة في مكان المحفظة ثم حملت حقيبة السفر وغادرت الغرفة . لم تلتقي احداً وهي تهبط الدرج .

ولما خرجت الى الشارع شعرتبشيء من الاستغراب لكونها استطاعت الافلات بهذه السهولة.
كان الوقت قد شارفالظهر حين وصلت ميدلين ووجدت أخيراً سيارة تاكسي وزودت السائق بعنوان آل انهل . كانت ابنية البلدة تتألق في شمس الربيع الدائم وزهور الاوركيديا تتماوج في جمالقرمزي وزهري نادر على امتداد الشارع . وحين توقف التاكسي قرب مدخل البيت ، احستبقشعريرة رهبة تغزو اعصابها ، فليس من السهل ان تروي لمونيكا ما حدث وان تحاولالوصول الى الحقيقة . استغربت ان ترى سيارة رامون متوقفة امام المدخل الرئيسيوتساءلت ان كان مايزال في البيت و لماذا . دفعت اجرة التاكسي وهرولت تصعد الدرجوتدق الجرس . بعد قليل فتحت لورا الباب وليس مانويلا كما توقعت فهتفت :
-لورا ! لماذا انت في البيت ؟
فألقت نفسها عليها وصرخت وهي تقبلها وتحضنها وتضحك :
-سوريل ! لقد عدت ، لقد عدت ! اوه ، اين كنت ؟ الماما كانت تعيسة جداً هذاالصباح لانك لم ترجعي . لقد بكت و بكت واضطرت الى البقاء معها ، وفي الأخير استدعيتالبابا من المكتب . هيا ، ادخلي الى غرفتها، ان البابا موجود معها .
وجدت مونيكامستلقية على فراشها شاحبة الوجه مغمضة العينين ، ورامون يقف عن النافذة ينظر الىالحديقة ويعبث بحبل الستائر . سمع سوريل تدخل الغرفة فاستدار بسرعة وهتف :
-آه ،لقد عدت آخيراً !
وهتفت مونيكا :
-سوريل ! حمداً لله انك رجعت .
انخرطتفوراً في البكاء ، فألقى عليها رامون نظرة قلقة ثم سأل :
-هل اتى رينالدا معك ؟اذا كان جاء ، فاذهبي للاتيان به فوراً الى هنا.
-لكن كيف عرفت اني ...
توقفتناظرة الى مونيكا ، فمسحت السيدة عينيها بمنديل صغير و قالت :
-لقد اخبرت رامونكل شيء . هل وجدت خوان ؟ ماذا قال ؟ هل عاد معك ؟
-كلا ، لقد رفض ان يأتي . قالان مجيئه لن يجدي نفعاً ، وبدلاً من ذلك تزوجني .
فغر كلاهما فمه مذهولاً وقالتمونيكا بلهفة :
-سوريل ، عزيزتي ، هل أنت متأكدة من ذلك .؟
وهتف رامون :
-رينالدايتزوج ؟ لا اصدق ! لابد من وجود خدعة ما .
مدت سوريل يدها لتريهماخاتم الزواج و قالت بصوت راجف :
-انا متأكدة من الزواج . لكني اظن انك مصيب ياسنيور في وجود خدعة ما ، انما لم اكتشفها الا في ما بعد ، وحين اوحت الي ايزابيلاكورتيس بأنه تزوجني بسرعة ليذر الرماد في عينيك . ليوهمك بأن علاقته مع زوجتك قدانتهت.
فصرخت مونيكا قائلة :
-لكن لم تكن هناك اي علاقة بيننا على الاطلاق ! افهمتك ذلك يا سوريل ، واكرر ، لم نكن ابداً ، رفيقين . يا الهي ! كل الحق علىايزابيلا ! لقد حاولت ، منذ ترملها ، ان تقف بيني و بينك يا رامون ، فهي التيعرفتني الى خوان وشجعتني على الذهاب للتزلج .
كذلك اقترحت انازوره في مزرعته ، وطوال الوقت كانتتنقل اليك تحركاتي وتوهمك بأن العلاقة اعمق وأسوأ مماهي بكثير. اوه رامون ، يجب انتصدقني ! يجب ان تصدقني !
ران صمت قصير ، راح رامون يحدق خلاله الى زوجتهالمنتحبة ووجهه الكليل يتقلص الماً وحيرة . ثم استدار الى سوريل على مهل و قال لهابهدوء :
-اجلسي ، فهذا الموضوع يحتاج الى مناقشة ، ويخيل الي اننا جميعاً قدخدعنا بشكل أو بآخر .
جلست سوريل وانتظرت فيما عواطفها تتصارع في داخلها . امارامون فجلس على حافة السرير و خاطب زوجته قائلاً :
-اصغي الي يا مونيكا وحاوليان تجيبي بهدوء . لقد شرحت لي سبب انجذابك الى رينالدا في اول الامر ، واحسبنياتفهم ذلك بل لا امانع في الاعتراف بان تصرفي قد يكون هو السبب . اما الآن ، فهو لكان تخبريني عما حدث بالضبط حين ذهبت الى مزرعته ؟
مسحت زوجته دموعها وتنهدتبارتجاف ثم قالت بجمود :
-لم يكن موجوداً.
-اذن لم تريه ؟
هزت رأسها نفياًوتابعت :
-استقبلتني امرأة كانت هناك . امرأة في حوالي الثامنة و العشرين منالعمر ، جذابة جداً ، ترتدي ثياباً مزخرفة وتلبس خواتم ثمينة تساوي آلافالدولارات.
ادركت سوريل فوراً انها انيز ، فسألت مونيكا :
-هل عرفتك بنفسها؟
-كلا ، لا اظنها فعلت . لكن ... لشدة انذهالي من رؤيتها لم يخطر لي اناستوضحها اسمها . لقد تصرفت معي بطريقة هجومية . سألتني من اكون ، وعندما اعطيتهااسمي ضحكت و قالت ان خوان حدثها عني وسخر مني امامها .
وهنا عبر صوت مونيكاووجهها عن الكآبة نفسها التي احستها آنذاك لدى سماعها ان الرجل الذي وقعت في حبه قداغتابها وهزأ منها امام امرأة اخرى . وتابعت بصوت كسير :
-طلبت مني ان اعود الىبيتي الزوجي لانها كانت تعيش في المزرعة ولن يوجد هناك متسع لكلتينا .ادركت في تلكاللحظة انها رفيقة خوان ولا ريب . شعرت بخزي جارف عميق و استدرت اعدو الى سيارتي... ضحكتها الشامتة تلك لم تفارقني حتى اللحظة ...قدت السيارة على غير هدى ولذا حصلتالحادثة . لكنني كمنت عائدة اليك يا رامون ، ارجوك ان تصدق ذلك . كنت عائدة اليكانت ، لاني ادركت وقتها انك الرجل الوحيد الذي احب.
فضمها رامون الى صدره واخذيمسد شعرها و يقول :
--لا تبكي يا حبيبتي ، لقد صدقتك الآن . صدقتكتماماً.
لكنها عادت تقول بذعر كي تقنعه اكثر :
-ولم احاول الاتصال ثانيةبخوان بواسطة سوريل . لقد كذبت ايزابيلا حين اخبرتك ذلك يوم الأحد . انها تريدك انتطلقني لتحظى بالزواج منك ، وما انفكت تحاول ان تبني ضدي قضية محكمة كي افشل فيالدفاع عن نفسي لانها تعلم صعوبة حصولك على الطلاق من دون اثباتات قوية .
شهقتمونيكا باكية واضافت باكية واضافت متأوهة :
-لكن ربما انت تريدها بدلاً مني . ياالهي ! سيكون ذلك عقاباً قاسياً لي ، لكوني تجرأت فقط على النظر الى خوان .
-كلا، لا اريد ايزابيلا ، اريدك انت وما رغبت في امرأة سواك . لكني كنت بدأت اعتقد انكلا تريدينني ، فبعد موت الطفل اظهرت لي بعض الانكماش فلم اشأ ان افرض نفسي عليك ،ولاسيما ان الطبيب حذرنا من مغبة حمل آخر قد يقضي عليك ايضاً . ادركت الآن خطأي اذكان يجب ان اصارحك بمشاعري تلك .
ابتسمت له مونيكا وعيناها تتألقان من خلالالدموع المتجمعة فيهما ثم تمسكت بيده و قالت :
-اجل ، كان يجب ان تصارحني . اريدك ان تفصح لي دائماً عن مشاعرك يا حبيبي .
عبس رامون بقلق ، و قال :
-لكني ما زلت افكر في قول ايزابيلا ان رينالدا تزوج سوريل ليقنعني بانه ليسعلى علاقة معك . سوريل ، انت صدقت كلامها ، اليس كذلك ؟ لهذا السبب انت هنا ولست معزوجك ؟
اومأت سوريل كالخرساء ، لخشيتها اذا تكلمت ، ان تفضح عذاب احاسيسها . وقالت مونيكا بشراسة غريبة عنها :
-كم هي منحطة ايزابيلا لتقول ذلك . كم هيفاسدة ومنحطة . لابد ان حقدها الشديد جعلها توحي بشيء كهذا لعروس سعيدة تزوجت لتوها .
فسأل رامون :
-وما سبب حقدها ؟
اجابته مونيكا نقطبة :
-قد يكون السببما قلته لها يوم امس . كانت هنا ، تتظاهر كعادتها بالرثاء لوضعي ، وفجأة عيل صبريمن مداهنتها الزائفة فحاولت ان اكذب عليها بعض الشيء . قلت لها اني تصالحت معكواننا ننتظر عودة سوريل من مزرعة خوان لتنبئنا انه سيأتي اليك لينكر قيام اية علاقةبيني و بينه . فوجئت ايزابيلا بكلامي واستأذنت فوراً بالانصراف وهي تتذرع باضطرارهاالى السفر بالطائرة الى كوبايا كي تزور سلفها وزوجته.
تألق وجه مونيكا وكأنهااستشفت تصرف ايزابيلا فجأة ، ثم انحنت الى الأمام وهتفت :
-فهمت السبب ! فهي حينوصلت كوبايا وعلمت بزواج خوان ، ادركت ان زواجه سيكشف كل الاكاذيب التي حاكتها حوله، ولشدة غضبها منه لكونه افسد لها خططها حاولت ان تهدم زواجه قبل ان يبدأ. اوه ،سوريل ، انت لا تعتقدين فعلاً ان خوان ما تزوجك الا لذلك السبب ؟
فتمتمت سوريل :
-من الصعب ان اعتقد خلاف ذلك فهو تزوجني بسرعة فائقة .
اعقب ذلك صمت قصيرحيث شعرت سوريل ان الزوجين يحدقان اليها ، وربما ينتظران ان تضيف شيئاً اخر ، الاانها لم تجد ما تقوله .
تنحنح رامون و كأنه يستعد لالقاء خطاب ، فتطلعت اليهلتراه يحدق اليها بلهفة ثم بدأ يتكلم ببطء وكأنه يبذل جهداً جباراً ليحط من كرامتهو ليقول ما يريد قوله :
-سوريل ، اظن انني لو لم افصلك من الخدمة لما كنت وصلتالى هذا الوضع العسير . تقبلي اعتذاري المخلص ، وقد كنت ليلتها في اشد حالاتالانزعاج . فايزابيلا ما برحت منذ فترة طويلة تحرضني على زوجتي من خلال تلميحاتمعينة تذكرها عن رينالدا ومونيكا . حاولت جهدي الا اتأثر بكلامها . لكن ما حدث يوميالسبت والأحد ، رسخا ظنوني بشكل ما ، فحرت في امري ... اريدك اذا شئت ، ان تعوديالينا ، وتنهي ما بدأته من عمل ، كي تستطيع مونيكا ان تسير ثانية .
فناشدتهامونيكا قائلة :
-ارجوك ان تقبلي .
حدقت سوريل في يديها تفكر ... ان عودتهاالى هذا البيت كان خياراً اخر لم تأخذه بالاعتبار اثناء رحلتها الجوية الى هنا ،لأنه لم يخطر لها وقتها ان مونيكا و رامون سيتصالحان ، او ان ايزابيلا كذبت فيقولها ان خوان ومونيكا كانا عاشقين وسوف يستمران في هذه العلاقة . اما الآن ،فتوصلت بسرعة الى قرار ، ورفعت رأسها تقول مبتسمة :
-سأعود لبضعة ايام في اي حال، لكن علي ان اذهب الى المطار لاجلب حقائبي.
ابتسم رامون ونهض واقفاً ، ففكرتسوريل في نفسها ، هذه اول مرة اراه يبتسم وكم احدث ذلك من تغيير في وجهه الصارم ! قال لها :
-اتفقنا . سأذهب واياك بسيارتي لاخرج حقائبك بنفسي.

العذاب كالعسل

كانت أشعة الشمسالصفراء ترقط زرقة حوض السباحة التوركوازية وتتألق بزهو على جوانبه ، الوقت عصراًودفء النهار في عزه ، وسوريل مسرورة بالضل الذي تزودها به الشمسية وهي تستلقي علىالكرسي الطويل وترشف عصيراً مثلجاً . كانت هي و مونيكا تسترخيان بعد وصلة منالتمارين العلاجية في المياه الرائقة و القابلة للعوم . و سألتها مونيكا بصوتمتفائل :
-ما رأيك ياسوريل ؟ ألم أتحسن كثيراً ؟
-بل كثيراً جداً.
لقداستغربت سوريل بالفعل التقدم الحثيث الذي حصلت عليه مونيكا منذ يوم الاربعاء . فموقف المرأة كله تجاه تعلم المشي قد تغير وصارت تظهر لهفة بدل التردد السابق وهيتتأمل المياة مفكرة:
-أنا واثقة تماما من ان تقلقي الماضي على علاقتي مع رامونكانت تعيقتني عن السير. لابد اني كنت اشعر في اعماقي انه لن يتركني مادمت مشلولة،ولذا لم ابذل اي مجهود يذكر. هل من الجائز ان يكون هذا التفاعل قد حدث بين اعراضيالجسدية والنفسية؟
-ربما.
اجابتها سوريل وهي تحدق شاردة الى سعف شجيراتمتهدلة تشبة السرخس وتشكل سياجا حول موقع البركة ليحجبها عن البيت وسائر ارجاءالحديقة.
اليوم الجمعة والساعة الثالثة بعد الظهر . لقد مر على رجوعها الى هناحوالي اثنتين وخمسين ساعة، اي اكثر من يومين! كم زحف الوقت بطيئا، او ربما بدا لهاكذلك لان اليومين اللذين سبقا عودتها كانا مشحونين بالاحداث المتلاحقة ، او ربمالأنها في حالة توقع دائمة ، اذ كلما رنّ التفون تتوقع ان تكون المخابرة من خوانوكلمات رنّ جرس الباب تحسب ان خوان قد جاء يسأل عنها . لكن ما الذي سيحدوه الىالمجيء ؟ لقد طلبت اليه الا يلحق بها ، وهو في أي حال ، لم يركض ابداً خلف النساء . تنهدت بدون ان تعي . انها تحس ارهاقاً بالغاً من جراء الارق الذي كابدته فيالليلتين الماضيتين وحيث عذبها الندم وجعلها تتقلب على فراشها و تتمنى لو انها لمتفه بكل تلك الاشياء التي قالتها لخوان حول علاقته العابرة و البريئة بمونيكا وتتمنى كذلك لو انها وثقت به بدل ان تصدق مزاعم ايزابيلا الحاقدة .
-انت لاتتوقفين عن التفكير في خوان ، أليس كذلك ؟
فنظرت اليها سوريل متأملة ... شعرهاالرطب يتجعد حول وجهها المستدير ، فمها استعاد رونقه بعد تصالحها مع زوجها وماعادمتهدلا حزيناً كما في السابق ، و الخط العميق بين حاجبيها قد إمحى تقريباً . منالسهل ان يتصور المرء مدى جاذبيتها عندما كانت في الثامنة عشرة و التقت رامون لأولمرة . تهربت من جواب مباشر وردت بصوت مرح:
-وما ادراك بأني لم أكن اخطط لبعضالتمارين الجديدة المفيدة لك ؟
-وهل تتنهدين وتحدقين في الفضاء لو كنت حقاًتفكرين في تلك التمارين؟ لا أظن ذلك يا عزيزتي .
التوت شفتاها المليئتان ببسمةحزينة وأردفت :
-لاتنسي انني انجذبت الى خوان لفترة من الزمن ، ولذا استطيع اناقدر شعورك الى حد ما .
فتمتمت سوريل بانفعال :
-اني اكرهه في هذه اللحظة .
-اذن هذا دليل على وقوعك في حبه ، فهو جرحك في الصميم ، ولو لم تكوني عاشقةلما آلمك جرحه لك .
-لكنني بالكاد اعرفه ، وما عرفته عنه لا يشجعني كثيراً علىحبه . فكيف استطيع ان أغرم برجل التقيته لأول مرة ، منذ اقل من اسبوع ؟
-لقدتزوجته .
وفجأة اجتاحت ذهنها ذكريات الحب القصير مع خوان فقالت بصوت مرتجف خفيض :
-تزوجته لأنه حشرني في خانة الزواج .
هذه المرة نظرت اليها سوريل بارتيابفتابعت مونيكا على عجل :
-ألا يؤكد لك هذا اكثر من أي وقت مضى ، ان ايزابيلاكذبت عليك حين اخبرتك انه ما تزوجك الا ليذر رماداً في عيني رامون ؟
-ماكان يجبان اصغي اليها ابدا.
-وانا أخطأت جدا في تسليمها اسراري، لكنها ذات دهاء وتجعلكتشعرين انها تفعل كل ماتفعله من اجلك وحدك، وانها لا تهتم الا لمصالحك،فيما تكونطوال الوقت تسعى لمصالحها الخاصة.
-اعرف ماتقصدين،لكن ذلك لايبدل حقيقة ان خواناعترف صبيحة زواجنا بأنه تزوجني عمدا،لكي يضع حدا للاشاعة التي تتناول اسمكواسمه.لقد خدعني وهذا مايؤلمني.
-أحقا؟هل انت متأكدة؟ الاتظنين انك انجرحت لانهلم يخبرك ما وددت سماعه منه في تلك اللحظة؟ سوريل ،يمكنني ان اتصور بالضبط ماحدث!لابد انك سارعت الى اتهامه بصراحتك المنتاهية، وهاجمته كثور هائج من دون انتحسبي حسابا لمشاعره الخاصة. انه رجل كسائر الرجال وله كرامته التي يعتز بها . ماذاقال لك؟
-في البداية،طلب الي ان انسى معرفته بك وقال ان تصرفاته الماضيةلاتعنيني، ثم اتهمني بالغيرة من شيء لم يحدث شرط ان اخلص له واثق به.
-هذاماتصورته،لم يخبرك ما اردت سماعه. كيف كان رد فعلك انذاك؟
-سألته كيف يمكنني اناثق به وهو ماتصرف معي الا بطرق خداعية، فاستشاط غضبا، واستطيع الان ادراك السبب،فلقد ثار لانفضاح امره.
فسألتها مونيكا:
-هل انت متأكدة من هذاالسبب؟
-لايمكن ان يكون هناك اي سبب اخر لانه اعترف بعذ ذلك بأنه فكر في الزواجليوقف الاشاعة.
وهنا تذكر سوريل العبارة الاخيرة التي قذفها بها،فغمغمت بصوتمرتجف:
-لا ارغب في متابعة الحديث.
-حسناً لا تفعلي ... ظننت ان الحديث قديساعدك على بلورة الامور. انما عليك ان تسارعي الى حل المشكلة بطريقة ما ، الاتعتقدين ذلك ؟
هل تلمح مونيكا الى انها سوف تستغني قريباً عن خدماتها حالماتستطيع المشي ؟ ان كان الأمر كذلك ، فعليها ان تفكر من الآن في خطوتها التالية . يمكنها ان ترجع الى وطنها او ... اوه ، كيف تتصرف المرأة حين تترك رجلا لم يدمزواجها منه اكثر من اثنتي عشرة ساعة ؟ يمكنها ان تبقى حيث هي ، وتأمل ان يأتيساعياً وراءها . لكن اذا لم يأت افتراضاً ، ماذا ستفعل ؟ هل تذهب هي اليه و تناشدهاسترجاعها ؟
كانت مونيكا قد أنزلت ظهر مقعدها الطويل واستلقت عليه لتأخذ حمامشمس . رشفت سوريل من شرابها المثلج و حاولت عبثاً ان تتصور نفسها تعود الى خوانلتلتمس صفحه . قالت مونيكا انه رجل موفور الكرامة ، لكن هي ايضا لها كرامتها التيلن تسمح لها بالذهاب اليه ذليلة متوسلة .
من جهة اخرى ، هي لا تعرفه جيداًلتستطيع التكهن برد فعله ، و تخشى بالتالي ان يرفضها ويزدريها و لاسيما ان السببالأساسي الذي دفعه الى الزواج منها قد زال الآن تماماً ،فهي لا تعتقد ان ايزابيلا ستستمر في نشر الاشاعات حول علاقة حب وهمية بين زوجة رجلاعمال بارز و مصارع ثيران مشهور .
لو ان خوان يحبها حقيقة لما تأخر لغاية الآنفي اللحاق بها . لقد جرى وراءها مرتين من قبل . استفاقت من افكارها التعيسة علىجلبة اصوات ، فرفعت رأسها ورأت لورا و غابرييلا في لباسهما المدرسي ، مقبلتين لرؤيةامهما . و كالعادة ، راحت غابرييلا تثرثر وتظهر عواطفها لأمها بالجلوس على حافةمقعدها واحاطة عنقها بذراعها . و حالما صمتت غابرييلا لحظة لتلتقط انفاسها ، اغتنمتلورا هذه الفرصة ، فقالت بعفوية وهي تسترق النظر الى سوريل :
-علمت اليوم منفتاة في المدرسة ان خوان رينالدا قد أصيب عصر الأربعاء في احدى المصارعات في كوبايا . قالت صديقتي ان الخبر نشر امس في الجريدة .
بدت الصدمة على غابرييلا فهتفتبأسى :
-اوه ! أتظنين اننا ما نزال نحتفظ بجريدة يوم امس .
فردت لورا :
-لم لا تسألين مانويلا ؟
و هنا حثتها امها قائلة :
-اجل ، اذهبيواسأليها يا غابرييلا ، وأجلبي الجريدة معك اذا وجدتها . لورا ، هل اصيب اصابةبالغة على حد علمك ؟
-ذكرت صديقتي انه في حالة حرجة ، ماذا يعني ذلك ؟
لمتسمع سوريل جواب مونيكا اذ كانت تستعين بكل قواها لتخفي شعورها الشديد بالغثيان ولتبقى جالسة في مكانها ريثما ترجع غابرييلا بالجريدة . راحت تقول في نفسها : لايعقل ان يكون الخبر صحيحاً ، فهو ادى مصارعته الأخيرة يو الثلثاء . لابد انها غلطةمطبعية . لابد ان الجريدة اخطأت في الاسم . اوه ، ماذا تراني فاعلة اذا توفي ؟ ضغطتعلى فمها بظاهر يدها و استلقت على مقعدها فالتقى بصرها بنظرات مونيكا القلقة . ثمأقبلت غابرييلا تعدو حول الشجيرات ، وتصرخ ملوحة بالجريدة :
-الخبر هنا ! هنا ! منشور في الزاوية الرياضية !
فأخذت لورا الجريدة منها و قالت :
-دعيني أراه .
لكن مونيكا أمرتها بقولها :
-اقرأيه بصوت مرتفع.
قرأته لورا على مهل ،فشعرت سوريل ان كل كلمة كانت خنجراً يغمد في قلبها ...
-الشجاع يصاب في مصارعةمذهلة .
كان هذا العنوان و تلاه نص الخبر ...
" بعد ان اصيب خوان رينالدا فيبداية المصارعة بقي في الحلبة حتى النهاية مما جعل عشاقه المتحمسين يهبون واقفين ويهتفون له محيين بطولته حين ذبح الثور . ثم خر صريعاً من جراء نزيف حاد فحمل علىجناح السرعة الى المستشفى في كوبايا ، وحيث أعلن في وقت لاحق انه في حالة حرجة . كان رينالدا قد عاد الى الحلبة قبل يومين فقط بعد غياب دام عامين تقريباً ."
توقفت لورا عن القراءة و قالت :
-سائر الموضوع يتكلم عن حاجة المصارعة الىمصارعين في مستواه الفني وحسه الدرامي .
فتمتمت سوريل وعي تقفز من مقعدها :
-عن اذنكن .
وضعت يدها على فمها و غادرت المكان وهي تركض حول سياج الشجيراتالى البيت . دخلت غرفتها و استلقت على الفراش ... لقد اصيب خوان بسببها ... بسببهروبها الذي آلمه و شتت افكاره . لكنها لم تكن تدري انه سيصارع ثانية . لماذا لميخبرها ؟ هل كان سيخبرها لو انهما لم يتخاصما ؟ تلاطمت الاسئلة في ذهنها ثم قفزتفجأة من السرير و هرعت الى الخزانة لتخرج حقيبة السفر . يجب ان تذهب الى كوبايالتراه اذ لا جدوى من بقائها هنا ومن تعذيب نفسها بأسئلة عميقة ستظل بلا اجوبة .
الأهم من كل ذلك انه ، في حالته الراهنة ، يحتاج الى كل الحب الذي تستطيعاغداقه عليه .
لاحظت سوريل ارتجاف يديها وهي تطلب رقم المطار و فكرت في نفسها ،لم اعد هكذا منذ التقيت خوان ، فلقد استطاع ان يجرحني في عمق اعماقي ، وهيهات اناعود الى سابق عهدي ... علمت ان هناك طائرة ستقلع الى كوبايا في خلالنصف ساعة ،فأوصلها بيدرو بالسيارة الى المطار . وعندما غادروا ميدلين كانت الشمس الغاربة تبدوكلهب قرمزي و ذهبي ، لكن عندما حطت الطائرة في كوبايا و صار لون السماء أرجوانياًداكناً ، وبدت مدثرة بنجوم ذهبية متوهجة ، تلتمع انعكاساتها كمصابيح صينية على صفحةالنهر الداكنة .
كان المستشفى قديماً مبنياً على الطراز الاسباني له برج عال علىأحد جانبيه ، وفي الداخل كان كل شيء هادئاً يوحي بالسكينة و عدم الاستعجال ، وبدامختلفاً تماماً عن المستشفى الذي عملت فيه سوريل في انكلترا . عند مكتب صغيرللاستعلامات ، اخبرتها ممرضة ، ان السنيور رينالدا غادر المستشفى ذلك الصباح . فهتفت سوريل :
-لكن ... أين ذهب ؟
أجابتها الممرضة بنبربة هادئة :
-لستادري . حالته لم تكن جيدة تماماً غير انه اصر على مغادرتنا . هذا كل ما استطيعاعلامك اياه.
-شكراً.
ازداد قلقها أكثر من أي وقت مضى و خرجت على مهل لتقفبضع لحظات على رأس الدرج المؤدي الى بوابة المستشفى وهي تتساءل عما يجب ان تفعله . ثم رأت سيارة أجرة تتوقف عند البوابة و يترجل منها ركابها.
تحركت على الفورفهبطت الدرج ركضاً و طلبت من السائق ان يوصلها الى الشارع الذي يقطن فيه دييغو واوهينيا ، وفي خلال عشر دقائق كانت تقف على العتبة تنتظر من يفتح لها البابالحديدي.
غمرها الارتياح حين فتحته اوهينيا بنفسها ، ثم هتفت بحرارة وهي تعانقهاوتجذبها الى البهو :
-وأخيراً ! كم انا مسرورة لعودتك . كنت اتناول العشاء معدييغو ، تعالي و شاركينا الطعام .
ومشت خلفها وقطعتا البهو الى غرفة طعام انيقةو صغيرة حيث رأت دييغو يجلس الى الطاولة . فسألت بلهفة :
-هل خوان هنا؟
اجابتها اوهينا :
-كلا . اعتقد انه ذهب الى المزرعة . دييغو ، ألم اقل لكانها ستأتي في أسرع وقت ؟
وقف دييغو يحيي سوريل بتهذيب ، وأزاحت لها اوهينياكرسياً و تابعت:
-اجلسي يا سوريل و تناولي شيئاً من الطعام.
ومع ان سوريل كانت متابعة رحلتها الى المزرعة ، الا انها امتثلت لطلب اوهيبنيا ، سألتهما :
-كيف صحة خوان ؟
اجابها دييغو :
-انه في حالة جيدة نسبياً . فلحسن الحظ اصيب فقط في ذراعه اليسرى ، هل انهيت عملك في ميدلين بصورة مرضية ؟
-عملي ؟
قالت اوهينيا :
-اجل ، فقبل ظهر الاربعاء ، وحين تأخرت في النزول من غرفتك و بحثت عنك فلم اجدك ، سألت خوان عن مكانك ، لدى عودته من الحلبة ، فأخبرني انك عدت الى ميدلين لتقابلي السنيور و السنيورا انهل اللذين كنت تعملين عندهما ، وهكذا افترضت انك ذهبت لتأتي بحوائجك من بيتهما .
اذن ، خوان اخفى عنهما الحقيقة ، ولم يعترف لعمته بأن زوجته هجرته بعد ان قضت معه ليلة واحدة فقط.
وعادت اوهينيا تسألها بحيرة :
-اين حقائبك و اغراضك ؟ لم ارها معك حين وصلت .
وعت سوريل انها تأخرت عليها بالجواب ، فقالت بسرعة وبصوت جامد :
-سوف ترسل الي في ما بعد.
-حسناً . حسبتك ستعودين مساء الاربعاء او ربما صباح الخميس و لما تأخرت في العودة اردت ان ارسل لك خبراً لاعلمك باصابة خوان ، لكنه رفض ذلك رفضاً باتاً و قال انك ستطلعين على الخبر في الوقت المناسب و لا داعي لاقلاق بالك.
ثم رمقتها بنظرة فضولية ، واردفت :
-كيف تناهى اليك الخبر ؟
اجابتها سوريل بصوت خفيض :
-قرأته في الجريدة عصر هذا اليوم . اوه ، ارجوك الا تخفي عني الحقيقة . هل هو فعلاً بخير ؟ فقد ورد في الجريدة ان حالته خطرة.
فقال دييغو :
-كان ذلك مجرد مبالغة ، فأغلب الظن ان محرر الزاوية الرياضية بالغ في خطورة حالته ليضاعف اهتمام الناس بالخبر ، مع ان خوان فقد فعلاً كمية كبيرة من الدم . كان يجب ان يغادر الحلبة فور اصابته لكي يطهر الجرح و يضمد لكن خوان يأبى على نفسه ذلك ، اذ اصر على ان يبدو اقوى من جراحه البدنية البسيطة واقوى من الثور الهائج ، و هكذا جن الناس اعجاباً ببطولته.
ابتسم دييغو برضى ، فكتمت سوريل رغبة ملحة في ان تعطيه رأيها الصريح في كل مايتعلق بمصارعة الثيران . وهنا قالت اوهينيا بهدوء :
-لكنه اصيب بالاغماء في النهاية ، وفي المستشفى اسعفوه بعمليات نقل دم. ومع ذلك ، قرر فجأة هذا الصباح انه لا يستطيع البقاء فيه مدة اطول واصر على وجوب عودته الى المزرعة . قال ان جوفيتا ستعتني به اكثر مما ستعتني به الممرضات ، واخشى ان كلامه هذا قد جرح مشاعر الممرضات.
همت سوريل بالنهوض من مقعدها و قالت بقلق :
-يجب ان اذهب اليه بسرعة .
فاجابتها اوهينيا بصوت حازم :
-ليس قبل ان تنهي طعامك وتشربي فنجاناً من القهوة الساخنة المنعشة . سوف يوصلك توماس الى المزرعة.

طوال الطريق الى المزرعة اخذت سوريل تتساءل عن السبب الذي حدا خوان الىحجب الحقيقة عن اوهينيا . لماذا ستر فعلتها ؟ ولو انه فعل العكس ، هل كانت ستلقىالترحيب الحار نفسه الذي لقيته الليلة من دييغو و اوهينيا ؟ وهل كانا سيلومانها علىاصابة خوان في الحلبة ؟ لا ريب في ذلك .
وصلا ايبارا ورأت اضواء البيوت تتراقصمن خلال النوافذ . في ساحتها الصغيرة ، كان الباص المهترئ اياه متوقفاً امام الفندقالرث ، ورأت بعض الأهالي يجلسون على درجات المنازل . ثم اصبحت البلدة خلفهما وراحتانوار السيارة القوية تشق الظلام مجدداً وتضيء الاشجار والاجمات وتتماوج على رؤوسالصخور . كانت السيارة السوداء الفارهة تنطلق بسرعة بالرغم من حالة الطريق السيئة ،وخمنت سوريل ان تصل المزرعة في غضون عشر دقائق.
احست ارتجافاً يسري في اعصابها . ماذا ستقول لخوان ؟ ماذا يمكنها ان تقول ؟ كلمة "آسفة " بدت واهية جداً ، وبالكادتعبر عن شعور الندم الذي يمزق كيانها ... في اي حال ، هل سيصدقها بعد ان قرأ كلماتالرسالة القاسية التي تركتها له ؟ لا تستبعد ان يرفض رؤيتها وقد يطلب الى جوفيتا انتبعدها عن البيت .
منتديات ليلاس
خشخشت الدواليب فوق الحصى المبعثر حين انعطفت السيارة علىالدرب الموصل الى البيت واخذت جذوع الاشجار على الجانبين تطير امامها كاشباح باهتة . ثم التمعت الجدران البيضاء المزينة بالمتسلقات في ظلام القنطرة ، وهنا خفف توماسسرعة السيارة وعبر المدخل المقنطر الى الفناء المظلل وتوقف عند النافورة.
دقتالباب الأمامي وتأخرت جوفيتا كثيراً في فتحه، وعندما فعلت ذلك اخيراً ، لم تفتحهعلى اتساعه ، بل نتعته الى الخلف شيئاً فشيئاً ، ثم سدت الفرجة الصغيرة بجسمهاالضئيل وثوبها البني ، اما وجهها الذابل الشبيه بوجه قرد حزين ، فبدا كصفحة سوداءتغلف ماكان يجيش فيها من مشاعر او افكار .
قالت سوريل بعصبية :
-مساء الخيريا جويتا .
-ومساؤك يا سنيوريتا .
اعترت سوريل دهشة مستاءة حين سمعت المرأةتخاطبها بلقلب الفتاة العازبة ، وبدا لها ان خوان لم يطلع مربيته العجوز على نبأزواجه . سألتها:
-هل لي ان ادخل يا جوفيتا ؟
فهزت المرأة رأسها قائلة :
-السنيور خوان مريض في السرير ويرفض ان يستقبل اية امرأة . عودي في يوم آخر ياسنيوريتا .
فبدأت سوريل تحتج بحرارة :
-لكنني لست مطلق امرأة ...
الا انهاصمتت حين رأت الباب ينغلق قليلاً، فأضافت بسرعة :
-يجب ان اره يا جوفيتا . اسمحيلي بالدخول ، ارجوك ! لقد قطعت مسافة بعيدة و ليست لدي سيارة لترجعني. دعيني ابيتالليل في الغرفة التي نمت فيها سابقاًكي استطيع ان اراه في الصباح . ارجوك ياجوفيتا !
توقفت العجوز عن اغلاق الباب وتضاعفت التغضنات على جبينها الضيق وهيتحاول ان تواجه هذه المشكلة الجديدة ، ثم قالت :
-اتعلمين انه مصاب بجرح فيذراعه اليسرى ؟ هناك قطب عديدة في الجرح وهو يحتاج الى راحة تامة.
اقتربت سوريلقليلاً وقالت وهي تمسك بحافة الباب استعداداً لفتحه :
-اجل ، علمت ذلك من العمةاوهينيا في كوبايا ، وهي ارسلتني الى هنا لمساعدتك على الاعتناء به ، هل تذكرين ياجوفيتا كيف تصرف بغرابة حين جرح في المرة السابقة ؟ وكيف رغبفي عزل نفسه عن سائر الناس؟ انه سيعود الى تلك الحالة ذاتها ان رفضت ان تسمحي ليبمساعدتك . سوف ترين بعينيك كيف سأريحه و اجعله سعيداً جداً.
بدا الاضطراب علىوجه العجوز لبضع لحظات ثم تنفست سوريل الصعداء حين فتحة الباب واشارت لها تدعوهاالى الدخول.
اغلقت الباب و قالت :
-لقد سمحت لك بالدخول يا سنيوريتا ، لانياعرف جوهر قلبك ، ولأني اعرف ايضاً انه يفكر فيك باستمرار.
فسألتها سوريل مندهشة :
-كيف عرفت ذلك ؟
اجابتها المرأة الضئيلة :
-كان هذا العصر يستريح منعناء الرحلة من كوبايا ، وفي اثناء نومه سمعته يكلم نفسه عنك . انت تختلفين كثيراًعن المرأة الاخرى التي جاءت لزيارته ابان مرضه الماضي وحيث احدث مجيئها مشكلاتكثيرة.
-اية امرأة تقصدين ؟
-تعالي معي الآن الى الغرفة التي ستنامين فيهاوسأروي لك الحكاية على الطريق.
مشت العجوز امامها على الممر و قالت :
-كاناسمها تيريزا وقد جاءت من كالفورنيا . كان السنيور خوان قد تعرف اليها في مطلعشبابه ، فمال اليها لفترة ثم انتهت العلاقة تماماً بالنسبة اليه.
توقفت جوفيتاعن الكلام لتفتح الباب وتضيء النور في غرفة النوم الجميلة التي باتت سوريل فيهاليلة الاثنين ، ثم اردفت بصوت جاف :
-لكن العلاقة لم تنته بالنسبة اليها .
دخلت سوريل الغرفة ووضعت حقيبتها على السجادة الوثيرة ، لم تحس هذه المرة بأيانزعاج من جو الغرفة الانثوي المحض بل شعرت بأنها تدخل بيتها.
وسألتها جوفيتاوهي تدور حولها باهتمام :
-اترغبين في الاستحمام يا سنيوريتا ؟ الماء الساخنسيريحك من عناء السفر .
-لكنني اخشى ان يستيقظ السنيور خوان على صوت جريانالماء.
-لااظن ذلك ، فقد تناول حبوباً منومة و مسكنة لألم ذراعه وصفها له الطبيبفي المستشفى . انه يغط في نوم ثقيل.
-اذن ، ارحب بحمام ساخن ، منفضلك.
-حالاً.
ابتسمت جوفيتا ابتسامة حقيقية اذ اسعدها ان تسمح لها الزائرةالعزيزة بخدمتها . ثم سألتها وهي تشير الى الحقيبة :
-هل جئت بردائك الخاص هذهالمرة ؟
فأومأت سوريل بالايجاب وما ان استقرت في المغطس الرخامي الأسود واحتوتها الرغوة العاجية الواصلة الى كتفيها حتى استسلمت للأمر الواقع وسمحت لجوفيتابأن تغسل لها شعرها و تفرك ظهرها بالماء و الصابون . ثم تذكرت حديثهما السابق الذيانقطع ... صحيح ان خوان افهمها ان احداث حياته الماضية لا تعنيها بتاتاً لكن الفضولالح عليها لمعرفة المشكلات التي سببتها المرأة ، فسألت جوفيتا بقولها :
-كنتتتحدثين عن امرأة تدعى تيريزا . قلت ان السنيور خوان حين قطع علاقته بها انتهىالأمر بالنسبة اليه انما لم ينته بالنسبة اليها . ماذا قصدت بهذا القول؟
اجابتها جوفيتا بطريقتها البسيطة :
-كانت ماتزال تريده ، وبما انها فشلت فيالحصول عليه ، صارت صديقة لأخيه الاصغر . لقد اخبرتك ان له اخاً . اتذكرين ذلك؟
-نعم ، اتذكر . ما اسمه ؟
-اندريه ، آه ، كان طفلاً هادئاً كملاك صغير ،اشقر الشعر مثل امه و يبتسم دائماً مثلها . كان الابن الأثير لديها و عندما قتلتحزن عليها كثيراً وكان عمره انذاك اربعة عشر عاماً فقط .
-هل اصبح مصارع ثيرانفي ما بعد ؟
-كلا ، لم يهتم ابداً بهذه الرياضة . كان لطيفاً و ذكياً جداً ولاينقطع عن مطالعة الكتب . تلقى علومه في جامعة بوغوتا ، وطالما قال بانه سوف يصبحكاتباً شهيراً في المستقبل . ثم جاءت تلك المدعوة تيريزا و سيطرت عليه .
اطلقتجوفيتا تنهداً حاراً ، و تابعت وهي تسكب الماء على ظهر سوريل لتزيل عنه رغوةالصابون :
-اغرم بها بجنون وجاء بها الى المزرعة لتعيش معنا ، وهذا ما كانتتبتغيه هي في الحقيقة ، ان تكون قريبة من خوان حين يأتي الى هنا . لم تكن تريداندريه في الواقع . كانت تستعمله ليس الا . اتفهمين ما اقصد يا سنيوريتا ؟
-اظنذلك . هل اعرض السنيور خوان على اقامتها في المزرعة ؟
-كلا . يجب ان تفهمي شيئاًيا سنيوريتا . ان سيدي رجل كريم جداً. له قلب طيب كبير . كان يحب اخته واخاه كثيراًويسمح لهما بالمجيء و الذهاب على هواهما . كان يقول لهما ان البيت يخصهما مثلمايخصه ، ويشجعهما على دعوة كل اصدقائهما الى زيارته . وقبل ان تتزوج السنيورا انيزكانت الحفلات تقام هنا باستمرار حيث يرقص الناس و يغنون و يمرحون ، وكان خوان يشاركاخته حبها للحفلات و المرح . انهما يشبهان بعضهما بعضاً في نواح كثيرة.
احستسوريل ان جوفيتا بدأت تحيد عن الموضوع الأهم ، فسألتها لتعيدها اليه :
-وهل نجحتخطة تيريزا ؟ هل استطاعت ان تؤثر على خوان من خلال اخيه ؟
تناولت جوفيتا منشفةحمام من على الرف و اجابت وهي تهز كتفيها :
-حاولت ذلك . كانت تقتنص كل الفرصالسانحة لتغازله . انه يحب المغازلة ايضاً ، لكن حين وجد ان تصرف تيريزا كان بثيراعصاب اندريه، بدأ يتجاهل تصرفاتها ، الأمر الذي اغضبها كثيراً.
اقتربت جوفيتامن المغطس و اردفت متسائلة :
-هل حدث و لاحظت يا سنيوريتا ، ان الناس يقدمون علىتصرفات شاذة عندما يثورون غضباً؟
فغمغمت سوريل :
-اجل ، لاحظت ذلك . انا نفسياثور احياناً ثم اندم كثيراً في ما بعد على مافعلته او قلته في لحظات الغضب . ماذافعلت تيريزا ؟
-اخبرت اندريه انها ماعادت تحبه وانها تفضل خوان عليه . ظلت تهينهو تستفزه حتى صار يغار من خوان الى درجة الجنون ، ثم اتهم اخاه بأنه سرق منه تيريزا . في بادئ الأمر سخر خوان من كلامه وحاول افهامه ان تيريزا فتاة فاسدة لا تستأهلحبه . لكن اندريه رفض الاصغاء اليه وتصديق كلامه ، بل انه ذهب الى ابعد من ذلك وصفعخوان على وجهه . يجب ان تعرفه شيئاً يا سنيوريتا ، هو ان رجال هذا البلد يعتزونجداً بكرامتهم ، ولا يتوانون عن العراك من جراء اي شيء يعتبرونه مهيناً لشرفهم .
-سمعت ذلك قبلاً . هل تعارك خوان مع اخيه ؟
-نعم ، تقاتلا هناك ، في الساحةامام البيت . وبما ان خوان كان اقوى من اخيه و اكبر حجماً ، فقد تغلب عليه بسرعة ثمحمله من على الأرض و القاه في البركة ، كي تخف ثورة غضبه ، ثم تركه و مضى .
-وبعدئذ ، ماذا حصل ؟.
-السنيور خوان اعاد تيريزا بنفسه الى كالفورنيا وامرها بأن تترك اخاه وشأنه.
-واندريه ؟ ماذا فعل ؟
-ذهب ايضاً الى كالفورنيا ولم نسمع عنه شيئاً لوقت طويل . كان خوان يسافر كثيراً الى بلدان اخرى ليشترك في مصارعات ثيران تقام فيها ، وكانت اخته قد تزوجت و سافرت لتعيش في الولايات المتحدة . ثم ذات يوم ، وقبل عامين تقريباً ، كان السنيور خوان على وشك ان يدخل الحلبة في نهاية المصارعة التي جرت في مانيسالاس ،واذا بتلك المرأة تظهر فجأة ، لتخبره ان اندريه قد توفي ، او بالاحرى ، قتل نفسه .
فشهقت سوريل قائلة :
-تقصدين انه انتحر ؟
-اجل ، فتلك الفاسدة كانت قد اوصلته الى الادمان وحيث تناول كمية مضاعفة من بعض انواع المخدرات . اصيب السنيور خوان وقتها بصدمة عنيفة ووضع كل اللوم على نفسه لكونه لم يعتن بأخيه كما يجب . ثم دخل الحلبة و اصيب بذلك الجرح الخطير .
وهنا اظهرت جوفيتا عواطفها الكامنة بشكل لم تظهره من قبل وهي تتابع متأوهة :
-آخ ، آخ ... كان وقتاً رهيباً ذلك الذي مررنا فيه ، وقد جرؤت تلك المرأة على المجيء الى هنا اثناء نقاهة خوان من مرضه . لقد ساعده جداً وجود السنيورا انيز هنا آنذاك اذ انها طردت تيريزا بالنيابة عنه.
انتهت جوفيتا من تجفيفها فلفت سوريل المنشفة حول جسمها على طريقة السارونغ الذي يرتديه اهل الملايو ودخلت غرفة النوم تقول :
-اشكرك جوفيتا على اخباري هذه القصة اذ واضحت لي بعض الامور التي غمضت علي. والان،جاء دوري لأقول لك شيئا. انا لم اعد فتاة عازبة،فقد تم زواجي من السنيور خوان في كوبايا،ليلة الخميس . كان من المفروض ان احضر المصارعة حين جرح،لكني اضطررت الى العودة الي ميدلين ذلك النهار.
حدقت اليها جوفيتا بذهول ثم نظرت الى خاتم الزواج وهمست وعيناها تمتلئان بالدموع:
-سنيورا. سنيورا رينالدا.انا سعيدة جدا من اجلكما معا، انه ليس ابني لكنني احبه وكأنه كذلك. من الان فصاعدا لن اقلق عليه فانت ستعتنين به جيدا. من فضلك، سنيورا،البسي رداءك كي اجفف شعرك واسرحه.
ارتدت سوريل قميص النوم الذي احضرته معها وفوقه الروب الفضفاض المرافق له. جلست امام المرآة وتذكرت جلستها الاولى مساء الاثنين الماضي. كم يختلف شعورها انذاك! الان لا ترغب بتاتا في الهروب ولا تريد الا ان تبقى مع خوان وتعيش في كنفه. لكن المشكلة انها غير متأكدة من استمرار رغبته فيها.
واخيرا انتهت جوفيتا من تسريح شعرها ثم تمنت لها نوما مريحا وغادرت الغرفة. جلست لفترة تفكر في قصة اندريه وتيريزا،قصة حب وعنف وموت مأساوي،دقت الساعة الاثرية مؤذنة حلول العاشرة ليلا، تماما حدث في الليلة الاخرى. يجب ان تنام لتعوض عن النوم الذي جافاها في الليلتين الماضيتين ولتنهض في الصباح منتعشة ومستعدة لمواجهة اي عقاب قد ينزله خوان بها.

مشت الى حيث السرير وازاحت غطاءه جانبا، وحين همت بنزع الروب قفزت الىذهنها فكرة اخرى ستذهب لتقي نظرة على خوان ولتطمئن الى راحته... افلم توكل اليهاجوفيتا مسؤولية العناية به؟
وفي الحال، عبرت الحمام الموصل بين غرفتيهما، ثمفتحت الباب بهدوء ووقفت على عتبته تنظر حولها. كان المصباح الى جانب السرير مضاء،تقدمت سوريل داخل الغرفة واغلقت الباب بغاية اللطف. وبالرغم من ذلك اصدر طقطقةبسيطة فتجمدت للحظة وتراقب خوان الا انه بدا في عالم اخر، فخطت الى الامام وقدماهاالحافيتان تغوصان في ثنايا السجادة القرمزية الوثيرة. توقفت عند السرير ونظرت الىتحت . كان خوان مضطجعا على بطنه، وجهه مدار الى الجهة الاخرى فلم تقدر ان ترى منهالا جانب خده وحنكه البارز واهدابه الكثة التي تظلل عينا واحد مطبقة. غطاء السريركان يدثره حتى خصره فيما صدره عاريا، والقسم الاعلى من ذراعه اليسرى ملفوفا بضماداتبدت شديدة البياض بالنسبة الى جلده الزيتوني اللون. تراجعت الى خلف ، تبحث بعينيهاعن كرسي لتحمله الى جانب السرير وقد خطر لها ان تجلس لفترة قربه. وفجأة، سمعته يسألبصوت خفيض وثقيل كما لو انه استيقظ من النوم لتوه:
-اهذه انت يا جوفيتا؟ الماطلب اليك الا ترجعي؟
ثم قسا صوته واكتسى بنبرة متسلطة وهو يتابع:
-طالما انكجئت فيمكنك ان تقومي بعمل نافع. افركي ظهري من فظلك، فعضلاته كلها تؤلمني.
لميكن قد ادار راسه ولا فتح عينه. جمدت سوريل في مكانها لاتدري كيف تتصرف. ثم تنبهتفجأة الى انه يطلب شيئا تستطيع هي ان تؤديه له بطريقة بارعة تعجز عنها جوفيتا لانالتدليك مهنتها. انها تعرف بالضبط موقع الالم في ظهره وتعرف سببه. استيقظت فيكيانها روح شيطنة هاجعة جعلتها تبتسم لنفسها.سوف تدلك ظهره و تتركه يحزر هويةالمدلك ! انحنت ووضعت يديها على الجانبين السفليين لعموده الفقري وبدأت التدليكبضربات قوية عريضة . خيل اليها ان عضلاته تقلصت قليلاً ، فتوقعت ان يدير رأسه ويفتح عينيه ، لكنه لم يفعل . اطلق تنهداً بطيئاً وركز رأسه على ذراعه في وضع مريح . كانت سوريل تستمتع دائماً بعملها التدليكي و قد توصلت مع الوقت الى تأديتهبانعزالية مهنية تامة مما جعل منها مدلكة ناجحة . لكن حين راحت تمسد ظهر خوان بدأتتفقد تلك الانعزالية بالتدريج . فهذا هو الرجل الذي احبت و الذي عاهدت نفسها امامالله ان تكون له بالروح و الجسم . فشعرت بالحب يسري فيها وتحول ملمس اصابعها الىضغطات حارة وناعمة كالحرير .
وفجأة سمعته يسألها بالانكليزية ، وبصوت شرس اشعرهابامتعاضه :
-كم من الرجال دلكت اهم ظهورهم يا سوريل ؟
فتلاحقت انفاسها بفعلالتعب و الحب معاً وسألته مبهورة ؟
-كيف عرفت انني انا التي تدلك ظهرك ؟
-لأنيدي جوفيتا كمخالب الطير اما يداك فهما ... لكنك لم تجيبي على سؤالي.
كان عملهافي المستشفى البريطاني محصوراً في تدليك النساء فقط ، اما المرضى الرجال فكان يوكلامرهم الى مدلكين ذكور . ولذا اجابته وهي تجلس على حافة السرير :
-ولا رجلواحد.
فغمغم قائلا :
-عظيم . فوالله لو قلت غير هذا لكنت بحثت عن هؤلاءالرجال وقتلتهم واحداً واحداً لانهم نعموا بلمس يديك قبلي !
-هل عليك ان تكونعنيفاً الى هذا الحد ، او غيوراً ؟
-هكذا اذن ! اصبحت الان عنيفاً و غيوراًاضافة الى كوني عديم المبادئ ، مخادعاً ، منحط الاخلاق ومنحرفاً ، باختصار ، منالنوع الذي لا يروق لك بتاتاً.
ثم استدار اليها و تابع وهو يساعد نفسه علىالجلوس :
-لماذا جئت اذن ؟
بدا وجهه شاحباً فوق لحيته النامية حديثاً ،وعظمتا خديه بارزتين جداً لكن عينيه كانتا تتألقان بنار باهتة تحت جفنين ثقيلين ،وهو يصوب اليها نظرة جارفة . وسألها بسخرية لاذعة :
-هل استدعتك اوهينيا وافهمتك ان واجباتك الزوجية تحتم عليك المجيء الي ؟
-كلا ، لم تفعل . انا جئت لكي ...
توقفت وما استطاعت النظر اليه اذ اجتاحتها رغبة في ان تمد اليه ذراعيهاوتلصق رأسه بصدرها لتخفف عنه ما يكابد من آلام . لكنها ابتلعت ريقها الجاف وقالتبصوت جامد :
-لماذا لم تخبرني انك كنت تنوي الاشتراك في المصارعة يوم الاربعاء؟
-لانني لم اعرف ذلك حتى صباح ذلك اليوم . فالمصارع المكسيكي لم يحضر بسبب مرضمفاجئ الم به ، وهكذا طلب الي دييغو ان انوب عنه . رجعت الى البيت لاخبرك لكني لماجدك هناك.
رمقها بنظرة مزدرية اشعرتها بخجل كامش و تابع بجفاف :
-اشكرك علىالرسالة . كانت في منتهى الوضوح ! لهذا انا مندهش من عودتك . حسبتك قدهجرتني.
ادركت لحظتها ان تلك الرسالة المجرمة السبب الحقيقي لاستلقائه هنا شبهمخدر بتأثير الحبوب المسكنة للألم . احست العذاب يمزقها قطعاً فهتفت متأوهة :
-ليتني عرفت ! لو اني عرفت انك ستشترك في المصارعة لما ذهبت الى ميدلين . الذنب ذنبي لانك جرحت.
-ذنبك؟من اين جئت بهذه الفكرة بحق الجحيم؟
-اخبرنيدييغو انك يجب ان لا تضطرب بأي شكل قبل دخولك الحلبة. قال ان هدا ما حدث فيمانيسالاس.
-اقال لك ذلك؟
اطلق ضحكة قصيرة متهكمة جعلتها تنظر اليه باستغراب. رأته يستلقي على الوسائد مراقبا اياها بحدة ، وتابع يقول:
-هكذا افترضت انرسالتك عكرت مزاجي! ها! ان دييغو يعرف كيف يؤلف قصة مقنعة عندما يرغب فيذلك.
عادت ترتجف الما من سخريته اللاذعة وسألته :
-ماذا تقصد؟
-طلبت اليهيبذل جهده ليقنعك بالبقاء وحضور المصارعة يوم الثلاثاء وهكذا ابتدع تلك القصة ليضربعلى وتر ضميرك. انه طبيب نفسي جيد، اليس كذلك؟ فأنت حضرت المصارعة كي لا تحمليضميرك وزرا وليس لتبعدي عني الاذى.
-لكنك كنت مضطربا قبل دخولك الحلبة فيمانيسالاس. جوفيتا اخبرتني انك اضطربت جدا حين سمعت ان اخاك قد انتحر.
-اقسمبالله انك امضيت وقتا ممتعا في التجسس علي من وراء ظهري! والان جئت راكضة الى فراشمرضي بتأثير ضميرك المعذب. لماذا؟ هل خفت ان موت قبل ان اغفر لك فعلتك؟ اذن دعينياريح ضميرك بالنيابة عنك. كان الذنب ذنبي. كنت اعرض بطولتي كالعادة وازود الناسببعض المشاهد المثير لقاء ثمن البطاقات، سواء في المصارعة مانيسالاس اومصارعةكوبايا الاخيرة. لقد اتحت للثيران ان تقترب مني اكثر من اللزوم ولم اقفز من طريقهابالسرعة المطلوبة. في منيسالاس، كان الثور كبيرا وما يزال يحتفظ بتصميم كبير علىالقتال، وفي كوبايا كان ثورا صغير الحجم والسن ربما خجولا. كانت مجرد مصادفة انيحدث ذلك في اليوم نفسه الذي قررت ان تهجريني فيه. الحادثة الاولى مجرد صدفةايضا.
توقف صوته الهازئ الخفيض ففكرت سوريل في نفسها:"لو انه لسع جلدي بسوط لمااستطاع ان يجرح احاسيسي الى هذا الحد..." وتابع يقول:
-ثقي انك لست الملومة . والان، اخرجي من هنا، وعودي الى انكلترا او ميدلين او الى اي مكان يحلو لك. لااريدك ان تحومي حوالي لمجرد ان ضميرك يلسعك.
اشاح وجهه عنها كي لا تقدر ان تراه،فقالت:
-لست هنا بدافع من ضميري المعذب. لقد رجعت لاني... اظن انني واقعة فيحبك.
فرد بسخرية:
-تظنين انك واقعة في حبي؟ اين الجدوى من ذلك بالنسبة الىرجل حار الدماء مثلي؟
-انا لا اكذب!
-امضي عني. اتركيني وشأني لا ستكمل موتيعلى انفراد.
-كلا!كلا!
تملكها الذعر فلم تدر ماذا تفعل او تقول لتقنعه. وفيغمرة يأسها،
ازاحت الغطاء واستقلت الى جواره على السرير. احاطته بذراعها وهمستمتوسلة:
-خوان، انت لن تموت ، لن ادعك تموت ،لن ادعك تموت لاني احبك واريدك انتعيش كي استطيع مشاركتك حياتك. لقد اخبرتني مرة انك تريد هذا ، وها انا الان اطلبالشيء نفسه بعدما اكتشفت انني احبك... احبك، هل تسمعني؟
تفجرت الدموع من عينيهاواردفت:
-اوه يا خوان، ماذا افعل لاقنعك؟ اخبرني ، ارجوك! استدار اليها على مهلوقال برقة:
-حاولي عناقي. لا داعي لان تخجلي مني. اريدك سوريل، اريدك الان. بكلجارحة من جوارحي.
-الرغبة تختلف عن الحب.
-في الاسبانية معناهما واحد"تيكييرو"تعني اريدك."تي كييرو" تعني احبك ."تي كييرو موتشو" تعني احبك كثيرا. يبدو انامك لم تعلمك الاسبانية جيدا... انا دائما احب بهذه اللغة، وما انفكيت اردد علىمسمعك منذ عصر الاثنين انني احبك احبك. لكنك لم تفهمي.
وهنا ابتعدت عنه قليلالخوفها من ان ينفتح جرح ذراعه اذا مام بحركة عنيفة، وقالت:
-جئت غرفتك بقصدالاطمئنان عليك. بوسعي ان انام في الغرفة الاخرى.

ضمها اليه واجاب
-بلستبقين هنا. سوف ننام الليلة معا وفي كل ليلة اخرى. هذا عقابك على تركك اياي صبيحةيوم زواجنا.
-العقاب االعذب . لكني مسرورة الى حد ما لانني تركتك، فلو لم افعل،لما قدرت ربما ان اكتشف حبي لك. هل احببتني فعلا منذ لقائنا الاول؟
-اجل ، لكنفي بادئ الامر احببتك بعيني، اذا وجدت فيك كل ما كنت ابحث عنه من جمال انثوي. اتذكرين كيف استمريت احدق فيك؟
-اجل، اتذكر. وقد حسبت.... حسبت...
-حسبتنيسيء النية، وانا بدأت وقتها اكتشف بأنك ختلفين عن كل امرأة اخرى غرفتها . فبالرغممن المك انذاك وضياعك، اظهرت شجاعة فائقة، فأعجبت بنزعتك الاستقلالية. كنت تكيلينلي الكيل كيلين فشكلت لي تحديا لم اجده في امرأة غيرك من قبل، وبدأت افكر كم ستكونالحياة مسلية ومفرحة اذا عشت معك لفترة . غير انني فشلت في اختراق ذلك الحاجزالدفاعي الذي شيدته حول نفسك في ذلك الوقت القصير الذي قضيناه معا. ثم عجزت عنايجاد طريقة تمكنني من لقائك ثانية، ولذا القيت اليك بذلك الطعم وطلبت اليك انتقصديني اذا احتجت الى مساعدة.
ضحك برقة وبلهجة منتصرة ثم تابع:
-نجح الطعماكثر بكثير مما توقعت! جئت الي بنفسك وكانت الخطوة التالية ان اقنعك بالبقاء. وفيخلال ذلكاكتشفت كم انت برئية وقابلة للعطب ،فغمرتني رغبة قوية في ان احميك واحتفظبك لنفسي. الامر الذي جعلني ادرك اني اريدك ان تكوني اكثر من حبيبة عابرة الهو بها، اردتك انتكوني زوجتي، ليس لمجرد ان اقنع رامون انهل بانني لم اهتم قط بزوجته، مع انه خطر ليان زواجي منك قد يكون طريقه افضل لاقناعة من الطريقة التي اقترحتها انت.
فادركتفي تلك اللحظة قصد خوان الحقيقي من قوله السابق انه تزوجها على امل ان تتوقفالاشاعة حول علاقته بمونيكا، واحست بخجل كبير من نفسها فقالتمتعلثمة:
-اوه...انا...لم افهم...قصدك . خوان، كم يؤسفني تصرفي الوضيع ذلكالصباح.
اجابها بصدقةالمعهود.
-انه يؤسفني ايضا. لقد جرحتني في الصميم، كنتاول امرأة تجرحني بكلامها وبالتالي وجدت نفسي اواجه تجربة جديده مخيفة جعلتني اعيمدى تورطي العاطفي معك، وهذا الاكتشاف اثار غضبي ودفعني الى اسماعك عبارات مهينةندمت عليها وما زال نادما عليها. لذا لم استغرب هروبك وما اعتقدت انكسترجعين.
-هل كنت ستلحق بي لو لم تصب في الحلبة؟
اجابها مستفزا:
-ربمانعم، وربما لا.
فردت تتهمه بلطف:
-بدافع الكرامة؟
قال بسخرية:
-نعميمكنك ان تضيفي الكرامة الى لائحة الموبقات التي الصقتها بي لكن اخبريني يا حبيبتي،ل كنت ستدوسين على كرامتك وتعودين الي بعد اصابتي؟
همست وهي تحاول ان تجاريه فيصدقه:
-لست ادري. لكني ارجح ذلك.
-اذن دعينا نقفل هذا الموضوع نهائيا.
ثمضمها فرب قلبه واردف:
-دعينا الان نستمتعع بوجودنا معا. دعينا تنبادل الغزلياجمليتي سوريل.
فقالت تعترض بلهفة:
-لكنك ضعيف من جراء النزيف .
-اتظنينذلك؟ اذن عليك ان تساعديني في استرداد قوتي.



تــــــــــــــــــــمــــــــــــــــت

 
 

 

عرض البوم صور زونار   رد مع اقتباس

قديم 21-03-09, 10:25 PM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2008
العضوية: 100005
المشاركات: 51
الجنس ذكر
معدل التقييم: momak عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 20

االدولة
البلدMorocco
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
momak غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : زونار المنتدى : روايات عبير المكتوبة
افتراضي

 

جزاك الله الف خيرو بارك الله فيك ورحم الله والديك, يعطيك الف عافيه

 
 

 

عرض البوم صور momak   رد مع اقتباس
قديم 22-03-09, 09:56 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو قمة


البيانات
التسجيل: Sep 2007
العضوية: 44675
المشاركات: 6,796
الجنس أنثى
معدل التقييم: majedana عضو ماسيmajedana عضو ماسيmajedana عضو ماسيmajedana عضو ماسيmajedana عضو ماسيmajedana عضو ماسيmajedana عضو ماسيmajedana عضو ماسيmajedana عضو ماسيmajedana عضو ماسيmajedana عضو ماسي
نقاط التقييم: 4832

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
majedana غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : زونار المنتدى : روايات عبير المكتوبة
افتراضي

 

اااااااااالف شكر عالرواية

انا بحبها كتيييييييييير

تسلم ايدك

 
 

 

عرض البوم صور majedana   رد مع اقتباس
قديم 14-04-09, 10:13 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Nov 2008
العضوية: 103835
المشاركات: 336
الجنس ذكر
معدل التقييم: زونار عضو سيصبح مشهورا قريبا جدازونار عضو سيصبح مشهورا قريبا جدازونار عضو سيصبح مشهورا قريبا جدازونار عضو سيصبح مشهورا قريبا جدازونار عضو سيصبح مشهورا قريبا جدازونار عضو سيصبح مشهورا قريبا جدا
نقاط التقييم: 502

االدولة
البلدKuwait
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
زونار غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : زونار المنتدى : روايات عبير المكتوبة
افتراضي

 

اقتباس :-   المشاركة الأصلية كتبت بواسطة majedana مشاهدة المشاركة
  
اااااااااالف شكر عالرواية

انا بحبها كتيييييييييير

تسلم ايدك



الله يسلمك عزيزتى تقبلى تحياتى

 
 

 

عرض البوم صور زونار   رد مع اقتباس
قديم 15-04-09, 02:42 PM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Nov 2008
العضوية: 107705
المشاركات: 578
الجنس أنثى
معدل التقييم: جين استين333 عضو على طريق الابداعجين استين333 عضو على طريق الابداعجين استين333 عضو على طريق الابداعجين استين333 عضو على طريق الابداعجين استين333 عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 436

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
جين استين333 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : زونار المنتدى : روايات عبير المكتوبة
افتراضي

 

يسلموووووووووو على الرواية الرائعة جدا.....^^

 
 

 

عرض البوم صور جين استين333   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مصارع الثيران, flora kidd, روايات, روايات مكتوبة, روايات رومانسية, روايات عبير, روايات عبير المكتوبة, sweet torment, عبير القديمة, فلورا كيد
facebook




جديد مواضيع قسم روايات عبير المكتوبة
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 11:36 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية