المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
513 - كوني لي سيدتي - كاترين سبنسر ( قلوب عبير ) دار النحاس ( كاملة )
الملخص
كانت ميلودي وورث لطيفة ومهذبة . وقد شاء قدرها أن تولد ثرية وهذا حتى الآن لم يكن يبدو لها مشكلة ،ثم ظهر جايمس لوغان في حياتها ليطلب منها أن تتوقف عن مساعدة الناس الذين لا يريدون إحسانها كيف يجرؤ على ذلك ؟حسناً ، عليها أن تتحمل رؤية الابن لأن أباه كان عجوزاً رائعاً ثم راعها أن وجدت نفسها تغرق في حب جايمس لوغان الصلب المتغطرس ، ولم تعرف ماذا يجب أن تفعل بهذا الشأن بعدما أخبرها أن المستقبل لا يمكن أن يجمعهما معاً.منتديات ليلاس
من أحداث الرواية
" لقد حـان الـوقت لأقول لك وداعاً "
في ما مضى ،كان من الممكن ميلودي أن تتقبل ذلك لأنها لم تتعود على التوسل والتذلل .ولكن ذلك كان قبل أن يشعل جايمس عواطفها ، مما جعلها ترفض أن تستجيب لأي من مشاعر الكبرياء والحشمة .ولم تتمالك نفسها من أن يجن جنونها وهي تفكر في احتمال فقدانه إلى الأبد .
صرخت باكية وهي ترمي نفسها بين ذراعيه : " أنك حياتي يا جايمس "
الفصل الأول
لابد أنها كانت غافية حين كان رأسها متدلياً كرأس دمية مكسورة ، إذ إن صوته الذي فاجأها من حيث لا تعلم ، جعلها تقفز مذعورة مما أصاب عنقها بالتواء مؤلم .
سألها بنبرة فيها من اللوم ما جعل قلبها يهبط " هل أنت من أحضر سيث لوغان "
أجابت محاولة النهوض من كرسيها " أجل جئت معه في سيارة الإسعاف .كيف حاله "
لم يجب إذ كان مشغولاً بتفحص شكلها .ولم تكن نظراته أقل من صوته سخرية من مظهرها .جذبت أطراف ثوبها الفضي حولها رغم علمها بأنه يرتفع حوالي الأربعة سنتمترات فوق ركبتها .وأنه لا يتناسب مع هذا الموقف الخطير .وكان جوربها الحريري ممزقاً ، وقد أدركت أن هذا قد حدث جلوسها على الأرض ووضع رأس سيث في حضنها بعد حادث الاصطدام وكانت عصابة رأسها قد انزلقت قليلاً بعد ساعات الليل الطويلة التي أمضتها حيث كان منظرها يبدو غير مألوف في غرفة الانتظار في المستشفى .
جاهدت للوقوف على قدميها وهي تنظر إليه متفحصة .كان يزيدها طولاً بقدم على الأقل مما يجعل طوله يتجاوز الستة أقدام .وكان لون بشرته يتوهج بسمرته التي اكتسبها من المناطق الاستوائية حيث كان هناك ، بعكس بشرتها البيضاء الناصعة .وكان شعره الأسود لامعاً، أما ذقنه التي لم تحلق منذ أمس ، فقد كانت تدل على شخصية عنيدة مسيطرة وكان الاستياء بادياً على فمه الجميل .
أشاحت ميلودي بوجهها بعيداً .ما الذي تفعله ؟ وكيف تسمح لنفسها بأن تسترسل في مثل هذه التصورات بينما ثمة رجل يموت في الغرفة الأخرى بسببها .
عادت تسأله " كيف حاله ؟ " وأخذت تعبث بعصبية ،بعقد الخرز الطويل المتدلي على مقدمة ثوبها الفضي.
رفع يده ليزيح خصلات شعره إلى الخلف محركاً كتفيه وكأنه يريحهما بعد انحناء على طاولة العمليات فوق ذلك الرجل الذي دهسته سيارة الليموزين .
لاحظت يديه الجميلتين بأصابعهما الطويلة ذات الأظفار البيضاء المقصوصة ومهما تكن أخبار الجريح فلا بد أنه قام بكل ما في وسعه ، فهو لم يكن برجل الذي يستسلم بسهولة ، وكذلك أولئك الذين كانوا يعملون معه دون شك .
أما سيث لوغان فقد كان ما يزال حياً .
قال ببرود " سينقلونه من غرفة الإنعاش في خلال ساعة . "
تنفست بارتياح قائلة " أذن سيشفى ؟ "
أجاب " إن ساقه مصابة بكسور مضاعفة وحالتها سيئة ،ولكنه إذا لقي العناية المناسبة فسيتمكن من السير عليها مرة أخرى ، هذا إذا لم يصب بالتهاب رئوي أو جلطة رئوية في الأيام القليلة القادمة . "
ارتجفت ميلودي لكلماته المتشائمة هذه وعادت تسأله " وإذا حدث له ذلك "
أجاب " قد يموت حين ذلك "
شهقت بألم قائلة " أوه لا .. "
شملها للمرة الثانية بنظرة باردة من عينيه الزرقاوين ثم قال " حسناً يا آنسه وورث إن الناظر إليك يكاد يقتنع انك تهتمين بذلك حقاً "
أجفلت من النبرة الجافة غير الودية في صوته قد يكون طبيباً ممتازاً وبالغ الوسامة ولكن إذ كان سلوكه نحوها يمثل ناحية أخرى من شخصيته فهذا يعني أن شخصيته مازالت في حاجة إلى الكثير لتكتمل .
قالت محتجة "إنني أهتم بذلك طبعاً .أهتم كثيراً . متى أستطيع رؤيته؟ "
قال وهو مازال يوجه إليها نظرته اللاذعة "ذلك ليس من رأيي أبداً " ثم مد إصبعه تحت خيط العقد المتدلي على صدرها وأخذ يلف العقد عليه ، ما جعلها تقترب منه إلى أن كادت تلتصق به وهو يقول : " إن آخر ما هو في حاجة إليه هو زيارةً من شخص مثلك "
دفعها التعب والقلق إلى أن ترد عليه بحدة " إن الرأي في هذا الأمر ، يعود إلى السيد لوغان"
أجاب مبتسماً ببرود " تماماً . ولكن السيد لوغان قد قرر طردك ."
" سأنتظر إلى أن أسمع هذا منه ، إن لم يكن لديك مانع ."
قال تاركاً العقد المتدلي واستدار لينصرف : " أنك في الانتظار على كل حال . " سمعت وقع خطوات خارج الغرفة ،توقفت عند الباب وما لبث أن سمعت صوت الطبيب المقيم الذي كان في استقبال عربة الإسعاف ساعة دخولها المستشفى ، يقول " أرى إنكما تعارفتما ." ثم أبتسم مشيراً إلى جراح يقف بجانبه : " أقدم إليك الدكتور فيلويس الذي أجرى العملية للسيد لوغان يا آنسة وورث وأظنك تريدين التحدث إليه مادمت كنت بمثل ذلك الحزن عندما أحضر الجريح إلى هنا ."
نظرت ميلودي إلى الجراح الذي كان يرتدي ثوب العمل الأخضر الذي يغطي جسمه كله ، وهو يبتسم لها مطمئناً وقد بان الإرهاق في عينيه .أذن من كان الرجل الآخر ذو النظرات العدائية الذي كان يوجه إليها الإدانة قبل دقائق ؟ واستدارت إليه تواجهه قائلة : " لم جعلتني أعتقد انك الطبيب المناوب ."
" أنا لم أفعل .أنت التي استنتجت ذلك ."
"أذن من أنت ، وبأي حق تخبرني أن أبقى بعيدةً عن السيد لوغان ."
أجاب " إنني جايمس لوغان أقرب الناس إليه ، مما يعطيني كل الحق في ذلك ، يا آنسة وورث ."
وتابع موجهاً حديثه إلى الطبيبين الواقفين " حيث أنني أعلمتها بحالة أبي أيها السيادة ،لا أظنكما بحاجة إلى إضاعة الوقت في تكرار ما سبق وأخبرتها به حيث أنها غريبة لا علاقة لها بالأمر سوى أنها شهدت الحادث ."
قال الجراح بلطف " لكنها بالرغم أنها غريبة، تشعر بالقلق العميق لحالته وربما تريد أن تسأل عن ذلك أليس كذلك يا آنسة وورث "
ترددت وهي ترى وجه جايمس لوغان العابس ، وتمنت لو كانت أكثر سيطرة على الموقف بدلاً من أن تشعر وكأنها مذنب أمام قاضي لا يرحم وقالت متلعثمة : " هل ..هل أستطيع رؤيته ؟ "
أجاب الجراح :" ليس هذه الليلة يا آنسة وورث ،إذ هو الآن شبه غائب عن الوعي فلا يستطيع تمييزك تعالي غداً بعد الظهر حيث يمكنه حينذاك أن يشعر بالسرور بمنظر شابة جميلة ."
دفعت ابتسامة الجراح العطوف، الدموع إلى عينيها وازدردت ريقها قائلة : " شكراً ، يا دكتور إنك في منتهى اللطف ."
ما أن خرج الطبيبان ، حتى قال لها جايمس لوغان :" لقد طلبت منك عدم البقاء هنا .عودي لحفلتك التنكرية تلك ، وكفى ادعاءً باهتمامك بحياة أبي أو موته."
تحولت ميلودي وقد شعرت بالإرهاق إلى أقرب كرسي فتهالكت عليه وهي تقول : " لقد انتهت الحفلة منذ أربع ساعات ." ونزعت العصابة من حول رأسها وهي تتابع : "حتى ولو لم تكن قد انتهت فليس في استطاعتي العودة إليها ."
وقف أمامها وأطفأ النور فوق رأسيهما ولكنها ما زالت تراه من خلال زجاج النافذة المبلل بالمطر بجانبها .وكان يبدو مثالاً للسخط والتذمر لم تتصور له مثيلاً .
تمتمت تحدث نفسها : " لم يكن من المفترض أن تنتهي بهذا الشكل . "
ابتسم لها بكره وقال : " هذا واضح .كيف حدث وارتكب أبي هذا الخطأ ، إذ تسبب في بعث الكآبة في تلك الحفلة طيلة المساء إنك ، دون شك خططت لتكوني نجمة الحفلة وذلك بأن تنشري ذكاءك وسحرك على جموع المعجبين بك ."
قالت معترضة : " كلا ليس الأمر كذلك ."
في الواقع كانت توقعت أن ترقص " الشارلستون " كما سبق وأخبرت روجر صاحب المتجر القريب منها ، ويستمر الضحك والموسيقى حتى ساعة متأخرة .ولكن رغبتها في أن ترى نجاح الحفلة الراقصة ، تحول إلى شيء أكثر عمقاً من ذلك العبث ، حسب قول جايمس لوغان ، وكانت نهاية كل تلك البهجة والإشراق ، في منتهى الخطورة وكان المهم في ذلك حقاً ، هو جمع مبلغ كاف من المال في سبيل تحويل الحلم إلى حقيقة .
كانت ميلودي تعشق الحياة ولم لا ؟ فهي لم تذق طعم الحاجة والفقر ،ولا فراق المحبين .كان يؤلمها أن ترى مظاهر اليأس في أعين المحيطين بها ممن كانوا أقل حظا منها في هذه الحياة وكانت تشعر بالذنب إذ ترى نفسها ثرية بينما هم فقراء .وهكذا أصبحت فكرة إنشاء مركز للعاطلين عن العمل يحوي مطعماً يقدم الحساء والقليل من المعونة لأولئك المتشردين دون هدف، هاجساً هو أقوى بكثير من أن يكون مجرد طموح .
ما الذي حققته بالنسبة لهذا الحلم ؟ لقد انتهى واحد من أولئك الذين كانت تأمل في أن تساعدهم ، انتهى في المستشفى في حالة أسوأ بكثير مما كان عليه .
عادت تقول بصوت متهدج " كلا ..إن كوني نجمة الحفلة ليس بذي أهمية على الإطلاق ."
قال محذراً : " قبل أن تنفجري بالبكاء ، يجب أن تعلمي أن عندي مناعة ضد دموع النساء لأي سبب كان ."
بعث إحساسها بالظلم لكلامه هذا في نفسها من النشاط أكثر مما لو أنه أبدى نحوها شيئاً من
العطف أو الاعتذار .
وقالت بحدة :" يبدو لي أن شخصاً ما ينبغي أن يظهر شيئاً من الحزن أو الأسى لحالة أبيك ، وبما أنه لا يبدو عليك أنك ذلك الشخص ، إذن لا بد أن أكون أنا هو ."
قال : " أنني لست مسئولا عن الحادث الذي تعرض أبي له ."
قالت : " وأنا كذلك لم أتعمد التسبب في الحادث حتى أنني لم أكن أقود الليموزين ولا راكبة فيها ! فكيف لي أن أعلم أن أباك كان متورطاً في شجار ليسقط أمام السيارة القادمة ؟ ثم لماذا في رأيك ، قد أحيط مجمع السكن ذاك بحاجز إذا لم يكن هذا لحفظ سلامة المشاة ؟ "
قال : " لا أدري . ولكن كوني واثقةً بأنني سأعرف الحقيقة .وحتى ذلك الحين ، إعتبري الموضوع مقفلاً .إذ ليس ثمة مجال في هذا المستشفى للصياح ، خاصة في منتصف الليل ."
تنفست نفساً عميقاً وهي تقول " معك حق ."
قال :" هكذا أنا عادة ." وخرج من الغرفة قبل أن تستطيع التفكير في رد مناسب .
لأنها لم يكن لديها خيار آخر ، فقد لحقت به. وقف في آخر القاعة ، منتظراً المصعد .وتمنت لو يصل إليه ليبتلعه قبل وصولها ، ولكنها اضطرت لأن تنزل معه محتملةً صمته مسافة الطوابق الستة إلى ردهة المستشفى .
كانت الأحياء والشوارع خالية في ذلك الوقت من الليل ، وسرعان ما أدركت ميلودي أنها في خلال الفوضى التي نشأت عن حادث الاصطدام وإحضار سيث لوغان إلى المستشفى ،جاءت هي دون معطفها أو حقيبة يدها لدفع أجرة السيارة .
لم يكن أمام جايمس لوغان أية عقبة من هذا النوع ، فسار دون اكتراث تحت المطر إلى حافة الرصيف ، ثم وضع إصبعين في فمه مطلقاً صفيراً عالياً ، وسرعان ما توقفت سيارة أجرة أمامه . مشى إلى الباب الخلفي ، وكان على وشك فتحه للصعود ، عندما التفت إلى ميلودي التي كانت تقف في مدخل المستشفى وهي ترتعش من البرد .وقال لها بلهجة ساخرة : " أظنك تتوقعين مني أن أكون ذلك السيد المهذب الذي يدعوك إلى الصعود قبله ؟ "
لو كان سبق وأراها أقل إشارة تدل على الشهامة فيه ، لاستجابت له دون اكتراث ، ولكنها أجابته ، وقد أنفت أن تتحمل جميلاً منه : " من المستحيل أن أتوقع المعجزات يا سيد لوغان من مصدر مثلك ، ولهذا يمكنك أن تستقل السيارة وحدك وتذهب في طريقك ."
في الواقع فقد تردد لدقيقة وكأنه يفكر ثم ما لبث أن قال : " ولكن من حسن حظك يا آنسة وورث ، أن ثمة عرقاً من الشهامة في نفسي يمنعني من ترك امرأة تائهة في الشوارع المظلمة تحت المطر . "
وأشار إلى باب السيارة المفتوحة وهو يتابع : " هيا تفضلي إلى السيارة ، وسأنتظر أنا أخرى ."
عندما لم تستجب له ، رفع حاجبيه بنفاذ صبر وهو يقول : " حسناً ، أتريدينها أم لا ."
لم يكن ثمة خيار أمامها وإلا توجب عليها أن تمضي بقية الليل فوق مقعد خشبي في قاعة الانتظار ، فقالت : " لا احمل أجرة سيارة ."
قال : " لا بأس ، دعي ذلك لي ."
قالت :" يمكننا المشاركة بركوبها .إذا لم يكن لديك مانع من توصيلي أنا أولاً ، فإن ذلك سيوفر لك وقتك ونقودك ."
قال : " أن هذا أول رأي ذكي أسمعه منك هذه الليلة .والآن ، أدخلي قبل أن يغرقنا المطر نحن الاثنين ."
سأل السائق : " إلى أين ؟ "
أجابت ميلودي : " القصر الحجري القديم في تله القلعة ."
ردد جايمس بدهشة مبطنة بالتهكم : " قصر ؟ إن السيدة تعيش في قصر ، ومع ذلك لا تملك أجرة سيارة توصلها إلى منزلها ."
قالت : " لقد تركت حقيبة يدي في الحفلة .ولكنني سأسدد لك هذا القرض في أول فرصة ."
قال : " لا تظني أنني غير عازم على استرداد ذلك ."
قالت : " ولمعلوماتك الخاصة ، فقد استحال ذلك القصر مجمعاً يحوي شققاً سكنية منذ أكثر من عشرين عاماً ."
همهم بعدم اكتراث وهو يستقر في مقعده الخلفي محاولا ً أن يتمطى باسطاً أطرافه لمزيد من الراحة جعلها تنكمش في مقعدها قدر استطاعتها ، مستمتعة بفيض الدفء الذي ينبعث منه ، وكان الهواء يحمل رائحة البحر والضباب ممزوجاً برائحة عطرها .
رأته يراقبها أثناء مرورها تحت أنوار الشارع .قال وهو يلمس طرف ثوبها بأصبعه فيرسل إلى ركبتيها فيضاً من الدفء : " لماذا ترتدين هذا الثوب السخيف ؟ إنه يبدو من طراز الثياب التي نرها في أفلام آل كابوني في أفلام العشرينات من هذا القرن ."
أجابت : " أظنك تعلم أننا كنا نقيم حفلة تنكرية في آلي ."
قال : " أتعنين ذلك الزقاق الخلفي حيث تلقى في أرجائه العلب الفارغة ؟ "
أجابت :" أعني حي كاتس آلي ولابد أنك سمعت به ، إن أي شخص يريد شيئاً معيناً ، يأتي إلى متاجر آلي ."
قال ساخراً :" متاجر ؟! وماذا كان أبي يفعل بين المتاجر ؟ إن هذه الكلمة نفسها غريبة عن استعمالاته ."
شعرت ميلودي بعدم الارتياح لكلامه ، فقد كانت تفترض أن جايمس كان يعلم القصة الكاملة لما حدث هذا المساء ،إن لم يكن من الشرطة ، فمن موظفي المستشفى .وتمنت لو كانوا قد أخبروه .وإزاء ما أظهره نحوها من عداء ، لم تجد في نفسها ما يدفعها إلى تبرير الأسباب التي أدت إلى القيام بهذه الحفلة المرحة الباهظة التكاليف . وقالت : " ...شاء حظه أن يكون في المكان غير المناسب في الوقت غير المناسب ." ولكن شيئاً في صوتها نم عن خيبة أملها .
استقام في جلسته وهو يحدق فيها قائلاً :" لماذا اشعر بأن ثمة شيئاً بيننا أكثر من مجرد تبادل النظرات ؟ ما الذي لم تخبريني به ، يا آنسة ميلودي عن القصر ؟ "
قالت متجاهلة تهكمه :" حسناً ، لم أظن أن ثمة شيئاً هناك ينبغي قوله .إن كل المدينة تعرف بخبر الحفلة الراقصة التي رجونا أن نجمع من ورائها مالاً كافياً لإنشاء..."
لاذت بالصمت وهي لا تعرف كيف تتابع حديثها ، واختلست نظرة إلى جايمس لوغان .كان معطفه الواقي من المطر مبطناً بصوف الغنم . وحذاؤه من الجلد الإيطالي .أي نوع من الأبناء هذا الذي يسمح بأن يطوف والده الشوارع دون معطف شتوي مناسب ؟
قال جايمس لوغان بلطف :" ما الذي كنتم ترجونه من وراء المال هذا ؟ "
أجابت : " الإحسان ." وعجبت لماذا شعرت إزاء النظرة التي ألقاها عليها وكأنها نطقت بكلمة قذرة .
عاد وسألها : " أي نوع من الإحسان ؟ "
أدت إشارة بيدها قائلة : " أوه بالنسبة للناس . "
قال متسائلاً : " الناس ؟ "
قالت : " لا أظنك تعيش في مدينة بورت ارمسترونغ هذه يا سيد لوغان ؟ "
قالت ذلك وقد عزمت على أن تقابل تهجمه بمثله .إنها لم تقم بعمل تخجل منه على كل حال .واستطردت تقول : " وإلا لعرفت أن هناك بعض الناس في المدينة هم ...."
قاطعها :" من الفقراء . "
قالت بحذر : " ليس تماماً .إذ أن وصفنا لهم بأنهم دون أمل أو طموح ، هو الأصح .ووالدك هو واحد منهم ."
قال : " وهكذا أخذتم على عاتقكم أن تجعلوا حياتهم أفضل . أليس كذلك ؟ "
لم تعجبها لهجته كما كرهت نظرته الجافة التي رمقها بها ، والازدراء الذي بدا عليه ، وقالت متحدية : " نعم ، لقد فعلنا ذلك ."
لاحت على شفتيه ابتسامة سخرية وتهكم وهو يقول : " حسن جداً أن تسمح لك ظروفك بالتدخل في شؤون الآخرين "
أبطأت السيارة لدى صعود تله القلعة ، وما لبثت أن استدارت لتقف أمام المدخل .
قالت ميلودي بفزع : " ليس تماماً كما تقول ، وعلي أن أصف لك طبيعة أعمـالي الآن ."
قال : " ولمَ هذا ، يا آنسة وورث ؟ "
نظرت إلـى البناء الحجري الذي يواجهها ، بنوافذه المعتمة وبابه الأمامي المصنوع من خشب السنديان بسماكة خمسة سنتمترات . وكان الضوء الوحيد هناك ينبعث من مصباح موضوع في صندوق زجاجي يتدلـى من العتبة العليا للباب .
وقالت بصوت ضعيف : " إن المفتاح ليس معي لكي أدخل . "
حدق جايمس فيها قائلاً : " أليـس لديك جيران ؟ "
هزت رأسها قائلة :" المرأة العجوز التي تسكن فوقي تمضي عطلة الأسبوع مع أبنتها المتزوجة . والزوجان في الطابق الثالث يمضيان عطلة في تاهيتي . "
قال : " ألم يخطر لك قط أن تحتفظي بمفتاح إضافي في مكان سري في حالة حدوث شيء لك ؟ " قالت : " لقد خطر ذلك في بالي ، في الواقع . فهناك مفتاح تحت إناء الزهور على شرفتي ."
قال دون أن يبدو على وجهه أي تعبير : " وطبعاً ، شرفتك تعلو ستة أقدام عن الأرض . "
قالت معترفة : " في الحقيقة عشرة أقدام . "
قال : " وهذا يعني أن أرفعك إلى حافة الشرفة . "
قالت : " ليس أمامنا خيار إذا لم يكن عندك حل آخر . "
قال ببطء : " مثل ماذا ؟ أن أعرض عليك مشاركتي غرفتي كما شاركتني السيارة ؟ "
تضرج وجهها وهي تقول : " إنني لست إلى هذه الدرجة من اليأس . "
قال: " ولا أنا. " ولكن كذبه ظهر إذ انه مد يده بوقاحة إلى ساقيها ثم رفع قدمها ووضعها في حضنه.
أول ما تبادر إلى ذهنها ، بالغريزة ، هو أن تعبر عن غضبها لهذا العمل المشين .
قال متمتماً : " أظنني سأخلع هذين . "
قالت وهي تتنفس بصعوبة : " أتعني جوربي ؟ "
قال : " اهدئي يا آنسة وورث ، فأنا اعني حذاءك . " وأخذ يفك شريط الحذاء واستطرد : " لا تجزعي ، إن عفتك مصانة تماماً إذ أنك لست من النوع الذي يستهويني . "
ردت عليه بحدة : " شكراً لذلك . "
قال : " ثم أنا لا أثق بك . تباً ! إنك قد تغرسين كعب حذاءك في رأسي. "
في الواقع ، أعجبتها هذه الفكرة تماماً ، ولكن قرأ أفكارها ، نظر إليها محذراً وهو يتابع قوله " : لم يفت الوقت بعد ، أستطيع أن أتركك أمام البيت وأمضي . أتريدين إيذائي يا سيدتي ؟ "
قالت : " سأمشي حافية ولكن ليس بعيداً ."
قال : " إذن دعينا نقوم بهذا الاستعراض في الطريق . إنني مستيقظ مع الفجر وأريد أن أنال عدة ساعات نوم. "
فتح باب السيارة خارجاً منها ، ثم عاد يساعدها على النزول وهو يقول آمراً : " هيا أريني الطريق . "
غاص كعبا ميلودي في الأرض المبتلة تحت شرفتها .
كما شعر جايمس بالاستياء وهو يرى الوحل يلطخ جلد حذاءه الفاخر . وتمتم وهو يحاول أن يتحاشى أغصان الشجيرات المتدلية حوله: " كان عليّ أن أستجيب لغريزتي فأترك المداولة معك إلى الغد. "
لم يكن هو وحده المتعب، فقد كان هذا اليوم طويلاً حافلاً بالنسبة إليها هي أيضاً. وقالت بحدة :" كفى تذمراً . لو كان الذي في المستشفى هو أبي ، لكان تركيزي واهتمامي بذلك أكثر مما يبدو عليك نحو أبيك ، بدلاً من أن أشعر بالأسف نحو نفسي . وتلك هي شرفتي فوق رأسك تماماً . " قالت ذلك في الوقت الذي انهالت دفقت من مياه مزراب الشرفة على ظهره لتنساب داخل ياقته من الخلف إلى ظهره .
زمجر وهو يحني قامته ليجلس القرفصاء قائلاً: " هذا فظيـع. والآن هيا، اصعدي علـى ركبتي إلى كتفي، ولا تنسي أن تخلعي حذاءك اللعين. "
أطاعت بشبه ابتسامة شاعرة بالسرور إذ تضع قدميها الموحلتين تماماً على معطفه الثمين المبطن بفرو الغنم.
إنها لن تستغرب إذا هو أرسل إليها قائمة بأجرة تنظيف المعطف بالإضافة إلى أجرة السيارة.
ولكنه يستحق ذلك لما سببه من مضايقات . وسرعان ما انتصب واقفاً دون مجهود وكأنها لم تتسلق كتفيه ، ممسكاً بيده القويتين اللتين سبق وأعجبت بهما ، لكي يساعدها على الصعود لتتمسك بحافة شرفتها ثم تعلو فوقه لتقفز وسط كومة من أوراق الشجر التي حملتها الرياح إلى الشرفة متبوعة مباشرة بحذائها الذي رماه خلفها .
ناداها قائلاً:" أرجو أن يكون المفتاح الموجود عندك هو نفس مفتاح الشرفة إلى الداخل لأنني لن أقدم لك خدمة أخرى في إنزالك من الشرفة، هناك دالية متسلقة على الجدار يمكن أن تشكل لك سلماً رائعاً تنزلين عليه إذا لزم الأمر. "
بينما كانت تفتش بين أصص الأزهار بسرعة، كان ذلك الفارس الشهم بالإكراه يصعد إلى المقعد الخلفي من السيارة ثم يصفق الباب خلفه .
انتظر إلى أن استدار السائق بالسيارة حول أول منعطف ، فنقر على الزجاج الفاصل بينه وبين السائق يطلب إليه التوقف برهة ، ثم استدار في مقعده ناظراً ناحية المنزل إلى أن رأى ضوءاً يلوح من أحدى النوافذ خلف الأشجار .
وتنفس عندئذ الصعداء على أنها وصلت أخيراً دون مشكلات أخرى. وتمتم قائلاً :" تباً لها من امرأة مزعجة ."
نظر إليه السائق من مرآة السيارة وهو يقول باسماً :" لقد التصقت بجلدك هذه السيدة ."
أجاب: " تماماً كالقراد تحت سرج الفرس. "
قال السائق: " لا أظنك ستراها بعد الآن. " وتمنى جايمس لو كان الأمر صحيحاً . ذلك أن عنده أماكن أخرى ليذهب إليها وكذلك مشكلات أخرى عليه مجابهتها بدلاً مما يواجهه الآن . وعنده عدد من الأشخاص عليه أن يتعامل معهم بدلاً من سيث ، الرجل العنيد السيئ الطبع ولا أحد يعلم كيف سيكون وضعه إذ سيستلقي شهوراً في السرير . ولكنهما ما زالا أباً وأبنه ، سواء شاءا ذلك أم لا . وكان من الواجب على جايمس أن يعود إلى المستشفى ليتأكد من أن أباه في غاية الراحة والعناية به تامة .
لكن هذا يعني اتصاله مرة أخرى بميلودي وورث المتورطة في ذلك الحادث ، ومعاودة شهر السلاح بينهما .
سأله السائق: " إلى أين المسير الآن يا سيدي ؟ "
كان جايمس يعتزم الذهاب إلى الكوخ ، ولكنه هز كتفيه...كلا ، ليس هذه الليلة ...لم يحن الوقت بعد. فهو ليس منزله ولم يكن كذلك قط . وسأل السائق: " ماهو أفضل فندق في المدينة؟ "
أجاب السائق: " البعض يقول إنه فندق " الأمبا سادور " ولكن في رأيي أن فندق " بلا روز " الأفضل أنه أكثر هدوءاً "
قال جايمس: " خذني إليه إذن . ولا أظنني سألاقي صعوبة في الحصول على غرفة في هذا الوقت من السنة. "
إنه في حاجة لهذه الليلة ، أو لما بقي منها ، في حاجة إلى " دوش " حار ، وشراب ساخن ، ثم فراش مريح ، وغداً يزور والده ثم يجول في المدينة يعيد التعرف عليها بعد أن تغيرت في السنوات الأخيرة ، التي كان غائباً فيها بحيث صعب عليه تمييز بعض معالمها القديمة . ويوم الاثنين كان عليه أن يبحث في شأن والده وكيف وقع ذلك الحادث بالضبط ، كما عليه أن يتعامل مع تلك السيدة مرة أخرى .
الفصـل الثـانـي
________________________________________
كان سيث لوغان نائماً عندما دخلت ميلودي على أطراف أصابعها ، في عصر اليوم التالي . كان رجلاً وسيماً ، وكانت الكبرياء ما تزال تكسو ملامحه رغم الرضوض التي كانت تلون صدغيه . كان فمه صارماً وذقنه يوحي بالعناد وشعر حاجبيه متناثراً ، ومع أنها كانت تعلم أنه مازال في أوائل الستينات من عمره، فقد بدا عليه الكبر والتعب وكأنه عاش حياة شاقة مجهدة .
وضعت إناء يحوي زهوراً، وسلة فاكهة على المنضدة إلى جانب سريره بحذر. وكانت خائفة من أن يصرّ جايمس لوغان على رأيه في منعها من زيارة والده ، ولكن ما كان لها أن تقلق لذلك ، إذ لم يكن ثمة زهور أو بطاقات عدا ما أحضرته هي ، كما أنه لم يكن ثمة زائرون. لا شيء مطلقاً يدل على أن سيث له ولد أو أصدقاء .
سحبت كرسياً وجلست عليه إلى جانب السرير بهدوء. وبقيت لحظة تراقب قطرات المحلول المنسابة خلال أنبوب في وريد سيث، والقفص الذي يحمي ساقه المصابة التي كانت مضمدة ومشدودة إلى حافة السرير .
ضايقها الصمت ، وتمنت لو أنه يصحو لكي تطمئن بنفسها إلى استطاعته تمييز ما حوله ، ولكنها في نفس الوقت كانت متوجسة إذ لم تكن تتوقع ترحيباً وبشاشة منه عندما يعرف من هي وماذا تمثل .
فاجأها صوت متعب من خلفها يقول: "ألا تكفين عن حركاتك المزعجة يا فتاة ؟ اتركيها كما هي. "
استدارت فزعة لتجد عيني سيث الكليلتين تحدقان بها وقالت: " لقد ظننتك نائماً يا سيد لوغان. "
قال: " وكذلك ظننت أنا أيضاً ، إلى أن جئت أنت تعكرين عليّ راحتي .ما الذي تفعلينه هنا على كل حال ؟ إنك لست ممرضة. "
عادت إلى قرب سريره قائلة: " إنك لا تعرفني يا سيد لوغان ولكنني جئت معك إلى المستشفى الليلة الماضية. كنت هناك حيث حصل لك ذلك الحادث . كيف حالك الآن. "
أجاب باختصار: " ماذا تتوقعين أن يشعر رجل مرت على جسده سيارة؟ "
قالت: " هل أستدعي لك ممرضة. "
قال: "كلا ، إلا إذا رأيتني أموت . أنني لا أثق بالمرأة التـي يسرها أن تغرس إبرة في جسدي. "
قالت: " ولكن إذا كنت تشعر بالألم يا سيد لوغان. "
قال: "أنني أشعر بالألم يا فتاة خصوصاً لرقادي هكذا على ظهري مما يسبب لي الصداع، وإحدى قدمي معلقة في الجو بعكس ما يجب أن تكون، وأنت لماذا لا تكفين عن مناداتي بالسيد لوغان؟ "
أوه لا بد أنه سيشفى هذا الرجل إذ هو يملك هذه الإرادة التي تماثل بقوتها إرادة ابنه وسألته: " بأي أسم تريدني أن أناديك إذن؟ "
قال يلمس الكدمة على صدغه: " عن أسمي سيث ، والوحيدون الذين ينادون شخصاً من العامة مثلي بلقب (سيد ) هم رجال الشرطة، والسياسيون والأطباء ، وأنا لا أثق بأي منهم. فإذا كنت أنت واحدة من هؤلاء فاخرجي من هذا الباب واتركيني أتعفن وأموت بسلام. "
قالت: " إنني ميلودي وورث ، وعندي متجر في جوارك، وأنا هنا لأنني أشعر بنفسي مسئولة جزئياً عما حدث لك الليلة الماضية ، وأنا لا أريد منك أن تطردني ، فلا تحاول ذلك.
"
قال وهو ينظر إليها بحدة: " هل أنت واحدة من أولئك الذين أقاموا تلك الحفلة التنكرية ؟ لقد خيبت أملي يا فتاة إذ لا يبدو عليك أنك من ذلك النوع. "
تجاوزت ملاحظته الأخيرة وهي تقول: " إن الجميع قد شعروا بالأسى لما أصابك يا سيث . " وانحنت عليه تضيف وسادة أخرى تحت رأسه ، وهي تستطرد " إن آخر ما أراده أحد منا أو توقعه هو أن يحدث شيء كالذي حدث لك . ولكن لا تقلق إذ أن أحد أسباب وجودي هنا لأطمئنك إلى أنني سأهتم بكل شيء بالنسبة إليك. "
سألها صوت: " كيف؟ أبتسوية الوسادة تحت رأسه حتى لا يدينك بمسؤولية ما حدث له؟ "
قال سيث بأسى: " الرحمة. أنظري من أتى صدفة. تريدين شخصاً تنادينه بسيد لوغان يا فتاتي ميلودي هاهو ذا أمامك . "
كان جايمس مستندا إلى الباب ومعطف المطر على كتفه . كان حديث الحلاقة منظم الشعر، وبدا في ضوء النهار أكثر وسامة مما ظهر لها الليلة الماضية "
قال لأبيه دون أن يبدو عليه التأثر للاستقبال الذي بادره هذا به: " كيف حالك يا سيث "
" أنني ملقى كما تراني بساق مهشمة ورأس مصدوع. "
قال جايمس وهو يتجه إلى مؤخرة السرير وقد لاحت على جانبي فمه شبه ابتسامة: " أنك على الدوام مصدوع الرأس. "
سأله سيث بصرامة: " نعم ... ولماذا جئت؟ "
أجابه جايمس: " لأنني ما زلت ابنك بصرف النظر عن مدى أسف كل منا لهذا الواقع . ذلك أنني عندما أتلقى خبراً هاتفياً بأن والدي وقع له حادث فأنني مضطر إلى الحضور.
قال سيث بغضب: " أتعرف ما الذي تفعله باضطرارك هذا يا ولدي يمكنك أن ...."
قاطعه جايمس بضجر: " سيث ، اصمت قبل أن تصيبك أزمة قلبيه تسبب لنا نحن الاثنين إزعاجاً بالغاً . "
لم تستطع ميلودي التي أفزعها تبادل مثل هذا الكلام بين الرجلين ، الاحتمال أكثر من ذلك. فقالت موجهة حديثها إلى جايمس: " يجب أن تخجل من نفسك . فقد عانى والدك بما فيه الكفاية في هذا السرير في الأربعة وعشرين ساعة الأخيرة حتى تأتي الآن وتتحدث إليه بهذه اللهجة. وبالنسبة إليك أنت..." وهزت أصبعها نحو سيث. " الحق معه . إن استمرارك في التذمر يزيد من مرضك. "
تمتم سيث وهو يرمق ابنه بنظرة غاضبة: " هذا مستحيل. "
قالت لجايمس بصوت منخفض: " أظن أنه من الأفضل أن تترك المكان. "
نظر إليها يتأملها في ثوبها الجلدي الأخضر الذي ترتديه وفي حقيبة يدها وحذائها الثمين. وقال ببطء وبلهجة ساخرة: " وأنت؟"
قالت: " إن وجودك يغضبه . أنظر إلى وجهه المتوهج انفعالاً . لا أظن أن في استطاعته احتمال وجود الزائرين."
قال بسخرية:" وكـيف حصلت على درجتك في الطب؟ هل ذلك بجمعك كوبونات من مجلات الأزياء؟ "
قالت :" إنني أتوخى مصلحة أبيك. "
" ليس عندك فكرة عن مصلحة والدي. وأنا لم أجتز نصف القارة الأوربية لكي أتلقى الأوامر من امرأة غريبة غير مؤهلة لذلك. "
قالت بحدة: " وأنت بالتأكيد لم يحضرك إلى هنا اهتمامك الزائد كذلك ، ومن الواضح أن حضورك إلى هنا كان رغماً عنك كما أنه من الواضح أن سرور سيث برؤيتك ليس بأكثر من سرورك برؤيته. "
قال: " شكراً لكلماتك اللطيفة هذه. "
بدت في عيني جايمس نظرة قد تكون تعبيراً عن الألم رغم صوته الهادئ . ولاحظت ميلودي بعد فوات الأوان أنها قد تكون مست شعوره، وفتحت فمها لتعتذر ولكنه منعها قائلاُ وقد أنتابه غضب مفاجئ طغى على أي شعور آخر فيه: " لا أريد اعتذاراً إذ لا مكان لك أو لعواطفك هنا. والأفضل أن تخرجي قبل أن أفقد أعصابي وألقي بك خارجاً. "
كانت تدرك أنه لا يطلق تهديه عبثاً . فكتبت رقم هاتفها في العمل على بطاقتها ووضعته في سلة الفاكهة التي أحضرتها لأبيه وهي تقول: " إذا كان ثمة شيء يمكنني أن أقوم به لتيسير إقامتك في المستشفى يا سيث فخابرني وسأعود إليك. "
أمسك جايمس بمعصمها يدفعها نحو الباب قائلاً: " يمكنك أن تتركي بكل اطمئنان أمر العناية بأبي بين يدي ، يا آنسة وورث."
تمتمت: " هل فكرت في تكاليف العلاج؟ "وأخذت تجاهد في تخليص معصمها من قبضته دون جدوى وهي تتابع قائلة:" ربما شركة التأمين ترفض أن..."
بدا على وجهه شبه ابتسامة خففت من مظاهر الغضب وهو يدفعها عبر الباب المفتوح إلى الخارج قائلاً: " أنني أكبر منك بسنوات. "
كادا يصطدمان بممرضة تحمل صينية عليها أدوات الحقن قالت الممرضة آمرةً: " ليبق الزائرون خارج غرف المرضى لبرهة قصيرة من فضلكم. " ثم دخلت غرفة سيث قائلة بمرح: " كيف حالك اليوم يا سيد لوغان؟ "
سمعته ميلودي يجيب الممرضة قائلاً: " بأفضل حال. شكراً .ويمكنك أن تغرزي تلك الإبرة في جانبك أنت لأنني لن اسمح لك بالاقتراب مني مطلقاً. "
غطى شعور المرح على انزعاج ميلودي لتنفجر منها ضحكة لم تستطع كتمها .
قال جايمس عابساً: " أنني مسرور لروحك المرحة هذه ، وآمل أن لا تفقديها في الأيام القليلة القادمة. "
أجابت : " ولماذا أفقدها؟ إن والدك في طريق الشفاء والشمس ستعود إلى الإشراق...ماذا أيضاً؟ آه حسناً لقد وجدت معطفي وحقيبة يدي حيث كنت وضعتها الليلة الماضية، وهذا ما جدد إيماني بنزاهة الناس وأيضاً ذكرني... ثم فتحت حقيبة يدها وأخرجت ورقة مالية ووضعتها في الجيب العلوي لسترته وهي تستطرد قائلة:" وهذه هي أجرة السيارة التي أدين بها لك. "
نظر جايمس إلى يدها وقد ظهر على ملامحه نفس التعبير كما لو كانت حشرة مقيتة تدب فوق صدره . بينما لم تحاول هي أن تكبح قهقهة عالية.
لكن نظرته الباردة عادت إلى عينيه وهو ينظر إلى وجهها متوعداً: " سنرى لمن ستكون الضحكة الأخيرة."
لم تشأ أن تظهر له مبلغ شعورها بالإحباط لكلمته تلك، بل نظرت إليه مبتسمة بكل عذوبة وهي تقول:" حاول أن تشعر بالسرور أحياناً يا سيد لوغان ستدهش عند ذاك من مقدار التحسن الذي ستشعر به ، وكيف سيتجاوب العالم معك. ( أضحك تضحك لك الدنيا ) كما يقول المثل. "
لم تكن هذه كلمات فارغة . لقد كانت ميلودي قوية العقيدة بها. وصلت إلى حي كاتس آلي صباح الاثنين لتجد إن هذه الكلمات تبدو فارغة تافهة .
كان أصحاب المتاجر الأخرى في انتظارها في الساحة . أريادن ، كلو ، إميل ، جستين وروجر تشانكوسكي. وكان واضحاً من ملامحهم أن ثمة مشكلات كثيرة .
قالت كلو التي تملك متجراً لملابس النساء: " إنك وصلت في الوقت المناسب ، ذلك إننا في مشكلة كبرى . "
" إن الصحافيين على أعتاب المتاجر منذ الساعة الثامنة . أنهم يبالغون في ما حدث ليلة السبت ، يا ميلودي. " كانت لهجة إميل وهو يقول ذلك أكثر وضوحاً من العادة .
قال روجر: " إنهم يريدون بياناً بما حدث . إنهم يطرحون أسئلة غريبة جداً . ولكننا قررنا ألاّ ندلي بأي جواب قبل حضورك. كيف حال الرجل العجوز؟ هل سيموت. "
قالت كلو: " إن آخر ما نرغب فيه هو أن نرى أسماءنا تملأ الصفيحة الأولى من صحيفة (مواطن بورت آرمسترونغ) ويمكنني تصور ما قد يكتبون: (موت تحت عجلات الليموزين احتفال للاحسان) . إن هذا يسيء إلى أعمالنا أليس كذلك؟ "
قالت ميلودي: " قد يسرك أن تعلمي أن سيث لوغان يسير في طريق الشفاء يا كلو وبالنسبة للصحافيين ادعيهم إلى الدخول وأعطيهم البيان بما حدث ، إ ذ ليس لدينا ما نخفيه. "
قال إميل بلطف: " ربما من الأفضل أن تتحدثي إليهم بنفسك يا عزيزتي فقد كانت حفلة الرقص التنكرية هي فكرتك على كل حال. "ومر بيده على شعره الفضي مبتسماً وهو يستطرد: " كما أنك مخلصة إلى درجة رائعة. "
قال روجر يحذره: " حسناً لا تفسد الأمور . إننا لا نريد أن ننتهي من هذا الأمر بفضيحة ، وإنما بروائح الورد. "
تثاءبت أريادن وهي تدير عينيها اليونانيتين الخلابتين قائلة: " كل هذه الضوضاء لمسألة تافهة . وابتسمت لتشانكوسكي بإغراء وهي تتابع قائلة: " بماذا يمكنهم إن يضروني؟ إنني أسألك؟ لقد بعت قبل عيد الميلاد ، فراءً كافياً للأغنياء، ذلك أن الأزواج الجاحدين أرادوا أن يخففوا من شعورهم بالذنب، ولم يعد مهماً إن لم أبع شيئاً حتى الشتاء القادم. "
لما رأت ميلودي نظرة الشك في عيني أنّا زوجة تشانكوسكي، ودت لو تخنق أريادن وكان تشانكوسكي وزوجته قد جاءاً إلى شمال أمريكا كلاجئين من بولونيا منذ اثنتي عشرة سنة ، وكافحا في سبيل نجاح تجارتهما في الشوكولا وكانت ميلودي واثقة من أن أياً منهما لا يرغب في علاقة خارج نطاق الزوجية.
قالت ميلودي تذكر أريادن :"لسنا جميعاً محظوظين مثلك. ذلك أن البعض منا في حاجة إلى زبائن لكي يدفع إيجار منزله.
قال روجر بحدة: " جدال عقيم فلنقرر أفضل طريقة للتخلص من المشكلة التي تنتظرنا هناك لكي نعود إلى أعمالنا . "
تركت معطفها الصغير وحقيبة يدها في المخزن الصغير الملحق بمتجرها ثم سوت من مظهرها أمام المرآة لتستدير بعد ذلك متجهة نحو زملائها الذين كانوا يقفون كالحراس امام بوابة القصر على استعداد لمجابهة الغزاة .
منتديات ليلاس
سألتهم: " مما تخافون ؟ أن أولئك الصحفيين الذين ينتظرون مقابلتنا هم أنفسهم الذين أسهبوا في مدحنا لمشروع الحفلة الخيرية مما جعل كل التذاكر تباع خلال شهر واحد فكونهم هنا الآن في انتظار أية أخبار جديدة هو شيء طبيعي جداً."
تنهدت كلو قائلة : " أنهم صيادون يتشممون الأثر ، ونحن الفريسة."
لسوء الحظ كانت محقة في قولها كما اكتشفت ميلودي في ما بعد فقد أنضم إلى الصحفيين عدد لا بأس به من الناس وكان الجو عموماً غير ودي وما كان معدوداً في الأسبوع الماضي عملاً مشكوراً لمساعدة الناس تحول الآن إلى حرب عصابات ضد المساكين والمتفجرين بكل براءة . وتغيرت النظرة إلى أصحاب المتاجر الآن الذين سعوا لإقامة تلك الحفلة الخيرية فأصبحوا الذين يمثلون الطمع والكراهية نحو المعوزين سيئي الحظ الذين ذنبهم الوحيد الفقر الذي لحق تبعاً لظروف ليست بيدهم.
بدأ أحد الصحفيين: " لقد ساءت سمعة سيث لوغان بين جيرانه كما أنه قد لا يستطيع السير على قدميه مرة أخرى ، هل هذه هي فكرتك في السعي لمساعدة المحتاجين الذين يعيش أكثرهم في هذا الحي قبل أن تقرري فتح سوق تجاري فيه؟ "
قالت ميلودي: " كلا طبعاً والحادث الذي تعرض له السيد سيث لوغان كان صدفة وجميعنا شعر بالأسف لذلك. "
قال صحفي آخر: " هل صحيح أنك وصفت سيث لوغان وأمثاله بأنهم غير مرغوب فيهم. "
نظرت ميلودي بفزع إلى زملائها أصحاب المتاجر . كانت تعلم أن روجر هو الذي ألقى بهذه الجملة المبتذلة وقالت بحزم: " أنني لم أستعمل قط هذه الجملة."
بلغت مسامعها تمتمة من عدم التصديق وجاءها صوت يقول متحدياً: " مع أنك لا ترغبين في رؤيتنا في هذا المكان بل أنك تريديننا أن نبتعد قدر الإمكان عن متاجرك الصغيرة."
ترددت وهي تنظر إلى زملائها مستنجدة فقد كانت تريد إنكار ذلك من كل قلبها ولكن لم يتقدم أحد من زملائها لنجدتها برز رأس رجل يتجاوز طوله المجتمعين حتى كاد يصطدم بالمصباح المتدلي في مدخل السوق الصغير إنه جايمس لوغان.
كما لو كان يملك سلطة ما، أفسح له الجمع الطريق ليتقدم إلى الأمام ثم عادوا فتجمعوا حوله بنية مساندته في ما قد يقول ولم يطل انتظارهم .
قال مستفزاً: " حسناً إننا في انتظار جوابك يا آنسة وورث ما هو شعورك نحو الناس غير المرغوب فيهم في منطقتك؟"
قالت: " إنني لم أطرد أحداً قط من متجري. "
عاد يسأل: " ولكن هل أولئك غير المرغوب فيهم يلقون نفس الترحيب الذي يلقاه زبائنك الأثرياء. "
أجابت: " لقد أوضحت منذ لحظات أن تعبير غير مرغوب فيهم ، لم أستعمله قط يا سيد لوغان كما أ.".......
قاطعها: " ولكنك لم تديني الذي أستعمل هذا التعبير. "
رمقها روجر و كلو و أريادن بنظراتهم من ناحية بينما رمقها جايمس لوغان من الناحية الأخرى.
تلعثمت وهي تقول: " نعم...كلا! "
قال بلهجة هادئة تنذر بالشر: " ما معنى هذا يا آنسة وورث؟ استقري على جواب. "
قالت: " إنني لم أستسيغ هذه الصفة لأنها غير لائقة وبعيدة عن مشاعر الخير والإحسان. "
اعتدلت في وقفتها وهي تقول ذلك إذ لم يكن ثمة فائدة من خداع الناس. لكن ملامحه بقيت على صفاقتها وقد أدركت أنه أوقعها في شركه الشيطاني. "
يا له من ماكر بساقيه الطويلتين المكسوتين بالصوف الناعم وكتفيه الرائعتين في الجاكتة الثقيلة وقد وضع يديه في جيبي سرواله وبدا عليه وكأنه يملك الأرض وما عليها. وبدا على أدريادن وكأنما أخذت به .
حاولت ميلودي جهدها أن لا تدع مظهره هذا يخيفها وذلك بأن تأتي بخاتمة طيبة لهذه المواجهة التعسة بقولها: " بالرغم من كراهيتي الشخصية لهذا التعبير فإنني لا أجد نفسي ملزمة بالتصرف كما يتصرف الآخرون ضميرياً، كما أنني أرفض اعتباري مسئولة عن الملاحظات الحمقاء التي يدلون بها . أن اهتمامي الوحيد توخي العدالة نحو أولئك الذين يفتقدون الاحترام والمعاملة الإنسانية من الآخرين كما يستقون. " نظرت إلى جايمس وتابعت : " وأظن أن الجميع يعلمون من أعني بكلامي هذا دون أن يضطروا إلى اللجوء إلى ذكر الأسماء بما لا يليق."
لكنها لم تستطع أن تنجو بنفسها بهذه السهولة. إذ أن جايمس لوغان أصر على القول: " هل يمكننا أن نستنتج إذن من كلامك هذا أن النساء والرجال الذين عاشوا وعملوا في هذه المنطقة طيلة حياتهم يمكنهم أن يلاقوا الترحيب كلما جاءوا إلى هذا السوق للتبضع؟ "
سمعت ميلودي صوت كلو وهي تتنفس بصعوبة وسمعت زمجرة روجر المستنكرة وشعرت بتحذير أريادن وعندما نظرت إلى اميل رأته متسمراً في مكانه وقد بدا عليه الفزع .
سألها جايمس لوغان مظهراً الاهتمام البالغ: " ما الذي جرى؟ هل أنت خائفة من أن لا يوافق زملاؤك على هذا ؟"
ما الذي في استطاعتها قوله؟ ذلك أنهم قد يصابون بنوبة جماعية تؤدي إلى خطر المواجهة مع هذا الرجل الصعب.
نظرت في عينيه مباشرة وهي تتمنى لو استطاعت أن تكذب بشكل مقنع ولو مرة في حياتها وقالت: " هذا ليس صحيحاً أبداً لأن زملائي يشعرون مثلي تماماً إن أي شخص في استطاعته أن يتردد على متاجرنا في أي وقت أثناء ساعات العمل. "
سألها: " دون أرغامه على الشراء؟ "
أجابت مغتنمة النصر الذي لاح لها: " إننا لا نرغم زبائننا أبدا على الشراء . ذلك أن البضائع والخدمة التي نقدمها تسد حاجة المشتري. "
سألها أحد الصحافيين: " هل يمكننا أن ننقل هذا الكلام عنك. "
أجابت: " كل كلمة منه. "
عندما أنفض التجمع قالت كلو لميلودي: " يا للفوضى التي قمت بها . إنني لن أسمح لأي من أولئك الأجلاف القذرين بأن يضع قدماً في متجري أبداً. "
قال روجر عابساً: " ولا أريدهم أن يدخلوا متجري كذلك."
قالت ميلودي وقد أصابها الضيق من قولهم هذا: " حسناً أنني آسفة لاستيائكم هذا. إذا كان ما قلته لهم لم يعجبكم لماذا لم تتقدموا وتدلوا بآرائكم؟ "
أنهى قولهم هذا هجومهم عليها، وتركوها تتفحص بريد الصباح دون مقاطعة لها. ولكن انفرادها بنفسها كان قصير الأمد. إذ جاءها صوت مألوف من ناحية الباب يقول: " كنت قد بدأت أشعر بالأسف لأجلك إذ ظننت ستنهارين عندما انهالت عليك أسئلة أولئك الصحفيين مرة واحدة. "
كان آخر ما تفكر فيه في تلك اللحظة هو مظاهر الشفقة من جايمس لوغان.
ردت عليه بحدة : " بعد تقديم اتهاماتك تجاوب حضرات الصحفيين معك، فاحتفظ بشفقتك لمن هو في حاجة إليها ، وبما أنك في متجري هذا أرجو أن تخرج حالاً، إذ أن المتجر لا يحتوي على أي شيء يناسب غرورك. "
قال وهو يدخل إصبعه بفضول في إناء يحوي وروداً اصطناعية: " أنني لست زبوناً هنا إذ أن هذا المتجر ليس من النوع الذي أرتاده عادة وكذلك المدينة. "
قالت: " وما العيب في هذه المدينة باستثناء وجودك المؤذي فيها؟ "
قال: " إنها أعتق من أن أطيقها."
قالت: " أحقاً ؟ حسناً ربما يهمك أن تعلم أنها تحتوي على أروع فنون البناء من العهد الفيكتوري في شمال أمريكا، وتعتبر مكاناً سياحياً معتبراً يعطي فكرة عن نوعية الحياة حتى نهاية القرن التاسع عشر."
قال وهو يشير إلى ما حوله: " هل يتضمن ذلك، هذا التنظيم السخيف ؟ هل تريدين أن تخبريني أن مصباح الغاز هذا المحول إلى كهرباء هو شيء أصيل؟ أم أن شجيرات الورود الاستوائية التي تستنبت في فصل الشتاء بمساعدة الكمبيوتر هي من أيام جدة جدتك؟ أو آلة المحاسبة تلك المزخرفة بشكل فني ؟ هل تعبرين هذا مزاراً للسياح الذين يريدون أن يعرفوا كيف كانت تصنع الأشياء عندما كان جدي حلاقاً يدور في الحارات بسروال قصير؟ "
أجابت ميلودي بصبر كاد أن ينفد: " كلا يا سيد لوغان لقد حاول التجار هنا صيانة مخازن قديمة وفي نفس الوقت تحويلها إلى أبنية عملية وجميلة دون أن يخرجوها عن طراز العصر الذي بنيت فيه. وما تراه في هذه المنطقة هو صورة حقيقية لساحة قرية من العصر الفيكتوري."
قال بلهجة لاذعة: " ما أراه هنا هو مجرد عرض زائف يشبه العرض الذي قدمته أنت للصحافة منذ برهة وجيزة."
قالت: " أؤكد لك أنني كنت في غاية النزاهة."
قال: " لقد كنت تتخبطين كسمكة وقعت في شرك، تدلين بحججك وقد ملأك الرعب بحيث بدت تصرفاتك غير حيادية. "
قالت: " أظنك كنت تريدني أن أحقق رأيك في ضعف شخصيتي؟ "
نظر لها متأملاً وهو يقول: " لقد احترمتك إذ وجدتك تتوخين النزاهة. اخبريني هل إقامة هذه الحفلة الراقصة الخيرية هي فكرتك؟ أم شاركك فيها بقية أصحاب المتاجر؟ "
" نوعا ما . لقد قدمت اقتراحي هذا وهم ساعدوني. "
قال: " إنني متأكد من أنهم أرغموا على ذلك. "
قالت: " ما الذي يدعوك إلى هذا الافتراض؟ هل عندك عقدة نفسية؟ "
أبتسم ساخراً: " ليس عليّ أن أكون معقداً يا سيدتي، عندما تصرحين بترحيبك بأي إنسان يدخل متاجركم، بينما نظرة واحدة إلى وجوه زملائك تكشف عن أن آخر شيء يريدونه هو أن يروا مجموعة من الناس القذرين يصطدمون بزبائنهم الأغنياء."
كان يقول الحقيقة إلى درجة ضايقتها فقد كانت هناك شكاوي عديدة من أن حضور أولئك غير مرغوب فيهم ، يفسد منظر المنطقة ولا يشجع الزبائن المحترمين على زيارة متاجرهم.
قال: " تبدين كفتاة صغيرة ضبطت وأصابعها في وعاء الحلوى يا آنسة وورث . هل من الممكن أنك تعانين من وخز الضمير؟ "
لم يكن الازدراء يغلف لهجة جايمس لوغان ليقلل من السحر الكامن في صوته العميق الكسول. ولأمر لم تدرك كنهه، وجدت اهتمامها ينصرف إلى خدش صغير أحدثته شفرة الحلاقة تحت ذقنه. وكان هذا هو العيب الوحيد في وجهه الكامل الوسامة.
قالت ببساطة: " هل ثمة سبب خاص جعلك تحضر إلى هنا دون دعوة ؟ أم جئت لكي تضيف المزيد من الإزعاج لي؟ "
كان في الطريقة التي تردد فيها ، وفي ابتسامته الماكرة المفاجئة ذات الغمازات الساحرتين، وأهدابه التي لو كانت لامرأة لاعتقدت أهنا اصطناعية ، كان في كل هذا ما دق ناقوس الخطر في رأسها . كان الرجل في سبيل غاية مهما كانت، لا تبشر بالخير .
فتح فمه ليجيب ، عندما رن جرس الهاتف ومدت يدها إليه مسرورة لهذه المهلة رغم قصرها.
أخذ هو يراقب بغيظ رشاقة حركاتها العفوية وجمال انثناء يدها حول سماعة الهاتف ، وانحناء رأسها وهي تستمع إلى الصوت الآتي من الطرف الآخر للخط ، وكان لانسدال أهدابها السوداء على بشرتها الشاحبة تأثير جعله يفضل لو يتمكن من تجاهله .
الأسوأ من ذلك أنها كانت ثرية، وهذا ما كان يكرهه، إذ أن الثراء كان دوماً مصحوباً بالعجرفة . ولكنه لم يستطع التخلص من شعور يراوده بأنها مختلفة . كان ثمة هالة حولها لم يستطع أن يسبر غورها. إنها ليست بالبراءة تماماً، ولا السذاجة، وطبعاً ليس الزيف أو التصنع...إنه شيء يتعلق بنبل أصيل، مما ترك لديه شعوراً بالذنب لما كان مصمماً على أن يفعله بها.
لم يكن يريد أن يتأثر بنواياها الطيبة، بل الأفضل أن يظهر استياءه لتدخلها المتعجرف في أموره، إذ أنه بسببها دُفع إلى تمثيل دور الابن المخلص لوالد لم يحاول قط أن يلتزم بواجبات الأبوة نحوه. وكان جايمس يحتقر النفاق في الوضع بأجمعه. فما الذي يفعله الآن إذ يسمح لنفسه بأن ينجذب نحو المذنب الأساسي في الأمر.
لكنه لم يكن خطا خطوتين نحو الباب حين سمعها تشهق بذعر، واستدار ليرها تتمسك بالسماعة بيديها الاثنين ، بينما تكاد تسقط على مكتبها . ولم يكن عليه أن يكون عالماً نفسانياً ليعلم أن المخابرة الهاتفية قد أزعجتها.
رفعت ناظريها لتقابل نظراته بعينيها المضطربتين وهي تقول في الهاتف: " إن السيد جايمس لوغان هو معي هنا الآن."
قال وقلبه يخفق بعنف: " من هذا؟ "
أجابت وهي تناوله السماعة: " إنه طبيب والدك. إذ كان يحاول أن يعثر عليك منذ ساعة. "
الـفـصل الـثـالـث.
كانت يد جايمس ثابتة وهو يأخذ سماعة الهاتف . استمع برهة ثم قال: " فهمت . سأحضر حالاً."
سألته بعد أن وضع السماعة: " هل ساءت حالة سيث؟ "
هز كتفيه قائلاً: " لا تسأليني . أنك تعرفين هؤلاء الأطباء، فهم لا يخبرونك صراحة عن رأيهم. إنهم يريدون استشارتي بالنسبة لمدة علاج أبي إذ يبدو انه غير متعاون معهم في ذلك وهذا لا يدهشني البتة. واظنني سأعرف المزيد عندما أصل إلى المستشفى ."
نهضت متجهة نحو الغرفة الخلفية لتحضر معطفها وحقيبة يدها وهي تقول: " انتظر . إنني قادمة معك. "
قال: " كلا...لا تأتي.فالسبب الوحيد الذي جعل المستشفى يتصل بك هو أنهم لم يجدوني في فندقي فظنوا, وكان ظنهم صائباً أنك ربما تعلمين مكاني. على كل حال فإن لديك عملك ويبدو أن أوائل زبائنك قد وصلوا على كل حال. "
كان على حق إذ دخل العملاء الذين كانوا استأجروا منها أزياء الحفلة التنكرية لإعادتها فسألته: " هل لك أن تتصل بي لتخبرني عن حالته من فضلك؟ "
هز كتفيه قائلاً: " نعم، إذا شئت"
كانت تعلم أنه قد ينسى وجودها بأكمله وأن السبب الوحيد لقبوله ذاك هو أن عنده ما يشغله أكثر من النقاش معها. ودون أن يكلف نفسه عناء كلمة الوداع، عبر الساحة بساقيه الطويلتين إلى الطرف الآخر من السوق.
بقي الزبائن يتوافدون إلى المتجر طيلة الصباح يعيدون البضاعة التي سبق واستأجروها ويتبادلون الأحاديث وعموما لم يكن شهر كانون الثاني _يناير في مدينة بورت ارمسترونغ يحتوي أي نشاط ولو أن قضية سيث لوغان وعلاقتها بالصحافة حدثت إبان فترة عطلة الميلاد ، لما اهتم بها أحد .
لم يكن في ظهور جايمس لوغان قبل الساعة الواحدة تماماً ما يطمئنها ، ولم تتوقع لحظة واحدة ،أي خبر منه قد يجلب الراحة إلى نفسها .
جلس إلى جانب المكتب بينما تنهي العمل مع آخر الزبائن .وسألها بعد أن أصبحا وحدهما: " هل كان صباحاً حافلاً بالعمل؟"
أجابت: "نعم ، كيف حال سيث؟ "
أجاب: "لا بأس. يبدو عليه الخجل والاستغراق في التفكير...انه تقريباً....." وسكت ثم سألها مغيراً الموضوع: " ما هو نوع العمل في متجرك هذا؟ " وألقى نظرة إلى مجموعة من الملابس الجاهزة لترسل إلى التنظيف وهو يتابع : " هل تتاجرين بالملابس المستعملة؟ "
قالت: " يمكنك أن تسميها كذلك."
قال لآوياً شفتيه: " وتسمحين لنفسك بالادعاء انك تديرين مؤسسة محترمة؟ إنها تبدو لي نفاية رخيصة."
لم ترى ميلودي حاجة إلى تكلف التهذيب إزاء شخص مقيت مثله.فقالت: " إنني أختزن الملابس الكلاسيكية الأثرية الطراز يا سيد لوغان ، ولكنني لا أتوقع منك تقدير قيمتها أو نوعها .ولمعلوماتك الخاصة هي ثمينة جداً."
هز كتفيه دون اهتمام ، بينما تنهدت هي قائلة: " دعنا نختصر المضايقات في هذه الجلسة واخبرني بالضبط لماذا عدت إلى هنا بينما يفضل أحدنا أن يكون الثاني في مكان آخر؟ "
قال: " إنني أتساءل إذا كنت لا تمانعين في تناول الغداء معي."
" ماذا؟! ولم هذا؟ "
رفع حاجبيه وهو يجيب: " لأنه من المعتاد أن يأكل الناس شيئاً بين الإفطار والعشاء، هل ثمة سبب آخر؟ "
أجابت دون أن يؤثر لمعان عينيه الزرقاوين: " لعلك تنوي أن تدس لي السم في الطعام خفية عني."
قال ساخراً: " أعدك بألا أقوم بأي عمل مأساوي كهذا .على كل حال ، فإننا سنتشارك في أكل ساندويتش بينما أطلعك على ما أخبرني به الطبيب هذا الصباح .وبعد ذلك إذا شئت ..."
نظرت إليه سائلة: " إذا شئت ماذا يا سيد لوغان؟ "
قال: " ناديني باسم جايمس."
ليس جيمي أو جيم، بل جايمس ...كان هذا شيئاً تافهاً ولكنه زاد من عدم ثقتها به. إذ أنها في لحظة تراه عدواً وفي اللحظة التالية رجلاً ساحراً...فهو أكثر الرجال الذين عرفتهم تقلباً. ولكن ثمة شيئين ثابتين فهو ليس صديقاً لها، وثانياً أنه لم يكن هنا لمحاكمتها. وعادت تسأله: " إذا أنا شئت ماذا يا سيد لوغان ؟ "
أجاب: " حسناً، يمكننا بعد ذلك أن نزور أبي معاً. إنه صعب جداً . وفي الواقع أن الشخص الوحيد الذي أبدى نحوه منتهى الصبر هو..." وبهتت ابتسامته وهو يزدرد ريقه، ثم استطرد: " حسناً ...إنه أنت ."
أدركت أنه في أعماقه كان شديد الاهتمام بأبيه رغم ادعائه عكس ذلك. أوشكت على أن تخبره بذلك، وبأنها أيضاً على استعداد لعمل أي شيء لأجل سيث ، وأن في استطاعتها الذهاب بنفسها إلى المستشفى دون الحاجة إلى مرافقته لها ، ما أن همت بذلك حتى دخلت أدريادن .
قال تنظر إلى جايمس بإعجاب: " حسناً، حسناً، حسناً."
غمرت الدهشة ميلودي وهي ترى تألق عينيها ، وفي هذه اللحظة ، نسيت قلقها على سيث وحل محله شعور غريب أدركته لأول وهلة .أنها لم تتعود الاستسلام إلى الغيرة، ولكنها تشعر الآن برغبة فائقة في آن تقتلع شعر أدريادن الأسود الكثيف بقبضتها من جذوره .
مع أنها صدمت وشعرت بالخجل من نفسها لهذا الشعور إلا أنها لم تستطع مقاومة الرغبة في إغاظتها بشيء أقل عنفاً. منحت جايمس لوغان ابتسامة تقطر حناناً قائلة:" طبعاً سآتي لزيارة أبيك.أنما أسمح لي بدقيقة واحدة لأحضر معطفي. "
أما ما حدث في اللحظة التالية فلم يكن أقل مما تستحق ، إذ أنه حالما اطمأن إلى أنه نال ما يريد حتى تبخر سحره مما
ذكرها بأن أسنانه البيضاء النضيدة ، وأهدابه المقوسة الكثيفة ، ليست سوى مميزات اكتسبها بالوراثة ولا تستحق أن ينال إعجابها بسببها .
قال: " لا تضيعي الوقت إذ أن عندي سيارة مستأجرة هي الآن في مكان ممنوع الوقوف فيه، وأنا لا أريد أن أرى عدد الغرامات التي ستتجمع لدي في هذه المدينة."
عندما استقرا في السيارة ، أخذ يركز على قيادة السيارة خلال شارع تقوم الأشجار على جانبيه ويؤدي إلى الطرف الآخر من المدينة حيث يقوم المستشفى على هضبة عالية تشرف على الميناء.
سألت: " لماذا كان علينا أن نذهب معاً لزيارة أبيك؟ هل ذلك لأنك تخاف من البقاء بجانبه بمفردك؟ "
كانا في هذه الإثناء قد وصلا إلى تقاطع طرق وحتى هذه اللحظة ، كان يقود السيارة بشكل عدواني متوقع منه بالنسبة إلى مزاجه الحاد ، دونما تردد بالنسبة لأفضلية السير ودون الالتزام بالتباطؤ مسافة الخمسة أميال تبعاً للسرعة المحدودة ولكن جملتها الأخيرة جعلته يكاد يسحق المحرك وهو يشتم بعنف.
قالت له بعد أن توقفت السيارة فجأة في منتصف منعطف إلى اليمين: " لقد أتلفت المحرك."
قال وهو يحاول إعادة إدارة المحرك: " أعلم ذلك."
عادت تقول: " إنك تعرقل حركة السير."
أجاب: " ما أشد فطنتك إذ لاحظت ذلك."
قالت: " هذا عدا عن انك قد تسبب في اختناق السائق الذي خلفك من جراء إفراغك للعادم.هل من الضروري أن تزيد من سرعة المحرك هكذا؟ "
اهتزت السيارة بعنف لتعود فتتوقف فجأة بعد أن ضغط على الكابح بعنف وسألها: " هل تريدين أن تقودي بنفسك؟"
ابتسمت ميلودي بعذوبة وهي تقول: " كلا بالطبع يا جايمس فأنا متأكدة من أنك ستصلح الأمر تماماً إنما فقط عندما تهدئ من طبعك."
"طبعي هادئ تماماً إلا إذا اصطدمت بالكلام مع امرأة مثلك تجعل أكثر الناس هدوءاً يشتمون ويلعنون."
أطلق السائق الذي خلفه صوت بوق سيارته فقالت: " إنك تعرقل حركة السير يا جايمس."
قال ساخطاً: " أوه أذهبي إلى الجحيم وخذي معك نظرياتك الفجة عن علاقتي بأبي.طبعاً أنا لست خائفاً من البقاء وحدي معه.إن هذا لا يهمني إطلاقاً."
لكن الأمر لم يكن بهذا الشكل كما أدركت حالما وضعت قدمها في غرفة سيث في المستشفى .فقد كان ثمة محاولة يائسة من قبل جايمس ليعيد الحيوية إلى وجه سيث ، دفعته إلى أن يبتلع كبرياءه ويطلب إليها أن تأتي وتجلس إلى جانب أبيه.
لم يكن ثمة أثر من النار التي كانت تشتعل أمس في عيني سيث. لا أثر من تلك الثورة على ظلم القدر الذي جعله عاجزاً وتحت رحمة غرباء لا يثق بهم . حتى أن رؤيته لجايمس لم تؤثر فيه سوى همهمة متعبة.
قالت له ميلودي وهي تأخذ يده المغضنة في يدها: " لقد جئنا لنطمئن عليك، فربما تشعر برغبة في رؤية الناس."
أجاب وهو يجاهد قليلاً ليلتقط أنفاسه: " ليس اليوم يا فتاتي ميلودي . الشيء الوحيد الذي أشعر بالرغبة فيه اليوم الذي يؤخذ فيه مقاس التابوت."
قالت: " لا تتحدث بهذا الشكل ، تعال هنا يا جايمس وقل لأبيك أن لا يتفوه بمثل هذا الكلام."
قال جايمس: " دع عنك هذا التفكير يا سيث ، الناس الطيبون وحدهم يموتون باكراً ، وأنت لست منهم ."
قال سيث: " ولا أنت .لن تموت باكراً أبداً .لماذا لا تعود من حيث جئت ، وتتركني أموت بسلام؟ "
أجاب جايمس: " ليس لك حظ في ذلك .أنني باق هنا إلى أن تخرج من هذا المستشفى.فضع أذن هذه الفكرة في رأسك."
ساد العبوس ملامح سيث وهو يتمتم: " لقد كنت دوماً ولداً مشاكساً ." ثم ألقى على ميلودي نظرة متعبة وهو يقول: " منذ زمن طويل لم تمسك يدي فتاة جميلة بهذا الطريقة. أتظنين أن في استطاعتك الجلوس معي فترة؟ "
وضعت متأثرة وجنتها على أصابعه الملتوية وهي تقول: " يمكنني ذلك طيلة بعد الظهر والمساء أيضاً إذا شئت."
تمتم وهو يغمض عينيه: " فترة قصيرة فقط، فترة قصيرة." وبعد ذلك بلحظات ، أستحوذ عليه النعاس وبقيت بجانبه ما يقارب الربع ساعة ، وعندما بدا أنه يستغرق في نوم عميق ، وضعت يده تحت أغطية الفراش وهي تهمس مستديرة إلى جايمس متوقعة أن يكون مسروراً في أن يتبعها خارجاً من الغرفة، قالت:" دعنا نتركه ليرتاح."
لدهشتها بقي متسمراً في مكانه وقد بدت على وجهه علامات الوحشة .وكان ذلك مستغرباً تماماً بالنسبة إلى ثقته بنفسه ، ما أشعرها بالخوف فهمست: " ما هذا؟ إنك لا تظن إنه سيموت، أليس كذلك؟ "
أجاب: " أوه كلا." وسحبها بسرعة إلى الخارج.
قالت: " لماذا تبدو إذن بهذا الشكل جايمس ؟ إنك تخيفني .هل تعلم شيئاً عنه لم تخبرني به؟ "
قادها عبر القاعة نحو المصعد وهو يقول بكآبة: " إننا أب وابنه، ولكننا مع ذلك غريبين، الواحد منا غريب عن الآخر . ومنذ وصولي لم نستطع أن..." ونظر إليها بحيرة وهو يتابع " إنك دخلت حياته في أتعس الظروف ولكنه أنجذب إليك وكأنك أبنته المفضلة بينما معي..."
أنتبه إلى أنه باح بما لا ينبغي ، وضغط على زر المصعد يستعجله، وهو يستطرد: " إن هذه التناقضات هي في سيث فقط." وتابع بمرارة : " إن معظم الآباء يفضلون ولداً ، ولكن يظهر أن أبي كان يفضل أن يكون له بنت."
لمست شعوره بالغيرة والألم .وشعرت بالشفقة عليه، وعلى أبيه كذلك، لأنهما كانا عنيدين متكبرين لم يعرف الواحد منهما كيف يصل إلى قلب الآخر.
قالت: " لو أنك تخبره بحبك له لتغير تصرفه نحوك."
وسرعان ما أدركت أنه كان يجب أن تحتفظ بفمها مقفلاً ، إذ قال: " إنك تسخرين مني ، إنه عند ذلك يواجهني بإطلاق النار."
قالت: " ولكنه والدك ."
أجاب: " وما دخل ذلك بالأمر ؟ "
قالت: " كل شيء ." كانت تتكلم انطلاقاً من خبرتها الخاصة ، إذ كانت ابنة وحيدة عاشت محاطة بأبوين محبين ، وعمات وأعمام وجمع من أولاد الأعمام مما لم يسمح لها بالشعور بالوحدة والوحشة ، وربما لا يستطيع جايمس لوغان أن يدرك ما الذي يعنيه هذا للإنسان ، ولكنها لن تدع هذا يمنعها من إظهار ذلك. وقالت : " لا بد لأفراد الأسرة من مساندة بعضهم البعض مهما كانت الظروف ."
كان تجاوبه معها كما توقعت بالضبط .إذ قال :" إن ذلك ليس من طبعي ، ولا أريد تصنع مشاعر نحو علاقة وراثية حدثت بشكل عرضي."
قالت: " إنني إذن ، أشعر بالشفقة عليك. "
قال ببرود ينذر بالشر : " تشعرين بماذا ؟ "
كان الوقت قد فات لتتراجع عن كلامها بعد أن غاصت في مستنقع هذه المشكلة. واندفعت تعيد قولها: " أشفق عليك.ذلك أن كل كبرياء الرجولة هنا في غير موضعها، أنه محزن. ولا ينفعك بشيء سوى أنه يزيدك بعداً عن أبيك ، إنني لا أدري ما الذي أحدث هذا الشرخ بينكما، ولكن من الواضح أنه ليس في إمكانك أن تشعر نحوه سوى بالاستياء ."
أمسك بمعصمها بقسوة وهو يقول: "إنك تضيعين مواهبك في بيع الملابس المستعملة .إذ أنك تجدين متعة أكبر في أن تدسي أنفك في شؤون الآخرين لتعلميهم كيف ينبغي أن يعيشوا حياتهم."
لقد خف الآن غضبه.ولكن وجهه ، كما لاحظت كان جامداً . ربما كان كلامها ذاك سابقاً لأوانه فأغضبه ، ولكنها لم تكن تريد أن تذعن له بالنسبة إلى سيث. لقد كانا هما الاثنان في منتهى العناد ما جعلهما يرفضان الاعتراف بالرباط الذي يجمع بينهما. صممت في تلك اللحظة ، حتى ولو فشلت أحلامها في أنشاء المجمّع ، فهناك ما يمكنها أن تقوم به بنجاح وهو أن تقرب بين جايمس وأبيه.
قالت بصوت ضعيف مؤثر: " انك تؤلمني."
نظر إليها وترك معصمها وكأنه جمرة وهو يقول: " إنني آسف .لم أكن أقصد ذلك."
إذن فهو لم يكن خالياً من الكياسة، ودون تردد، بدأت بتنفيذ خطتها. وقالت وهي تدعك معصمها : " أظنني في حاجة إلى شيء آكله .هل تمانع في أن توقفني أمام بائع سندوتشات قبل أن توصلني إلى المتجر؟ "
" بالتأكيد .ما رأيك بكافيتريا المستشفى؟ "
لكن الطعام هناك ليس جيداً كما أن الجو لا يساعد في تأدية الدور الذي تتوخاه في بناء الثقة بينهما ، ولكن كان عليها أن تبدأ في مكان ما .وكان عليها أن تحاول رؤية جايمس لوغان قدر استطاعتها لتخترق حدود دفاعه وتتمكن من إقناعه بإقامة السلام مع أبيه .ولا بأس إذا هي وجدته شخصياً لا يطاق .ذلك أن احتمالها لمعاشرته هو ثمن تافه للجمع بين أب وابنه .
أجابت: " الكافيتريا فكرة حسنة ." وتجاهلت صوتاً داخلياً يخبرها بأنها متطفلة فهي إنما تفعل ذلك لهدف نبيل.
في اليوم التالي حدث ما جعل خطتها تتقدم ذلك أن سيث أصيب لسوء حظه بالتهاب في رئتيه الاثنتين مما أستدعى ضرورة السهر بجانبه لمدة أسبوع كامل .
همست ميلودي بفزع: " أليس ثمة دواء ضد هذا المرض؟ "
هز جايمس رأسه وهو يقول : " لا أظنه يهتم بحياته .وليس ثمة دواء في العالم يشفي من الشعور باليأس ."
ردت عليه ثائرة: " إذن، اجعله يهتم بها، امسك بيده واخبره أنك في حاجة إليه.أخبره بأنك لن تدعه يستسلم للموت."
لكنها كانت تعلم أنها تطلب الكثير من جايمس الذي قال : " إذا أنا فعلت ذلك .فسيتأكد من موته السريع، ذلك أننا لم نكن قط ذلك النوع من الأسر الذين يظهر أفرادها تعاطفهم."
تلألأت الدموع في عيني ميلودي وهي تقول مرتجفة: " ربما ينبغي عليك الآن أن تبدأ قبل فوات الأوان . إنه رجل عجوز وحيد يا جايمس ، فإذا كان عاجزاً عن الكفاح أكثر من ذلك فلا تدعه يموت وهو يظنك غير مهتم به."
قال بغضب: " ولكنني طبعاً مهتم به، لماذا وجدتني عدت إلى المدينة إذن؟ هل لأنني لا أستطيع العيش دون شتائمه؟ "
وجدت هي أنها تضغط عليه لأنه كان فعلاً يمر بأزمة عاطفية لا يحتاج معها إلى مزيداً من الضغط.ووضعت يدها تحت ذراعه قائلة: " ما أراه هو أننا نحن الاثنين في حاجة إلى شيء من الراحة، وهذا دوري في شراء القهوة.تعال معي إلى الكافيتريا."
هكذا بشعور متبادل أعتادا على الاجتماع في المستشفى.كانت ميلودي تذهب إلى هناك في فرصة الغداء ، ثم بعد إقفالها المتجر آخر النهار .وكان يبدو لهما أن من الطبيعي أن يتناولا الطعام معاً بعد انتهاء فترة زيارة المرضى .
بعد عدة وجبات سريعة تناولاها معاً في الكافيتريا ، نصحتهما الممرضة الليلية بأن يذهبا إلى مطعم تديره أسرة ايطالية لا يبعد أكثر من عدة أمتار في الشارع .إذ قالت لهما: " إن هذا المطعم يقدم الطعام للزوار في المستشفى . والطعام الجيد رغم ارتفاع ثمنه.وهم يدركون أنكما في حالة قلقة ، ولهذا سيوفرون لكما الهدوء."
قالت ميلودي: " ولكن ماذا لو ساءت حالة سيث؟ "
قالت الممرضة تطمئنها : " إننا نعرف رقم هاتف المطعم ، وسنتصل بكما حينذاك."
كان ما قالته الممرضة عن مطعم فرانشسكو صحيحاً كانت الموسيقى هادئة وكل مائدة منعزلة في ركن خاص ومضاءة بشمعة واحدة.
في البداية ، كانت ميلودي هي التي تقوم بأكثر الحديث ...فكانت تأتي أحياناً على سيرة طفولتها .ولكن ما أن تتابعت الأيام وبدا عليه الارتياح والألفة حتى أخذ هو الآخر يدلي بمعلومات عن نفسه.
قال يحدثها ذات مساء" لقد تطلق والداي عندما كنت في الثالثة عشر من عمري ."
عندئذ تعمدت ميلودي عدم أظهار تشوقها إلى معرفة المزيد وحصرت انتباهها في صحن المعكرونه أمامها .كانت تعرف أنه لا يشارك الآخرين ما في نفسه بسهولة ، وأنه سرعان ما يرتد إلى طبيعته المتحفظة إن لمس أي تطفل منها .
سألته بشكل عرضي: " وهل فهمت السبب في طلاقهما؟ "
أبتسم متهكماً وهو يقول: " طبعاً، ذلك أن أمي كانت تردد الأسباب يومياً لمدة ست سنوات." وأخذ يعد الأسباب على أصابعه واحداً, واحداً : " أولاً ، كلما كانت أمي بحاجة إلى أبي لم تكن تجده لقد كان صياد سمك.أتعرفين هذا؟ ثانياً لم يكن سيداً مهذباً ، كان يشتم ، ويدخن ، ويشرب مع أصدقائه الحميمين ، ثالثاً لم يكن ثمة نقود للإنفاق أحياناً .كان مركب الصيد أول اهتماماته وكان يقول إن الرجل يحتاج إلى مركب يمكنه أن يركن إليه عندما تثور العاصفة في البحر."
سألته: " ولكن ألم تكن أمك تدرك ذلك منذ البداية؟"
أجاب: " ربما.إنما يجب أن أقول شيئاً في جانب سيث، وهو أنه لم يتعمد يوماً أن يتظاهر بغير حقيقته."
قالت: " لماذا تزوجته أذن؟ "
أجاب:" شعرت بأن ليس أمامها خيار."
نظرت ميلودي إليه بحيرة وهي تسأله: " ما الذي تعنيه بقولك ، ليس أمامها خيار ؟ لقد انتهى عهد الزواج المفروض على الأبناء مع القرن الماضي ."
ظهر التهكم في عيني جايمس وهو يجيب: " ألم تسمعي قط بالزواج السريع يا ميلودي؟ "
تضرج وجهها وهي تقول: " أوه ..، هل تعني ..."
ضحك عند ذلك وهو يجيب: " هذا ما أعنيه .إنها كانت حاملاً ...بي أنا . كانت في التاسعة عشر من عمرها فقط في ذلك الحين.ولم تكن تدرك أبداً حقيقة الزواج من صياد سمك، وكان الانفصال صعباً عليها، إذ كانت تعيسة بدونه.لكنهما كانا يتشاجران طيلة حياتهما معاً، خاصة بسبب النقود."
قالت ميلودي : " يا للعار ، إذ ليس للمال هذه الأهمية التي تجعل الناس يتشاجرون لأجله."
قال: " هل تساءلت قط في حياتك، من أين ستأتين بأجرة بيتك الشهر القادم؟ "
اعترفت قائلة: " كلا."
قال: " انك إذن لست في وضع يسمح لك بمعرفة المهم وغير المهم.والمال دوماً مهم عندما لا يوجد منه الكفاية."
شعرت بأنه محق في قوله وأنها قد آذت مشاعره وأن عليها تغيير الموضوع.وسألته : " هل كنت ترى أباك أغلب الأحيان في حداثتك؟ "
هز رأسه قائلاً : " نادراً جداً ..لقد عشت مع أمي حيث انتقلنا إلى مدينة تبعد ستين ميلاً عن الشاطئ حيث حصلت على عمل مصففة شعر.وكان سيث يأتي إلينا مرة كل فترة أثناء السنوات الأولى .ولكن كانت الزيارات دوماً تنتهي بمصيبة إلى أن توقف في النهاية عن المجيء ."
قالت: " لا بد أنه كان يفتقد رؤية ابنه الوحيد يكبر في حضوره."
قال بجمود: " لو أنه كان كذلك، لما كان سمح لمشاجرات تافهة بأن تبعده عني."
قالت: " لقد أقترف خطأ أنا متأكدة من أنه ندم عليه في ما بعد .وربما ستفعل أنت نفس الشيء لو صار عندك أولاد."
قال جايمس بحزم: " كلا لن يحدث هذا.لقد قررت منذ مطلع شبابي أن أبقى بعيداً عن الزواج ومشاكله ، وخصوصاً مشاكل الأولاد ، إذ يكونون كالدمى في أيدي الآباء عندما يبدأ الشقاق .والآن هل تريدين حلوى ؟"
أجابت ميلودي وهي تشعر باكتئاب هائل: " كلا."
في مرة أخرى ذهبا يتمشيان في حديقة عامة قريبة ، لكي يخفف جايمس من توتره وكان النهار في نهايته حيث كانت رياح أواخر شهر كانون الثاني _ يناير تدفع الدخان من مداخن تلك البيوت الجميلة الفيكتورية الطراز.
كانت الحديقة خالية .وكانت ميلودي تتوقع جولة سريعة في أرجاء الحديقة يعودان بعدها إلى دفء المستشفى .ولكن عندما اقتربا من مكان لعب الأولاد أمسك جايمس بيدها المكسوة بقفاز وهو يقول : " هيا بنا نلهو." وجرها معه ، فقالت محتجة : " ولكن البرد شديد."
لكنه لم يستمع إلى رفضها .ووضعها على الأرجوحة المعدنية ومضى يدفعها في الهواء إلى أن كاد نفسها ينقطع وأخيراً سمح لها بالنزول بعد أن زال توتره.كان وجهها أزرق اللون من البرد.
انجرت ضاحكة وهما يتابعان سيرهما .وقالت : " إنك تدهشني .لم أكن أظن أن في إمكانك أن تكون بعفوية الأطفال..."
كان هو يضحك كذلك، ولكنه سكت عندما سمع قولها هذا وقال ساخراً: " أظنك معتادة على معاشرة أشخاص متزمتين يجدون التسلية في أمور أكثر رقياً."
قالت وقد بهت سرورها : " حسناً إنك على خطأ يا جايمس .إنني لا أريد شجاراً فلا تحاول استفزازي. ولكن ما دمت قد فتحت الموضوع فإنني أرجو أن لا تتابع افتراضاتك عني وسؤالي عما أحب وعما لا أحب."
قال: " لا بأس، ولكن ما هي الأشياء التي اعتدتها للتسلية؟ "
فكرت لحظة ثم قالت:"الرقص والأكل، كما أنني أعشق الأطعمة الفرنسية."
قال:" ولكن الطعام الفرنسي مصحوب بالشراب عادة.فكيف تتدبرين أمرك بالنسبة لهذا؟ "
قالت: " كما أتدبر أمري معك ، إذ أتقبل الصفات الحسنة مع الصفات السيئة."
كان هذا الحديث دليلاً على صداقتهما المتنامية ، إذ أصبح في استطاعتها أن تدلي بمثل تلك الملاحظات دون أن يشعر بالاستياء فأجابها:" إنك تبدين أحياناً طفلة ثرثارة أتدرين هذا."
قالت:"إن ما يجعلني أتصرف بهذا الشكل ، هو قلقي على سيث، تماماً كما يجعلك هذا سيء الطباع."
ثم هربت عندما هددها بأن يلقي بها على كومة من أوراق الشجر الجافة.
قال يذكرها:" إن هذا الكلام يذكرنا بأن نعود إلى أبي لنطمئن على حاله .إنني دوماً أرجو أن يكون في طريق التحسن ، ولكنه يبدو غارقاً في نوع من السبات وفقدان الوعي."
ارتجفت ميلودي وإن لم يكن بسبب البرد فقط وهي تقول :" أعلم ذلك .إن كل تلك الأجهزة حوله تخيفني .ومجرد مراقبة محاولاته للتنفس ، تسبب لي الألم."
قال: " إن الانتظار هو الأصعب.ولكنني أحياناً أتمنى لو ينتهي الأمر بأحد الأمرين."
قالت ميلودي وهي تلقي برأسها على كتفه: " لندع له بالشفاء العاجل."
منتديات ليلاس
|