المنتدى :
سلاسل روايات مصرية للجيب
***أنين السواقي*** للأديب: نجيب الكيلاني
أنين السواقي
حدث ذلك منذ خمسين عاما
وعلى الرغم من مرور تلك الحقبة الطويلة من الزمن, إلا أن ذكرى هذه الليلة ما زالت محفورة في ذاكرتي.. وأحداثها العنيفة تطوف بمخيلتي من آن لآ خر.. وخاصة كلما حدثت مشاجرة علنية بين زوج وزوجة في قريتنا الصغيرة الوادعة.
لقد عاد أبي بعد الغروب بقليل. دخل البيت كعملاق أسطوري, شامخ الأنف يطوح عصاه الغليظة في كبرياء وتحد, لا يتفق ألبتة مع مظهر العمامة الناصعة التي تستقر فوق رأسه, وعندما يدخل أبي في العادة, تتحول الأصوات العالية إلى همسات, ويؤدي الجميع أعمالهم في همة ونشاط. ويسود البيت جو من الهودوء الظاهري المتوتر, وأول شيء يقع عليه نظر أبي هو ذلك المشهد المألوف.. إذ تتسابق زوجاته الأربع, وبينهن أمي *مسعده* هذه تتناول منه العصا.. وتلك تستسمحه في خلع حذائه, والثالثة تصيح بمن في البيت أن يكفوا عن الضجيج, مع أن الأصوات الهامسة لا تخلق حتى اللغط البسيط.. والأخيرة تبتسم في رقة.. وتؤكد له أن الطعام جاهز, وأن نار المدفئة وكذلك *الجوزة* على أتم استعداد.
دخل أبي في تلك الليلة, وشمل الجميع بعيني صقر.. وهدر بصوت أجش: أين *مسعده*؟.
طأطؤوا رؤوسهم.. وامتزجت الحيرة والخوف في قلوبهم..لقد ضربها أبي في الصباح ضربا مبرحا لا رحمة فيه لأنها لم تراع الدقة في تقدير كمية الملح اللازم للطعام.. وكادت تقضي نحبها من شدة الضرب.. وما إن غادر أبي البيت, حتى تصرفت أمي تصرفا جنونيا, إذ حملت ملابسها وحليتها.. وهرولت خارجة.. قاصدة بيت أبيها في قرية تبعد عن قريتنا سبعة كيلو مترات. ولم يستطع أحد أن يواجه أبي بالحقيقة.
وصرخ أبي مرة ثانية:
- ألا تسمعون؟ أين ذهبت هذه الملعونة؟
ووجدتني أتقدم إليه, دون أن أستطيع وقف سيل الدموع وهي تغرق وجهي وأقول:
- ذهبت إلى بيت جدي.
وانتفض لسماعه النبأ..وأيقن أن في هذا التصرف إهانة لكرامته.. ونيلا من رجولته.. وتمتم وهو يبتسم ابتسامة شاحبة مخيفة:
- جميل.. فعلتها المجرمة. فعلتها وهي تعلم أن في ذلك موتها..
وحينما يتكلم أبي عن الموت أدرك أنه لا يبالغ أو يهدد, فالكلمة التي يتفوه بها ليس لها سوى معنى واحد.. وكل ظروفه تجعل منه رجلا مقتدرا يستطيع أن ينفذ ما يقول. هو يلبس عمامة مهيبة..لكنه وثيق الصلة بالأقوياء.. ولعله أقواهم, وأعني بالأقوياء في ذلك الزمان الرجال الذين يخافهم الناس, و الذين بفرضون ضرائب غير شرعية على ضعاف الزراع والتجار وعلى الأثرياء أيضا, ويعرفون سر ما يرتكب من جرائم, وما يحدث من سرقات.
وكاد قلبي يسقط بين قدمي حينما سمعته يقول:
- لسوف أذهب الآن لإحضارها بنفسي. سأعود بها جثة هامدة.
ثم التفت إليّ قائلا:
- تعال معي لتشهد جنازتها يا ابن..
كان الليل شديد السواد, والطريق الملتوي المترب يمتد كعلامات استفهام متشابكة بين المزارع الخضراء التي طمسها ظلام الليل.. وأنين السواقي ينبعث نائحا حزينا كلحن جنائزي, وآلاف الأشباح المهولة تتراءى لي عبر العتمة, وكلما لفحتني موجة باردة,أو خفق قلبي بالرعب الشديد ازددت تشبثا بذراعي أبي الضخمتين, فكان يدفعني في شيء من الضيق أحيانا.
ويلعنني ويلعن أمي الداعرة المجنونة, وأحيانا أخرى يدعني وشأني, دون أي عاطفة أبوية ظاهرة.. وكنت واثقا أن أبي لن يرحمها وأن كارثة كبرى ستقع الليلة, وأشعر أن أمي تعاني مأساة ظالمة ليس لها ما يبررها.
وأن أبي الذي لا أعرف هل أحبه أم أكرهه له قلب صخري لا يرق لضراعة امرأة.
وطال الصمت كما طال الطريق, واللون الأسود يغمر كل شيء من حولنا, ومن آن لآخر يزفر أبي ويضغط على أسنانه في غيظ, ويهتف لنفسه:
- ماذا يقول الناس عني؟ سيقولون إبراهيم لا يستطيع تأديب زوجاته, يا للعار* امرأة حقيرة تمرغ شرفي في الوحل.
ويعود الصمت من جديد, ولا يقطعه إلا أنين السواقي النائحة.. أو نباح كلب بعيد, أو صوت أبي الأجش وهو يترنم بأشعار أبو زيد الهلالي ودياب بن غانم أو عنتر بن شداد.
وحينما بلغنا بيت جدي رفض أبي أن يجلس أو يتناول حتى شربة ماء.. وأصر على أن تعود معه أمي فورا وإلا حدث ما لا تحمد عقباه, فلم يجد جدي مناصا من أن يأمرها بجمع حاجياتها لتصحب زوجها.
يتبع
|