~:~:~:~
حب في الظلام
آن هامبسون
عبير القديمة
العنوان الاصلي للرواية بالانجليزية
AN EAGLE SWOOPED
الملخص :
البصر نعمة لا تعوض كل شيء اخر يمكن اصلاحه سوى فقدان الرؤية .. ان يغرق العالم من حولك في الظلام الدامس , خاصة بعدما عرفت هذا العالم وعشت فيه ..
فكيف ان تفقد بصرك من اجل شخص تحبه فاذا به يهجرك غير آبه لمصيبتك ؟
هذا ما حصل لليوناني بافلوس ديمتريوس الذي وقع في حب الانكليزية لوسيندا ...
وكانت تيسا شقيقة لوسيندا تحبه في السر وهو لا يعبأ لها فعندما علمت بقرب موعد خطبته لأختها غادرت بلدها لئلا يؤلمها ما سترى ..
وعندما عادت وجدت لوسيندا مخطوبة الى رجل آخر فماذا حصل ؟ وهل تذهب تيسا للبحث عن حب ضائع مع رجل لا يرى ؟
1- صفعة من ورد .
عادت بيسا من رحلتها الاخيرة الى اليونان ولكن ترى حتى متى ؟ ودارت بسيارتها الى داخل الممر قاطعة الياردات القليلة فخرجت الاسرة بأكملها تقريبا لترحب بها .
وعانقت امها واخويها الصغيرين وكان اخر من احتضنها ابوها بقامته الطويلة وشعره الشائب وسمة الاسى الدائم التي تعلو وجهه الشاحب وسألها في امل :
- هل تعودين الى الوطن نهائيا ؟
- ربما ما اروع ان اركما يا ابي ويا امي وانتما ايها الحبيبان كم كبرتما !
ودخلو البيت فذهبت الام السيدة بلين الى المطبخ لتعد الشاي , وانصرف الغلامان لأتمام واجبهما المدرسي وجلست تيسا وابوها برهة يتحدثان عن عملها واصدقائها في الخارج والاماكن التي شاهدتها ثم تساءلت في تردد :
- لوسيندا , اهي .. هل يقيمان على مقربة ؟
وقبل ان يجيبها ابوها اقبلت امها بالشاي وقالت :
- تحدثي مع ابيك ريثما اعد راشك لأننا توقعنا ان تصلي غدا .
تطلعت الى اها مبتسمة وقالت لنفسها . انها كالعهد بها شاب شعرها في بعض الاماكن ولكنه جذاب التنسيق وعيناها عسليتان رقيقتان ولصوتها سمته الخاصه وتذكرت تيسا ان الطبيب قال مرة وهو يضحك: أصيبت الحبال الصوتيه بعيب ولكنه من افتن العيوب !
كان صوتها صافيا خافتا عذبا كالموسيقى في ليلة ساكنة الهواء واورثت السيدة بلين ابنتها هذا الصوت الجميل واورثت تيسا وحدها شكلها اما ابنتها الاخرى لوسيندا فتشبه جدتها التي كانت في شبابها رائعه الجمال ذات شعر ذهبي شاحب وعينين كالزهور العنبرية الحديثة التفتح .
وعادت السيدة بلين تقول :
- سأسوي فراشك وستنزلين في غرفتك نفسها مع لوسيندا .
وشحب وجه تيسا وغشيتها رجفة مفاجئة وقالت :
- لوسيندا ؟ الم يتزوجا بعد ؟
وتبادل والداها نظرة ثم قالت امها متعجلة :
- سأترككما لتتناولا الشاي .
وما هي الا لحظة حتى كان الباب قد اغلق وراءها بهدوء .
- ماذا هناك يا ابي ؟ اما زالت لو سيندا مخطوبة الى .. الى بول ؟
- انها مخطوبة ولكن ليس الى بول , الا تسكبين الشاي يا تيسا ؟
- اخبرني بما حدث , اين بول ؟
وتنهد الاب قائلا :
- غبت عامين يافتاتي وطلبت بل حرمت علينا ان نوافيك بأية انباء عن لوسيندا وبول .
- انت تعرف السبب , وما كنت احتمل لوسيندا تزوجت .. لوسيندا حامل .. وبول اصبح مزهوا .. الخ .
وهزت راسها تأكيدا واضافت :
- كلا .. ما اردت ان تكتبا الى عن هذه الامور .
- وقد فعلنا ما طلبت يا ابنتي كانا في جولة بالسيارة ووقع حادث بغيض .
واتسعت حدقتاها وتساءلت :
- حادث ؟ هل .. هل مات ؟
وزفرت في اسى وهو يتفحصها بعينيه وقال :
- لم يمت . اما زلت تحبينه ؟ لابد انك تغلبت على هذا يا ابنتي .
فاستحثته قائلة :
- حدثني عن الحادث . اذا لم يمت فلماذا لم يتزوجا ؟ وكيف اصبحت خطيبه لسواه ؟
- انه اعمى يا اتيسا !
وحملقت عاجزة عن الاستيعاب .. بول الشديد الحيوية والاعتداد المتسامي الواثق ! وهزت رأسها قائلة :
- كلا لا يمكن ان يكون هذا .
وارتجف صوت السيد بلين وهو يقول :
- عمى لا علاج له , بسبب الحادث انصرفت لوسيندا عنه .
ونهضت تيسا ثم جلست :
- هذا غير حقيقي... كانا مدلهين بحب جنوني .
فهز ابوها رأسه وقال :
- من جانب واحد كما تبين غضبنا جميعا من لوسيندا واستنكرنا تصرها اذ ذاك ولكنا بعد فتره استسلمنا ولعله كان اكثر مما ينبغي ان نتوقع ان تربط بقية عمرها بأعمى .. انها فتاة جميلة جدا .
اجل وكانت تيسا عادية المظهر لهذا لم يعد بول يرى سوى لوسيندا بعد ان التقى بها وعادت تسأل اباها فأجابها :
كان هذا منذ عام انقلبت السيارة وكان بول يقودها بسرعه كبيرة .
- ما اعتاد بول الاسراع كان شديد الحرص في القياده .
- الواضح انه كان مسرعا في هذه المره ومسرعا جدا .
وتوقف وتغضنت جبهته واستأنف :
- رفضت لوسيندا ان تقول اكثر من هذا ولكنها اصرت على انه كان مسرعا جدا .
وفكرت تيسا .. ماكانت لو سيندا لتكذب ومع ذلك .. واستعادت تيسا ذكرى لقائها ببول الليلة التي غيرت حياتها بأسرها , وجلبت في اعقابها تعاسة لا سبيل لوصفها فقد عرض بول ان يقلها الى منزلها .
ولاحظت حرصه في الطريق والسرعه المأمونه التي التزمها في القياده وعادت تسأل اباها :
- اتقول ان السيارة انقلبت؟ الواضح ان لوسيندا لم تصب بضرر .
فأجاب بأنها ارتمت خارج السيارة التي اشتعلت فيها النيران واصيب بول بحروق كان غريبا انها اقتصرت على يديه ولم تمس وجهه ومع ذلك فقد بصره !
- قالوا انها الصدمة العصبية ويبدو ان الصدمة الشديدة قد تسبب العمى .
وشعرت تيسا بأن في الامر شيئا ولكن استيائها لأبيها لم تأتيها بجديد كانت لوسيندا تلوذ بلصمت ازاء الحادث منذ وقوعه ولكن الا سبيل لشفاء هذا العمى ؟ ان العمى الناتج عن صدمه عصبيه كثيرا ما يشفى !
- بول غني كما تعرفين عاده كل طبيب مشهور وقضى في المستشفى وقتا ولكن دون جدوى اجمع الاطباء على انه لا سبيل للشفاء.
قالتها تيسا وكانها تحدث نفسها :
- وهكذا تخلت عنه لوسيندا ؟
واكفهر وجه ابيها ولكنه لم يتكلم فمضت تسأله اين بول حاليا ؟ قال وهو يضع قدح الشاي امامها :
- رحل الى الخارج ليقيم في جزيرة يونانية , فيما اظن .
وما كان ابوها يعلم اية جزيرة بالتحديد ولكنه رمقها بقلق وقال :
- انسيه يا ابنتي ابحثي لنفسك عن شاب لطيف اثبتت الامور ان بول ليس مقدرا لأي منكما .
فحملقت في قدحها وندت منها زفرة :
- اتقول ان لوسيندا خطبت مرة اخرى ؟
- لشاب لطيف جدا يكبرها بعام في 27 وهو متيم بها وسيتزوجان في شهر ييونيه.
كان كل امرئ يهيم بلوسيندا بجمالها الشاحب وبمقدورها على الظهور بمظهر الوداعه وغير المتصنعه .
- هذه الجزيرة اليونانية اليس لديك فكرة عنها ؟
- كلا وقد لا تكون يونانية ولكنها جزيرة قطعا .
وعبست لماذا الالحاح لمعرفة مكان بول وما الذي فعله في سويعات قلائل؟ كانت خاليه البال حتى تلك الامسية التي دخل فيها حياتها . وعاد ابوها يقول :
- انسيه يا حبيبتي . ستتزوجين .. .
فقاطعته بصوت متهدج :
- لن اتزوج ابدا يا ابي .
وقبل ان يتكلم اقبلت لوسيندا قائلة :
- تلك السيارة.. لمن ؟ ... تيسا ! ما اطيب ان أراك! لكم اصبحت سمراء ! هذا يجعلك جذابه جدا .
اسئلة كثيرة وابتسامات مسرفه ومع ذلك فما كبدت لوسيندا نفسها عناء كتابة رساله واحده لها خلال عامين !
وفجأة امسكت لوسيندا عن الكلام وتبادلت وابوها نظرة ولكن ذكر بول لم يرد حتى انفردت الشقيقتان في غرفة نومهما لوسيندا تستعد للقاء جيرارلد, وتيسا لزيارة احد اصدقاء بول .
قالت لوسيندا وهي تسوي شعرها :
- احسبهما اخبراك؟ لقد كتما الامر لنك اخبرتهما بانك لا تريدين سماع شيء عن بول وعني .
- كان هذا حليفا بان يؤلمني ولايبدو ان ابي يعرف تماما ما حصل .
- ماكان بوسعي ان اروي الكثير كنت فاقده الوعي .هل اخبرك ابي .. بول صار اعمى !
واجفلت تيسا للهجة اختها غير المكترثة ازاء فاجعة بول وهمست بصوت اجش :
- كيف استطعت ان تهجريه ؟
فهتفت :
- لا تعظيني كفاني مالقيت من امي وابي كنتم جميعا تفضلون ان اتزوجه ولكني الوحيده التي كانت تتعذب تصوري قضاء عمرك مع رجل لايملك ان يبصرك !
وسوت خصلة شعر شارده وتفحصت صورتها في المرأة واردفت :
- ماجدوى ان ابدو هكذا وهو لا يراني ؟
اجل جميلة جدا لا عجب ان بول لم يلتفت بنظرة الى تيسا منذ ان قدمته الى اختها , واجهت تيسا صورتها في المرآة وهي غير راضية عن شكلها كانت عظام وجنتيها مرتفعه ولكن الطبيعه لم تصقل انحناءاتها بابداع وكان فمها بشكل وحجم فم لوسيندا ولكنه يفتقر لشيء لا سبيل لتحديده وهو الفارق بينهما في المظهر .
ولكن عينيها كانت واسعتين وصادقتين في اعماقما العسلية ومضة حنان لم تبد ابدا في عيني اختها كما كانت تيسا تنفرد بشعرها الجميل في لون الشهد تتخلله ظلال من النحاس والذهب ينسدل على كتفيها نصف متموج .
واقنعت نفسها بانها لم تكن قبيحه تماما ولكنها بالمقارنه الى لوسيندا .. ؟
قالت وكانها تخاطب نفسها :
- ما فهمت الى الآن كيف استطعت التخلي عنه . انه وان اصبح اعمى لا يزال الرجل نفسه .
واستدارت لوسيندا غاضبة وصاحت الدماء تتصاعد الى وجهها :
- ماكنت انوي الارتباط طيلة عمري باعمى .. ثم هناك يداه ..
وامسكت مرتجفه ثم اردفت :
- لابد انهما اصبحتا بشعتين .. لم ارهما اذ كانتا في الضمادات ولكني لا اطيق التفكير فيهما وماكنت لأحتمل ان تلمساني !
وقفزت الدموع الى مقلتي تيسا فامسكتها قبل ان تلمحها اختها ... قالت :
- انهما يداه بعد كل شيء!
فأرتجفت لوسيندا ثانية وتيسا ماضية في حديثها :
- كيف احترقت يداه دون أي من اعضاء جسمه ؟
فعاد الوميض البشع لعيني لوسيندا وقالت :
- قلت انني لا اعرف شيئا !
- اما اخبرك بول بشيء ؟ احسبك رأيته في المستشفى ؟
- اجل زرته ولكنه لم يخبرني بشيء .
فغمغمت تيسا :
- لكم يبدو هذا عجيبا!
فأطلقت لو سيندا فجاة ضحكة أجشه وصاحت :
- عجيبا ؟ لماذا ؟.
- اذا كان احترق فهذا خطأه رحماك لا ترمقيني هكذا , احسبك كنت تزوجته لو انك كنت مكاني .. كنت تقدمين على التضحيه بشجاعه ولكني لست حمقاء بهذه الدرجه , لم لا تذهبين وتمنحينه عطفك ؟ قد يعني بك الآن , بل قد يتزوجك فلن تقبله سواك !
واجفلت تيسا لكلمات اختها ولكنها سألتها :
- في النهاية عندما صارحته ما ذا قال ؟
- تصرف كما توقع منه.. اغني تظاهر بانه لا يصدق كانه لم يستوعب ولكن هذا كان تمثيلا .. .
- ما اظن ان بول يستطيع الاصطناع في ظرف كهذا .
- انك لا تستطيعين ان تري عيبا فيه.. لعل هذا سيقنعك بمدى غروره قال انني لو غيرت رأيي واستغفرته فسيقبل عودتي اليه ما رأيك في هذا الغرور ؟
-لابد انه يحبك كثيرا حتى يستطيع ان يغفر لك ما فعلت به !
وكانت تيسا تحدج اختها بنظرة متفحصه وهي تستكمل زينتها فهزت لوسيندا كتفيها وغصت تيسا بريقها وهي تفكر كيف ترمي اختها بكل هذا الحب بلا مبالاة! وسألتها :
- وجيرالد.. ما شكله ؟
فاومضت عينا لوسيندا وقالت :
- رائع .. كل منا مجنون بحب الاخر !
والقت تيسا نظرة على الساعه وهي تشعر بغثيان وذهبت الى الحمام مبتعده عن لوسيندا وفيما هي غائصه في الماء راحت تستعيد ذكرى يوم رأت فيه ضرورة الرحيل الى مكان ما , لئلا ترى بول ولوسيندا معا .
وجاءتها الدعوة في انسب وقت للتدريس في المانيا ومنها ذهبت الى تركيا ثم لبنان ثم اليونان وكان هذا المنصب الاخير ل3 اشهر فقط ثم تاقت للعوده الى انكلترا وان كانت موقنة بأن رؤية بول ولوسيندا كفيلة بنسف عزمها على الاستقرار في وطنها .
وما كان الرجوع الى اليونان فكرة طيبه لنها كانت وطنه وان كان قد عاش في انكلترا عددا من السنين .
ووافاها جو في الساعه وهتف في غير تملق :
- انك لم تتغيري كنت مستعدا للكتابه اليك ولكنك لم ترسلي لي عنوانك مطلقا .
ولم تتكلم والسيارة منطلقه بهما الى حيث كانا يعتزمان تناول العشاء فبدأت تثير اهم موضوع كا يشغلها :
- انت كنت صديق بول اتعرف ما حدث يا جو ؟
- اذن فهذا ما سعيت لمقابلتي من اجله ؟كدت افخر بان صحبتي اجتذبتك. اما زلت تحبينه ؟
قالت متلعثمه :
- وهل يعرف الناس هذه الحقيقه ؟
- عندما تهيم الاخت الصغرى بفتى احلام الكبرى فلابد ان ينتشر الخبر .
- الصغرى ؟
انها اصغر من لوسيندا بعامين فقط وان كانت تبدو اصغر بكثير من اعوامها الـ24 وزم جو شفتيه فجأه وقال :
- حمقاء ! ولكن بول اكثر حماقه انا كنت صديقه ولكنه قاطع كل شخص هنا .
- اتعرف اين يقيم ؟ يقول ابي انه في جزيره يونانيه .
- كلا بل في قبرص له هناك بيت في الجبال يعيش كناسك ويعتبر غريب الاطوار .
وتجعد جبينها .. قبرص؟ زارتها ولم تمكث اكثر من ليلتين ولكنها جميله وان كان بول لن يبصر جمالها لن يبصر الجبال ولا البحر ولا الشواطئ ولا المدن القديمة المهجورة ولا الكنائس ولا الحصون ولا بساتين البرتقال والسفوح .
لا يستطيع ان يشاهد غروب الشمس الرائع ولا الشروق الذي لايقل روعه قد يسمع وشوشة الامواج على الشاطئ وحفيف النباتات الجافه والسحالي تزحف تحتها .
وخرجت من شرودها لتسأله :
- ولكن لنعد الى الحادث , مالذي جرى بالضبط ياجو ؟
قال بصوت حاد وساخر :
- الم تخبرك اختك ؟
- كانت فاقده الوعي ولا تذكر أي شي .
- انهامع ذلك تعرف كل شيء لأنني اخبرتها !
وحدقت فيه مشدوهة وهو يذكر لها ان بول ظل يومين في المستشفى قبل ان يؤذن لجو برؤيته ولبضع دقائق فحسب وراح يدمدم حتى اقبلت الممرضه فدعت جو للانصراف وقال جو :
- اتريدين معرفة ما سمعت حقا؟ انه لا يحسن الظن باختك !
وازاء الحاحها قال :
- كانت بينهما مشاده بصدد شاب تلاعبت معه وبول متغيب في عمل ما . وكان يلومها وهما منطلقان في السيارة فلم تبد ندما وامرت بول بأيقاف السيارة فرفض ازاء لهجتها الآمرة وفي حدة طبعها اخذت تلوي عجلة القياده .
وتبدى الذعر في عيني تيسا وارتجفت يدها وعاود جو حديثه :
- ارتطمت السيارة بسياج حجري وانقلبت واشتعلت فيها النار واطاحت الصدمه بلوسيندا فوق السياج ولم تصب بغير بضعة جراح وكدمات فقدت الرشد برهة ونجا بول بصعوبه وانطرح على الجانب الاخر قرب الاعشاب لكنه كان يعتقد ان لوسيندا في السيارة فارتمى على المركبه المتأججة وهو يناديها وحاول احد الشهود ابعاده لكنه كان يظن ان حبيبته تحترق ومرت سيارة فأنضم سائقها للشاهد وابعدا بول وكانت يداه تتلظيان احتراقا ومع ذلك \ل مصرا على المحاولة .. لم تصب لوسسسسيندا بسوء لقد فعل كل هذا سدى .
كان وجه تيسا ابيض كغطاء الحائده ونظرت الى رفيقها والدموع تترقرق في عينها وتساءلت :
- وبصره ؟ كيف فقده ؟ قال ابي انها صدمة عصبية .
- اجل صدمة الظن بأن لوسيندا ماتت محترقه .
فهمست في رعب واشمئزاز:
- ولوسيندا تركته !
- وهي الآن في خير حال وخطيبه هانئة بينما بول ....
وهز كتفيه وهو يقول :
- لم نعرف عنوانه فكرت في الذهاب الى قبرص بحثا عنه لكني اظنه سيكره هذا .
- ويداه ياجو .. فهمت انهما في حال سيئة ؟
- عندما رأيته اخر مره كانتا في الضمادات ولكنك تعرفين براعة الجراحه اليوم واحسبه حظى بعلاج جيد وانك لتعلمين ما يمكن للنقود فعله لتوفير اكبر قدر من الرعاية له .
قالت وهي تتذكر ما قالته اختها عن استعداده ليغفر لها :
- اتظن ان بول باقيا على حبه للوسيندا ؟
- لا اود ان اعطي رأيا . فلنتذكر ان بول يوناني وان الشرقيين يحبون بعمق او لايحبون , لا وسط عندهم .
وارتجفت تيسا بالرغم منها ايظل بول على حب لوسيندا ؟ وتجهم وجه جو وهو ينصحها بكلمات ابيها :
- انسيه لكم اتمنى لو انني لم اعرفك به !
وتذكرت الحفلة التي عرفها به خلالها قال اذ ذاك بيسا اعرفك ببافلوس ديمتريوس. انه يوناني وغني لدرجة مقززه.. الملاحه والسفن! ثم تركهما . مذ ذاك تغيرت حياتها بعدما وقعت عيناها عليه . وراح يطل عليها من علياء قامته وشفتاه تنحان عن عجبه من التعبير الذي تجلى على وجهها .
كان اسمر وشعره فاحما ارتفع عن جبين ضيق وعيناه عسليتان لم تنما عن أي ابتهاج باللقاء اما هي فبرغم سنوات عمرها الـ22 شعرت بازدهاء كتلميذه حظيت بابتسامة احد الارباب الاغريق وتحدثا ورقصا وشربا وودعها قائلا :
- قد نلتقي مره اخرى .
ثم انطلق بسيارته .
وكان لقائهما الثاني في حفلة موسيقية فابتسم لها وقفز قلبها جزلا وعند الانصراف اقلها بسيارته وكانت لوسيندا عائده الى البيت حين بلغاه فتطلعت الى بول بعينين واسعتين وشفتين جميلتين انفرجتا عن ابتسامه داعيه وهكذا انتهت امال تيسا فبرغم انه اكثر من التردد على بيتهما ,
ماكانت تقوى على مقاومة تضرج وجهها وارتعاشها كلما رأته ولم يكن بول يلاحظ هذا في البداية فلما فطن اليه ابدى عجبا ولوى شفتيه
ولكن الطعنه الكبرى حين سمعته عفوا يتحدث مع جو في احدى الحفلات قائلا :
- اخت لوسيندا الممله ماذا بها ؟ اتلقي بنفسها على كل رجل تقابله ؟ انها تثير اعصابي اذ تلاحقني بعينيها وهما كل ما لديها .
قال جو :
- انها لم تحظ بجمال لوسيندا لكنها باهرة اذا ماعرفتها حق المعرفه .
هز بول كتفيه ثم لمح لوسيندا فهم بالذهاب اليها .
ولكن جو استوقفه قائلا:
- هل ستتزوج من لوسيندا ؟
- اذا قبلتني . . ولكن تصور ان تكون لك اخت زوجه تسلط عليك عينيها لابد ان اللعينه بلا كرامة .
وفي الاسبوع التالي اعلنت خطبة بول ولوسيندا فأدركت تيسا ان لابد لها من الرحيل .
*******
اخرجها جو من استغراقها متسائلا :
- افيقي اين انتي ؟
فاغتصبت ضحكة وقالت :
- بعيدا جدا .
- في احدى جزر البحر الابيض المتوسط مثلا؟ اطرحي عنك هذا واقدمي على بداية جديده تماما .
بداية جديده؟ اما كانت هذه نيتها حين رحلت ؟ ولكنها لم تنجح ؟.
ومضى جو في حديثه :
- لقد اختفى غادر المستشفى في اصيل ذات يوم فلما اتصلت بمسكنه في المساء كان المسكن مغلقا واعتقدت انه امر مستخدميه ببيع كل شيء اثناء وجوده في المستشفى يالظلم الحياة ان تجتذبه لوسيندا دونك .
هكذا كانت لوسيندا تظفر باحسن شيءحتى ايام الدراسه كانت ترتكب الاخطاء وتفلت ببراعه ليقع اللوم على غيرها وما كان ذلك الغير سوى اختها .
كان ابوها لا يزال مستيقظا حين عادت تيسا فجلسا بجوار المفأة المحتضرة يتحادثان سألها في تلهف وهويرمقها مشجعا , اذا احس بحيرتها :
- احسبك ستبقين ؟ هنا بعض الاعمال الشاغره وانا وامك نريدك معنا يا تيسا .
فتطلعت اليه مكفهره المحيا وقالت :
- لا استطيع يا ابي ظننتني قادره ولكن ..
وتحاشت نظراته واردفت :
- ان بول يعيش في قبرص والى هناك سأذهب .
واستلقى في مقعده وادهشها تقبله قرارها ثم قال :
- كنت ادرك انك تسعين لعنوانه يا بنتي ولكن ماذا تستطيعين ان تفعلي ؟
فتنهدت وقالت بصراحه :
- لا ادري كل ما هناك انني اريد الذهاب الى هناك والاهتداء الى مكانه وتبين شانه .
- وما الجدوى ؟ سيزيد هذا موقفك سوءا ليتك ما قابلته ... انه لا يحبك ياعزيزتي .
- حقا . لقد احب لوسيندا وكان مستعدا للصفح عنها ولكن .. لعله لم يعد يحبها ! يجب ان ارحل وهذا سر بيننا ولا اريد ان تعلم امي حتى لا تحمل ما , سأقول لها انني سأعمل معلمه في قبرص وساكتب لكما على عنوان البيت ولكني ساكتب اليك يا ابي على عنوان مكتبك لأبلغك بما جرى .
وهز الاب رأسه قائلا :
- انك حمقاء جدا يا ابنتي .. ولكني اعرف شعورك واتصور انك تأملين في ان تجديه تغير وانه يريدك ولكني ادعو الله الا تتعرضي لمزيد من الجراح !
2- سعادتي تخيفني
لاحت اليابسه مع بزوغ الفجر والافق الشرقي ملتهب بالشمس الذهبيه وصاحاحد الملاحين وكان يغسل سطح السفينه هاهي ذي قبرص .
- انها تبدو قريبه جدا لكننا لن نرسو قبل وقت الغداء .
وصمت لحظة ثم وجه السؤال الذي كانت تيسا موقنه انه سيوجهه كما يحصل دائما لكل امراة تسافر وحيده في الشرق .
- هل انت وحدك ؟
فأومات برأسها مبتسمة وعاد يسأل في انكليزية رقيقة :
- اتذهبين الى اصدقاء في قبرص ؟
- لي صديق فيها .
- اهو يقيم في فاما غوستا ؟ اين يقيم ؟
- في قرية صغيرة في الجبال , انظر الشمس تبدد الضباب والجزيرة تبدو الآن بوضوح .
- هذا الطرف هو بافوس كانت افروديت تعيش هناك اتعرفين افروديت ؟
- اجل اعرف افروديت خرجت من البحر عند بافوس .
- اصبت كانت رمز الحب لعل صديقك يقيم في بافوس .
كانت واثقه ان بول ماكان ليتخذ داره قريبا من منبت رمز الحب . وازداد عدد الملاحين وسرعان ما غص السطح بالناس ولمحت تيسا شابا انضم الى السفينه من بيريوس قبل يومين وتبادلت معه بعض الحديث . ولم تكن خطتها قد انجلت بعد فقررت ان تتسمى بأسم لوسيندا بالنسبة لكل من تلتقي به .
وانضمت الى الشاب عند سياج السفينه قائلة وهي تبتسم :
- ما توقعت ان تنهض مبكرا .
قال مارتن وهو يتناول كراسة صغيرة من جيبه فيقطع منها ورقه ويكتب عليها عنوانه :
- رقم تلفوني هنا فلا تنسي الاتصال بي انني على استعداد لأن اطوف بك الجزيرة .
وشكرته وقد خطر لها ان معرفة شخص في الجزيرة تفيدها اذا لم تعثر على بول او تراجعت عن خطتها التي ماتزال غامضه .
نزلت تيسا في فندق صغير في ليماسول يمتلكه زوجان انكليزيان ولم تصدق حظها حين لمحت الزوجين يتبادلان نظرة سريعه اذ ذكرت اسم بول عرضا , وسألتها ماريلين :
- بول ديمتريوس ؟
وقبل ان تجيب تيسا التفت زوجها كلايف قائلا :
- اهو صديقك ؟
- بل اعرفه واود ان ازوره اتعرف اين يقيم ؟
- لا اعرف بدقه بيته في الجبال بعد بيلابيس اعتقد انه اعمى .. حادث سياره وقع له وهو في انكلترا .
قالت تيسا بعد ان اخلدت للصمت برهة وهي تحتسي شراب الليمون المثلج .
- اتعرفان شيئا عنه ؟
هزا رأسيهما وقالت ماريلين :
- انه غامض لا يختلط بأحد له خادم يتولى اموره . هذا كل ما نعرفه هل قابلته في انجلترا؟
- عرفته في انجلترا نعم .
كانت ليماسول في جنوب الجزيرة اما بيلابيس ففي شمالها ولم تستطع تيسا ان تصبر فأعادت امتعتها الى حقيبتها ودفعت اجر سرير لم تستعمله ,
واستقلت سيارة الى نيقوسيا ثم استقلت سيارة اخرى الى كيرينيا ثم ثالثة الى بيلابيس حيث نزلت في فندق يمتلكه قبرصيان يونانيان.مارولا وسيبروس.
قالت مارولا وهي تحمل حقيبة تيسا وترشدها الى غرفتها :
- اجئت من انكلترا ؟ ابني في الجامعه هناك تلقيت منه اليوم رساله .. عقد خطبته على فتاه.
- انكليزية ؟
- اجل .
ومن شرفة الغرفة سرحت تيسا بصرها الى التلال الجيرية في سلسلة كيرينيا . واشارت الى بيت كبير جدا على بعد وسألت مارولا عن صاحبه فاجابتها :
- انه للسيد سلوين ان في بيلابيس كثيرا من الانكليز.. اتبحثين عن رجل انكليزي ؟
- كلا بل انني ابحث عن شخص يدعى السيد بافلوس ديمتريوس اتعرفينه ؟
وقطبت مارولا جبينها مفكره ثم قالت :
- سبيروس يعرف كل شيء , وانه لن يلبث ان يصل ... آنسة بلين .. ما اسمك الاول ؟
فلما اجابتها بأنه لوسيندا قالت :
- سأدعوك مدام لوسيندا .. مرحبا بك في بيلابيس هل تروق لك لغتي الانكليزية ؟
قالت تيسا وهي تغادر الغرفة :
- انها جيده .
- لم ااذهب الى مدرسه لكنني اتعلم من الكتب ببطء وهدوء .
- اود ان ارى كتابك عندما اعود .
كانت مارولا ودودا وهانئة ولكن سبيروس كان اكثر تحفظا .. اخذ يقدم لها صحون العشاء ووجهه الاسمر جامد ,واحضر لها زجاجه شراب وعجبت تيسا , كيف تتفادى احتساءها دون ان تجرح شعوره واخيرا قالت :
- انني لا اشرب عادة ثم ان هذا اكثر مما احتمل ..
ورمقها مذهولا وقال :
- اشربي انه جيد جدا .
- انني نادرا ما اشرب .
واستعصت كلمة نادرا على فهمه فشرحتها له وانهار حاجز التحفظ وقالت زوجته :
- مدام لوسيندا تريد الاهتداء الى صديق لها يدعى ... .
فذكرت تيسا الاسم فقال :
- اجل انه لا .. يرى .
وقطب مفكرا ثم قال:
- انه يقيم في الجبال على مسافة بعيده لا يحب الناس رجل غريب جدا غدا اصطحبك اليه .
لم تنم تيسا تلك الليله وفي الصباح اقلها سبيروس في سيارة نقل صغيرة مغلقة يستخدمها لكافة الاغراض , سيارة عتيقه مهتزه راحت تتخبط بهما ولم تكن تيسا ترى حولها سوى الجبال الى يسارها والبحر الى يمينها وبينهما بساتين الليمون والزيتون تتخللها الزهور الاقحوانية القمرنزية , تخالط كتلا متتابعه من الزهور الذهبية واخرى متباينه
فلما استقرت السيارة امام البيت عرض سبيروس ان ينتظرها خارجه ووقفت تتأمل البيت لم تكن تلوح فيه علامات الحياة واخيرا سألته :
- كم استغرق للعوده ماشية على قدمي ؟
وعجب الرجل والح ان ينتظرها واخيرا قال انها ستضطر لاجتياز حوالي نصف الميل يستغرق منها نصف الساعه فقالت اذا لا تنتظرني وشكرا جزيلا اذ احضرتني سأعود مشيا على قدمي .
وما ان اختفت السيارة حتى استدارت وعادت تتأمل البيت كان بياضه باهرا ازاء خلفية من اشجار خضراء على سفح الجبل .
وكانت النوافذ كبيره تفضي جميعا الى شرفات وقد اغلقت مصاريعها الخضراء والصفراء .والزهور تحيط بالمبنى من كل الالوان وزهور الليمون ترسل شذى رائعا .
وطالت وقفتها تغشاها لحظات شك فتستدير وتود ان تعود نابذه خطتها ولكنها ما لبثت ان سارت الى الباب وادهشتها ان يدها كانت ثابته حين ضغطت الزر الجرس اخيرا. ولم تسمع سوى رنينه وعادت فضغطت الزر وفي الحال فتح الباب رجل ضئيل الجسم داكن السمره واجفلت وانبعث صوتها مرتجفا وهي تقول :
- هل السيد بافلوس ديمتريوس .. يقيم هنا ؟
واجابها الرجل بانجليزية سليمه :
- اجل سيدتي . فماذا تريدين ؟ انه لا يستقبل زائرين .
- اظنه سيغير رأيه دعني اقابله .
وارتبكت اذ سألها عن اسمها ثم قالت :
- اسمي ... اسمي لوسيندا .
ودعاها للدخول فأستجابت وهي ترفع يدا مرتجفه الى فمها : ماللذي فعلته ؟ واجفلت اذ اغلق الرجل الباب واحست بشر داهم ولكنها غالبت مخاوفها بجهد خارق والتفتت حولها وكان البهو معتما اذا كانت كل المصاريع الخشبيه للنوافذ مغلقه . وعلى البصيص المناسب خلالها تبينت ان الاثاث قليل وعلى مائده استوى اناء ضخم ملئ بورود عطرت الهواء .
وسمعت وقع قدمين فعاودها الارتجاف والتفتت ببطء وهي متردده كان بول يقف في فراغ الباب طويلا نحيلا شديد السمرة , وتطلعت الى عينيه ثم امسكت انفاسها كانتا كما عهدتهما ولكنهما خلو من أي تعبير ومع ذلك فمن الغريب انهما لاحتا كما كانتا داكنتين عميقتي الاغوار .
منتديات ليلاس
بدا من المستحيل انه لا يستطيع الابصار وانتقل نظرها الى يديه كانت احداهما الى جانبه والاخرى تقبض على عصا . وقد بهت لون بشرتهما ولكن سمرته اصلا اتسقت مع دكنة الحروق فلم يكن في منظر اليدين ما ينفر النظر ولا ما يثير الاشمئزاز كما زعمت لوسيندا ومع ذلك كان من الواضح انه عانى حروقا قاسية خيل الى تيسا انها ستلازمه بقية عمره .
وانبعث الصوت الحبيب :
- لوسيندا .
فشرعت تقول :
- انني جئت يابول كما قلت ان بوسعي المجيء,لا سأل.. لأسألك .. .
رباه ماذا تفعل هذا الخداع فوق طاقتها فودت لو تستدير وتفر ولكن ما اشد قسوة هذا وعادت تقول :
- بول انني آسفه ..
- آسفه ؟
كان صوته هادئا غير مصدق .. وخالج تيسا شعور غريب بالخطر وهي تتأمل وجهه اكان صوته مشوبا بمرارة ام انها واهمه ؟ وازال هذا الشعور حين بادر قائلا :
- هل عدت اليّ ؟
وندت منه زفرة كبيره وتابع قوله :
- عدت يا لوسيندا لتسأليني ماذا ؟
ولم تقو على ان تتحرك او تنطق اذ بدا الموقف غير واقعي فسألت نفسها اتراه حلما مغرقا في الخيال لن تلبث ان تفيق منه لتجد وسادتها مبلله بدموعها كما حدث مرارا خلال العامين الآخرين ؟
وعاد يسألها :
- لماذا جئت يا لوسيندا ؟
- لأسالك الصفح . قلت انك مستعد للمغفرة اما زلت مستعدا ان تقبلني ؟
واذهلها ان الكلمات اصبحت تتدفق منها دون عناء وشدهت لعدم واقعية الموقف وكأن شخصا سواها يتكلم , او بالاحرى يدفع الكمات الى فمها وبدا صوته هو الاخر مذهولا مما يحدث وان كان قويا حازما :
- انني مستعد للصفح يا لوسيندا كنت اود ان تعودي الي ولكني ما توقعت ان تعودي حقا .
ووضع عصاه على مقعده لم يخطئ موقعه وبسط يديه قائلا:
- دعيني اضمك بين ذراعي يا عزيزتي لوسيندا الجميله !
واسلمته تيسا يديها فجذبها اليه وبهرت للمرة الاولى بعناقه لم يعد لأي شيء قيمه اذ ازاحت فرحة الفوز كل انفعال اخر واحست بقدرتها على مواصلة الخداع اصبحت السعاده ملكها ولكم ستسعد بول !
بحبها تستطيع تعبيد طريق حياته فتعتني به وترعاه وتجعل عينيها عينيه!
وطفرت الدموع من مقلتيها ما تصورت ابدا ولو في اكثر تخيلاتها جموحا ان تحظى بسعاده كهذه واكتشفت اصابع بول دموعها وهي تتحسس برفق وحنان قسماتها فتساءل :
- اهو الندم يا لوسيندا ؟
ماهذا الذي اعترض سكينه نفسها في لحظة الغبطة الفائقة ؟
ومرة اخرى كان في صوته ما جعلها تضرع خائفة :
- هل غفرت لي يابول ؟ اما زلت تحبني ؟
- غفرت يا اعز حبيبه .. سنسعد معا بحياة رائعه يا لوسيندا كل مافي الماضي اصبح منسيا .
وتبينت اذ ذاك فقط كيف استبعد دون مشقه ما اصابه من لوسيندا من جراح وهاهو يتقبلها في حب دونما لوم او تأنيب مما ينم عن مدى حبه لها !وكانت اصابعه ماضيه في تحسس قسماتها فتذكرت ان للعمى لمسات حساسه فهل يكتشف اختلاف ملامحها البارزة العظام عن استدارة واملاء قسمات لوسيندا الجميله ؟
ولكنها ابتسمت اذ وصلت اصابعه الى شعرها ثم ربتت خدها وغمغمت وهي تشده اليها :
- لكم انا سعيده .. ماكان للحياة معنى لدي منذ .. منذ بعدت عنك !
- كان بوسعك ان تأتي قبل الآن لقد انقضى اكثر من عام .
وتسارعت دقات قلبها جزعا ثم قالت :
- ما تصورت انك ستقبلني !
- هل خشيت الا اكون عنيت ما قلت ؟ كنت اعنيه كنت اريد ان تأتي . ما اشتهيت شيئا في العالم اكثر مما اشتهيت ان تكوني زوجتي .
واغمضت تيسا عينيها , كيف استطاعت لوسيندا ان تنبذ حبا عظيما كهذا ؟ وترددت وهي لا تدري كيف تصوغ كلماتها ثم قالت :
- اقسم بأنني احببتك دائما برغم ما حدث ... وسأقضي عمري في محاولة ان اعوضك عما عانيت من ألم .
وغمغم بصوت خافت كادت لا تلتقطه :
- انني اصدقك يا لوسيندا وادرك انك لابد تحبينني اذ جئت راغبة في اتخاذ رجل اعمى زوجا .
فشدها على صدره فزاد الاطمئنان كانت سعادتها فائقه حتى كان يسعدها ان تبقى بين ذراعيه للأبد وماكان يهمها ان هذا كله كان موجها الى لوسيندا فقد ادركت منذ اتخذت قرارها ان ما تتلقاه لا يخصها اصلا
ولكن ماقيمة هذا ما دامت معه ومادام هو لها تحبه وتعتز به وتخدمه ما كانت تيسا لتبغي اكثر من هذا .
** ** **
قررا ان يكون زواجهما يوم الثلاثاء قبل اكمال اسبوع على وصول تيسا ولكي لا يبدد الوقت وكشفت الايام السابقه على ذلك لتيسا مالم تكن تعرفه كانت قبل لقائها ببول ككل فتاه في سنها تتصور الحب وترسم في ذهنها التغيير الذي سيدخله على حياتها ظهور حبيب ولكن ما صادفته في تلك الايام فاق كل آمالها واحلامها , وكأن السماء ذاتها لن تهيئ لها نعيما اعظم واصبحت هي بصره وهما يتمشيان في حديقة الدار او الدرب الممتد خلفها كان هواء شهر نيسان ينضج بعبير المطر وقال بول :
- ما اطيب الخروج يا لوسيندا نادرا ما خرجت منذ جئت الى قبرص وكنت اقنع بالجلوس في الحديقه .
قادته الى ضفه معشوبة عند جدول صغير واحضرت معها معطفين واقيين من المطر من قبيل الاحتياط فبسطتهما على الضفة وقال بول :
- خرير الجول بديع .. هل الماء المتدفق كثير ؟
وامسك بيدها اذ جلست بجواره قائله :
- ليس كثيرا .. انه ينحدر من السفح متألقا تحت اشعة الشمس مرتعشا كشريط فضي يداعبه النسيم والزهور يا بول ما ابهاها ! ما تصورت نمو الزهور البرية بهذه الكثرة .
وراحت تصف له كل نوع وتقطف له زهرة منه فيذكر لها اسمه وقالت وهي تصف له كل شيء :
- ما اجمل امتزاج الالوان هكذا الطبيعه تتقن كل شيء .
وخالت ان في لهجته الرصينه رنة تشاؤم او تهكم وهو يقول :
- اجل يا لوسيندا الطبيعه تتقن ما تبدع ..لايرتكب الاخطاء سوى الانسان والصق خده بخدها فزايلها القل واصبحت دنياها ورديه وقال :
- زيديني حديثا ياحبيبتي ! هل ترين البحر ؟
- اجل تحتنا بعيدا , فيروزي جميل قرب الشاطئ ثم يتدرج الى ازرق داكن مع بقع اخف لونا اخال انها تنشأ عن انعكاس السحب على الماء .
- اهناك سحب فوق البحر ؟
- مجرد نتف رقيقة وزرقة السماء الوضاءة اكثر وضوحا , وعلى بعد اكبر تصبح الزرقة مشوبة ببنفسجية ثم تصل الى خط التقاء السماء بالبحر ولا تشعر بالاتساع الشاسع بل تكاد تتصور ان بوسعها ان ترمي الافق بحجر من مكانها على البر .
- هل يبدو البحر كشريط ضيق ؟
- بطريقة ما .. ومع ذلك فهناك سفينة بيضاء جميلة تتيح منظرا يجعلك تتبين مدى اتساع البحر لأن السفينه تبدو كعلبة بحجم صندوق الثقاب .
- وامسكت اذ تحرك حجر عند قدمي بول ثم هتفت :
- انظر سحليه .
وما لبثت يدها ان ارتجفت في يده وقال :
- انني استطيع رؤيتها يا حبيبتي !
- اما اكتفيت من ثرثرتي ؟
- صوتك كالموسيقى يا لوسيندا بجانب هذا فأنت تبدعين وصف الاشياء , اتعرفين عزيزتي لم الاحظ هذا من قبل .. ترى لماذا ؟
ومس الخوف قلبها واسرعت تقول :
- ماكانت هناك اشياء طريفه كهذه تستحق الوصف .
ولك ارحها ان هز رأسه موافقا وعندما جنحت الشمس للمغيب ونهضا تناول منها المعطفين الواقيين فأمسك بيده وشقا طريقهما في درب حجري منحوت في اسفل الجبل
وتحده صخور شديده فكانت قيادة السيارة فيه امرا رهيبا . ومع ذلك صادفا سيارتين اتجهتا الى بيت رجل اعمال انكليزي متقاعد قال بول ان له اصدقاء يترددون عليه , فسألته :
- الا تتلقى زيارات منه ؟.
واجاب بلهجة حاده ما سمعت مثلها منذ قدومها :
- لا احد يزورني .
كان بول اصلا شديد البنيه وقوي الشخصية متغطرسا معتدا بنفسه مما جعله فوق مستوى الرجال العاديين الذين عرفتهم غير ان عماه جعله ضعيفا اذ اضطرت للاعتماد على سواه في كل صغيره.. هذا فيما بينه وبين نفسه , فلا سبيل لغير ذلك وفهمت تيسا السر في انه لا يأذن للاغراب بزيارته وما لبث ان قال :
- نستطيع تناول الشاي في الشرفه وتصفين لي غروب الشمس .
واعد الخادم تاكيس الشاي في البهو فتناولاه هناك , ثم دخلا الشرفة ووقفت ملاصقه له عاقده ذراعيها في ذراعيه وهي تقول :
- الشمس تهبط, كرة كبيرة من اللهب والسماء قرمزية وذهبية وصفراء مقاربة للحمره , وقطع السحب متوقده يالسرعتها في الرحيل تراها تتحرك .
- ومع ذلك فنحن الذين نتحرك حولها .
وكانت تيسا تصف له كل حركه من مغيب الشمس ثم قالت :
- هذه هي النهاية حتى الغد اواه يابول , السماء .. فيها لون البنفسج ولون البتقال الزاهي ..
عذوووب
وشدها اليه وعانقها .. واسندت رأسها الى كتفه وظلا واقفين طويلا في هواء المساء اللطيف وروائح الزهور المحيطه بهما تهزج ويظهر عليها شذى الليمون .. واحست تيسا بيد بول تتحسس شعرها وتقييسه ثم قال :
- انك تركته ينمو فهو اطول من ذي قبل ...
- ان الانماط تتغير يا بول .
ومست شفتيه ابتسامه باهته وقال :
- اجل هذا غريب فالانماط كما عرفتها منذ عام....
واسرعت تقول :
- كلا يا عزيزي سأصفها لك .
فدخلا فقال :
اقرأي لي يا غرامي لفتره قصيرة قبل ان آوي الى الفراش ... .
واستهواهما الكتاب حتى انتبهت تيسا الى ان الساعه التاسعه فهتفت :
- اتعرف كم الساعه يابول ؟
ومس اصابعه بالساعه البارزة الارقام التي يحملها وقال :
- يالله , ما اسرع ما يطير الوقت ! .. .
وذهب الى المطبخ تطلب العشاء فلما عادت اقترحت ان يتناولاه في الشرفة , حيث جلسا وخلفهما اشباح الجبال المعتمه وخرير البحر يسناب من بعيد ,واشجار النخيل تتمايل .
قالت تيسا في حذر لكي لا تكتشف ما خبرته في اسفارها :
- القمر هنا مختلف .. اعني انه مختلف في انجلترا اصغر حجما .. انه اشبه بقبرص كبير من الثلج الازرق وكانه شمس تجمدت بالبروده .. وتأصير ضوئه على السماء مختلف كذلك .. هناك تألق بلون الياقوت الازرق مما يضاعف الايحاء بلابروده .
- ما ابدع وصفك يا لوسيندا .كأني ارى كل شيء بجلاء... ان وصفك لا يبعث اضطرابا .
فإن فيه شيئا من الواقعيه الثابته .
وحملقت فيه غير مصدقه كان هذا شعورها فكيف تسنى نقله اليه بدون كلمات ؟ وظلا جالسين حتى قرابة انتصاف الليل وعندما افترقا عند باب غرفته ضمها برفق وقال :
- بعد ساعات قليلة تصبحين لي يا عزيزتي .
- هذا كل ما ابتغي يا بول ان اكون لك .
وزاغ منها النوم وفي الساعه الـ2 من الصباح كانت تجلس على فراشها تكتب لأبيها :
- اشعر كأنني نقلت الى السماء .. لكم انا سعيده حتى ان سعادتني تخيفني
عذوووب
3- قبل هبوب العاطفة
جاءها الرد بعد 10 ايام وبعد ان ابدى ابوها ذهولا للأنباء التي افضت بها اليه كتب قائلا :
- كم وددت ان الح في نصحك بالعوده فورا ولكن الخطوة الخطيرة ستكون قد اتخذت عندما تصل رسالتي اليك , حسنا يابنيتي هذا ماكنت تودينه منذ التقيت بول ولا املك سوى ان آمل وادعوا الله الا تعرفي بعد الآن سوى ما يحقق امنية فؤادك وكم تذهلني سرعة صفح بول عما اصابه من غبن ومباردته بتقبلك او بالاحرى بتقبل لوسيندا كزوجه له . انني كما تعلمين عشت في اليونان فترة من شبابي ولا اوقن حتى الآن بمقدرتي على قراءة شخصية اليوناني العادي . ولقد حدست دائئما بالنسبة الى بول وجود شيء من القسوة البدائية الكامله تحت غشاء الحضارة الغربية التي اكتسبها باقامته طويلا في بلادنا . وكان الايسر ان اتصوره كمنتقم لا يرحم , يبتكر خطة شيطانيه لمعاقبة لوسيندا . ولكن وصفك المتألق لأستقباله اياك يبين ان الامر لم يكن هكذا وان مستقبلك يبدو مكفولا .... .
انتقام.. عقاب ؟ ابتسمت تيسا فما كان ابعد هذا عن ذهن زوجها , مضى على زواجهما اكثر من اسبوع وما من عروس فاقتها حبورا وما من زوج فاقه حنانا كان عطاء كل منهما سخيا وتلاشي ما كانت تعانيه من يأس ولوعه وما لا تعرفه للآن من حب بول لاختها,كحلم يتبدد باليقظة , وتقبلت ماكان يقدم بلهفة وعرفان , وبثقة واطمئنان لحبه , فكان رزينا لدرجة تغيظ ولكنه دائما العاشق الحنون اللطيف مصرا على ان يرقي بها الى عوالم النشوة والغبطة وغشيها خلال هذه الفتره جمال تولد عن الرضى والاطمئنان الى الوحيد الذي احبته .
ويوم تلقت رسالة ابيها تأخرت دقائق عن الفطور فبحث عنها بول وعثر عليها في غرفة الجلوس وهزها صوته كالعاده وهو يسألها :
- انت هنا ياعزيزتي ؟
واخذ يدق سيقان احد المقاعد بعصاه برفق فأجابت :
- نعم .. اتريد شيئا ؟
قال وهو يجلس مبتسما مواجها اياها :
- لا اريد سوى زوجتي الجميلة.
وذكرت انها تلقت خطابا من ابيها وانه يبلغه تحياته فسألها :
- هل ستقرأينه لي ؟
انه السؤال الذي كانت تاخفه وطافت عيناها بالورقه واخذت تبتكر الكثير من الحديث لكنها قرأت الخاتمة :
- ان مستقبلك يبدو مكفولا .
فردد العبارة فاقتربت من مقعده قائله :
- يعني ان مستقبلها يا اعز الناس سيكون رائعا يابول .
وتناول يدها فألصقها بخده وقالت وهي تحس برنه تحمس تسلل الى صوتها :
- ماذا تود ان نفعل اليوم ؟بوسعنا الذهاب الى السباحه او لعلك تريد شراء الاشياء التي كانت تتحدث عنها ؟
وذهبا الى نيقوسيا في سيارة مستأجره لرجل يدعى كيبروس سلكت بهما طريقا جديدا في اقصى الحافة الغربية لجبال كيرينا فاخذت تيسا تصف له طيلة الطريق المناظر الطبيعية المتغيرة .
وبعد جولة في المتاجر تناولا غداء انكليزيا في فندق صغير صغير وتمشيا قليلا ثم عادت بهما السيارة في الطريق الذي جاءت منه .
في اصيل ذلك اليوم جلسا في الحديقه لا يتخلل السكينه سوى رنين ينساب من بعيد للأجراس المعلقه برقاب الغنم وازيز الحشرات ... وبساتين الليمون .. وسالها :
- اسعيده جدا ؟ اتظنيني انك بلغت ذروة السعاده يالوسيندا ؟
بدا لها هذا السؤال غريبا , ولكن لم تدر مبررا وقالت بصوت خافت وهي تتأمل ساقيها السمراوين وتتذكر ساقي لوسيندا البيضاوين :
- لابد ان هذه هي ذروة السعاده ما اظن من الممكن الارتفاع لكثر من هذا .
وبإشارة صامته ابداى رغبة في الامساك بيدها وقال :
- اذن فقد بلغت اقصى الاعالي .
وبدا فجاه انه جد بعيد وقد ولى رأسه نحو قمه يعلوها حصن سنت هيلاريون العتيق وتتبعت التفاته فرأت حركة خاطفه .. كانت النسور تحوم وتعود فوق القمم ولسبب لم تدر له تعليلا قفزت الى ذاكرتها كلمات من قصيده قراتها ايام المدرسة السكون الشامل اللهم الا حين ينقض نسرا مشهرا مخالبه فيحمل الفريسه الوديعه الى هلاكها وارتجفت وسحبت يدها من يد بول قائلة :
- هناك برد يابول برد قارس .
فأبدى دهشته وقالت وانفاسها تبدو متهدجه وهي ترمقه في حيره لاتدري مبررا للخوف الذي احتواها:
- انني شعرت بقشعريره ... سأذهب فأرتدي شيئا .
- هل بك شيئا يا عزيزتي ؟ لا سبيل لأن تشعري ببرد لقد كدت اتخفف مما ألبس .
وكان يرتدي قميصا وسروالا قصيرا كانت هي تلك الحظة بدفء غامر وقالت :
- اشعر بالدفء ثانية .
فانحنى عليها قائلا :
- ماذا هناك يا حبيبتي ؟ لا اشعر انك بارده فانت دافئة جميلة !
وانكمشت ملتصقه به كانها تنشد حمايته وقالت :
- احيانا يرتجف المرء لغير ما سبب ظاهر واصقت خدها بخده وهي تتبين مدى قلقه عليها وتعجبت اتحظى غيرها بزوج يفوقه حبا ؟
وخلصها من ذراعيه ليذهب الى داخل البيت وراقبته وهو يسترشد بعصاه لامسا بها الاشياء المألوفة شجرة التين واللوز والنخلة العالية ثم درجات السلم وعمود الشرفه الذي التفت عليه فروع الكرمة واغمضت تيسا عينيها محاولة ان تتبين كيف يكون العمى ظلام دائم حتى نهاية العمر !وفتحت عينيها اذ شعرت بابتلال اهدابها .
كانت الشمس تشرق على الحديقه والفيلا البيضاء وكل شيء مشرق بالنور .
وجلست وقد عاودها الدفء وترقبت عودته وامتلأ قلبها اشفاقا اذ راته يعود مهتديا بعصاه لو ان الحادث لم يقع لو ان لو سيندا لم تلمس عجلة القياده ماكانت هي تيسا هنا , وما عرفت نعيم الاسبوعين الاخرين , اجل ماكانت هنا الا لأنه اعمى ! .. عذوووب
وسارا في وقت لاحق يستروحان نسيم المساء , وكل فتنه تنحسر اذ تنجح الشمس نحو المغيب وهتفت وقد وقفا معا فجأة :
- انه لسحر ! الافق ملتهب وفي السماء قوس كبير مصطبغ باللون القرمزي البرتقالي والسحب البيضاء الصغيره موشاة باللون القمرمزي والنتف الصغيره الرقيقه اشبه بلون ذهبي نصف شفاف ولكنها اخذت تتحول الى البنفسجي وعادت تهتف :
- انه لسحر ! استطيع تصوره ياعزيزتي ؟
فأجاب بلهجة محيره واهنه :
- بوسعي ان اراها , كيف غفلت عن هذه المقدره الرائعه لديك ؟
- ما فطمت الى وجودها ابدا !
وارتبك نبض تيسا وهو يتابع الحديث :
- ما اكمل وصفك للأشياء ؟ انني كما قلت ارى غروب الشمس .
وتغضن جبينه وهو يبدو في حيره وفجاه هتفت تيسا :
- انصت يابول اجراس الغنم !
كانت موسيقاها الرقيقه تنساب من بعيد وسط الصمت وشدت اصابعه على يدها وهو يقول :
- رائعه اتعرفين يا لوسيندا انها قد تكون منبعثه من بعيد من ممسافة طويله جدا بسبب صفاء الهواء ورقته غير العاديين في هذه الجبال .
ووقفا يصغيان طويلا ثم ارتدا الى البيت .
قالت وهما يتناولان الافطار :
- الى اين نذهب اليوم يابول ؟
كان ذلك في اليوم التالي لزيارتهما نييقوسيا .
- الى أي مكان غير بعيد اختاري انت يا لوسيندا .
واقترحت ان يسبحا فقال :
- فكره ممتازه ما رأيك في الشاطئ الممتد غرب كرينيا ؟ سنجد كهفا رمليا نستأثر به .
واستدعت كيبروس هاتفيا وقال بول مفكرا وهما ينتظرانه :
- لابد ان نقتني سيارة يا لوسيندا . وانت تعرفين القياده .
- اجل .
ولنها شعرت بمسؤولية القياده وبول معها في الدرب الضيق على سفح الجبل الذي تحد احد جانبيه هاوية قالت :
- الطريق ليست جيده .
فأشار وكانه يزيح اعتراضا صبيانيا :
- الغير يستعملونها .
وخيل اليها ان في صوته حده مقتضبه ولكنها اسرعت تستبعد الفكرة وقالت :
- اجل اراك على صواب سيكون امتلاكنا سيارة اكثر اقتصادا .
وانطلقا هابطين من البل تحت شمس متألقه وعلى جانبي الطريق ألوان متمازجه في فوضى , واستدار نسر فوق القمم الصخرية ثم انساب كشبح في كبد السماء وسألها بول بلطف وحنان :
- ماذا ترين ؟
- اننا نقترب من بيلابيس .
فهتف:
ذلك الطلل القوطي الفخم حدثيني عنه !
- انه من الحجر الرملي البني لوحته الشمس كثيرا ولكن الاقواس الشامخه نحو السماء الزرقاء تبدو جميله وفي الحديقه اطول ما رأيت من اشجار السرو واكثر استقامه ... .
وتوقف كيبروس اما مقهى صغير جلس الرجال فيه كالعاده يلعبون طاولة النرد ويتحمل الخاسر نفقات المشروبات التي كانت عباره عن قهوة تركيه في اقداح صغيره تصحبها زجاجه ماء ثلج , لقد اخذ القرويون يؤمون الكنيسة التي ترجع للقرن الثالث عشر بعد ان اعادوها للطقوس اليونانية .
واكملت السيارة تهبط بهما وقامت اشجار الخروب على جانب الطريق تطل على بحر من اللونين القرمزي والذهبي حيث انتشرت زهور الاقحوان .
قالت تيسا بعد وصف هذا لزوجها :
- تناسق الالوان ياخذ الانفاس والحملان يابول , انها صغيره جدا تسعى وراء حليب الام باستمرار والماعز الراعي واحد ولكنها بمعزل عن الغنم ترى لماذا ؟
فقال لها مداعبا :
- لعلها تعتبر نفسها ارقى من الغنم !
وضحكت تيسا وابطات السيارة ليمر بجوارها فلاح يركب حمارا يسير على مهل فقالت تيسا :
- صورة لطيفه اذا شوهت من الخللف بسبب شكل الحمار والرجل والسلتين الكبيرتين .
وتألق البحر تحتهما فأطلقت تيسا زفرة رضى قائلة :
- انه رائع يابول !
وتريث بول فالتفتت اليه اتراه كان وهما ام ان شفتيه كانتا تحملان ومضة انتصار ؟ ولكن كلماته جاءت محمله بالحنان المألوف :
- انك على صواب يازوجتي الجميله ... انه رائع !
واطالت النظر اليه فاذا به يبتسم وقد تلاشى الوميض الذي عقبته لحظة عدم ارتياح وامسكت يده فأحدست بقلبها مليئا بالهناء والدفء .
وبعد ان استبدلا ثابهما في احد الاكواخ الشاطئ المتداعية على التلال نعما بساعه من الاسترخاء على الرمال الدافئة قبل ان يهبطا الى الماء .
وادركت تيسا ان وان لم يسألها كان يود ان تبقى قريبه منه . تلك هي المره الثانيه يذهبان فيها الى البحر وقد خامر تيسا شعور من السعاده لأنه كان بمساعدتها قادرا على الاستمتاع بالسباحه ثانيه ,
كان يحبها اذ اعتاد ان يقضي مع لو سيندا كثيرا من الوقت في مسبح قرب البيت واذ خرجا ناولته منشفته وراحت تتامله وهو يجفف وجهه ثم ذراعيه وساقيه واخيرا شعره الفاحم الذي تجعد متهدلا على جبينه فبدا شبابه فاتنا
واستلقى بول على الرمال عاقدا ذراعيه خلف رأسه.. كان نحوله يتميز بقوة عضلية كبيرة وكانت سمرته تبدو نتيجه للتعرض للشمس اكثر مما تعود الى اللون الطبيعي لبشرته , وقد علل هذا بأنه كان يلازم الحديقه مذ جاء الى قبرص وعندما اخبرته ان الساعه بلغت الواحده اقترح ان يتناولا الغداء فقالت :
- ليكن ما تقول ! " عذوووب "
وعلت شفتيه ابتسامه وقال :
- كم انت لطيفة ومعنيه دائما يالوسيندا هيا لنذهب الى هارمونت .
وكان هذا فندقا غير عادي في كارافاس على بضعة اميال من كرينيا يقوم على حافة صخرية فوق خليج رملي جميل وشرفاته تطل على البحر وعلى الجبال فجلسا مواجهين للبحر وعلى الرمال تحتهما نفر من السياح يستمتعون بالشمس وبالسباحه في الماء الصافي الساكن وتناولا غداء من الكباب والسلطه والشراب القبرصي وكان كيبروس قد ذهب لزيارة صديق له.
فلما فرغا من الغداء اقترحت تيسا ان يهبطا الى الشاطيء ريثما يعود وكانت الرمال جافة ودافئة فأخذا يخطران وقد تشابكت يداهما حتى سمعا صوت كيبروس يعلن عودته .
وتساءلت وهما يصلان الى السيارة :
- انرجع الى البيت الآن ؟
- اتريدين الذهاب الى مكان اخر لعل كيبروس يقترح مكانا ما .
قال السائق وهو يرمق تيسا متسائلا :
- من اقلكما الى الينابيع السبعه في لابيتوس ؟
كانت رحله باهرة بدايتها وسلكوا طريقا جديدا يصعد القرية وترتفع بعض احزانه الى ما يزيد على 800 قدم فوق سطح البحر , قال كيبروس وقد اوقف السيارة وفتح الباب لبول :
- هنا المياه البديعه التي اكسبت لابيتوس الرخاء انها تسمى الآن كيفا لوفريسو انظر كيف ينبثق الماء من الصخر .
انظر ؟! غص حلق تيسا وهي تقف بجوار زوجها .
كان الماء ينحدر من النبع الواسع الدفين وفي جوف كتلة الصخر الجيري غير المنتظم وقالت تيسا والحرج يخف عنها :
- انه يبرق كالقصه تحت ضوء الشمس لابد انك سمعته الا يبدو رائعا ؟
- بل انه يبدو قويا .. الظاهر ان حجم الماء المنحدر عظيم .
قال كيبروس :
- انه يمد المنطقه بأسرها ولهذا فان لابيتوس اكثر خضرة من اماكن كثيره .
وامسكت تيسا بيد بول وبعد فتره ذهبا الى مقهى صغير هناك وبمودة القبارصه وكرمهم جاء صاحب المقهى فجالسهما واخذ يثرثر معهما كان المنظر الطبيعي عجيب البهاء اشجار الزيتون والنخيل تتسامق نحو السماء والبيوت والكنائس والساحل المقوس ...
قال صاحب المقهى وهو يرمق بول ثم يلتفت الى تيسا :
- اهذه زيارتكما الاولى للابيتوس ؟
وتفحص بنظراته تيسا فعجبت مما كان يجول بخاطره فقد كان يوناني الغريب معروفا لأميال حول داره كناسك وفجاة بدأ يطوف ويتجول مع زوجته الجديده وما درت تيسا انها كانت مضوع مناقشات كثيره فالقبرصي يجب ان يعرف ما يجرري
واي غريبه تظهر في احدى القرى لا تلبث ان تصبح موضوعا للأسئلة متتابعه ومتراكمه وهكذا حتى تصبح سيرتها معروفة وبعد ذلك لا تبقى غريبه بل يتقبلها ويبتسم لها كل رجول وامراة وطفل في القرية !
واخيرا قال بول بلطف :
- اجل هذه زيارتنا الاولى اعتقد ان اثار احدى المدن الواسعه قريبه من هنا .
- لا مبوسا هكذا تسمى اليوم ولكنها في الواقع لابيتوس القديمه .. انها على الشاطيء وليست على الجبل .. زيارتها مباحة ولكن ما اقل ما يشاهد فيها فقد دمر الزلزال كل شيء ونمت الاعشاب والنباتا ويقال ان هناك كنوز كثره تحتها ولكن احدا لم يقم بالتنقيب بعد .
واشار في اتجاه كيريثيا قائلا :
- انها على بعد حوالي ميل ونصف على الشاطيء كما قلت .
****
وفي طريق العوده عرجوا بالسيارة عليها واغتبطت تيسا اذ عثرت على يد قنينه اثريه كبيره وحافة قنينه اصغر قالت :
- تحسسها يابول هل تتبين زخرفتها ؟
وثبط كيبروس تحمسها قائلا :
- هنا الكثير جدا من هذه .. والمقيموان في المنظقه يزهدون فيها ولا يلتقطونها .
وقال بول بشيء من العجب :
- يحسن ان تلقي بهما .. فهما ليسا اثريتين جديرتين بالقتناء .
- ولكني سأحتفظ بهما تصور انهما صنعتا قبل الفي سنه واكثر .
وخيل اليها ان كيبروس يبتسم متعاليا , بينما قال بول :
- ما احسبك ستبثين الفوضى في مدخل دارنا او في شرفتنا باكداس من هذه الاشياء ؟
- تبث الفوضى ؟
واودعت القطعتين جيبها وامسكت بيد بول فقد همس لها كيبروس بان ثمة ثعابين في المكان وهي تتساءل كيف ابث الفوضى بقطعتين صغيرتين من الفخار ؟
- اذا كنت مشغوفه بهذه البقايا القديمه من الفخار فأوقني بانك لن تقنعي بقطعتين فان قبرص تفيض بمثل هذه الاشياء تجدينها في كل مكان كما قيل لي .
وما لبثا ان بلغا السيارة فانطلقت بهما دون توقف اذ اكفهرت المساء منذرة بالمطر .
وقال بول :
- ان برودة الجو لا تدعو للجلوس في الشرفة.
فدخلا البهو وهي تقول
- اذن سأقرا لك , ماذا تحب ان اقرا ؟ عذوووب
فقال وهو يستقر في مقعده :
- اقرأي لي الصحيفة الانكليزية اولا ... اتسمحين ان تأتي بزجاجه ماء ؟
وذهبت الى المطبخ كان تاكي قد ذهب ليزور امه المسنه في القرية ولينقل اليها بعض الخضر التي كان بول يصر على ان يحملها اليها 3 مرات في الاسبوع وقالت تيسا وهي تعود بالزجاجه :
- سأضعها في المكان المعهود .
فكلما اراد الشراب كان الماء يوضع على الركن الايمن من منضده صغيره او اية منضده تكون قريبه ولكن بول مد يده فجأة وتيسا تسعى لوضع الزجاجة فاذا بها تميل فينسكب الماء على ثيابه .
وصاح غاضبا :
- يالك من رعناء ! ائتني بمشفة !
ولم تقو تيسا على الحركة فوقفت تحملق فيه وعيناها الجميلتان تفيضان بعدم التصديق . ما مد يده هكذا الى الزجاجه من قبل كان ينتظر دائما حتى يطمئن الى ان من يضعها قد ابتعد عنها وما وجه اليها كلمة واحده حاده .
هل بدأ؟ ولمعت عيناها اذ تذكرت الشعور العابر الذي خالجها عندما كان يحدثها عن السيارة .
كان في صوته حده وتساءل :
- اين انت ؟ هل احضرت المنشفة ؟
- كلا سأحضرها حالا .
وخرجت لتعود بعد ثوان فقالت :
- دعني اجفف الماء.
لكنه اخذ المنشفة منها فقالت :
- الماء على سترتك يابول .
قال وقد هدأ صوته وتلاشت رنة الغضب :
- لا تحفلي يالوسيندا .. بوسعي ان اجففه ! كنت اجيد التصرف قبل مجيئك كما تعرفين .
وقرأت له ثم اعدت العشاء واخذ يتحدث بحنانه المعهود
وفي الليل وهي مستلقية مسهده التفت ذراعه حولها في وجد وقال :
- ماذا بك ياعزيزتي ؟
فارتجفت وقالت :
لا شيء يابول ضمني اليك بقوة ضمني بشدة دائما !
4- العيد ليس سعيدا
كانت العيون ترافق مشية تيسا وتتفحصها لكنها تعودت هذا, فأكتفت بتوجيه ابتسامة الى الرجال المتسكين خارج المقهى على الطريقة القبرصية .
كانت قد اقبلت ماشية لتتلقى اية رسائل لها في المقهى ولم تكن ثمة رسائل .
وعجبت تيسا لخيبة الامل التي اعترتها. كانت الرسائل المقبلة من الوطن هامة ولكنها لم تكن بمثابة حياة لها , فقد تركزت دنياها بأسرها على زوجها وصادفها وهي تغادر المقهى كريستوس وهو شيخ مفعم بالنشاط اعتاد استغلال كل فرصه للتحدث اليها بلغة انكليزية ممتازه وسالها ان كانت عائده الى دارها فقالت :
- خطر لي ان ازور ما رولا وسبيروس في طريقي .
- لقد ذهب مستر سبيروس الى كيريتيا . انني ماض في طريقك فلنمش معا .
سألته في فضول :
- اين تعلمت الانكليزية ؟
فقال :
- كنت في الشرطه منذ سنين وقال المشرف علينا ان من يخفق في تعلم الانكليزية يطرد .
والتفت اليها ضاحكا وقال :
- وكريستوس عاقل يسمع الكلمة والمهدد بالفقر يغالب كل الصعاب .
وجذبها جانب في الدرب الضيق مفسحا الطريق لحافلة عابرة وسألته :
- ماذا تفعل الآن ياكريستوس ؟
- انني امتلك بساتين ليمون والليمون يدر مالا وفيرا.
وافترقا عند بيته وواصلت هي طريقها مارة بالبيوت العتيقه التي لوحت الشمس ابوابها وجدرانها والزهور كانت طالعه فيها وبينها احيانا في اصص من الفخار وكثيرا في اوعية معدنية ودلاء قديمة صدئة . وكانت الحدائق تتوهج بالالوان تحت اشعة الشمس وقد انتشرت في جنباتها مختلفات كافة انواع المركبات والاشياء المعدنية المفككة والمهمله وتنبش بينها الدجاجات والديوك الرومية والماعز بحثا عن القوت .
واستقبلتهما مارولا متهلله الوجه وذراعاها مثقلتان بثمار الخرشوف وهتفت :
- مدام لوسيندا هل كنت تتريضين فمضيت الى قرية بيلابيس ؟
- ذهبت الى المقهى اسأل عن الرسائل .
- اليوم التقيت رسالة من ابني .. انه يريد نقودا . دائما تتطلب لندن نقودا كثيره ... اما قبرص فانها رخيصة اليس كذلك ؟
- بعض الاشياء رخيصة ولكن اشياء كثيرة هنا ابهظ ثمنا مما في انكلترا .
وجلست تيسا تحملق في المرتفعات غير المنتظمة وهي شاردة الذهن وقالت اخيرا :
- هناك سحب فوق الجبال اليوم اتظنين المطر سينهمر ؟
قالت مارولا :
- كلا فالمطر هذا العام قليل .
قدمت مارولا الى تيسا قدحا من شراب البرتقال ؟ وتناولت لنفسها قدحا فرفعته قائلة :
- لنشرب نخبك حياة طويلة وهانئة انك موفقه الحظ فالفتاة الانكليزية لا يتحتم ان تملك منزلا اما القبرصية فلابد لها من البيت .
وقطبت تيسا متسائلة :
- اتعنين على سبيل المهر ؟ الا يقع الشبان هنا في الحب ؟
وهزت مارولا رأسها قائلة :
- ولكن لابد ان تمتلك الفتاة بيتا .
- هل اضطررت لأن تقدمي لسبيروس بيتا ؟
- لا يشترط التقديم يكفي ان تمتلك الفتاة بيتا . وقد كان لي بيت في القرية فتزوجني سبيروس ثم بعت البيت واشترينا الفندق .
- ولكنكما سعيدان .. كان خليقا بان يتزوجك ولو لم تمتلكي منزلا .
- سبيروس ؟ كلا يا سيدتي . لو لم يكن لمارولا بيت لتزوج سبيروس فتاة اخرى .
واحتست تيسا الشراب وهي تتذكر ماكان مارتن يقول عن القبارصه :
- الزواج في القرية عادة تصحبه ضجه وكثير من الطقوس المرحة ولكن الرجل بعد عام واحد لا تجدينه الا في المقهى بينما تلزم المراة البيت القبارصة الموسورين المتعلمون فقط هم الذين يخرجون بصحبة زوجاتهم .. في قرية بعيده رجل رزق 7 بنات . لم تتزوج واحده منهن لأنه لا يملك شراء بيوت لهن !
كان بول في الحديقة مستلقيا بكامل طوله على سرير وتوقفت تيسا على مسافة ترقبه موجسه ومشفقه لأول مرة راته يونانيا قحا بكبرياء وقسوة اسلافه اولك المحاربين الاشاوس الذين لم يكونوا يكنون أي مراعاة للحياة . كانوا يتقبلون الموت بنظرة فلسفية متطلعين الى مستقبل هانئ فوق اعالي جبل الآوليمب . لقد قال ابوها ان بول اكتسب قشرة من الحضارة الغربية باقامته الطويلة في انكلترا . لكن ماهي سماته الموروثه ؟
واختلج جفناه واطبقا على عينيه وارتفعت يده تحجب عنهما الشمس وكأن توهجا كان فوق احتمالهما .
وجلسا يحتسيان الشراب تحت ظلال الحصن الصليبي الضخم المهيمن على الطرف الشرقي من الميناء .
- اتشم عبير البحر يابول ؟
فأومأ براسه ثم قال :
- حدثيني عن المراكب يا لوسيندا .
- قوارب الصيد بألوان زاهية بهيجة كذاك اليخوت وصور اشرعتها تنعكس على صفحة الماء مكونه اشكالا عجيبه ..
وسكتت اذ ان بول غير مهتم بالرغم من انه هو طلب الوصف ثم اردفت في قلق :
- هل تود ان ننصرف الآن ؟
فمد يده الى عصاه التي تركها على المقعد المجاور ونهض قالا :
- نعم هذا ما اظنه .
وكان عشرات القبارصه السمر يجلسون في استرخاء على المقاعد فحملقوا في بول وهو يبتعد عن مقعده ويمد يده الى تيسا , وغص حلقها ازاء هذا العجر منه وساءلت : اتراه يفطن الى الفضول الذي اثاره ؟ اذا كان يفطن فلابد انه يعاني مهانة واسى لايطيقان وفجاة , ودت ان تبتعد به فورا عن العيون والناس .
- سننطلق بالسيارة ياحبيبتي على طول الشاطئ ونعرج على الكهف الجميل حيث سبحنا .
قال :
- فكرة ممتازه يا لوسيندا .
ولمحت جبينه يقطب اذ اردف :
- سنذهب اولا لشراء نظارة سوداء .
وكادت تقف دهشة ان كثيرا من المكفوفين يرتدون نظارات سوداء ولكنها ما توقعت ابدا ان يفعل بول ذلك .
واشترى النظارات ووضعها في جيبه ولكنه ارتداها فور ان تركا السيارة عند الكهف وسألت نفسها في قلق ترى اتؤلمه عيناه ؟ وتذكرت كيف كان يحجب الشمس عن عينيه حين وقفت تشاهده بالامس . وودت ان تسأله ولكنها احجمت فما تحدثا معا قط عن مصيبته .
****
وذهبا في مساء يوم الاحد التالي لحضور احتفال الفصح في دير بلابيس كان الميدان غاصا بالاهالي والسياح الذين وفدوا من كيرينيا ومن المقهى انبعصت انغام البزق واجتمعت حول نار اشتعلت في الميدان عشرات من الشباب المرحين وسرعان ما قدم مقعدان لبول وتيسا وقالت تيسا لبول :
- اللهب مرتفع جدا , يضيء الاطلال ويكسبها تألقا دافئا جميلا ...
وقاطعها في جفاء :
- الابد ان ترفعي صوتك ؟ لا داعي لأن تخبري الدنيا باسرها بأنني لا ابصر ..
قالت متلعثمه بعد صمت وجيز مشدوه :
- انني آسفه ما انتبهت الى ان صوتي كان مرتفعا .
كانت تدرك ان صوتها لم يكن يرتفع عن الهمس لأنها من البداية حرصت على الحديث بخفوت لكي لاتحرج زوجها ولم يعقب , فأضافت متردده :
- ان المنظر يبدو جميلا يابول فأردت ان اخبرك به .
- لست معدوم التصور فأنا اشعر بالنار ومن الجلي انني اعرف ان النيران تضيئ الميدان .
ولاذت بالصمت بعد ذلك ولكن بول مالبث ان تناول يدها وكانه شعر بالجرح العميق الذي احدثه فقالت هامسه , وقد سرى عمله عنها شيئا ما :
- يبدو ان شيئا ما يجري , فان الحوذيين يتحدثون الى الشرطي ويلوحون بأيديهم وكانهم يحتجون .
-- اصبت فقد توقفت الموسيقى ولاذ الجميع بالهدوء .
وبعد الصمت عاد الصخب ثانية ولكنه خلا هذه المره من المرح وابدى الرجل الجالس بجوار بول ملاحظة باليونانية فهز بول رأسه واتصل بينهما الحديث والتفت بول اليها وقال :
- ان الاحتفال لا يبدا قبل الثانية .
فهتفت :
- الثانية صباحا , ولكنك قلت , الكل قالوا انه يبدا في ال11 والنصف .
- لم يوافق الاسقف على ان يبدأ في 11 والنصف قال انه ينبغي الا يبدا قبل الثانية .
وسمع هذا شخص بجانب تيسا فقال بالانكليزية :
- انه يبدأ دائما في الـ11 والنصف .
وقال شخصا اخر ساخطا :
- لن انتظر كل هذه المده .
واخذ كل امرئ يحتج ولكن عدم وجود قس في المكان جعل الاحتجاج غير مثمر وسرعان ما انطلقت العربات بركابها المستائين واطفئت انوار المقهى وسلط الماء على النار وكان بول يصغي لجاره الذي بدا على علم بما كان يجري :
لقد قطع شبان القرية الكهرباء عن الكنيسة .. وسدو ثقب مفتاحها بالشمع حتى اذا وصل القس تعذر عليه الدخول .
ونقل بول الخبر الى تيسا وفي صوته عجب وقال صوت من خلفهما :
- لن يكون هنا احد على كل حال اذا ما وصل .
وقال شاب يوناني مليح في ارتياح بالغ :
- ستنشر الصحف كل هذا .. انه لم يحدث في بيلابيس من قبل .
قال بول وهو ينهض اذ بدأ الخرطوم المسلط على النار يصل اليهما :
- يحسن ان ننصرف هيا ياعزيزتي سنذهب الى مكان اخر .
وكانت تيسا تعتقد بوجوب العوده الى البيت ولكن بول كان مصرا على حضور الاحتفال فقادت السيارة الى قرية اخرى على بضعة اميال من كيرينيا وقال بول وهما يهمان بدخول الكنيسة :
- هل احضرت شمعتي يالوسيندا ؟
كانت قد احضرت شمعتين طويلتين ناولته احداهما فقال :
- عندما تدخلين ضعي النقود وخذي شمعه اشعليها ولا تشعلي التي معك سترين على اية حال ما يفعله كل امرئ .
كانت تيسا تدخل الكنيسه اليونانية لأول مرة وازعجها ان تفطن لنظرات الرجال والنساء اذ بدأ انها ليست يونانية .
وهمست اذ قادت بول الى حلقة الشموع الموقده لاشعال شمعته :
- هنا الاشعال .
وتحسس بأصاصبعه احدى الشموع حتى كادت تبلغ فتيلها ثم مد شمعته وتبين بأصابعه انها تجاوزت اللهب وحاول عدة مرات فلم يوفق .والتفتت تيسا فاذا عيون كثيرة ترمقه واستدارت ثانية تتأمله في لوعة وتردد فقد انذرها هاجس غضبه ولكن الوقوف ومشاهدة هذا العمل الموجع للقلب كان فوق احتمالها . وانتزعت شمعة موقده وهي تعيد الشمعه لمكانها :
- انك اشعلتها يا عزيزي , أأغرسها لك ؟
وتردد قليلا ثم اعطاها اياها . وقال :
- ماعليك الا ارشادي الى اين اذهب ثم اتركيني .
وتطلعت اليه مشدوهة وهمست :
- اتركك .. لا استطيع ان اتركك .
وبعد ان قادته لمكان في الصف وقفت ساكنه بجواره تصغي بعجب للغط الاصوات كانما كل امرئ كان يكلم جاره , ولا يحفل بتخفيض صوته . وانبعث فحيح من بول مخنقا فتراجعت غير مصدقه اذنيها :
- قلت اتركيني اذهبي للطرف الاخر من الكنيسه الا ترين انه لا ينبغي لك ان تكوني هنا ؟
ونظرت حولها , فاذا كل النساء في طرف من الكنيسة والرجال في الطرف الاخر . كان كل امرئ ينظر اليها وهي تقف مع الرجال . ومع ان الدماء تصاعدت حاره الى وجهها بقيت حائرة متردده , كيف تتركه ؟ ولكنها سمعته يسأل غاضبا اذا كانت بعد باقية فتحركت بهدوء الى الجانب الاخر واحتلت مكانا بين عجوزين متشحتين بالسواد .
*****
ما عهدت مطلقا هذا القدر من التعاسه والحيرة . كان بوسعها ان تفهم مشاعر بول لأنها رفضت الانتقال من جواره ,ولكنه كان خليقا بأن يعلم ان قلقها عليه شغلها عن ملاحظة ما كان يجري , وعادت الدموع تترقرق في عينيها , ولكنها بعد قليل حاولت نسيان جرح شعورها والتماس العذر لبول فلابد ان الموقف كان بالنسبة اليه اسوأ .
وتمكنت اخيرا من ان ترفع بصرها فتبينت انها لم تعد موضوع انتباه وعجبت وهي ترقب الباب متي يبدأ الاحتفال الديني ؟ ماوال الناس يتوافدون يضعون هباتهم ويتناولون شموعهم فيشعلونها ويغرسونها ثم يتجهون لتقبيل الارعة عشر كما احصتها تيسا . ثم يقبلون الاوعية التي في وسط الكنيسة ...
استمر هذا نصف الساعه او اكثر ثم بدأ الاحتفال اخيرا بظهور القس وانطلاق الرجال بالانشاد وما لبثت الاضواء الكهربائية ان انطفئت وبقيت الشموع وحدها تضيء المكان .
واشعل كل امرئ الشمعه التي احضرها معه وانساب نحو الباب وحاولت تيسا الوصول الى جوار زوجها ثم فطنت الى ان الرجال كانوا يتقدمون النساء . ماذا تفعل ؟ استولى عليها ذعر فظيع فلم تحفل باحد وهي تحلق بالرجال . ولكن بول كان قد اختفى . وبحثت عنه والذعر يزداد بمرور اللحظات .وانطفأت شمعتها فأشعلها لها رجل .
وصاحت وهي تنظر اليه في عجز : زوجي !
فأشار عبر الفضاء التي اتجه بعض الرجال فشكرته وهي تسرع تدفع الرجال عن طريقها حتى اقتربت منه ثم توقفت لا تجسر على ان يعرف وجودها .
وكانت شمعتها قد انطفات ثانية , فأشعلتها من شمعة اخرى . وما فطنت للأنشاد وشعرت بانها لن تحضر ما عاشت احتفالا في كنيسة .
وكانوا يدخلون الكنيسة ثانية ولم تعد تحتمل فمست كم زوجها وهمست :
- بول انني اشعر بالغثيان .. انستطيع .. اتمانع في ان نذهب الى البيت ؟
- ماذا بك ؟
- انني اشعر ..
وجزعت اذ شرعت تبكي , وقالت :
- اريد ان اذهب الى البيت .
وكانت موافقته مفاجاة ادهشتها , لكنها بادرت الى الاخذ بيده وبعد دقيقتين كانا في السيارة .
وسألها بقلق وهي تقود السيارة بتؤدة بحزاء الشاطئ متجهة الى كيرينيا :
- ماذا بك ياعزيزتي ؟ أأنت بخير ... اعني وانت تقودين السيارة ؟
فقالت :
- نعم انني بخير الآن .
ولزما الصمت بعد ذلك , والسيارة تمضي في هواء الليل الدافئ والبحر القاتم الى ياسرهما وجبال كيرينيا غيرالمنتظمة الى يمينهما وما ان دخلا بيتهما حتى التفتت الى بول قائلة :
- انني آسفة لما حدث .. ماكنت اعرف انه لابد لي من ان اكون في الجانب الاخر .
فأحاطها بذراعيه والصقت وجهها بسترته وهو يقول :
- طبعا ياعزيزتي .. انا كنت نافذ الصبر . كان ينبغي ان افهم .
ورفع وجهها بحنان قائلا :
- انسي ما جرى يا لوسيندا . ليس بالامر الهام .
ما اقل ما يعرف ّ كل كلمة حاده وقد استخدم الكلمات الحاده في مناسبات كصيرة في الفترة الاخيرة كانت كنصل في قلبها . أمن الممكن للمرء ان يحب بهذه الدرجة فيحتمل آلام الجراح ؟ واخذت ترتجف فأخذ يواسيها . قالت :
- انني لا اقوى على الاحتمال حين تغضب يابول ما افظع الألم !.
ربتتها يداه , ولكن شيئا مبهما شاب لمساته فاحست تيسا برغبة غير عادية في ان تفلت منه وقال :
- ما افضع الالم؟ لابد انك تحبينني حبا بالغا جدا .
- انك لتعلم هذا .
- كل هذا الحب العميق ومع ذلك ....
وامسك فجأة .
مالذي كان يهم بقوله ؟ اكان يتذكر كيف تعرض للنبذ, وكيف لأمراة فعلت ذلك باستهجان ان تعود لتحبه بهذا القدر ؟ ولكنه ما كان يعلم ان التي نبذته والتي تزوجته مختلفتان .. وهمس :
- انك تخدعيني يا لوسيندا الحبيبة !
وكاد قلبها يتوقف وقد تغضن جبينه في حيرة . وقالت :
- لست ادري ما تعني ؟
- كل هذا التغير العظيم! ولكن لاداعي لاستثارة الماضي فلن نكسب شيئا من ذلك .
وحدقت فيه والحيرة تغيم على عينيها كانت اشارته الماكرة الى الماضي مقصوده وقد شعرت باقتناع بذلك , ومع ذلك فهو يقول انه لا ينبغي اثارة الماضي , وهمست في قنوط :
- لاتدع شيئا يفسد علينا حياتنا يابول ! لا تتغير يا حبيبي ارجوك لا تتغير .
قال واصبعه يتحسس دمعه على خدها :
- لن اتغير يا حبيبتي لوسيندا , انك تبالغين في تفسير كل شيء .
ومس بأصبه فمها وشعر بارتجافة فقال بجد:
- ابتسامة ! ابتسامة على هاتين الشفتين الجميلتين . ووضة في العينين بسرعه .. أريد ان اتأكد من وجودهما .
انفجرت شفتاها . ولكن عينيها ظلتا اسيرتين كان ثمة تغيير تغيير طفيف جدا لايكاد يكون ملحوظا يطرأ على زواجهما !
*****
شاطئ فاروث من اجمل شطئان الجزيرة وكان شبه خال اذ لم تكن الساعه قد تجاوزت السابعه صباحا , وقد خرجت تيسا وبول للسباحه . كانا قد قضيا يومين حالمين في فندق الملك جورج يشعلان وقتهما بالسباحه او زيارة المعالم او التريض في تكاسل . وقال تيسا وهما يغادران الماء ويجلسان على منشفة بسطتها تيسا بينما قدمت لبول غيرها :
- الرمال ذهبية حقا .
واخذ يجفف جسمه ولاحظت تيسا انه الصق المنشفة بوجهه فترة اطول مما ينبغي ولاح كانه يضغط عينيه بأصابعه كما لو كانتا تؤلمانه .
وبعد الافطار زارا المدينه للمرة الثانية وقالت وقلبها صاف كالسماء خفيف كالهواء :
- اننا نعبر الآن الجسر فوق الخندق المائي . في ناحيتك مدخل الحصن يا حبيبي وله قوس جميل .. وهناك الابراج المحصنه التي حدثنا عنها سائق التاكسي . أأتوقف لتناول القهوة, اذا صادفنا احد مقاهي الارصفة ؟
- نعم يالوسيندا , يجب ان نتناول القهوة .
وجلسا في الميدان , وتيسا تحدثه عن عمارة الكاتدرائية والقصر الفنيسي . ثم جنح ذهنها لقصه رواها سائق التاكسي عن شجاعة المحارب الفينيسي براغادينو , الذي كان قائد فاما غوستا اثناء حصار ضربة الاتراك 9 اشهر . وهتفت :
- انني ارتجف اذ اتصور كيف سلخوه حيا ؟
فقال بلهجة غريبة:
- احسب ان هناك ألوانا من العذاب لا تقل بشاعه . ما اغرب ما يخطر على ذهب الانسان !
ولمحت وجهه يجمد ويقسو وفمه يلتوي بشكل بشع سادي يوحي بالرغبة في التعذيب لابد انه كان يفكر في طريقة جهنمية لتعذيب نفسه .
سرت في جسمها قشعريرة واسرعت تسأله :
- هل ننصرف ؟
وعاودها الدفء في ابتسامة وهو يقول :
- الامر لقائد السيارة .
- سنذهب الى برج عطيل حيث اعدمت ديدموية البريئة بقسوة وحشية وظلم .
وتجاهل بول نبرة المزاح في صوتها وتمتم وكأن الكلمات غير موجهة لأذني زوجته :
- برئية ترى اين يعثر المرء على امرأة بريئة ؟وافلتت من شفتيه ضحكة واهنة وقال :
- أي عقاب يحيق بأمراة لا ينطوي على ظلم عادة .
ومحت كلماته الابتسامة عن شفتيها وغاض السرور من قلبها . ماهذا التلميح الماكر ؟ واحست بانه ينطبق عليها لقد قضينا يومين هانئين فما هذا التغير العجيب الذي لا تفسير له ؟
وزايلها الحماس , فأخذت تتكلم بلهجة باردة وهي تصف البرج والجدران والكنائس وقالت لتختصر الجولة اذ لم يتكلم منذ بارحا الميدان :
- لعلك تود العودة للفندق؟
بمجرد وصولهما الى الفندق بدلا ثابهما وتناولا شرابا في الشرفة في ذهبا الى الشاطئ .. وما ان جلسا حتى قال بول انه نسي النظارة الواقيه من الشمس .. واسرعت لفورها تحضرها وذهنها يموج في اضطراب ..
مالذي طرأ على عينيه فأصبح يعاني منهما ؟ وهمت بان تسأله عندما احضرت النظارة ولكنها عدلت اذ احست بنذير خطر وكأنها على شفير هاوية واي ذكر للماضي قد يؤدي لنكبة .
واذا عادا الى الفندق ليبدلا ثيابهما استعدادا لتناول الشاي ضمها بول اليه متسائلا اذا كانت تستمتع بأجازتهما ..
فأجابت ولكن بغير الصدق الخالص :
- كل الاستمتاع وانت يابول ؟
فأجاب :
- ماذا يشتهي الرجل اكثر من زوجة جميلة محبة وشمس مشرقة وبحر دافئ يسبح فيه ؟
كانت كلماته تنطوي على مراوغة بثت الخوف في قلبها وعادت تقول :
- لم تجب على سؤالي .
فقال ويداه تتحسسان كتفيها وظهرها :
- استمتعت بها .. مالون البكيني الذي ترتدينه ؟ انه ليس الذي اعتدت ارتدائه .
- هذا اسود وقرنفلي ..
وعقب قائلا :
- وقصير جدا ولكنك كنت متعوده ارتداء ثياب السباحه القصيرة يا لوسيندا .... ما اسرع وجيب قلبك !
وتدافع الدم الى وجهها وكأنما شعر بول به اذ لمس خدها :
- اتستحين ؟ هذا شيئ جديد اعلمه عنك . فما كنت اظنك تخجلين لا سيما وقد تزوجت لأكثر من 3 اسابيع .
وشعرت بعياء لا لأن بول كان يسخر منها فحسب بل لأن نبرة صوته ازدراء .وعاد يتساءل في شيء من التفكه :
- لم تخبريني عن سبب تسارع دقات قلبك . اهو الانفعال ؟ او هل يكون الخوف ؟
وانتظر جوابها دون مرح , فقالت وهي ترتجف :
- بول لست افهمك في مزاحك هذا فما الذي يدور في ذهنك من افكار ؟
- افكاري ؟ انني احتفظ بها سرا يا لوسيندا . اما افكاري فهي ملكي وحدي !
ودون ان يمهلها لتفكر جذبها اليه فأستجابت له , وان راح يخز قلبها ألم رهيب !
****
كان العشاء في مساء ذلك اليوم بهيجا اذ ان زوجين من الانكليز كانا قد تجاذبا الحديث مع بول وتيسا في عدة مناسبات يتأهبان للرحيل الى انكلترا في اليوم التالي , فاقترحا ان يقضي اربعتهم الامسية معا . وما ان انتهى العشاء حتى انتقلوا الى المشرب .
وكان بول في افتن حالات المزاج وقد بدا برونزي السمرة بالغ الاعتداد بزوجته يسبغ عليها اعتزازه حتى لقد بدا الاخران مبهورين بما كان يضفيه عليها .
وما لبص الاخران ان صعدا الى غرفتهما فقال بول :
- انخرج لنتنسم الهواء العليل ؟
وما ان خرجا حتى سمعت تيسا نداء فاتفتت في دهشة لتتبين من كان ينادي ثم هتفت :
- مارتن ! ما ألطف ان اراك .
وحياها ثم التفت الى بول ولاحظ انها تمسك بيده وقال :
- اتتذكرين بأنني وعدتك بان اريك العالم ؟
- اعرفك بزوجي بول يامارتن . هذا مارتن يابول . اظنني ذكرت لك التقائي به في السفينه وانا قادمة .
وبسط بول يده في حركة متحفظة متردده ولكن صوته بدا لطيفا وهو يتحدث لحظة او اثنتين مع الشاب واخيرا قال مارتن :
- ارى ان علي ان انصرف . لقد فاجأتني حقا اذ قدمتني الى زوجك فما خطر لي انك جئت لتتزوجي .
وضك ثم حياهما منصرفا الى سيارته .
وتغير مسلك بول بمجرد ان احتواتهما غرفتهما بعد مدة وكان صوته باردا جارحا وقد شد فكه في خشونه :
- اذن كنت قد دبرت معه ان يريك المعالم ؟
- كلا .. هكذا قال هو .. وكما ترى لو لم تكن قد اردتني ..
فقاطعها مكملا :
- كنت تعتزمين ان تتزوجي من غيري ؟
وهمست في توجس :
- انك تخيفني .. مالذي يجري لزواجنا يابول ؟
وتقدمت منه ووضعت يدها على صدره قوالت :
- لقد وعدتني بانك لن تتغير .
- كل الناس تتغير .
وحملقت فيه حائرة كأنها تود ان تقرأ افكاره وقالت :
- لكن لم ينقض شهر على زواجنا وانا احبك .
قال في تهلل :
- تحبينني ! اجل انك تحبينني , وستظلين دوما تحبينني ! تعالي فأريني مدى حبك !
واحتواها بين ذراعيه بعنف دونما احترام وهو يواصل الكلام :
- اريني مداه يالوسيندا الغالية يا زوجتي الجميلة التي لا استطيع ان اراها .
5- الانفجار المخيف
بطيئا .. بطيئا ! ظلت الكلمتان تترددان في ذهن تيسا ولكن لماذا ؟ وتناهى اليها صوت زوجها خافتا ناعما :
- ماذا تفعلين يا عزيزتي ؟
القت بصرها فوق السياج الحديدي الى الحديقة المزركشة بالزهور كان بول يجلس في مقعد مريح من القصب والراديو على منضده قريبه منه . وكان منخفض الصوت حتى ان الموسيقى كادت لا تبلغ اذني تيسا ,ولم تجب زوجها فورا .
ولاحظت مبهورة انها للمرة الاولى التي تبادر فيها الى اجبته بل ردت طرفها الى المنظر الثاني للبجر الشاسع الصافي تتخلل ألوانه قنوات من زجاج متعرج تعكس التيارات التي تحت السطح.
وعلى بعد اكبر كانت اللمعه الفضية تنبسط نحو الخط الذي يغيب فيه البحر في الافق . ثم ارتد بصر تيسا الى الرجل . ومرة اخرى رأته يونانيا خاصا عنيفا وشجاعا , كان شجاعا قطعا اذ حاول بعد نجاته من النار دون اذى ان يكافح اللهب لمحاولة انقاذ محبوبته.
أي رجل هذا الذي تزوجته ووهبته قلبها من اول نظرة الى عينيه ؟ وتقلبت في مرارة انه ليس كما كانت تعتقد .
وواتاها صوته مرة اخرى صبورا محبا لطيفا . مالذي كان يحاول فعله بها ؟ لعبة القط والفأر , ويرفعها الى الذرى ثم يهوي بها الى الاعماق وقالت وهي تهبط درج الشرفة الابيض :
- ها انذا قادمة يابول , اتريد شيئا ؟
- انت يا حبيبتي الحلوة !
ومد يده في الحاح آمر , وهو يقول :
- ما هذا يا غرامي تعالي .
وانصاعت فجذبها واجلسها على ركبتيه قائلا :
- كل يوم اتعرف الى شيء جديد عنك ياحبيبتي , اكتشفت توا انك زوجة متقلبة المزاج .
فمالت نحوه واصقت خدها بخده واختلجت اجفانها لتحبس الدموع التي تدافعت وقالت :
- لست متقلبة المزاج يابول , وانما انا خائفة جدا فقط .
وارتفع حاجباه قليلا ولكنه ظل على جموده , وقال :
- خائفة ؟ ما الذي يخيفك ؟
هزت رأسها في عياء . لم يكن في مزاج يجعله يصغي لمخاوفها وقالت بعد وهلة وهي تحاول ان تكون لهجتها اخف واكثر اشراقا :
- لا تحفل , انني اليوم متعبه قليلا .
- لعل صحتك ليست جيده, لأنك لست كعهدي بك منذ ايام .
واعتدلت تتفرس في ملامحه السمراء , لابد انه ادرك سبب هذا التغيير ولابد انه ادرك تغير سلوكه نحوها . ولكن ظاهره كان ينم عن انه .. يجهل انه فعل ما يؤلمها . وازدادت التصاقا به , فشد ذراعيه حولها في وجد .
- اننا لن نتغير يا بول .. عدني بأننا لن نتغير .
- ماذا هناك ياحبيبتي ؟ ألست سعيده ؟
- في الاسبوع الماضي كنت غاضبا بصدد مارتن دون داع ومن ذلك الحين انت فاتر .
وانطلقت منه ضحكة احتجاج وهو يتساءل:
- انا الآن فاتر ؟ اعترف انني شعرت بغيره من ذلك الرجل , ولكني سرعان ما غلبت الغيرة .
كانت لهجته مواسية ,وهو يواصل :
- ولقد كان بيننا انسجام رائع ولابد انك توافقين على ذلك .
واقرت بذلك واخذ بعد ذلكيعاملها بحنان ناعم ورفعها فيما بعد الى اعالي العاطفة ولكنه اقناء عودتهما الى البيت بعد يومين عاملها بأقصى فورات الغضب حين اضطرتلأيقاف السيارة فجأة لتتفادى طفلا في الطريق مما زاد اعصابها اضطرابا وهوى بها الى حضيض اكثر عمقا .
- تمالكي نفسك ! آمل الا نقطع المسافة الى البيت بسرعه 5 اميال في الساعه.
- انني ارتعد يابول . انك لاتدرك انني تفديت الطفل بمجرد بوصات!.
- ولقد تفاديته, فلماذا الضجه؟ اذا كنت لا تتحكمين في اعصابك فيحسن ان تتخلي عن القياده .
وازاء حدته ارتكبت تيسا اشنع خطأ, اذ قالت:
- انك لم تر ماحدث . لقد برز الطفل من وراء عربة.
وساد صمت رهيب وزادت تيسا من السرعه وما لبث ان قال :
- اصبت يالوسيندا .. لم ار ما حدث !
ولم يزد ولكن هذه الكلمات ونبرته خلفا اعمق اثر في نفسها. هل كان يحاول جرح شعورها متعمدا ؟ اذا صح هذا فهو لم يعد يحبها .
وظلت طيلة الطريق تعاني اوجاع سياط كلماته .وفي تلك الليلة أوى بول الى المخدع الذي كان يشغله قبل زواجهما .
ولكنه في اليوم التالي بدا مفعما بالندم مفرطا في الحب والحنان فسرعان ما استجابت له .
- اما عن فتوري .. فقد بدات اراك جامحه الخيال .
- الا تعترف بانك فاتر ؟ قل لي يابول هل انت سعيد بقدر ما كنت في البداية ؟
- ماذا تعنين.. بالبداية ؟
مره اخرى يشير الى الماضي ما امكره ! وقالت :
- خلال الاسبوعين او الـ3 من زواجنا ؟
- شهر العسل لا يمتد طيلة الحياة ياعزيزتي .. ان خيالك يجمح ثانية؟ نحن في السعادة نفسها ولكننا اخلدنا الى رتابة الحياة , دعي السخافة وهاتي الصحف فلست اشتهي اكثر من الاستلقاء في مقعدي والاصاء لصوتك العذب ..
واستجابت تيسا ولكن ألما اصبح يسكن قلبها فما عادت تطمئن الى ان تقلب زوجها عائد الى مصيبته لم تكن تعرف الكثير عن طبيعته عندما تزوجا ولكنها اصبحت تعلم ان له نوبات تراوح بين نفاذ الصبر والغضب الجامح او عدم الاكتراص الى اقوى واعمق انفعالات الحب ..او ما كان يبدو انه حب ! وساءلت نفسها :
أتراه كان حقا يحبها او يحب لوسيندا كما كانت تزعم ؟ وواصلت القراءة وان لم تستوعب للمرة الاولى ما كانت تقرأ اذا ارتدت افكارها تسترجع احداث حياتها في الاسابيع القلائل الاخيرة , كان تغير بول غير ملحوظ في البداية يثير التوجس ولكنه ماكان يثير الألم قطعا .
ولكن تحولا مبهما اخذ يعتري طباعه تدريجيا واتسعت حدقاتها حين خطر لها شيء اوضح لها ما كتبه ابوها اذ علم بانتحالها شخصية اختها وزواجها من بول
لقد خشي ابوها من تسلل خيط القسوة الذي لا يلبث ان يجعل بول منتقما لا يعرف الرجمة عقابا للوسيندا .
وتوقفت تيسا عن القراءة اذا امتلأ قلبها بالفزع كانت تأمل حين تزوجت بول ان تسرق قلبه ولكن في مقابل ان تمنحه كل ما يمكن ان يجود بها قلبها . فلو افترض مجرد افتراض ان حبه للوسيندا كان قد مات نتيجه مسلكها الشنيع , لكان محتملا ان زواجه كان بغية الانتقام ..
وارتجفت الصحيفة بين اصابعها وهبت نسمة انتزعت منها ورقة حملتها الى الجانب الاخر للحديقه وتيسا ساهمة في افكارها .. اذا كان العقاب غايته والتعذيب طريقته فالى اية هوة سوداء هي ذاهبة ؟
ورفع بول رأسه متسائلا :
- هل تعبت يا حبيبتي ؟ لنسترح ونتناول القهوة .
وودت لو تصارحه بوسواسها ولكنها لم تجد كلمات تسعفها فدخلت البيت لتعد القهووة .. وعندما عادت تحملها كان بول مستلقيا في مقعده وبدا انه لم يشعر بها
فخاطبته بصوت خافت تنبئه بان قدح القهوة الى جواره وقد اذابت فيه السكر فتولاه عبوس سريع وقال :
- لم اكن اريد سكرا الابد من اصرارك على ان تعامليني كطفل وليد ؟
واسرعت الى البيت وعادت بقدح آخر من القهوة وقالت :
- هاهي ذي, في ركن المنضده يابول !
كانت شفتاه بعد متطابقتين ولاحظت تيسا ان اصابعه كانت متوتره حين اخذ يلتمس القدح وفي جانب من عنقه عضلة تنبض وقال وهو يرفع القدح لشفتيه :
- اين انت ؟
واردف وهو يعيد القدح ثم يبسط يده بالحركة المألوفة التي كانت تلقي استجابة ملهوفة من تيسا :
- لماذا لا تقتربين مني ؟ آسف ياحبيبتي . هل كنت حادا ؟
فأجابت ووجهها شاحب :
- لا عليك يابول .
- انك غير سعيده ياغرامي . تعالي وقولي انك سامحتني .
وسحبت يدها وقالت بصوت هاديء ولكنه حازم :
- هل انت سعيد يابول ؟
- انني في قمة السعاده! ألست املك زوجه متيمة بي اكثر مما يطمع في ذلك أي رجل ؟
ونسيت دورها كلوسيندا فهي تيسا وبول هو زوج الذي احبته فقالت :
- انني بالغة العناية بك أريد ان اعوض كل شيء عندما تزوجتك كنت مدفوعه بحبي لك .. فقد كنت دائما احبك منذ ان ألتقينا ... وكنت أمل ان نسعد معا على الدوام .
فقال وكانه يحدث نفسه :
- اردت ان تعوضيني كل شي .. ولكنك تعوضيني فعلا فان حبك الحب الذي تقولين انك تكنينه منذ البداية هو كل ما احتاج اليه .. اريد ان تحبيني الى الابد وان اعرف انك لن تتحولي .!
حدقت فيه بحيرة وخوف وقالت :
- لست افهمك يابول . كان كل شيئا رائعا .. اما الآن ما الذي يجري ياحبيبي ؟ لست انا التي تتحول , بل انت !
فتساءل متجاهلا كلماته الاخيرة :
- انك تستلمين للوهم ماذا بك .
ولم تجب اذ احست بعودة التوتر اليه وككر سؤاله في الحاح حازم فلم تجد منفذا للمراوة وقالت والارتباك لا يجعلها تعرف ما تقول :
- من العسير ان اوضح . عندما كتب لي ابي ذكر ..
امسكت وهي ترتجف فاستحثها برفق وهو يضع قدحه جانبا :
- ماذا قال ابوك ؟ اما كنت تقرأين لي كل الرسائل ؟
وقررت ان تكشف هواجسها :
- في الخطاب الاول كنتب ابي مبديا دهشته لأنك صفحت عني سريعا .
والتفت اليها يستزيدها فقالت وقد اعتزمت ان تصل الى الحقيقة :
- لقد شعر انك راغب في الانتقام! هل تبغي الانتقام يابول ؟
وتسارعت دقات قلبها بدرجة ألمتها لكنها ظلت مسيطرة :
- كنت حائرة ازاء التغيير الذي ألم بك كنت في البداية تحبني بدا انك تحبني ثم اخذت تتغير تدريجيا اسعدتني ثم اتعستني ما هكذا تعاامل الزوجه !
منتديات ليلاس
قال وفي صوته نبرة خافته , كانت اول اشارة الى انه يكبح انفعالا قويا :
- هل لديك شكوى من حياتك؟ ما اظنك اصبحت غير راضية فعلا , وزواجنا عمره اسابيع ؟
قالت في تحفظ :
ها ما كنت احاول ان اقول , لقد تبدلنا في وقت قصير ما كنت اتوقع ... .
وسقط القناع انطلق ما كان يكتم فاكفهر وجهه الاسود وبدا انسان وحش بدائي لا يرحم وقال :
- ماذا كنت تتوقعين ؟ ان تجدي عاشقا مدلها متلهفا راغبا في استعادتك معترفا في ذل بفضلك لقاء ما تقدمين ؟
وامسك والكراهية السوداء تلوي شفتيه ثم اردف :
- يا لرأيك في نفسك ! كنت ارجئ الصفعة الختامية بعض الوقت ولكن ما دمت اثرت الموضوع فهاك الحقيقة .. انما تزوجتك لغرض الانتقام فحسب . فهنئي اباك ببعد نظره الذي اعتدت ان احترمه !
كانت تيسا قد ادركت ذلك ومع ذلك غشيها سقام بدني وقالت ويداها تتلويان :
- ما احسبك احببتني قط! اان تظهرمنذ لبداية ؟وتذكرت الامل الي خالجها لمبادرته بالصفح واعتزامها الويد ان تسعدهوعرفانها رضاها ا تقض عم بجور الرجل الذي احبته.. وقال ول :
- اجل , ما اببك منذ اليوم الينبذني فه .. اف م ستقلينانني وعدت بأن اغف لك ان بوعك العده ألي اذا شئت .. ولكو لمتكني شديدة الاعداد متره بالثق بنفسك لحدست اني كنت انوي الثأر .
والتوتشفتا في استهان وقال :-اني اشمئزمن غرورك.. لقد تجاسرت على المجيء لتعلني بهدوء ندمك متوقعه الصفح على الفور , اية امرأة انت , حتى تثقي بصفحي كقضية مسلم بها ؟ حتى تتوقعيه كحق لك ؟ أكرر ان غرورك يمرضني ولا ادري كيف كان يحتمل ان أوليك نظرة ثانية .
كانت تيسا تنتفض من رأسها حتى اخمص قدميها محتملة كل ما كان يقصد به لوسيندا عاجزه عن الذود عن نفسها وبعد صمت طويل تكلمت وفي صوتها نداء قائط :
- اما منحتك كل شيء يا بول ؟ كنا سعيدين .
فقال وصوته ينحدر الى زمجرة غاضبه وشحوب قاتم يسري تحت سمرة بشرته :
- كنت انت سعيده مستكينه لغرورك . اما ما اعطيتني فهو .. ظلام طيلة العمر .. هذا ما منحتني فتذكري !ما منحتني شيئا ولا تمتلكين ان تمنحيني !
صاحت في لوعة ويداها ممتدتان تحت نظراته غير المبصرة :
- كلا اعطيتك ماهو اكثر , وبوسعي ان اعطيك اكثر واكثر .
لكن كل املفي قلبها مات مزقته مخالب حقده اذ قال :
-اذا بوعكن تفعلي لي ؟
وتجمدت في مكانها وهي تكره ان يكون هذا ستار الختام .. واستلقى في مقعده وقبضتاه مشدودتان في حجره وقد شوهت الكراهية معالم وجهه واخيرا قال بصوت خافت يشوب سم كلماته رنة انتصار :
- افعلي ما يمليه عليك قلبك .. اختاري الطريق الذي تبغين .
افعلي ما يمليه عليك قلبك .. كأنها كلمات ابيها .
- هل ستدعني امكث معك ؟
وتبدى الفوز في اختلاجة شفتيه وقال :
- احسبك تعرفين ما تتوقعين ؟
ورفعت يديها المرتجفتين الى وجهها تضغط عينيها بأصابعها وكانها تخفف ضغط الدموع التي كانت تناضل لتنفذ من حاجز اليأس الجليدي .
وغمغمت :
- انني اعرف ما اتوقع !
ومال بول برأسه وكانهيود ان يلتقط قولها ثم قال :
- مما يرثى له ! انك لم تطيقي عنفوان حبك وقت الحادث يا لوسيندا . كنت تتوقعين ان بوسعك الاستغناء عني فانظري اين قادك خطأك ؟ انتهت حياتك يالوسيندا . فأنن سأرديك ف اعمق اغوار ليس التسه .
قلت تجاهلة وعيده:
- اما كنت تحبني .. اذا ذاك ؟
قال ويداه تختلجان بانفعال :
- لن انكر هذا .. واقول هذا لتدركي ضخامة خسارتك , وقد اذكرك بهذا من وقت لخر وقد اسمح في بعض المناسبات بان امنحك السعاده للحظة لمجرد متعة تعذيبك !
واسابت الدموع غزيرة من عينيها لا من جراء كلماته وانما لنه اقر بحبه للوسيندا , بينما كانت تسعى هي لمجرد نظرة منه بل تعتز بالابتسامة المزرية التي كان يخلعها عليها وهو كاره ! لقد اخذت لو سيندا كل حبه وهاهي ذي تيسا تتلقى كل كرهة !
وفاضت بها حسرة مريرة وجففت دموعها ولكن النهنهة ظلت تهد كيانها فتجلت على وجه بول ابتسامة راضية وقال :
- لن تجديك الدموع شيئا يا حسنائي , ولكن واصلي البكاء فكم يمتعني ان تتعذبي !
وامسك لحظة واجفلت تيسا لقسوة لهجته اذ عادو الكلام :
- هذا لايذكر بجانب ما ستعانين قبل ان افرغ منك ان حبك سلاحي , واقسم بالله انني سأستغله اكمل استغلال وسأسمعك اونت تصرخين طالبة الرحمة واذ ذاك ستدركين العمق الحقيقي لكراهيتي لك !
*****
ولم يطل الانتظار فبعد اسبوعين استمتع بول بسماعها تهتف بصوت محتبس :
- لا تفعل هذا بي يابول انك تصلبني حية !
فانطلقت منه ابتسامه خشنة وقال بشماته مزهوة :
- فلتتعذبي يالوسيندا انني احب ان ادرك مدى عذابك .. فأي عذاب اسلمتني انت اليه ؟ هل تعانين ماكنت اعانيه في ذلك الوقت ؟
وامتدت يداها في ضراعه ولكنها ردتهما الى جانبيها قنوطا وقالت :
- لاسبيل للمقارنه بين العذاب العقلي والعذاب البدني .. انني عاجزة عن الاستمرار !
واعتدل في جلسته وخيل لتيسا ان كل لون انحسر عن صدغه وقال :
- هل تودين ان تتركيني ؟
وترددت فلوسيندا كانت خليقة بأن تتركه اما هي فكانت تيسا وقد تزوجته منتحله غير شخصيتها فمما تشكو وكيف تهدد بأن تهجره ؟ انها هي التي سعت الى ما اصابها ولا لوم على بول وهمست :
- انني لن اتركك ابدا .
واضافت وقد احست فجأة بألم يعتصر قلبها :
- في يوم ما يابول ربما بعد اجل طويل ستغفر لي وقد ننعم بالسعاده معا .
وخيل اليها ان ومضة عاطفية عبرت وجهه ام تراها كانت واهمة ؟ على انه قال :
- لن ننعم بالسعاده معا ابدا .لأنني ابدا لن اصفح عنك ما عشت !
لم تعد تيسا ترى في بول سوى رجل يوناني , يوناني قح بدون اية قشرة من الحضارة الغربية . كانت لديه مجرد مملوكة مسخرة لأشباع شهواته وخدمته واطاعة اوامره ولوكان هذا مدى انتقامه لاحتملت في فلسفة ولنشدت التعويض في ان تكون بقربه .
ولكن بول لم يكن ينوي ان يقصر عقابه على عدم الاكتراث بها , بل اخذ ينتهز كل فرصة لاذلالها ,وتذكيرها بالماضي وابراز الخسة التي نبذته بها وكم ودت لو انها ظلت صامته فان العذاب البطيء كان ارحم من هذا كان ثأره يتصاعد تدريجيا ببطء موجع لن اصفح عنك ما حييت!
كانت هذه الكلمات تتغلغل في عقلها الباطني ترى هل اعتزم قضاء العمر في شقاء؟ كان يقصد كل مافي هذه الكلمات من معنى, ولكن قد يلين الزمن قسوته , فعليها ان تصبر وتأمل .
وكانا قد تناولا الشاي في الشرفة ذات اصيل حين سمعت صوت سيارة مقبلة فنظرت اليها ثم قالت لبول :
- هذا ستيفانوس .
كان ستيفانوس رئيس البلدة المجاورة وقد عرفه بول قبل مجيئها واصبح زائره الوحيد وهمس لها والزائر يجتاز الحديقة اليهما :
- تذكري ان كلا منا متعلق بالآخر فستتعذبين اذا خذلتني .
فقالت في هدوء :
- لن اخذلك , فلست اقل منك رغبة في الا يرانا الناس غير سعيدين .
وابتسمت لستيفانوس اذ حياها وجلس الثلاثة يتجاذبون الحديث بعد ان جاءهم تاكي بالمشروبات وقال ستيفانوس مشيرا الى حرصها في بداية قدومها على فتح النوافذ لتنساب الشمس خلالها :
- ما رأيك في طقسنا يا مدام لو سيندا اما زلت تكرهين ان تصدي الشمس ؟
واغتصت تيسا ضحكة كان قد تكهن بانها ستعود لاغلاق المصاريع حين تألف طقس الجزيرة , وقالت :
- انك على صواب احيانا لايدري المرء ماذا يفعل ليتخفف من الحر .
- وهكذا صرت تغلقين المصاريع ؟
وشرد بصرها الى بول كان قد رفع يداه الى رأسه يحجب الضوء عن عينيه وكان طيلة الاسبوع السابق يشكو صداعا فقالت بقلق :
- هل يؤلمك رأسك يابول ؟
- قليلا , عساك ان تأتني بنظارتي من غرفة الجلوس .
واسرعت بالنهوض ولاحظت ان ستيفانوس قطب جبينه في حيرة وبدا ان المنظار الواقي من الشمس اراح بول بمجرد ان وضعه على عينيه وعاد يضحك لفكاهات ضيفة وما لبث ستيفانوس ان قال لتيسا :
- سيقام عرس في قريتنا فلعلك تأتين لتريه ؟
- كم اتمنى ذلك ؟
ثم التفتت الى بول قائلة :
- هل توافق يابول ؟ هل تود ان ترى ... ان تذهب الى القرية ؟
وخفق قلبها في عنف لماذا لم تفكر قبل الكلام تفاديا للزلل! واذ قال بول انه غير متشوق للذهاب بادرت في حزم :
- اذا فلن اذهب ... بدونك .
وساد صمت وبول يعجب من انها لا تتلهف لفرصة الذهاب وحدها والتحرر منه قليلا ورمقها ستيفانوس بفضول وقال :
- ألن تذهبي من دون زوجك ؟ اقنعها يابول وسأحضر بنفسي لاصطحابها .
وألح بول وهي مشدوهة : ايفعل هذا لمجرد التستر امام ستيفانوس ؟ وترددت ثم هزت رأسها رافضة فأهاب الضيف ببول :
- اذا فلا بد ان تذهب يابول , فلا بد ان زوجتك تتوق للذهاب .
وادار بول رأسه ببطء وقال وفي صوته رنة غريبة :
- نعم يا ستيفانوس يجب ان اذهب متى سيكون العرس ؟
- ليس قبل اسبوعين .. سأزوركما ثانية قبله .
- هل تمتلك العروس بيتا جميلا ؟
الواقع انها لم تكن تمتلك بيتا لكنها كانت محظوظة فان عريسها كان بلا اهل فكان البيت الذي يقيم فيه مملوكا له وحده .
وقالت تيسا :
- لابد انه زواج قائم على الحب .
- اظن هذا اتستغربين عادة وجوب ان تمتلك العروس منزلا ؟
- طبعا فنحن في انكلترا نتزوج عن حب دائما .
وخفت صوتها اذ لاحظت ان بول رفع حاجبيه لينم عن دهشة ساخرة وكانه يذكرها بان زواجهما لم يقم على حب او بالاحرى على حب متبادل .
وفي اليوم التالي كانا يجلسان في الحديقه وبول يصغي الى الراديو وقد ادراه خافتا وتيسا تكتب رسالة ابيها وسألها بول اذ فرغت عما كانت تفعل فقالت دون تفكير :
- كتبت رسالة الى ابي .
- لأبيك .. لأبيك وحده ؟
- ولأمي كذلك .. طبعا والتفتت فأدهشتها ان يبدو وكأنه يبسط بصره فقالت دون رويه :
- اتستطيع ان ترى ؟
- ما هذا السؤال انك تعلمين تماما انني لا ارى .
وافلت القلم منها وتلعثمت محاولة ان تعتذر فقال :
- لا تكترثي اقرأي لي الخطاب .
- هل اقرأة ... لك ؟
وابتلعت ريقها بعناء اذ قال بجفاء :
- هكذا قلت .
كان مسلكه ينم عن شك ذكرها بسؤاله من عهد قريب اذ كانت اخبرت والديها بما يفعله بها . ونفت ذلك ولكن قسماته الآن كانت تنم عن فضول كبير لمعرفة ما كتبت في الخطاب .
ولم يكن بوسعها ان تتهرب والا لعانت سياط كلماته لـ 5 دقايق على الاقل يتلوها صمت يطول ساعات وهو يتأمل مكتئبا رفضها امره , واجرت عينيها في الصفحة مرتبكه تلتقط بعض فقرات تقرأها متلعثمة فلم تذكر لأبيها شيئا عما يجري , خشية ان يعاني القلق من اجلها ولكن الخطاب كان يتضمن تلميحات الى انتحالها شخصية لوسيندا واختتمت قائلة وقد انتهيت بقول :
- بول بخير ونحن جد سعيدين وكأننا في رحلة ترويحية ولا اتمنى سوى لو كان بوسعك وامي الحضور .
واشتد ارتعادها وهو يتمتم ببطء وعيناه نحوها في وضعهما السابق :
- اذن فالرسالة لأبيك فقط ؟ ولماذا لايكون بوسعهما الحضور ؟
قالت متلعثمة :
- اخطأت القراءة يابول .. انما كنت اعني ..
هتف في عجب :
- اخطات ؟ الا تحسنين قراءة خطك ؟
فندت منها ضحكة مرتجفة وقالت :
- انه خط بشع .
وتولاها فزع فقد كان خط لوسيندا دائما مثيرا للاعجاب واردفت :
- كنت اكتب والورق مسند الى ركبتي فالخط غير منسق .
كان عذرا بعيدا عن الاقناع فلم يدهشها الصمت الطويل الذي اعقبته واخيرا سألها بصوت خافت وهو يستلقي في مقعده :
اقرأي لي مزيدا من الخطاب .
وفي يأس تولد عن ذعر راحت تلتقط نتفا من الخطاب بعبارات غير مترابطه وبصوت متسلخ بالانفعال واذ ألقت نظرة نحو زوجها رأت العبوس الكثيف الذي ران على جبينه واخيرا قالت :
- هذا كل شيء ماعدا الختام طبعا .
فقال:
- اقرأيه !
ودهشت ثم قالت :
- ابلغتهما حبنا معا , ووقعت باسمي .
واقسمت في نفسها الا تكتب خطابها بعد ذلك الا في خلوة تامة !
6- السهام لا ترتد
انقضى يومان بعد حادث الخطاب قبل ان تستطيع تيسا تمالك انفاسها , كانت حتى ذلك الحين تحمل عبئا بسيطا من الخوف شعورا بأن زوجها مغرق في تدبير ما لوضعهما .
فلما لم يذكر مزيدا استخلصت ان قلقها لا يستند الى اساس .
وقال وهما يتناولان الفطور :
- سنذهب الى كيرينا لأشتري بعض الاشياء .
- هل اذهب لأحظار البريد اولا ؟
- سيحضره تاكي .
بلغا كيرينيا في الساعه الـ9 فسألته وهي تمسك بيده اذ غادرا السيارة :
- ماذا تبتغي شراءه ؟
قال باقتضاب وخشونه مباغته :
- خذيني الى صيدلي يجب ان احصل على دواء لصداعي .
وطرفت الدموع من عينيها وهي تسأله :
- هل يشتد ايلامه ؟
وشعرت بشيء من السخط على الطبيعه او أي شيء الذي يؤلم زوجها بهذه الدرجه . كانت بلواه الفظيعه كافية لكنه منى فوقها اخيرا بهذا الالم الذي حرمه حتى متعه الراديو , اذ كان في الاسبو الاخير يخفض صوت الراديو حتى لايكاد يسمعه او يسكته تماما .
وقد اطفأه في المساء الماضي ثم جلس اكثر من ساعتين واضعا رأسه بين يديه لا يتحرك ولا يتكلم , وهي لا تجرؤ على انتهاك الصمت ,لأن طباعه لم تكن تطاق اذا تسلطت عليه نوبة الصداع .
قال :
- هل نحن في الشارع الرئيسي ؟
- تركت السيارة عند الشاطيء بقرب المقهى .
فقال محتدا :
- اما كان بوسعك اختيار مكان اقرب ؟
قالت في هدوء :
- الطريق مزدحمه وهناك كثير من الحفر .
- اذا كانت الحفر كبيره فلا بد ان بوسعك رؤيتها وتفاديها .
واردف بجفاء :
- لن اطوف بالمدينه ليتفرج الناس علي .
وانكمشت ازاء خشونته وقالت بدهشة :
- ما الذي تظنه يجعل الناس يتفرجون عليك ؟
- يكفي تشبثي بيدك هكذا ..
وعلت شفتيها ابتسامة مريرة لكنها تلطفت قائلة :
- كثير من الازواج يسيرون متماسكي الايدي . ما من احد يولينا اتفه انتباه .
- هذا ما تقولين , لكني لست ناقص الذكاء .
وفي الصيدلية اخذ يكلم الصيدلي باليونانية وهي تراقب ملامح الرجل , اذ بدا الاهتمام على وجهه واخذ يهزرأس وكاهفي حيرة مناعراض لتي كان بول يصفها وما لبث ان اعطاه شيئا فخفت تيسا الى جواره وسألته :
- هل نتناول بعض المشروبات في المقهى ؟لايوجد سوى نفر قليل حول الموائد.
وهز كتفيه في غير اكتراث واخذت تصف له اذ جلسا الى احدى الموائد ما حولهما ثم قالت :
- وهناك يخوت شراعية نظيفة زاهية .
- اهناك اناس على اليخوت ؟
وارتجفت شفتاها اذ ادركت اين اتجه تفكيره , اذ كان يمتلك في اكلترا يختا نهريا جميلا كان يصطحب لوسيندا اليه يوم الاحد من كل اسبوع , وقد جاءت الاسرة كلها في احدى العطلات الاسبوعية وكانت تيسا تتذكر ما خالط سرورها اذا ذاك من ألم اضطرت لمشاهدة ما كان بول يوليه اختها من شغف وحنان .
واذ افرغ قدح القهوة التركية بدا متململا ضائقا بالحياة تقريبا , ثم قال :
- لنعد الى البيت ! عذوووب
قال وهي تنهض :
- الا نذهب الى المتحف يا بول ؟ سيكون هذا لونا من التغيير وسيكون الجو لطيفا في داخله .
قال في فتور :
- حسنا جدا , لك ما تشائين .
قالت في تردد :
- انني لا اريد ان ...
وقطع عليها الاسترسال في خشونه :
- كفي عن الجدل بصدد كل شيء بحق السماء يا لوسيندا .. اذا كنا سنزور المتحف فلنذهب دونما جلبه !
والواقع ان رغبتها في زيارة المتحف خمدت لكنها لم تشأ ان تقول له هذا .
استقبلهما امين المتحف مرحبا .. وشرع يحدثهما عن المتحف ومحتوياته ثم اصطحبهما في جولة وهو يشرح كل شيء . وزايل بول سأمه ونشط اهتمامه كان ثمة كثير من صناديق جهاز العرائس التي كانت كما قال الامين تصنع من خشب الارز وتزين بالنقوش وتملأ بأرق واجمل البياضات واستجابة لطلب بول اخذت تيسا تصف له دقائق النقوش مشاهدت على اساريره معالم الارتياح وفتح الامين احد الصناديق وقال :
- هذه الاقمشة المطرزة امثلة لما كان يوجد في الصناديق.
واخذت تصف لبول كل شيء .
وقال امين المتحف وقد وقف بهما عند شرير حميل من الخشب المزخرف :
- هذا سرير الزواج .
فقالت تيسا لبول :
- انه اشبه بمهد الطفل يحيط به سياج من ثلاث جهات .
فقال الامين :
- هكذا كان سرير الزواج ولابد ان يكون بهذا الارتفاع انه تقليد متعارف عليه .
وكان غطاء السرير من الحرير المطرز ببراعه وشاهدا الثياب التي كانت ترتديها العروس وكلها مطرزه باليد ومقعدا مزخرفا بالحفر والنقوش الملونه كانت تجلس عليه العروس وهي تتقبل التهاني والهدايا , فقالت في دهشة :
- المرء يتصور ان الرجل في الشرق هو المستأثر بالاهمية ولكني ارى المرأة كانت موضع اعزاز في ملابسات الزفاف .
ابتسم امين المتحف قائلا :
- المجتمع القبرصي قوامه المراة اصلا ويؤسفني ان الرجل من الغرور بحيث يحسب نفسه السيد.. فالبيت ملك للمراة والاطفال لها , وهي صاحبة السلطان . فاذا ماتت قبل الرجل لا يحق له الزواج ثانية .
هتفت تيسا ملتفته الى بول :
- لا يتزوج ثانية .. ما سمعت بهذا القول .
فقال بهدوء :
- القانون لا يرحم هنا ولكن الناس لا تعفو عنه . وقد سمعت بأرامل من الرجال تزوجو بعد فترة معقوله ولكن كل اصدقاءهم وجيرانهم تراجعوا عنهم .
واقره امين المتحف قائلا :
- اذا ترمل رجل فهو راضي النفس على ان يعيش بقية عمره وحيدا .
فتساءلت :
- اهذا شان المرأة كذلك ؟
قال الامين :
- نعم هو كذلك ...
وسالها بول في عجب ساخر وقد استقر في شرفة دارهما في المساء :
- الست تقرين تقليد عدم الزواج ثانية ؟ اتتزوجين اذا اصابني شيء ؟
كانت فيصوته نبرة غريبة غاض لها دم تيسا وهي تتذكر نوبات الصداع وتتصور ارهب الامور وقالت :
- حسبك يابول , اتخذ اية طريقة تشاء لايذائي الا ترديد هذا القول .
ولكنه ضحك وقال مبدلا الموضوع :
- انك تحاولين جاهده يا لوسيندا . كما تتعبين حين نكون خارج البيت , اذ تصفين لي كل شيء بدقائقه . يا لصبرك ! انني لأرى كل شيء بعينيك الجميلتين .
فتساءلت برفق :
- اعدت تلهو بي يابول ؟
فاذا بمسلكه يتغير تماما , فيصيح محتدا :
- لم لا ترحلين عني ؟
ثم اردف بقسوة :
- انك فعلتها مره .. فماذا يدعوك للبقاء ؟
قالت ببساطه :
- انني احبك .
فأخذت قبضتاه تشتدان وتنبسطان وقد بدا ان مشاعره تأثرت وقال :
- وانا اكرهك ! ان لغز يحيرني . هل حبك من القوة بحيث يجعلك راغبة في تحمل هذا الجحيم بقية عمرك ؟
- قد ترى يوما انني تلقيت من العقاب ما يكفي !
فهز راسه قائلا :
- هذا قدرك سأسحقك وسأعذبك بينما تتشبثين بالامل طيلة الوقت . ساحول املك الى ذبابة تظل تتلوى في جوفك حتى تبلغ نزعات الموت .
ونضبت اخر قطرة دم من وجهها . لك يكن هذا بول الذي عرفته في انكلترا . انه لم ينزع القشرة التي ذكرها ابوها فحسب بل ارتد في الزمن الى عصور كا اجداده فيها يوقعون باعدائهم اشد الالوان العذاب وحشية قبل ان يسلموهم الى موت بلا رحمة , وتأملت وجهه فاذا به مظلم حقود يتلوى بالشر الذي اخذ يزداد شيطانية .
كان شيطانا لا يعرف الرحمه وضاعفت شقوتها حسرة بالغة كثيرا ما كانت شقيقتها لو سيندا تجعلها كبش فداء في بعض المناسبات وهاهو الامر يتكرر ثانية . صحيح انه لم يكن لاختها يد في هذا ,ولكن العذاب كان قدرها بينما افلتت منه اختها , واصبحت تهنأ بخطبة جو وتسعى الى مستقبل سعيد .. وهتفت تيسا لنفسها وهي كسيرة الفؤاد : ولكني اقبلت على هذا بمحض ارادتي فبأي حق اشكو ؟ ان بول يستمتع بانتقامه ولا املك ان الومه لأنه لوسيندا كانت تستحق العقاب على ما آذت به مشاعره.
وسألها بخشونه آمرة موجها عينيه غير المبصرتين اليها وكانه يود قراءة افكارها :
- فيم تفكرين ؟
فغمغمت بصوت اجش :
- لا استطيع ان اخبرك ولكنك لو عرفت ما خالج قلبي فقد لا ترغب في ايذائي الى هذا القدر .
- او تتوسلين طلبا للرأفة ؟
- لن يكون لهذا نفع كبير .
واشاح عنها اتراها لمست عواطفه ؟ ولكن القنوط طفى عليها . لماذا تواصل اذكاء الامل , وقد اقسمت منذ لحظة لغير ما شفقة ان يدمرها !
- اصبت يا لوسيندا , لن يكون لهذا نفع كبير .
*****
صاحت مارولا من باب الفندق اذ مرت تيسا في طريقها الى القرية :
- مدام لوسيندا .
ولوحت تيسا بيدها مواصله سيرها ولكن ما رولا نادت ثانية فترددت وهي تتنحى لتسمح لفلاح بالمرور وكشف عن اسنانه القاتمه مبتسما وهو يحييها:
- كا ليميرا .
فردت التحية ثم ابتسمت لزوجته وهي تعتلي حمارا تجلس بجانبه كعادة القبرصيات وتبعها كفلان جميلان شديدا السمره صبي وبنت وكانت البنت تمسك بعصا تهش بها على قطيع من الماعز بينما كان كلبها ينبح في رجل اقبل على دراجه .. كان كل امريء يبتسمللاخر ويحيه واذ مرت الاسرة بعنزاتها التفتت تيسا الى ما رولا تحدجها بنظرة متساءلة فقالت هذه :
- هناك سيد يقود سيارة مستاجره , جاء للفندق يسألني ان كن اعرف مكان السيد بافلوس ديمتريوس فأخبرته . ولكن سبيريوس يقول انه رآه في الجانب الاخر للتل ظنه لم يفهم ارشادي .
وسارت اليها تيسا متساءلة :
- سيد؟ هل ذكر اسمه ؟
- نسيت ان اسأله قال انه جا من انكلترا بحثا عن السيد بافلوس .
وتسارع نبض تيسا :
- من انكترا ؟ ترى من يكون ؟
واردفت ما رولا :
- انه اشقر الشعر , طويل يقول انه والسيد كانا صديقين في انكلترا واخبرته بان السيد بافلوس تزوج من مدام لو سيندا .
وابتسمت ثم استرسلت :
- اتسعت عيناه هكذا وقال :
-اوه ! اهكذا ؟ ما قولك يا مدام لوسيندا ؟
فتساءلت تيسا وهي شارده الذهن خافقة القلب :
- هل دهش ؟
انه جو فقد قال انه كان يعتزم قضاء عطلة في قبرص ويحاول العثور على بول ومضت مارولا تقول :
- نعم دهش ووجه اسئلة كثيرة عنك وعن السيد بافلوس ثم انطلق يسعى الى البيت ولكنه اخطأ الطريق ألم تريه ؟
وقبل ان تستمع للجواب صاحت :
- هاهو ذا لقد عاد هذه سيارته صاعده القرية لابد انه ضل فعاد ليسترشد .
تحولت تيسا مأخذوة ترقب السيارة المقبلة وخلفها سحابة من الغبار وتفككت اوصالها وشحب وجهها حين وصلت السيارة وهبط منها جو واومضت عيناه اذ وقعتا على تيسا ولكنه كبح أي مظهر اخر للدهشة وهتف :
- حسنا , ما اجمل ان التقي بك . كيف وجدت الحياة الزوجية يا .... مدام لوسيندا ؟
وترج وجهها وهو يضيف :
- انك تلوحين جميلة حقا ... والسمرة تلائمك .
وكانت مارولا تراقبهما بفضول وتساءلت تيسا :
- انني .. جو لماذا جئت ؟
- اخذت اجازتي مبكرا فقررت بلا ترو ان اجيء لعثر على بول .
وصمت لحظة ثم قال بصوت لا ينم عن تعبير ما :
- سألت اباك عنك , فقال انك عدت للتدريس في تركيا .
-ما كان ابي يتعمد الكذب ولكني رجوته الا يذكر شيئا لأحد .
واقبل سبيروس اذ ذاك فسألهما عما يتناولان وتنهدت ارتياحا لن ظهوره قطع الحديث فقالت :
- ساتناول عصير البرتقال .
ثم التفتت الى جو وقالت :
- جرب ان تذوق شرابا قبرصيا .
ودخل سبيروس الفندق تتبعه زوجته فتحول جو توا نحو تيسا قائلا :
- يا لأعصابك يافتاة ! ماكنت اصدق هذه الجرأة منك ! لقد ترنحت حين حدثتني مارولا عن مدام لوسيندا التي اصبحت زوجة بول ادركت انك هي فما كان لغيرك ان يفعل هذا .ز ولكن كيف ستخرجين من المأزق .. انه خليق بان يكتشف الامر يوما .
- انه لم يكتشف حتى الآن !
هز راسه مذهولا وقال بصراحه غلبت على أي تلطف :
- انني لا اتصور في المقام الاول كيف تمكنت ان تخدعيه .
فمست ركني شفتيها ابتسامه وقالت :
ان بنان جسمي وجسم لوسيندا واحد فلم يفطن لأي اختلاف والواضح انه غفل عن انفي الافطس وشفتا كل منا ممتئتان فلم يلاحظ أي فارق .
وبدت في ثوتها مرارة جعلت جو يصيح :
- ومع ذلك فأنت غير سعيده يا تيسا .
كان قلقه شديدا فتضرج وجهها ولكنها قبل ان تتكلم نهضت الى مدخل الفندق حيث كانت مارولا جلس وقالت لها :
- انستطيع ان ندخل الاستراحه ؟
- لك ان تذهبي حيث تشائين هنا يامدام لوسيندا .
وبعد دقائق كانت تيسا وجو في غرفة الجلوس المنعزلة فبادرت باغلاق بابها وهي تقول :
- ان مارولا تحب دائما معرفة ما يدور , اذا سمعت شيئا فسينتشر في القرية خلال ساعه .
وظل ساهما ثم قال يشجعها :
- حدثني العم جو بما هناك, اصارحك بان اسئلتك عن بول كانت قد شغلتني وانتهيت الى انك ستحاولين زيارته ولكني ما تصورت اطلاقا امرا كالزواج .
وروت تيسا كل شي والدموع تترقرق في عينها فصاح حين فرغت :
- مسكينه ان يا صغيرتي ! لماذا تتلقين العقاب عن لوسيندا ؟اخبريه بالحقيقة .
قالت وهي تهز رأسها بحزم :
- ماكان يبالي بي ابدا يا جو , بل كان ينفر مني اذ ظن انني اطارده .
وروت له ما سمعت ليلة اقام جو حفلت فاكفهر وجهه واشار في عجز :
- اسمعت هذا ؟ وما الذي ينبغي الآن ؟
فقال باستسلام :
- لا شيء يجب ان اتحمل , وان امل فقد يلين يوما !
ولكنك قلت توا انه اكد جازما انه لن يلين !
فجهزت كتفيها قائلة :
- ما ادراه بما ستكون عليه مشاعره بعد 10 سنوات ؟
فصاح في جزع :
- 10 سنوات ؟ انها عمر آخر يا تيسا .
فرمته بتلك الابتسامة التي تمزتج فيها العذوبة بالتهيب والاحجام والتي اعتادت ان توجهها لزوجها وقالت :
- انني قادره على الانتظار 10 سنوات بل 20 وبرغم ما يقوله بول فانني موقنه انه لن يقتل املي يوما .
وازدرد جو اخر جرعة من الشراب بعناء وقال :
- لست ادري كيف استطعت ان توغلي في التورط ولكن كيف تواصلين الاهتماما برجل هذه معاملته لك ؟
- انه لا يعاملني انا فهو انما يعاقب لوسيندا .
فصاح في غضب :
- لو سيندا افلتت! انها تلهو وتضحك ولا تحفل بشيء متعلقه بذراع ذلك الغبي محملقة في عينيه كتلميذة متيمة حاب , بينما تتلقين انت ذلك العقاب نها ! هذا ظلم وخطأ , ولن تكوني اسوأ حالا اذا اخبرت بول الحقيقه .
- لن اخبره ! عـ ذ و و و ب
وما لبثت ان سألته :
- اقادم انت لرؤية بول الآن ؟
- طبعا .. سنصعد معا في السيارة .
حذرته تيسا في الطريق من ان يزل لسانه وكانت في صوتها رنى خوف فقال :
- اطمئني فان سرك في امان باستمرار .
اذ ذاك عاودتها الابتسامة وقالت :
- اتوقع ان يرغب بول في خداعك بحيث نتصرف وكأننا لا نزال متحابين .
وتهدج صوتها وبكت ولكنها سرعان ما تمالكت نفسها ونظرت اليه معتذره فتفرس في وجهها في عجب وقال :
- ان لك جمالا لم تحظى به لوسيندا ابدا انه يشع من اعماقك هل فعل بك الحب هذا ؟
وضغط يدها قائلا :
- انك منيعة لاتنثنين فتشبثي بالامل لاح حبا مثل حبك لابد ان يتغل في النهاية .
واشرقت نظراتها لحظة عابرة ثم قالت :
- اتظن انه قد يصفح عني اقصد عن لوسيندا ؟ اعتقد انه سيكف يوما عن ان يغضبني فنسعد معا ؟
فأجاب بصوت اجش :
- لابد من يوم تسعدين فيه !
ولم تفطن الى انه اغفل ساليها الاولين متعمدا !
*****
اختلجت مشاعر تيسا وهي تقود جو الى داخل المنزل وتنادي زوجها لقد اعتزل بول كل امرئ في انكلترا ولم يعط عنوانه لحد فظل عزوفا عن الاتصال ولو بالرسائل بأصدقاه فكيف تراه يستقبل جو ؟
واذ لم تتلق تيسا جوابا لندائها , فاخذت تبحث عنه ووجدته مستقيا في مخدعه القديم , وقد اغلق المصاريع الخشبية للنوافذ دون الزجاج ليتسلل الهواء خلالها .
منتديات ليلاس
- همست :
- بول ... انائم انت ؟
فأجاب بضيق :
- كلا ماذا تريدين ؟
- هناك زائر ولكن هل يؤلمك الصداع يابول ؟
- قليلا .
ثم استوى جالسا وانزلق من الفراش قائلا :
- زائر ؟
- من انكلترا . انه جو جاء من انكلترا خصيصا ليبحث عنك .
وعلى الضوء الواهن رأت دهشته ولكنها لاحظت كذلك وجومه فقالت في قلق :
- ألم يفد رأسك من الدواء الذي ابتعته ؟
فمد يده يتناول العصاه من حيث وضعها وقال :
- انه يخفف الالم.. هل وصل جو توا ؟ كيف اهتدى لمكاني ؟
واوضحت له تيسا الامر فسألها ان كان جو قد عرف بزواجهما . وترددت اذا انكرت فسيتدفق سيل من الاسئلة لأن جو ولوسيندا كانا ينتميان لو سط اجتماعي واحد وقد يرى بول غرابة في ان تختفي لو سيندا فجاة عن هذا الوسط ولا تثور بصددها اسئلة .
لذلك قالت متلعثمة :
- نعم اخبره ابي .
وخفق قلبها . خدعة جديده على جو ان يكون شديد الحذر .
- كيف جاء الى هنا ؟
واذا اخبرته قال :
- اكان يقود السيارة ؟
وتولتها رغبة جامحه في ان تفتح مصاريع النوافذ فقد احسن بان الضوء الواهن يثقل انفاسها وقالت :
- استأجر سيارة .
وقالت بصوت خافت يشوبه القلق:
- امغتبط انت بوجوده ؟
دق الارض بعصاه حتى عرف موضع الباب :
- انا ... نعم احسبني مغتبطا . اجل سيكون وجود ضيف نوعا من التغيير لنا .
وتنهدت تيسا بارتياح وهي تفتح الباب دون ان تحدث صوتا قال بول وهو يتجاوزها :
- لا ارغب في ان يكون خصامنا ذائعا , اتفهمين ؟ ع ذ ووو ب
- نعم يابول .
وتوقف واستدار نصف دوره وقال في سخرية :
- لن يكون عسيرا ان تقومي بدور الزوجة المحبة .
- لن يكون عسيرا ابدا . ما علي سوى التصرف بأسلوب طبيعي .
- ما اشق ما تحولين ! في اية غرفة هو ؟
- في غرفة الجلوس الصغيرة وقد طلبت من تاكي ان يحضر بعض المرطبات .
وتركها بول وانصرف وظلت لحظة جامده بجوار الباب في غرفته الخاصه كأنما كلماته خنجرا جرح وغاص فيه .
ولكنها تعزت بأن لوسيندا كانت هي المقصوده ... ومنحتها هذه المعرفة قوة واحتمالا .
7- الألم والأمل
كانت السماء بلون الكهرمان انتشرت فيها نتف من الوان قوس القزح ووشيت بلمسات من ذهب شفاف .. هكذا كان الغروب بكل بهائه ووقفت تيسا على شرفة سطح الدار تتأمل قرص الشمس يهبط وراء البحر .
وسيطرت سكينه الصمت على كل شيء حتى النسيم الذي يهب من الجبال مضمخا بعبير الصنوبر ليمتزج بأريج الروائح المنبعثة من الحديقة ولفت نظر تيسا حركة ..
كان بول بين ازهار الحديقة يستوعب جمالها باللمس والشم . وفيما كانت تراقبه شارده الباب مهمومة رأته يقطف ورده فيلصقها بوجهه ويقف مليا غير متنبه لعيني زوجته واشرقت على وجه تيسا ابتسامة حانية , اذ وضع بول عنق الورده في فمه , واستأنف تجواله .
ومن التصرفات المألوفة للرجال اليونانيين وضع زهرة في الفم فهم يحبون كل شذى وكانت تيسا ترى ان ثمة سذاجة ساخرة في ان يحمل رجل كبير زهرة على هذا النسق . ولكن ذلك ما كان ليتمشى مع شخصية بول الذي اصبحت القسوة وعدم المبلاة جزءا من مظهره !
والتفتت فجأة وهي تبتسم اذ سمعت صوتا هامسا خلفها يقول :
- ان زوجك هذا رجل غريب فكرت بالحاق به الى الحديقة ولكني ادركت انه سيعتبر هذا تطفلا .
فقالت بلهجة ناعمة مغمغمة :
- انه كثيرا ما يمشي في الحديقة في هذه الآونه فعبق الزهور يشتد في الهواء العليل الطلق .
وقال جو وعيناه لا تبرحان الرجل في الحديقة :
- هل يجب ان يكون وحيدا هكذا ؟
فأومأت برأسها ثم قالت بلهجة نمت عن استغراق في التفكير وقد ندت عنها زفرة لم تتمالكها :
- انا ايضا لا اتطفل على عزلته واشعر مثلك بأنه لا يرحب بصحبة احد .
قال مواسيا :
- لا تدعي هذه يجرح شعورك اكثر مما ينبغي كثير من المكفوفين يجنحون الى الوحده . يودون ان يبتعدوا تماما عن كل الادميين .
واكتفت تيسا بالايماء بينما واصل جو كلامه :
- يداخلي اعجب شعور نحو بول .. شعور لا ادري كيف اووضحه .
كانت عيناها على زوجها , وقد وقف في ظل بعض الشجيرات خطر لها انه كان مرهف الحس ازاء العزلة وكان من اللازم ان يحظى بهذه اللحظات المتسمة بالسلام التام والوحدة . وقال جو :
- اوقن بأنه يناضل شيئا ما مما يثير اضطرابا عظيما في نفسه .
فأدارت رأسها نحوه متسائلة :
- ما اغرب ما تقول يا جو , أي اضطراب ؟ ومالذي يناضله .
وتردد طويلا ثم قال :
- هل خطر لك يوما انه ربما بدأ يشفى من حقده على لوسيندا ؟ فازاء رعايتك المتيمه وصبرك وأسلوبك الفاتن في معاملته .. كان من ارغب الامور الا يكون لكل هذا تأثير عليه .
وهمت بان تعارضه . ولكنه قاطعها قائلا :
- لو صح هذا وكان قد بدأ يقع في هوى لوسيندا من جديد فهذا يفسر شعوري بأنه يتعرض في اعماقه لصراع وهو خليق بأن يزدري نفسه مما يحعله يناضل هذا الحب !
وهزت تيسا رأسها قائلة :
- انه لا يزال يكره لوسيندا ولا شك في هذا وصفحة عما فعلته به سيتطلب وقتا طويلا طويلا .
وعبس جو :
- هناك لحظات يكون فيها محبا .
فبادرت بأسى :
- انه مجرد تمثيل امامك.. واحيانا يكون بول لطيفا هكذا ونحن معا ولكن ليذيقني ما افتقده فيثير حسرتي .. لقد قال بانه يفعل ذلك ليعذبني !
هتف جو وهو لا يكاد يصدق قسوة بول المقرونه بسبق الاصرار :
- ياللوحشية الشيطانية, ان لوسيندا تستحق كل هذا وما كنت لألومه اذ ينتقم منها ومع ذلك فمن العسير ان اصدق ان بول اوتي هذه النزعة البربرية . عذوووب
فقالت وهي تعود لشرودها المتأمل :
- اوافقك, والواقع انني ما كنت اثدق انه قادر على كل هذه الانفعالات العنيفة .
وفكرت فيما قاله عن احتمال وقوع بول مرة اخرى في هوى لوسيندا بسبب رعاية تيسا الحنون ولكنها هزت رأسها مؤكده ان كراهية بول للوسيندا باقية على اشدها فقال :
- انك ادرى طبعا ومع ذلك فاني اشعر شعورا قويا بهذا الصراع لكن لعل له سببا اهر لآ اعرفه !
وبادر بتغيير الموضوع قائلا :
- بقي اسبوع واحد واعاود الى طاحون الاعمال لعلي اتمكن من زيارة اخرى في عيد الميلاد .
كان الوان السماء تذوب في ضباب شفق الغروب والظلال تستطيل ولن تلبث سكينة الليل ان تغشى قلب تيسا كانت تنعم بهذه الفترات الوجيزة كل مساء فتتوارى امالها ويضيع في قلبها شعور غريب بالتفاؤل لتواجه يوما مليئا بالاجهاد النفسي وجراح المشاعر واستدار جو قائلا :
- ياللموقع الذي اختاره بول للبيت , انه رائع !
فقالت في حزن وهي تطل الى اسفل :
- رائع لكنه لا يملك رؤيته !
وفجأة تصلب كيانها وشهقت :
- جو ثعبان يقترب من بول .
وعادت للتو ليونة اطرافها فاندفعت تهبط الدرجات وتعثرت ولكنها اسطاعت ان تمسك بالسياج بمعجزة وراحت تقفز الدرجات كل اثنتين معا , ولم تصرخ محذرة بول خشية الا يدري ما هناك وقد يرتاع كان الثعبان المميت ينتصب جامدا مراقبا ثم انزلق على الارض مقتربا من بول على مهل وبول مكانه والوردة بين اسنانه يستمع مطمئنا بالنسيم المعطر , واعتصر قلبها خوف فظيع وبلغت الحديقة اخيرا فتسللت واتقطت حجرا كبيرا وزحفت مقتربه لئلا تخطئ الهدف ثم القطت حجرا بكل قوتها على الثعبان الذي كان يهم بالانقضاض على زوجها الاعمى !
واستدار بول هاتفا :
- ماذا؟
فأصابت عصاه طرف تيسا وافلتت منها صرخة فقال بخشونه :
- - ماذا تفعلين اذ تتسللين هنا ؟ عذوووب
ولكن تيسا لم تنتبه لجفائى اذ كان الثعبان يتلوى وقد اصاب الحجر جسمه دون رأسه وخيل اليها انه يتطلع الى بول في حقد اسود .وكادت تتهالك ارتياحا اذ سمعت جو يقول :
- لا عليك سأتولى امره !
ولم تنتظر ما يفعله بل تناولت ذراع زوجها وقادته الى البيت . ولم يقاوم او يحتج او ينبس ببت شفة بل اعطاها الورده حين استقر في غرفة الجلوس طالبا وضعها في الماء وشعرت بيدها ترتجف ولكنه لم يخرج عن صمته وقالت متلعثمة :
- الاريكة خلفك , هل احضر لك شرابا ؟
- نعم , واحضري لنفسك كأسا تناولي قليلا من الشراب .
احضرت تيسا صينية عليها عدة قناني وكؤوس واقبل جو قائلا بأن الثعبان مات , فهتفت :
- الحمد لله !
وقررت الا تدع بول وحده في الحديقة مرة اخرى فلابد ان هناك ثعابين اخرى وقال بول في هدوء :
- لعل احدكما يروي لي ما جرى !
وفتح جو فمه ولكن تيسا هزت رأسها بشده وقالت :
- لا شيء ياعزيزي الظلال اوهمتني بأن هناك ثعبانا !
وصمتت فرفع جو حاجبيه وكأن ينبهها الى عدم جدوى ما تحاول ان تختلقه بدلا من الحقيقة اذ ذاك قالت , متصنعه الاستخفاف:
- كان هناك ثعبان يابول ولكنه صغير جدا ولا ادري ما الذي اعتراني فأنا لست سريعة الفزع عامة !
وتناولت على وجه بول المشاعر وهو يتناول الكأس من جو ويرفعها الى شفتيه . واخذ عرق في صدغه ينتفض واختلج جانب من فمه وقال :
- سمعتك تقول انك ستتولاه ياجو فما حجمه ؟
فقالت :
- ليس كبيرا ..
ولكن جو قاطع قائلا :
- طوله 3 اقدام , وكانت لوسيندا قد هاجمته قبل ان اهبط من سطح المنزل فلم افعل سوى ان اجهزت عليه .
وحدجته تيسا بنظرة غاضبة فما جدوى اطلاع بول على الحقيقة ؟ ان ذلك كفيل بأن يجعل خروجه الى الحديقة وحيدا مصدر اضطراب .وكانت تيسا حريصة على ان تكون دائما على مقربة منه , دون ان تحرمه من الشعور بالوحده . وكانت ترى ان من القسوة ان يحرم من ساعة الخلوة هذه!
غمغم بول وهو يتناول كأسا اخرى :
- 3 اقدام , كانت لو سيندا قد هاجمته ؟
فبادرت قائلة :
- كلا يابول بل رميته بحجر فحسب لأرهبه.
فتساءل في فضول :
- من اية مسافة رميت الحجر ؟
فأسرع جو قائلا :
- كانت قريبة جدا يابول ,وكان الثعبان يهم بان ينقض فاضطرت لوسيندا للاقتراب جدا حتى لايخطئه الحجر ؟
وامسك لحظة ثم اردف :
- اعتقد انه كان تهورا من لوسيندا . كان من المحتمل ان يتحول الثعبان اليها .
فعبست ماذا كان جو يحاول ان يفعل ؟
وقالت باستخفاف :
- ما كان محتملا ان ينقض .. هل املأ كأسك يا عزيزي بول ؟
****
وفي ذلك المساء ذهبوا الى العشاء في احد المطاعم الساحلية . وجلسوا الى مائدة في الخارج , تحت السماء المرصعه بالنجوم , وكان البعض يسحون فأخذت تصفهم لبول وتبين مبلغ اسمتهم ثردفت:
-انهم يحظون بفتره مدهشة ونحن لم نمارس السباحة ابدا في الليل يابول ..
وعضت على شفتيها ولكن بول ابتسم ايهاما لجو وقال :
- اذن فلنفعل يا عزيزتي عسى ان نتمكن من ذلك قبل رحيل جو...
واخذو يتناولون الطعام وفرقة موسيقية تعزف وكان بعض الناس يرقص على انغام في مرح وتحرر من الكلفة وقال بول وقد فرغوا من العشاء :
- لم لا ترقصين مع جو ؟ خذها يا جو .
كانت في صوته نبرة جعلتهما يرميانه بنظرة سريعه وبدا ان تغييرا طفيفا طرأ عليه تعذر ادراك كهنه بجانب شيء مبهم أعاد لذاكرة تيسا اهتمامه الغريب بالرسالة التي كتبتها الى والدها وتعليقاته التي ملأتها ذعرا طيلة يومين !
كان الرقص مبعث غبطة ولكنها لم تكن تتمالك من آن لأخر ارسال زفرة خفيفة والنظر الى بول وقد جلس وحيدا موليا وجهه شطر البحر . حتى اذا عادا الى مقعديهما تساءل:
- كيف كان الرقص ؟
كان ابتهاجه واضحا فلماذا التردد واجابت:
- كان ممتعا يا بول الكل مرحون ضاحكون وقد طرحوا عنهم كل شيء.
- اجل اخشى ان لديكم من الغرب موانع وشاغل لا تجعلكم تستخلصون خير ما في الحياة .
وقال جو معلقا:
- الفارق هو ان القوم هنا لايشتغلون بالمال انهم يمارسون عملهم في غير تعجل يجمعون بعض خشب الوقود من هنا وهناك ويسوقون ماعزهم وغنمهم عن التل في رضى تام.
وامسك متفرسا وجه بول وسأله :
- الست توافقني ؟
- الناس في كل مكان تعني بالمال وهنا لا سيما هذه المنطقة بالذات للمزارع عمل اساسي هو ان يعد بساتين الليمون الخاصه به , وبعد ذلك لا يبقى له عمل سوى ري الاشجار . لهذا يحق له ان يجلس وان يقضي ايامه في المقهى يلعب الطاولة والورق ويجني من الليمون الفين تقريبا في العام .
وهتفت تيسا في دهشة :
- كل هذا القدر؟ والفلاحون يبدون مدفعي الفقر.
- كل هذا المقدار حقا فالليمون قد يبدو مهملا على الارض هنا ولكن تأملا سعره عندنا في انكلترا !
فوثب جو على الفرصة متناسيا الليمون :
- عندنا ؟ امازلت تعتبر انكلترا وطنك ؟
غمغم بول في تأمل :
- بلى للعجب!
وما كانت تيسا لتضن بشيء لتعرف اين كان اتجاه فكره ؟
لعله كان يسترجع بحنين الاوقات الرائعه التي قضاها هناك مع لوسيندا عندما كانا متحابين والمستقبل يبسط امامهما كصورة مثالية للنعيم . كان هذا قبل ان ينقلب الحب الى كراهية قوية طاغية بعثت شرا في نفسه , وما لبث بول ان قال بعد فترة :
- اظن ان الوقت حان لننصرف .
ولت تيسا قيادةسيارة في العود وكالعادة وضعت تيسا زهرة شذية بجوار زوجها فأمسك بها وراح يتحسسها برفق وحنان ويقربها الى وجهه وفي حركته بساطه فريبة وقد شرد ذهنه فبات لا يعني بغير السمات الجمالية للزهرة وعند وصولهم للفيلا قال بول بمجرد دخولهم :
- سأوي الى الفراش , طاب ليلك يا جو طاب ليلك ياعزيزتي .
وتركته يمضي ثم اومات لجو معتذره وتبعت زوجها وعندما عادت كان وجهها شاحبا واجما وقالت متهدجه :
- رأسه انه يضعه بين يديه , هذه الآلآم تروعه ترى أي تفسير لها .
- اصبري يا تيسا !عقلك مثقل بما يكفيه فلست بحاجه لقلق اخر كهذا .
- ولكن لماذا ينبغي ان يعاني من الآلآم ؟ انها قاسية وان كان لا يتحدث عنها .
وبدا كأنه لا يصغي اليها وعلى وجهه تقطيب ينم عن التفكير وفي عينيه وميض عجيب ثم سألها :
- النظارة القاتمه التي يرتديها .. هل يستعملها دائما ؟
فهزت رأسها وقالت:
-ما استعملها الا قريبا ولقد ذهلت حين قال انه يريد شراءها وكان يضعها من وقت لأخر ولكنه الآن يبدو غير مرتاح بدونها !
وارتجفت وهي تلاحظ اسارير جو وقالت:
- اتظن ان لنوبات الصداع علاقه بعينيه ؟
وتفرس في عينيها وسألها من ناحيته :
- اذا الامر كذالك فهل تدركين معناه ؟
وبدت حائرة وقالت:
- كلا .
وكانت النوافذ مفتوحه وبدا جو منصرفا الى اصوات الليل المتصاعده من اسفل السفوح ونقيق الضفادع وعاد يتكلم , وكأنه يتمتم لنفسه :
- لماذا يطلب النظارة فجأة , بعد ان يون قد تركها طويلا؟ انني اعتقد ان لنوبات الصداع علاقه بعينيه !
وانتبه الى تيسا متسائلا :
- هل خطر لك احتمال انه يبصر ؟
وارتجف كيانها وصاحت :
- يبصر ؟ كلا انه لا يرى قطعا انني متأكده !
- احسب انه ماكان ينبغي ان اقول هذا ولكن لعلي تنبهت الى ان الضوء يزعجه واذا كان الضوء يضايقه ...
ولم يتم ولكن ما امسكه كان واضحا واشتد ارتجاف تيسا وتولاها خوف اعظم من خوفها من المستقبل وقالت متلعثمة :
- الاطباء في انجلترا .. كلهم قالوا الا امل , انني موقنه بأنه لن يبصر ثانية .
واندفعت خلال النافذه فراشة كبيرة حلقت حول مركز الضوء ملقية ظلال على الجدران والارض . قال جو :
- لعلهم كانوا مخطئين هذا امر كثير الحدوث كانت حاله غريبه كما اخبرتك لم يكن اعمى حين نهض وانقض على اللهب لقد نشأ عماه عن صدمه للاعتقاد بأن لوسيندا كانت تحترق في السيارة حتى الموت .
وجلست تيسا مشدوهة لا تجد كلاما وقد هزها ان كل ما قاله جو بدا جادا كانت هي الاخرى قد حارت ازاء طلب بول النظارة ولاحظت انه كان يحجب الشمس عن عينيه ,وتذكرت مظهر الصيدلي وبول يحدثه عن الصداع والدواء .. اذ قال بول انه افاده قليلا , ولكنها موقنه انه لم ينفعه البته , وتطلعت الى جو شاحبة الوجه مذعورة ثم قالت :
- لو استرد بصره لا ينتهي امري , كافحت في امل وصليت بدون جدوى .
تململ جو في جلسته وقال :
- يحسن ان تتناولي شرابا قويا .
ونهض فسكب لها كأسا وقال :
- اظنني بدوري بحاجه الى كأس قد اكون مخطئا فيما قلت ولكن الامر جدير بالتأمل .
فهتفت في جزع :
- كلا لن ارضى ان افقده .
-اتحرمينه فرصة الابصار ثانية ؟
- نعم .. كلا .
ثم امسكت وهزت راسها عاجزه عن التفكير وصاحت فجأة في لوعة :
- انني لا استطيع ان افقده ... لا استطيع .
- لماذا تجزمين انك ستقفدينه؟ تذكري انكما متزوجان . ع ذ و و و ب
- سأفقده طبعا فالتي تزوجها لوسيندا في اعتقاده وبسعه الظفر بالطلاق دون عناء .
وتجاهل عبارتها الاخيره ليذكرها بأن بول قد ابغض لوسيندا فقالت :
- ليس هذا مبررا لكي يحبني .
- انك على صواب لكنك كنت مفرطة الرعاية له , ولابد ان يقدر هذا .
- انه لن يحبني ابدا , كان في انكلترا ينفر مني كل النفور وقال انني اطارده فماذا يساوره اذا علم يوما انني استغليت عماه لكي .. لكي استأثر به ؟ سيعتبر هذا تصرفا مريبا , وله الحق في هذا .
وتجلت عينيها نظرة قانظة مرتاعه واردفت :
- لا اريد ان يرتد اليه بصره لنه سيصبح اشد غضبا ونقمة اذا رأى نفسه مرتبطا بي انا الفتاة التي كان يعافها والتي قال انها دميمة .
فهتف جو بحده :
- ما ذال هذا ابدا .
- قال انني لولا عيناي لا اساوي شيئا .
وابثقت الدموع من عينها فتركها جو تبكي حتى اذا اخذ النشيج يهز كيانها نهض فأحاطها بذراعيه وقال:
- اسمعي ما من داع لهذا , فليس لدينا دليل على ان بول سيرى ثانية يوما ما لننس الامر حاليا وبمجرد عودتي الى الوطن سأسأل في الامر لي صديق يعرف اخصائيا في العيون .
صاحت تيسا في انفعال هستيري :
- كلا لن اقبل أي تدخل في حياتنا قلت انني لا اريد ان يبصر .
فأنتقل الى جوارها وساد الغرفة الصمت . واخيرا رفعت تيسا المنديل عن عينها ونظرت اليه فقال :
- بول صديقي ياتيسا ويجب ان اسأل ذلك الاخصائي لقد قال بالعلاج والجراحه واخال انني اتذكر اجل كان هناك حال شبيهة بحال بول امراة فقد زوجها في حادق وادت الصدمة الى فقدت بصرها اعتقد ان الامر لم يستدع جراحه فقد استجابت للعلاج .
فذكرته تيسا بالعلاج الذي تلقاه بول بعد الحادث وتجاوز جو عن قولها وقال بحزم :
- واجبي ان اساعد بول اذا استطعت .
- انه زوجي .. وانا صاحبة الرأي .
فقال مواسيا :
- اشربي كأسك . انك لا تدركين ما تقولين وعندما يتسع الوقت لتفكري فيما سيكون لجراحه ناجحه.ز او لعلاج من تأثير على زوجك فسوف تبدين رأيك انها حياته يا تيسا ويجب ان تتاح له الفرصة ليحياها كامله .
قالت في اصرار ولكن بمزيد من الهدوء وضبط النفس :
- لن اساعد باية حال في عرض بول على ذلك الرجل .
- اتقضين على زوجك بان يعيش في ظلام ؟
- اجل .. ان هذا لخير !.
فهتف :
- كيف يكون العمى خيرا لأي امريء بحق السماء ؟
فقال في استماته:
- انت قلت اننا لانملك دليلا على انه سيبصر ثانية فمن القسوة اصطحابه الى ذلك الرجل واحياء اماله كلا لن اسمح بايذاء مشاعره .
وشعرت بارتياح ولكن للحظة واحده اذ اخذ ينمو في جوفها هم مروع , ادركت بغيرزتها انه خليق بأن يرديها في شقاء ويأس يفوقان ما قضى به بول عليها !
فقال جو :
- صحيح اننا لا نملك دليلا وصحيح ان آمال بول ستتجدد وقد تخبو سريعا ومع ذلك فعلينا ان نتيح له فرصة هذا واجبنا يا تيسا .
- واجبي الاول هو ان احمي زوجي من الاذى ولست ارضى باذكاء اماله ثم اطفائها . لقد عولج واخفق العلاج واني لموقنه بانه سيخفق ثانية !
********
وجلست طويلا بعد انصراف جو الى النوم تحملق في اتجاه البحر البعيد وكانت حمرة الشفق تدب في السماء مؤذنة بالفجر حتى اوت اخيرا الى فراشها .
وكان بول قد لاذ بالغرفة الاخرى فأطلت عليه خلال الباب وعلى الضوء الخافت الذي تسرب من خلال مصاريع النوافذ لاحظت انه متململ في نومه اذ كانت انفاسه ثقيلة ومضطربه .
وبهدوء انسحبت وقلبها وعقلها في دوامه :أمن الممكن ان يبصر ثانية ؟ لقد سمعت ان الراحه والعلاج المتخصص قد يؤديان لارجاع البصر المفقود اثر الصدمة وهمست لنفسها :
- لن اطلع بول على هذا .
وتأملت وجهها في المراة والانف الافطس وعظام الخدين ولم تر عينيها الجميلتين ولا الحنان والشفقة الفياضتين فيهما ولا الاستدارة الجميلة لشفتيها وقالت :
- كلا لن اسمح للاخصائي بمجرد فحصه لن اخسر زوجي !
واخذ الصراع بين ضميرها وقلبها يعصف بها . انه ملكي فلماذا اجازف بان افقده ؟ لماذا قدر لجو ان ياتي فيعكر علينا حياتنا ؟الواجب ؟ انه لا يمت اليه بقربى مجرد صديق فبأي حق يتحدث عن الواجب ؟انني انا زوجة بول التي سوف تبت وتقرر , اجل وهي وحدها صاحبة القرار .
واخذت تذرع الغرفة ثم التفتت اذ دخل عليها بول في ثياب النوم وشعره الاسود يتهدل في فوضى جميلة . وقال وهو يسير نحوها مستعينا بعصاه :
- انت قلقة .. سمعتك طيلة الساعة الماضية لا تهدأين .. هل تحسين بمرض ؟
فبادرت قائلة :
- كلا لم استطع النوم . لعله تأثير الشراب .
واحاطها بذراعيه اين يذهب العناق البدائي العنيف الذي كان يؤلمها به في الماضي ؟
فأدركت وتطلعت لوجهه بعينيها الجميلتين وقالت:
- هل عدت تعبث بي , اتوسل اليك الا تفعل . الآن!
قال بايجاز ولهجة بارده :
- لم لا ساعبث بك عندما يحلو لي .
وانصاعت في استجداء وهي تقول :
- انني متعبة جدا يابول !
لمس عنقها ثم ذقنها وتحركت اصابعه خفيفة على قسماتها من جبينها حتى فمها ولمست اصابعه انفها الافصس الصغير الذي لم يكن يشبه انف لوسيندا . وحبست انفاسها لقد فعل بول هذا مرات كثيره من قبل ولكن بطريقة شبه عابرة وكانه غير معني او مشوق اما الآن فقد بدا انه شديد الاهتمام بما كان يفعل !
وندت عنه اخيرا زفرة عميقة , لم تنم لها عن شيء وظل فمه مطبقا ولاحت عليه خشونه مختلفة عن اية خشونه عهدتها منه من قبل ودفعها عنه بجفاء وقال:
- انك متعبة أليس كذلك ؟
كان صوته خافتا حتى كادت لا تسمعه ومع ذلك شابته رنة ارسلت قشعريرة في عمودها الفقري .
وعاد يقول :
- اذاً فأرجعي الى فراشك وحاولي ان تنامي .
وتوقف برهة وكانما استولى عليه شيء من التردد ثم غادرها عائدا الى غرفته .
وسمعت صوت قفل بابه يتردد في سكون البيت فاذا بها تحس بوجود حاجز اكبر من الباب بينها وبينه.
وخامرها الشعور العاجز اليائس بانها مطروده من حياته ... الى الآبد !.
8- ليلة التحولات
لم تكن الساعه قد تجاوزت الـ4,30 صباحا , ولكن تيسا كانت مستيقظة , تقف في نافذة غرفة النوم تسرح البصر نحو الجبال كان ثمة ضباب داكن يلف القمم والمنظر يتسم مع مزاجها . وظلت فترة طويلة تحدق في طبيعة غير واضحه المعالم .وما لبثت الشمس ان اشرقت ولكنها كانت تفتقر الى البهاء الذهبي المعهود وكأنما قرصها الؤلؤي اخذ يرقى مرسلا اشعة مائلة من ضوء باهت خلال اغصان الشجر .
تحولت تيسا عن النافذه وكأنها تعاف ان تشهد الاشراق وتناولت الروب دي شامبر عن السرير فارتدته وخرجت الى الردهة كان باب غرفة بول مشقوقا وسمعت تنفسه المنتظ فتوقفت لحظة تنصت لصوت في نفسها يسألها : لاذا لجأ الى النوم وحيدا ؟ لكم حاولت منذ حادثة الثعبان ان تتذكر ما يمدها بمبرر للتغير الذي طرأ عليه كانت من قبل امرأته كما يطلق القبارصة على الزوجة فكان يأخذ ما يشتهي ومع انه ما كان يمنحها حبا ولا حنانا مقابل ذلك فأنها كانت تشعر بانها قريبة جد منه , لصيقة به اذ انها كانت تمنحه من ناحيتها الكثير له كل ما تحس به من حب له وكل ما يفيض به قلبها من وجد ..اما الآن ,..؟
ومضت في الردهة الى الحمام لتغتسل وعقلها يفكر في التغيير الذي اعترى زوجها ولا تفسير له. ولقد اظهر فتورا نحو صديقه جو خلال الايام الاخيرة من اقامته فكان هذا ايضا امرا لا مبرر له , وكانت تيسا تعجز عن الاجابة اذا ما سألها جو عن سبب ذلك وقد اجابت مرة وهي حائرة :
- كان مغتبطا بأن التقى بك من جديد واوقن بانه استمتع بصحبتك حتى الآونة الاخيرة .
فقال جو في تسامح :
- لعل حالته هي السبب من المفهوم انه سيكون عرضة لتقلبات المزاج .
****
ارزدادا بول بعدا عن تيسا منذ اللحظة التي وعد فيها صديقه في المطار فأنقضى اسبوعان دون ان يقول لها كلمة رقيقة واحده .
وفضلا عن هذا اصبح نكدا اذا جلس فهو صامت متجهم والا فهو في مخدعه مستلقيا على السرير والمصاريع الخشبية للنوافذ مغلقة وظل مع الايام متباعدا حتى عزمت اكثر من مرة ان تثير الموضوع معه ,ولكن شجاعتها كانت تخونها دائما . كان من الواضح انه ما كان راغبا وشعرت بأنه خليق بأن يجيبها برد جارح لو انها سألته عن سبب فقدانه الاهتمام بها ... كزوجة !
والى تباعده بدا ان بغضاء جديده استولت عليه فأخذت أمال تيسا تتداعى حتى كاد اليأس يمتلكها ولكنها راحت تتشبث باستماته فبالرغم من تباعده شاركها اهتمامها في مناسبتين مختلفا عن مسلكه الخشن اللاذع .
كانت المرة الاولى حين ذهبا الى جبل ترودوس اذ اقترحت هي الرحلة فوافق مما ادهشها وارضاها وبدا بول مرهف الحس ازاء الهواء النقي الصافي الذي خدر اعصابهما معا فقال وهما يتناولان غداءهما تحت شجرة صنوبر :
- هذا مكان بديع ما مدى ارتفاعنا ؟
وتأملت كتاب دليل السياحة ثم قالت :
- لسنا بعيدين عن قمة جبل الالمب وارتفاعه يتجاوز يتجازو 6000 قدم.
فقال وهو يتناول كوبا من يدها ويشرب :
- لايبدو ان أيا من الناس هنا فما سمعت اصواتا غير صوتينا .
وجالت عيناها في السفوح وقالت :
- اننا وحيدان تماما هناك حطاب عجوز على مسافة ولكن لا يوجد سياح على الاطلاق !
كان الوقت مبكرا فقد انطلقا بالسيارة في الساعه 5 وكانت الرحلة منعشة وهما يريقيان نحو اللب البركاني للهضبة الجنوبية وتألق وجه تيسا حبورا وزوجها يطري قيادتها بلهجة بدت لها غريبة :
- انك تقودين بحنكة خبيرة حتى ليخال أي امرئ انك تعودت مثل هذه الطرق ولست ادري لماذا ترددت عندما اقترحت شراء السيارة ؟
- الطريق المفضلة الى دارنا كانت تخيفني ... أي انسان يلم بقيادة السيارة يجد هذه الطريق بسيطة فهي بلا وعورة الا حين نجتاز المنحنيات المفضية الى القرى .
واذ فرغا من الغداء اخذا يتجولان بين الاشجار وتمتمت تيسا بصوتها العذب الجميل :
- يالعبير الصنوبر ! اليس عجيبا؟
فلمس بول ظهر راحتها بأصابعه وقال وهو شارد في افكاره .
- بلى !
كأنما كانت اصابعه تستطلع شيئا فأحست تيسا بعدم ارتياح عجيب ولكنها مع ذلك شعرت بان بول لم يكن واعيا لما فعل وعاد يقول بعد فترة :
- وورود الصخور ايضا !لابد ان هناك كميات كبيرة منها .
- انها في كل مكان لن تلبث ان تختفي عما قريب .
قال :
- شذاها يختلف عن كل ما عرفت . انه شذى الورد ولكنه يبدو وكانه يخبرك بانك فوق الجبال.
ولم تعقب تيسا وواصلا تجوالهما ويداهما متشابكتان تقريبا ومع ذلك فما اوسع ابتعادهما , انهما يعجبان بأشياءمعينه مشتركة وينتعشان بهواء الجبل البارد العليل وبسكينة العزلة وطمأنينتها وتساءلت تيسا :
- هل تود الصعود الى قمة جبل الأولمب؟ الطريق جيده .
- طبعا فلابد اننا سنحظى بمنظر رائع .
ابعثت الكلمات بتلقائية طبيعية . وشد شيء ما اوتار قلب تيسا واتخذا طريقهما الى القمة وتيسا تعيش مرة اخرى في المحنة الرهيبة التي خبرتها ليلة ألمح جو الى ان بول ربما يستطيع استعاده بصره وهمست لنفسها :
- لقد اتخذت قراري لن افقده !
ولكنها برغم ما حاولت لم تستطع الافلات من وخز ضميرها الملح لقد قال لها جو قبل ان يصطحباه الى المار بساعه في حزم ان عليها ان تتيح لبول مقابلة ذلك الاخصائي مهما تكن النتيجة. فلما تشبثت بعنادها قال وهو يوشك ان يفقد زمامه:
- هذا مسلك اناني وضيع يا تيسا ! مهما تقولين فأنني سأتصل بالرجل شخصيا وسأعمل على ان يفحص بول وعليك ان تعودي نفسك على هذا !
- لست ارى كيف تستطيع تدبير الامر بدون معونة مني ؟
- بل ستعاونين, وعندما يحين الوقت !
قالت وقد اشتد شحوبها وضطرب عقلها وقلبها :
- لن اعاونك .. لن ادع بول يعرف شيئا عنه !
ومن العجب ان غضبه تبخر وعاد صوته لطيفا مشفقا وهو يقول :
- ستعيدين التفكير في الامر , انني موقن من هذا , لا شيء الا لأنك ... تيسا !
وتطلعت اليه والدموع تترقرق في عينيها , وقالت وهي ترتجف :
- انه رجلي .. ملكي ! لن ادعه يذهب . انني لقادره على ان ابصر له وسأفعل على الدوام !
فعاد يقول بذلك الصوت الرقيق :
- ولكنك لست سعيده يا تيسا !
- انا هكذا ! اسعد مني لو لم احظ به على الاطلاق .
وبرغم اطمئنانه وتغيير لهجته , عاد في النهاية يؤكد عزمه على الاتصال بالطبيب قائلا انه سيكتب اليها فور ذلك وظلت صامته عنيده ولم يعودا الى هذا الموضوع .
فهل ترى سيتصل جو بالطبيب؟ ما من شيء يمكن ان يفعله بدون تعاونها , وهي لن تسمح به !
وردها الى ما يحيط بها صوت بول :
- لابد اننا اشرفنا على القمة .
فقالت :
- نعم والمنظر من اروع المناظر كما قلت يا بول.
واذ سألها ان تصفه له اخذت تقول :
- انها اشبه بخريطة بارزة الى الشمال سلسلة جبالنا جبال كيرينيا وتبدو رؤوسها من هنا مدببة كما تبدو قاتمه,لأن المسافة تجعل السماء فوقها بلون الارجوان كلا بل البنفسج ولكنه باهت , اذا ادركت ما اعني والى الجنوب تبدو قمم جبال ترودوس كالحراب الشديدة الميل, انك لتستطيع التكهن يابول بأن الثلوج اذ ابت تحولت الى سيول مثيرة لأن التلال كثيرة الحفر والاغوار بفعل سيول سابقة هل تكسو تردودوس ثلوج كثيرة ؟
- نعم , عادة وان لم تهطل الثلوج كثيرا في هذا العالم على ان الناس يأتون هنا لممارسة رياضات الشتاء .
ومضت تصف السهول المكسوة بشجر الخروب التي كانت تنبسط كالمروحة من التتوءات الخفيفة في السفوح وتمتد على مدى البصر . وكانت تيسا تشعر بأنها موضع اهتمام لدى زوجها , وقد اختفت اللامبالاة ,السخرية والازدراء.
ولم تعد ظلال الكراهية تتجمع لتؤلف حاجزا بينهما كا يوم انسجام اذكى روح تيسا فتمنت لو ظلا كذلك.
اما المناسبة الثانية فكانت في حفلة زفاف بالقرية , الزفاف الذي لم يقدر لجو ان يحضره وقد سبقت الزفاف طقوس الاعداد فاذا العروس تتهيأ وكل رفيقاتها يحطن بها في ابهى الثياب والزينة بينما العريس يقص شعره لأخر مرة كأعزب يحيط به عشرات من اصدقائه يتفهون ويضحكون , كل ذلك في مرح وعدم تكلف واخذ الرجال يرقصون حول حشية زينتها الفتيات بأشرطة في اركانها وقذف بطفل ذكر الى الحشية يتواثب عليها ,
وكان المرح اكثر انطلاقا بعد القران والعروسان يغادران الكنيسة والقرية بأكملها تتابعهما قالت تيسا لبول وهما ينطلقان بالسيارة الى دارهما :
- هل استمتعت بالحفله ؟
- نعم .
وفي اليوم التالي عاد لوجومه واكتئابه وعزلته , فجلس طيلة الضحى والعصر في الحديقة في سروال قصير ونعلين خفيفين وكأنما كان جسده الاسمر في مناعة من حرارة الشمس . ولكم بدا موفور الصحة ,
وراحت تيسا تتأمله من الشرفة دون ان يفطن متربصة لاي خطر قد يهدده من الثعابين برغم انها كانت نادرة في تلك المنطقة .
*******
وفي الايام القالائل التالية لازم بول غرفته مستلقيا على فراشة ومصاريع النوافذ الخشبية مغلقة فلم يكن يغادرها الا في اوقات الوجبات او بعد الغروب والهواء عليل ولقد دخلت عليه تيسا حجرته مره مجازفة بالتعرض لضيقة وسألته :
- هل تشتد بك الآم رأسك ؟
فصرخ فيها :
- اخرجي ... واغلقي الباب !
واغلقت الباب فحجبت النور ورجعت بخفة لتقف الى جوار سريره تطل عليه وفي اعماقها معركة محتدمة وكانت تحاول تهدئة ضميرها بأن جو قد يكون مخطئا ولا احتمال هناك لأمكان ارتداد البصر الى بول فمن القسوة اذكاء اماله اذا كانت لن تلبث ان تهوي مهشمة .
واستباحت لنفسها ان تجلس على حافة السرير وهي تقول :
- ارجوك يابول .. دعني امكث معك , انك تستلقي مستيقظا وبوسعي ان اتحدث اليك .
فصاح :
- لا اريد حديثا لاسيما منك بالذات !
واجفلت لماذا هذا التخصيص؟ ولكنها تمالكت نفسها وهمست :
- لا اطيق ان اراك هكذا .. اريد ان اكون معك فلا تطردني انني سأجلس ساكنه .
ولم ينبس ببت شفة فترة حتى اذا تغلب على جفوته سألها :
- ما جدوى هذا لك ؟
وبعثت امالها لهجته فقالت برفق :
- لا اريد سوى ان اكون معك .. ان اكون بقربك .
وتمنت لو كان بوسعها ان تخفف عنه ويبد متردده متهيبه مست جبينه ولم يزح اليد لدهشتها بل بدا كأنه ارتاح اليها وتمتم :
- لا تريدين سوى ان تكوني بقربي !
وغاب في افكاره اكانت خدعه من الضوء المتسلسل خلال مصاريع النوافذ ام ان شفتيه اكتسبتا رقه حقا ؟
جلست ساكت تتأمله وتتذكر ما استولى عليها من شعور بأن عداء جديدا خامره نحوها , فاثار صارعا في نفسه , واستعادت ما قاله جو بهذا الصدد . وكا لبث ان لاحظت ان جسم بول اختلج فجأة , وكانما استرخت كل عضلة فيه وتخلص من كل توتر وألم وكانا يعتريانه , ورفع يدا تحسست الهواء حتى استقرت على يدها . وبدا صوته لطيفا وهو يقول:
- اتجلسين هنا في الظلام .. لمجرد ان تكوني بقربي ؟
فقالت بصوت متهدج :
- أوثر هنا على أي مكان اخر .. لا اريد الا ان اكون حيث تكون .
وتحسست اصابعها يدها وقد ارتسمت على شفتيه نصف ابتسامة وما كان من سبيل في هذه المرةلاغفال الرقة التي سرت الى وجهه . وقال :
- الا تشكين ابدا , مهما كانت معاملتي اياك؟ انك لا تتلفظين بكلمة شكوى ابدا .
وحملقت فيه لحظة كانت حاله هذه جديده عليها وما لبثت ان قالت :
- بأي حق اشكو ؟ انني جئت اليك بمحض ارادتي !
- اكنت تظنين انك ستحظين بحبي ؟
وغص حلقها فقاومت لتقول :
- كنت اظنني سسأحظى بحبك .
فسحب يده ولكنها ظلت تشعر بملمسها ورفعت يدها عن جبينه . وسألها :
- هلا اخبرتني ما الذي جعلك متأكده من انك ستحظين بحبي ؟
- انت قلت انك مستعد لتقبل عودتي وما خطر لي انك كنت تأمل في الانتقام.
- ولو خطر لك ؟
وافلتت بضع شعاعات الشمس من خلال النوافذ فوقعت على وجهه وتوقعت ان يحجب عينيه ولكنه ل يبد ادنى عدم ارتياح , وتأكدت تيسا كذلك ان آلام رأسه لم تكن شديده القسوة لأن اختلاجات الألم تلاشت من وجهه وعاد يقول :
- اكنت تجيئين الي لو ان ذلك خطر لك ؟
تروت مفكرة ثم هزت رأسها في حيرة وقالت :
- لست ادري يابول .. بل كنت اجيء فيما اظن لانني كنت ولازلت أمل ان تصفح عني يوما من جراء.. .
وبحثت يده عن وجهها وضغطت اصابعه على شفتيها . يا للحركة المدرهشة ! لقد تعمد الا يدعها تكمل ما كانت تهم بقوله يستعذب جهارا انغامسها في الشعور بالذنب !
وبارحت اصابعها شفتيها وراحت تتحسس كل خط في وجهها وتنحدر الى عنقها فكتفيها ثم تمس في رفق جبينها ومتتبعه مفرق شعرها وبدتت الصمت زفرة مرتجفة ندت عنه كانت لحظة مثقلة بالتوتر وبول من نوع الشرود وتيسا تترقب في لهفة وقلق وما لبث ان قال وقد عادت يده الى جانبه :
- اشعر للتو بأنني احسن حالا , وقد توقف ألم رأسي .
ثم استوى جالسا وقال :
- اتعرفين ياعزيزتي ؟ اشعر برغبة في الخروج الى أي مكان .
فأقترحت متحمسة ان ينطلقا بالسيارة في جولة .
وغادر الفراش وعلى شفتيه ابتسامة وعلى وجهه سماحة ما راتها من قبل محت كل اثر للخشونه والقسوة عن القسمات الميحة التي اجتذبتها كل اثر للخشونه والقسوة عن القسمات المليحة التي اجتذبتها منذ لقائهما الأول , وطوقها بذراعيه , وضمها في حنان جديد غريب وكانما كان يستجيب لدافع كان في استحايء منه بيد ان تيسا كانت قانعه شاكرة لكل ما يجود به .
وما هي الا ساعه حتى انطلقا بالسيارة مصطحبين غدائهما . ما شعرت تيسا ابدا بمثل هذه لسعاده منذ فترة السعاده التي كانت تجهل بها ية زوجها , فقد كان فرط الحنان متحررا من الألم وسألته وقد اجتاز وسط كيرينيا في اتجاه البحر :
- اين نذهب ؟ انمضي هكذا ونتأمل المناظر ؟
زلة نادرة ما كانت ترتكبها , فحبست انفاسها وكم ارتاحت اذ رأته يبتسم قائلا :
- هذه فكرة طيبه فقد نصادف شيئا يبعث الابتهاج .
اومضت عينا تيسا فما خطر لها ان تكون هذه هي النتيجه عندما دخلت غرفته على وجل تتوسل اليه ان يسمح لها بالبقاء بجواره لقد بدا خلال حديثهما وهو يستلقي في الفراش انه يعاني من اللامبالاة عقلية وانطواء مهموم تسلطا عليه منذ حادث الثعبان وكانها فرضترؤية ايحائية ذاتها عليه .
ولم تتمالك ان تسأل نفسها: اترى حبها قد نفذ اخيرا خلال نقطة ضعف في تكوينه , وما لبثت ان قالت :
- اننا نجتاز الآن مروفو واشجار البرتقال باسقة ولكن الثمار غابت .
ورمته بنظرة سريعه فاذا ملامحه مرتاحه مسترخية وارضاها انه كان يضارعها استمتاعا بالرحله وعادت تقول :
- الخليج جميل يابول والبحر بلون السماء وهناك ضباب رقيق شفاف مهتز ويبدو كأنه يطفو فوق البحر , اظن ان اليوم سيكون حارا .
- اذن فلنذهب الى البحر . هل احضرت لوازم السباحه؟
- انها في السيارة دائما . اتود ان اختار الآن بقعة ؟
- فيما بعد , عندما يشتد الحر فعلا .
وواصلا التجوال في السيارة وسألته ايذهبان الى اطلال قصر فوني فوفق ,حتى اذا بلغا القصر لم يجدا احدا هناك .وشعرت تيسا وكانهما اوتيا عالما خاصا بهما واخذت تصف له المعالم وقالت :
- اننا على قمة تل الموقع ممتاز فالبحر تحتنا وجبال ترودوس في الناحية الاخرى .
وبعد طوافهما وجدت تيسا بقعة مناسبة للغداء فبسطت سجاده على الارض وكان الصمت الشامل يلف المكان فلا حركة ولا ضجة حتى وجدت تيسا نفسها تتكلم همسا :
- الشطائر يابول .. سأضعها هنا امامك , اتتناول شراب الليمون او شرابا ساخنا ؟
- أي شراب ساخن لدينا ؟
- شاي وقهوة .
وفضل القهوة ثم فطن الى لهجتها فقال في عجب :
- لماذا تهمسين ؟
وترددت في السكون ضحكة صغيرة رنانه وقالت:
-رهبة المكان .
ضحك بول فحملقت مشدوهة هل سمعته يوما يضحك هكذا ؟ بل ان كلا منهما لم يضحك منذ اطلعها على غايته من الزواج منها وظلت تحملق وهي تتبين جاذبيته كرجل فسألها :
- فيم تفكرين ؟
ثم اردف شبه آمر :
- اخبريني !
ولأول مرة احست بسيادته غير ممتزجه بكراهية فقالت :
- لاشيء.
- انك بعزوفك عن اطلاعي على افكارك تثيرين فضولي .
لم تجد مهربا فقالت :
- قد يفسد ما سأقول يومنا .
ولكنه الح فقالت :
- خطر لي ان كلامنا لم يضحكك كثيرا .
وانتظرت موجسه فأدهشها الا يصدر ردا لاذعا ولا جوابا خشنا يذكرها بانه ما من شيء يستحق الضحك . بل انه استدار نحوها فأذهلها ان ترى امارات ندم تغشى وجهه الوسيم وقال في لهجة رقيقة :
- لم نضحك كثيرا .. لعلنا نبدأ الآن في الضحك .
وغمرها انفعال عاطفي اعجزها عن الكلام .
وفي طريق العودة وجدت خليجا جميلا فسيحا ثم استلقيا تحت الشمس لكنهما لم يتبادلا سوى كلمات قليلة خلال عودتهما في الاصيل , استولى عليهما سكون غريب اخذت تيسا تحاول تبديده بوصف بعض المناظر الطبيعيه التي حفت بالطريق فقال بول :
- حديثك عن هذا الطريق يجعلني اخاله من اجمل طرق الجزيرة !
وما لبثت ان جنحت بالسيارة الى جانب واوقفتها قائلة:
- اشجار الرمان متد على طول هذه المنطقه وتبدو كأنها ضباب بديع الحمرة سأحضر لك زهرة .
واقتطفت مع الزهر وردة برية اودعتها عبيرا فواحا ملأ السيارة وتلمس بول زهرة الرمان ثم تناول الورده فقربها الى وجهه وبعث التغيير الذي طرأ على ملامحه شعورا غريبا لدى تيسا تولتها رغبة طاغية في ان ترى ما وراء نظارته القاتمه التي اصبح يرتديها باستمرار !
كان اليوم مثاليا ولكن تيسا صدمت حين ذكر بول بمجرد وصولهما الى البيت انه عزم ان سأوي الى فراشه وذهب الى غرفته تاركا ايها وفي نفسها شعور بأنه عاد يعاني من الصراع الداخلي !
واستلقت على سريرها مستيقظة ثم جلست محاولة ان تقرأ لكنها لم تفقه شيئا ترى أكان بول نائما ؟ وقادها دافع طاغ للخروج الى الردهة واوحت اليها غرزتها بانه هوالآخر كان مستيقظا فوقفت عند بابه في هدوء وارهفت سمعها لم يكن ثمة صوت ما .
ودفعت الباب بهدوء كان بول يقف امام النافذه الفتوحة لا يكسوه سوى سروال البيجاما وكأنه تمثال على خلفية من سحب يتخللها القمر ورأسه مرفوع في شمم وكتفاه مستقيمان في اعتداد , وهواء الليل العليل يداعب وجهه وينثر شعره الاسود في فوضى ....
ظلت تيسا طويلا تتأمل زوجها الساكن فجأة التفتت فأدركت انه احس بوجودها , واسرعت تهتف بأسمه لكنه
لم يرد لبرهة ثم اجاب في شيء من الحدة والضيق :
- ماذا تفعلين هنا؟ وجرحت لهجته مشاعرها ولكنها قالت :
- لم يواتني النوم .
ثم سارت الى جواره وقالت :
- انت ايضا لم تسطع ان تنام .
فتساءل وقد شعرت في لهجته بشيء من العجرفة :
- وبعد ؟
- هل استطيع البقاء معك فترة وجيزة ؟
تصلب جسمه فعبست : هل عاود الصراع؟ كان يناضل ويتمزق في نضاله , فقالت هامسة :
- قد يحسن ان انصرف انني اسفة اذ ضايقتك يابول .
وكانت قد بلغت الباب حين تكلم وبدا لها انه كان ينتزع الكلمات :
- كلا تعالي .
ورجعت ببطء ولكن في لهفة سارت اليه .....
- يافتاتي الصغيرة !
وتسرب الصراع في زفرة عميقة مرتجفة .
وغممت في خفوت بعد فترة طويلة ونور الفجر يتسلل :
- بول اترى ! هذا جزء من العقاب ؟اتراك تعبث بي من جديد ؟
فاشتد تماسك ذراعيه حولها , حتى احست بوجيب قلبه فوق قلبها وتمتم في رفق ولين :
- ليس هذا من العقاب .. اعبث بك ثانية .
9- صندوق البريد
كان الدفء والوثام اللذين خيما على علاقتهما من ذلك اليوم اذارها عليهما فاذا تيسا تتفتح مزدهرة ازدهارها في الاسابيع الـ3 الاولى لزواجها دون ان تحفل بأن ما اولاها زوجها من حب وحنان انما كانا في الواقع موجهتين لأختها .
فهي حين بدأت هذا الانتحال لشخصيتها كانت قد هيأت نفسها لتقبل ما ينالها شاكرة ممتنه . اما بول فقد بدأ اذ بسط اخيرا عفوه على لو سيندا كما لو كان قد ازاح عنه عبئا ثقيلا وانعكس عذا على اختفاء ألام رأسه على انها لم تلبث ان عاودته ثانية بمجرد ان اقنعت تيسا نفسها بأن تلك الالام انما كانت منبعثة من الارهاق العقلي والنفسي بدون ان تكون ذات صلة بعينية .
وكان راقدا حين جاءت اليه بعد الغداء وسألته :
- هل الالام شديدة يا حبيبي؟
- اجل ياعزيزتي .
يبدو ان الصيدلي غير قادر على اعطاءك دواء ناجحا .
فمد يده سعيا الى يدها قائلا:
- بذل قصارى جهده .
ورفع يدها الى صدغه قائلا :
- هكا افضل .
وتنهد فغص حلق تيسا كان جو قد نفذ فكرته واتصل بالطبيب الذي ابدى اهتماما بالغا واعرب عن رغبته في رؤيته وكتب اليها جو بعد رحيلة بـ10 ايام :
- انني واثق انك اعدت التفكير واذا اخبرتني بموعد تستطيعين فيه احضار بول الى لندن افني سأدبر لقاءه بالطبيب ويدعى جون ريد وهو مهتم الى درجة انه وعد بأن يفحص بول في أي وقت . اخبرته كل شيء عن الحادث وما اعقبه من فقدان بول البصر . ومن الطبيعي انه كان متحفظا في تعليقاته ولكنه اوحى لي بأنه متلهف الى ان يفحص بول فلا تترددي يا تيسا واتوقع ان تردي عاجلا .
كان بول اذ ذا قد تحرر من الآمه فأهملت تيسا امر الرسالة ولكن هاهي ذي الآلام تعاوده وقالت له :
- هل اغسل رأسك بالماء البارد ؟ لقد خفف عنك هذا مرة من قبل .
فابتسم بول في وهن وتمتم :
- افعلي اذا شئت ياعزيزتي .
وادركت ما وراء كلماته وضغط يدها ثم قال :
- تبين لي انه ما من شيء يخفف عني ويجب ان اروض نفسي على تعود هذه الآلام وان كنت لا افهم لها سببا .
وسحبت يدها وقالت في رفق وهي تحاول بدون نجاح ان تقصي عن ذهنها ما ورد في رسالة جو :
- اتود ان تخلد الى النوم ؟ هل اتركك يا عزيزي .
- لفترة وجيزة فأني واثق من ان ما بي سيزول بعد قليل ثم اردف :
- هذه الحياة كئيبة بالنسبة اليك ستخرج الليلة لتناول العشاء في ماريه مونتي . ايروق لك هذا .
هكذا كان بول منذ زيارتهما الى اطلال فوني شديد الرعاية لها فبادرت قائلة :
- لا بأس اذا كنت احسن حالا يا بول اما عن حياتي فاني في كامل السعاده والقناعه لمجرد وجودي معك .
****
وبعد ساعة كانت تيسا في الفناء المكسو بأشجار الصنوبر تتمشى مشغولة البال كانت سعيده ولكن, هل هو سعيد ؟
ومرت الدقائق بطيئة مليئة بالشجن , حافلة بالصراع بين عقلها وضميرها , كان جو متفائلا لأهتمام الطبيب بحال بول وكان قلبها يصرخ ضد هذا الاتجاه عندما ظهر بول وكانه ما عانى من الصداع طيلة عمره فطرحت عنها هواجسها وترددها وخفت اليه وهي ترفع الشكر لله وسألته :
- هل انت احسن حالا ؟ انك تبدو بخير !
واتجه الى المقعد مسترشدا بعصاه وجلس قائلا :
- اجل زال الالم , لعله الحر .
فقالت متشبثه بتعليله:
- اجل قد يكون الحر هو السبب , هل احضر لك شرابا ؟
- كلا يا حبيبتي بل اقرأي لي .
ودخلت الدار لتحضر الصحيفة فاذا معها رسائل احضرها تاكي من القرية وكاد قلبها يتوقف اذ تبينت خط جو على احداها وبيد مرتجفة فضتها فوجدت فيها ورقة واحده بدأها جو بدهشته لأنه لم يتلق منها ردا ثم مضى يقول :
- اتصل بي الطبيب في الاسبوع الفائت ثم عاد يتصل هذه الحاله وقد ألح في ان يرى بول وهذا ينبئ بأنه متفائل فأمل ان تفعلي شيئا ليس لك ياتيسا ان تحرمي بول من فرصة اكتبي لي فورا .
وسحقت الرسالة في قبضتها وتناولت الرسالة الاخرى فاذا بها من ابيها ثم حملت الصحيفة القبرصية التي تصدر بالانكليزية . عذوووب
وخرجت الى زوجها وكانت الصحيفة ورقة واحده وسرعان ما اتت عليها ثم دفعت جهاز الرادؤو الى زوجها تاركه له ان يهتدي الى المحطة التي يختارها فانبعثت انغام البزق خافته
وتناولت تيسا رسالة ابيها فاذا بها ينبئها بزفاف لوسيندا متفاديا بكل لباقة ما اذا كانت اختها افتقدتها . كانت لوسيندا تعلم ان تيسا تعمل بالتدريس في قبرص ولكن لم تكن لديها فكرة عن مكان بول .
كانت تعتقد مثل كثيرين انه يعيش في عزلة في احدى الجزر اليونانية ومضى ابوها يقول :
-اما وقد ظهر ان زواجك موفق الا ترين ان نطلع امك على السر؟ لقد كان الخداع من اجلها لتجنيبها القلق ولكني لا ارى داعيا ما مدمت سعيده لأن تظل جاهلة بزواجك .
التفت اليها بول متسائلا :
- ماذا تفعلين ؟ انك هادئة تماما !
وكرهت ان تكذب عليه ولكن الخطاب لم يكن يحتوي على ما يستحق ان تقرأه له فقالت :
- انني افكر فقط .
ولم تدر اكان صوته ينم عن فضول ام انها كانت واهمه اذ سألها :
- فيما تفكرين ؟
- في ابي وامي .
ورفع حاجبيه في دهشة بسيطه وقال:
- فيهما وحدهما ؟ اخوتك ؟ واختك ؟
فقالت وقد بدأت تلتزم الحذر :
- انني افكر فيهما طبعا ولكني في هذه اللحظة كنت افكر في ابي وامي .
وصمت برهة منصتا الى زقزقة العصافير ثم سألها :
- ما رأيك في ان نزورهم ؟ سيكون التغيير مبهجا لنا . ونستطيع كذلك ان نزور بعض الاصدقاء .
وحول رأسه نحوها وكأنه سيبصر اثر كلامه !
- الاصدقاء ؟ كلا لا اريد زيارة انكلترا .
فهتف :
- بتاتا ؟ ولكن ياحبيبتي ...
واسرعت تقطع عليه كلامه قائلة بصوت مرتجف وهي تحاول تمالك جأشها :
- ما عنيت هذا .. سنذهب الى انكلترا طبعا ولكن ليس الآن يابول في العام المقبل !
وتفرست في وجهه الاسمر القوي وكأن قسماته نحتت لتنم عن جمال ونبل ولغير ما سبب واضح رأت العينين الثاقبتين تحدجانها في شيء من الضيق المتعالي
وسمعت لهجة الازدراء الخافته التي كان يتحدث بها عنها الى جو في الحفلة التي اقامها هذا في انكلترا لقد اصبحت العينان تتواريان خلف نظارة قاتمه وكان صوته يفيض حنانا المفترض انه موجه الى لوسيندا حين قال :
- حسنا جيدا يا حبيبتي العام المقبل اذا كانت هذه رغبتك .
وغمرها الارتياح لها ان تطمئن حاليا اما المستقبل فلتدعه للغيب !
*****
ووصل خطاب اخر من جو في الاسبوع التالي .. لم يحاول جو فيه ان يجاملها بل اتهمها صراحة بالانانية فبادرت بالكتابة اليه في اقتضاب ذاكرة انه ما من شيء يمكن فعله وان من القسوة عرض بول على الطبيب ليواجه في النهاية بان لا امل لعلاج حالته !
****
كان حر نهار يوليو قاسيا فأقترحت تيسا ان يقوما بجولتهما على المتاجر بسرعه ثم يغادران المدينة بسرعه وكانا قد ذهبا الى نيقوسيا لابتياع بعض الثياب لبول .
وجاء عامل احد المتاجر لبول بقميص فقالت تيسا :
- ان القميص اخضر هل تريده اخضر ؟
- أي درجات الخضرة ؟
- اخف قليلا من الزمردي .
وحانت من تيسا التفاته الى البائع فاعتصر قلبها ان لاحظت انه كان ينظر الى بول في دهشة يخالطها الرثاء , وكأنه يقول :
- لماذا يعتني هذا الاعمى نفسه بتعرف اللون ؟
ودفعت الى بول بقميص اخر قائلة:
- هاك آخر افضل عليك انه زيتوني اللون والقماش افضل .
فتحسسه ببراعه لا يعرفها سوى المكفوفين وقال :
- نعم هذا اجود ولكن اخبريني باللون تماما . عذوووب
واختنق صوتها وترقرقت الدموع في عينيها ما رات زوجها ابدا عاجزا الى هذا الحد فقالت باقتضاب وهي تلاحظ البائع من جديد :
- انه يناسبك !
- سأخذه اذا , اية الوان اخرى هناك ؟
وامتدت اصابعه نحو مائده العرض فدفعت اليه بقميص واذا به يسألها :
- اهذا ازرق ؟
وارتعشت شفتاها ولم تستطع الكلام لماذا يداخلها هذا الشعور ؟ لكم ابتاعا من اشياء من قبل ولكن بول كان دائما يعرف ما يبتغي تماما , وبادر البائع بالاجابه هذه المرة :
- انه ازرق .
ثم عرض قميصا اخر قائلا :
- هذا ارخص سعرا ولكنه ذو لون جذاب .
فقالت تيسا :
- انه ارجواني !
هتف بول :
- رباه ! كلا سأخذ القميصين الآخرين .
وفيما هو يدس يده في جيبه ليخرج النقود ارتطمت كتفه بدمية كانت بجواره . ومن الواضح انه لم يدر ماذا اوقع واسرع البائع يرفع الدمية بينما وقفت تيسا ترتجف من رأسها لأخمص قدميها وهي تراقب وجه بول وقد تدافعت اليه الدماء , وتحسس الهواء ليتبين ما حدث فنفضت عنها الجمود وقالت :
- لا شيء يا حبيبي .. لم يحدث أي ضرر .
فقال بصوت اجش :
- لنخرج من هنا وعودي بي الى البيت !
ولم يشأ الانتظار ليأخذ القميصين والقت تيسا وهي تأخذ بيده تقوده الى الخارج بنظرة اعتذار للبائع .
ظلت ذكرى هذا الحادث تلازمه طيلة الطريق الى البيت وراته تيسا مرات يحجب الضوء عن عينيه بالرغم من ارتدائه نظارته . كان من الواضح ان رأسه يؤلمه اذ توالت الاختلاجات على وجهه وابيض ركنا فمه وقالت تيسا اخيرا :
- هناك مقهى يابول اتحب تناول شيئا من القهوة ؟
وتوقعت ان يرفض ولكنه لدهشتها وافق , وجنحت بالسيارة الى ظل بعض النخيل اما المقهى وخف لاستقبالها شاب يوناني انيق اخذ ينقل بصره بينهما في فضول , وهو يبتسم لهما ,وجالت تيسا ببصرها داخل المكان .
لم تكن ثمة نساء بينما حملق فيها الرجال ولكنها كانت قد اعتادت هذه النظرات وقال بول وهو يتحسس موقع المقعد ويجلس :
- ارجو ان تحضر لنا قهوة , قدح قهوة تركية وقدح قهوة بالحليب .
وقال الشاب وهو يقدم اليهما القهوة :
- من أي اجزاء انكلتوا جئت ؟
فأجابته تيسا . وتلكأ لحظات يجاذبها الحديث . وعندما آن ان ينصرفا رافقهما حتى الباب واخذ يلوح لهما حين انطلقت بالسيارة .
كانت هذه الفترة قد ساعدت بول على التغلب على جراحه ولكنه ظل حتى وصولهما الى البيت لائذا بالصمت . وكانت تيسا كذلك واجمه فان حرج زوجها آلمها كما لم يؤلمها شيئا من قبل.
كان عجزه وهو القوي الشخصية والبدن خليقا بان يمزقه بقسوة !
وقال بول اذ دخلا البيت :
- سأرقد .. ولست اتوقع ان انام ولكن يناديني في موعد الشاي .
كان مهزوفا مستضعفا فلم يداخل تيسا شك في مدى عذابه العقلي والبدني . وكانت الرسالة التي كتبتها لجو في حقيبة يدها وقد شغلها ما حدث عن ان تسلمها للبريد فأخرجتها من البريد ومزقتها والقت بها في سلة المهملات .
ثم كتبت رسالة اخرى خشيت ان تتراجع عن قرارها فأسرعت الى القرية لتوعها البريد عند المقهى وقد استولى عليها ذهول عجيب .
ولم تدر كم من الوقت قضت في وقفتها ولكنها فجأة فطنت بشعور مبهم الى حملقة الرجال الجالسين امام المقهى يلعبون طاولة النرد حتى سائق الحافلة التي اقبلت ببعض السياح اخذ ينظر اليها متغافلا عن سياحه وتمهلت امرأتان تعتليان حمارا بينما وقف عدد من الاطفال تحت شجرة وارفة ينظرون في استحياء وكانهم يتساءلون ما حصل لها اذ وقفت تنظر الى صندوق البريد نظرات زائغة !
وتضرج وجهها وتحركت في الشارع القروي الضيق تحف به البيوت العتيقة التي كانت الزهور تتألق في حدائقها وما لبثت ان احتجبت الرؤية عنها وراء الدموع التي ابعثت من عينيها ,
أتراها كافحت طويلا لتظفر بحب زوجها , لاشيء الا لتفقده سريعا ؟ ماذا يكون رد الفعل لديه ازاء خديعتها ؟ لقد استغلت نكبته في بصره وعجزه لتظفر بما كانت تشتهي من التقاها واستبد بها الذعر , وهي تدرك انها لن تقوى على ان تواجهه . لقد اوشك ان يعذبها حتى الموت مرة وهو كفيل بأن يفعل ذلك مرة اخرى , ولكن تعذيبه في هذه المرة سيكون اقسى ..
سيسوطها بعبارات الاستهجان والاستهزاء والازدراء . فلا بد انه سيستشيط غضبا اذ تبين انه تزوج فتاة لم يكن يميل اليها بل كان يراها خالية من الجاذبيه في كل ناحية وكانت تطارده بعينيها عندما كان خطيبا لاختها !
كلا لن تستطيع ان تواجهه ابدا ولكن ما الذي ينبغي ان تفعله واوحت اليها الغرزة بمهرب خلال الطريق الذي هربت خلاله سابقا السعي الى عمل في الخارج .
كان هذا هو المهرب الوحيد المفتوح امامها الطبيب قد لا يستطيع مساعده زوجها وما من شيء يؤكد نجاح الجراحة اذا هو اجراها ولكن عليها ان تستعد !
كان بول نائما حين بلغت الدار ولم يكن موعد الشاي قد اقترب فاستقلت السيارة وانطلقت الى كيرينيا وما كانت قد زارت النادي القروي من قبل لكنها تعلم ان جميع الصحف الواردة من انكلترا فيه .
ولم يضايقها احد بالسؤال عما اذا كانت عضوا بالنادي حين دخلت واجالت بصرها , وما لبثت ان وجدت بغيتها فجلست الى احدى الطاولات وامامها ملحق التايمز التعليمي وفي يدها قلم وورقة وراحت تتفقد المناصب الشاغرة لمدرسين في كندا ... استراليا ... فنزويلا .. هونغ كونغ..
اجل هونغ كونغ !
10- الضوء الجديد
ضوء النجوم فوق الجبل والنسيم المتضوع بشذى الصنوبر وقمر يسري في سماء صافية متأقله واصوات الصراصير الحقل في هواء الليل الساكن ما اكثر ما ينطبع في الذاكرة وتيسا واقفة عند سياج سطح الدار مستغرقة في الآسى ترى منظر اشجار السرو والصنوبر والزيتون والخروب والنخيل المتمايلة وتردد في نفسها :
- غدا الرحيل لاعودة !
وحل الحنان محل الآسى في عينها اذ وقعتا على بول يصعد الدرج منتصب الرأس بقوامه الخفيف الحركة الذي اثار في قلبها رعشة خوف فدعت الله في صمت ان يكلل العلاج المقبل بالنجاح ..فان جون ريد عندما فحصه في الستشفى بلندن قبل اسبوعين بدون جراحه كفيل بان يرد النظر
ولقد قال في تحفظ لست اعد بشيء ولا اجد ما يبرر التفاؤل بنتيجة العلاج الذي ساعطيك اياه .
ولم يتخذ بول قراره بعجلة خشية تصدع قلبه من جراء فشل جديد فعاد الى قبرص دون ان يدرك سوى جو انهما زارا انكلترا على ان بول لم يلبث ازاء الحاح زوجته ان قبل ان يسلم نفسه ليدي جون ريد .
قالت تيسا :
- انا هنا !
وبلغ بول السطح فوضع اصبعا على السياج يسترشد به حتى وصل الى تيسا وعقدت ذراعيها في ذراعيه قائلة :
- رائحتك جميلة !
فأرسل ضحكة صافية لا يثقلها هم مما جعلها تدعو من جديد في نفسها الا يفشل العلاج وقال :
- هذه رائحة الكلونيا بعد الحلاقة !
وتطاولت على اصابع قدميها لتحك انفها بخده قائلة :
- نعم انها لطيفة !
- وكذلك انت !
وطوقها بذراعيه وقال :
- لن البث ان ارك قريبا يازوجتي العيزة الحلوة !
كانت في لهجته رنة غريبة وهزت تيسا افكارها لتفيق لابد ان الغرابة منبعثة عن الاعصاب والتوجس ولكنها خلال الاسبوعين المنصرمين خالت انها تلمس هذه الرنة في صوته كلما تحدث عن العلاج المقبل واحتمال استعادته بصره وغمغم :
- ياحبيبتي .. يا جميلتي ... لكم اهفو لرؤية وجهك !
والتصقت به وطوقت عنقه أهي ليلتهما الاخيرة معا ؟ آخر ليلة يضم فيها بين ذراعية الجميلة لوسيندا قبل ان ينجلي عنه الوهم ؟
ظلا على وقفتهما برهة وكل منهما مستغرق في افكاره وسألت تيسا نفسها : ترى ماذا يفعل لو علم انها حمت معظم امتعتها وارسلتها الى انكلترا فعلا ؟ ماذا يقول لو علم انها في اليوم التالي لدخوله المستشفى في لندن كانت في مقابلة بطرف أخر من لندن كانت في مقابلة بطرف آخر من لندن , من اجل منصب سينقلها بعيدا عنه الى الابد!
منتديات ليلاس
وقال بول اخيرا :
- حدثيني عن الليل , احس الهواء عليلا ونقيا معطرا ازيز الصراصير اسمعه وصيحات خفاش الفاكهة ولكن ماذا هناك غير ذلك ؟
فقالت :
- بدر مكتمل يتقلب بين السحب اجل هناك سحب يا بول ولكنها فضيه والنجوم برك دقيقة من البلور ولون السماء بين السحاب ارجواني عميق تتخلله احيانا مسحات من اللون البنفسجي الزاهي احسب مصدرها شعاع القمر وهو يتنقل بين السحب المتبانية الكثافة ...
وسكتت اذ افلتت منه ضحكة صغيرة وقال :
- سواء أبصرت ام لم ابصر فستظلين دائما ياحبيبتي تصفين لي هذه الاشياء .
دائما , ما اقل ما كان يعرف ! ومضت في الوصف قليلا ثم امسكت وضحكت قائلة :
- انها ليلة شاعرية حقا يابول .
كان توتر اعصابها قد بدأ يؤثر على صوتها كانت عاقده العزم على ان تعيش هذه الليلة بالذات وتكتنزها وتنسى ما قد تاتي به الايام من لوعات ومن سنين خاوية وتحسس بول وجهها وعينيها كان يتوقع ان يلمس دموعا , وسألها :
- ماذا بك ياغرامي ؟
- لا شيء .. مالذي يدعوك للسؤال ؟
- صوتك ,صوتك العذب , فيه حزن !
فاصطنعت ضحكة وقالت :
- ليس حزنا وانما قلقة بطبيعة الحال .
- بشأن العلاج ؟ مهما تكن النتيجة فسيظل كلا منا للأخر .
فتمتمت بالاعتداد الذي تدرك انه يرتقبه منها :
- نعم بول كل منا للآخر .
- ولو اخفقت . ..
ووضعت اصبعا على شفتيه فنحى يدها بلطف ليتم كلامه :
- فستظلين تبصرين لي , وترشدينني .
فأهابت به ضارعة :
- لا تتكلم عن الاخفاق , الطبيب كان شديد التفاؤل ذاكرا ان تغيرا ما ققد حدث وانه بادرة امل .
فقال محذرا :
- خطر الفشل موجود دائما في مثل هذه الحالات انني مليء بالامل طبعا لكني في الوقت ذاته عميث الادراك بانها مقامرة !
مقامرة وخسارة بول فيها كسب لها هي ! ولكنها لم تكن راغبة في الكسب واغمضت عينيها يجب ألا ابكي الليلة , الليلة بالذات ! واراحت رأسها الى كتف زوجها فضمها محتويا ايها وكانه يحميها ولبثا هكذا فترة طويلة .
****
غادرا البيت مبكرين في الصباح التالي وقد ران على تيسا استقرار حزين لامها طيلة الاسبوعين الآخرين ولكنها لم تسمح لدموع القنوط ان تنطلق الا حين اوقفت السيارة في المطار عند عودة بول سينقل السيارة غيرها او لعل بول نفسه هو الذي سيقودها لأول مرة منذ ان حرمه الحادث حبيبته وابصاره !
استقبلهما جو في مطار لندن وقبل ان تفطن تيسا لشيء كانت تغادر زوجها في المستشفى فقد كان لاما ان يمكث تحت الملاحظة لمدة قد تكون اسبوعين ولتيسا ان تزوره يوميا .
سألها جو وهو يقلها بسيارته من المستشفى عن شعورها ااء العلاج فقالت :
- انني راحلة .. اعني اذا كان العلاج ناجحا . واني لأشعر بأنه سيكون ناجحا !
- هكذا اشعر انا ايضا ولكن , ماذا تقصدين بانك راحلة ؟
ثبتت عينيها على الطريق الممتدة وقالت :
- بول لن يردني فيجب ان ارحل قبل نزع الضمادات .
قطب جو جبينه وقال :
- ليس لك ان تهربي من زوجك هكذا . الى اين ستذهبين ؟
- تقدمت لمنصب في الخارج .
- كيف تعرفين ان بول لن يريدك ؟
كان وجهها شديد الشحوب واستعادت كفاحها ونضالها لتظفر بصفح زوجها عنها لشيء لم تكن مرتكبته وشعرت بسخرية لدورها , فقد استعادت للوسيندا الحب الذي فقدته بالجحود والقسوةوالاسوأ ان لوسيندا ما كانت لتفيد من هذا الآن وهذا ما زاد تيسا مرارة وحسرة وتمتمت :
- انه يحب لو سيندا ؟
- ما جدوى هذا له الان ؟
قالت مصححة :
- تعني بل أي خير سيعود عليه من ذلك ! اذا لم يكن قادرا على ان يحظى بلوسيندا فلا يعني هذا انه سيرضى بديلة عنها ويظل زوجا لي !
- بديلة ؟ ان اليونانيين لا يقصون عنهم زوجاتهم بسهولة فالطلاق نادر بينهم .
- ربما لا يطلقني ولكنه لن يبتغي العيش معي من جراء كل هذا .
فهز كتفيه مدركا انه لن يصل الى اقناع تيسا بشيء وهي في حالة كهذه وقال بعد قليل :
- لنتناول شيئا من الطعام قبل ان اقلك الى البيت .
طعام ؟ وشرد ذهنها الى مارية مونتي والامسيات الشاعرية عندما كانت تتناول العشاء مع بول هناك والاضواء والموسيقى .. ترى هل سيذهب بول الى هناك مرة اخرى ؟طبعا فقد كان ذلك المكان مفضلا لديه ولكنه في المرة المقبلة لن تكون معه لتبصر له وان كان لا يحتاج اليها اذا ذاك .
اقلها جو الى البيت بعد ان تناولا الطعام ووعدها بان يوافيها ليصطحبها للنزهة من آن لآخر خلال الاسبوعين التاليين فما ينبغي ان تجلس في البيت مستسلمة للاكتئاب !
وما كان ثمة وقت للاكتئاب الا في الليل عندما يزوغ منها النوم ذلك انها كانت قد ظفرت بالمنصب الشاغر في هونغ كونغ وقيل لها ان عليها الذهاب بمجرد ان تدبر امورها ,
وكان موعد رحيلها يتوقف على مدى سرعة استعادة بول بصره , فقد اعتزمت ان تبقى مع زوجها حتى اللحظة الاخيرة فلا تتركه الا قبيل نزغ الضمادات عن عينيه.
لذلك كانت تشغل كل وقتها بالاستعداد للرحلة واكمال تدابير الاستقرار بعدها وبزياراتها للمستشفى , ولكم حاولت خلال العلاج ان تظفر بمعلومات من الطبيب ومع انها لم تستطع استدراجه شعرت بتفاؤل .
*****
وفي اليوم الذي حددته للرحيل سمعت تيسا في ابهام صوت سيارة تتوقف وكانت مستغرقة في عملية حزم كل مستلزماتها التي تناثرت على ارض غرفة الجلوس في بيت والديها فضلا عن الكتب وادوات التعليم والشرح ,
ووقفت امها في الباب ترقب الفوضى وتهز راسها مستنكرة ثم قالت في أسى :
- ترى كم مرة سنشهد كل هذا ؟
- انا جوابة افاق يا اماه ... واحسبني سأظل هكذا حتى تقعدني السن عن العمل في الخارج !
ماذا تراها تفعل اذ ذاك بعد 10 او 15 سنه ؟
سيكون الجرح قد اندمل ولابد فيتسنى لها ان تستقر في عمل مريح في بلادها . ترى اين سوف يكون بول ؟ هل سيمكث في انكلترا او يعود الى قبرص ؟ من المحتمل ان يكون قد طلقها فلديه كل ما يبرر هذا ؟ كانت تشعر بانه سيبتغي الخلاص منها بأسرع ما يستطيع ؟
لهذا دبرت لنفسها ان تسافر في مساء اليوم بالذات ! قالت الام :
- بماذا استطيع ان اساعدك ياعزيزتي ؟
كانت محزونة لكنها رصينه لقد اصبحت على علم بكل شيء وقد بذلت وزوجها كل جهد ليثنيا ابنتهما عن هربها المتعجل ليقنعاها بالبقاء بعد ازالة الضمادات عن عيني زوجها لتتبين كيف يكون تصرفه ازاء خديعتها
ولكن تيسا كانت صلبة العناد وما استطاعت الام ان تلين هذا العناد بدموعها فتقبلت قرار تيسا تاركة اياها تشكل مصيرها على هواها , اما الاب فلم يتراجع بسهولة وقالت تيسا له ضارعه :
- لن ارتضي ان اوجهه يا ابي هذا كل مافي الامر لقد كان ينفر مني حتى قبل ان أؤذيه.
- ماكان فيما فعلته ايذاء .
- اليس استقلال عماه لأظفر بما اردت ايذاء ؟
- ما ادراك بما سيكون عليه شعوره ؟
- انني ارعف ما سيشعر به حين يعلم بانه تزوجني انا .
ولاذ الاب بالصمت فساور تيسا الارتياح بيد ان امارات غامضة تبدت عليه , ولم تكن قد سنحت لتيسا فرصة في اليومين السابقين لأكثر من مانسبة واحدة فأجاته فيها يتأملها خلسة ثم يهز رأسه وكأنه شارد الذهن في كشكلة مزعجه تبعث فيه شيئا من الخوف .
- وقالت امها وهي بعد واقفة بالباب :
- الا بد من هذه العجلة ؟
- سيأتون لنقل الاشياء في الصابح لهذا سأستقل طائرة الليلة !
كان لابد ان تذهب الى المطار في الساعه الـ5 وكان بول يرتقبها في المستشفى وقد اوصاها الطبيب بالحضور في الساعه الـ4 لتكون الى جوار بول حين ينزع الضمادات عن عينيه وقال الطبيب وفي عينيه وميض انتصار:
- طلب زوجك هذا بوجه خاص فوجهك هو اول وجه يريد ان يبصره .
وجه لو سيندا .. الوجه الجميل .. وجه المرأة التي احبها !.
القت تيسا نظرة على الساعه فاذا بها الواحده تقريبا ,ماهي الا 3 ساعات حتى يبصر بول لقد وعدته بالامس وان لم يدر انها كانت تودعه وقال لها مرات :
- انك هادئة صامته يا عزيزتي .
وكان يلوح لتيسا ان في صوته لهجة السؤال , وان في تصرفه ترقبا عجيبا فكانت تجيب في كل مرة :
- انه الانفعال ... تصور انك في هذا الوقت من الغد ستكون قادرا على النظر !
كان لزاما ان يبقى في المستشفى بعد نزع الضمادات اياما قلائل وان يرتدي نظارة سوداء لفترة من الزمن حماية لعينيه من الوهج .
- نعم سأكون قادرا على ان ارى .. ارك يازوجتي الحلوه الجميلة !
وجثم على قلبها شعور من المرارة. وسرح ذهنها الى لوسيندا التي سعدت بالزواج من شخص اخر والى بول وما سيصيبه من صدمة والى نفسها ... وهي العاشقة في استماته .ولكنها لا تحظى بحب محبوبها . عذوووب
واستطاعت تمالك نفسها ولكنها احست بقلبها يموت انها النظرة الاخيرة وهي تلتفت اليه قبل ان تخرج وتغلق الباب . وملأت الدموع عينيها وتعثرت وهي تجتاز الردهة لقد ذهبت وغاب بول عن حياتها الى الابد !
****
وردها الى الواقع صوت امها تهتف برقة :
- تيسا ايتها العزيزة !
وانبعث في تلك اللحظة رنين جرس الباب فأطلت من النافذة كانت هناك سيارة اجرة في الخارج , ولكنها لم تلمح الذي نزل منها .
كان الاب قد فأجاها بالعوده الى البيت في موعد الغداء على غير عادته زاعما انه شعر بوعكة .. غير انهما حارتا في روح معنوية طيبة حتى انه راح يغني بصوت خفيض وهو في الحمام .
لاحت من تيسا نظرة الى المرآةفاذا شعرها مشعث وانفها لامع وثوبها كان صدره متسخا بشكل واضح ووجمت مكتئبة لمظهرها .
واحست بانها تود ان تهرب بعيدا , اميالا بعيدا عن الغرفة والفوضى المحيطة بها , وكل شيء حتى عن حياتها !
وقطبت امها جبينها في حيرة , اذ سمعت صوت زوجها يسأل :
- اذن فقد جئت ؟
وتساءلت امها :
- ترى من يكون هذا ؟
فهت تيسا رأسها في صمت وهي تجمع بعض اشيائها وسمعت لارلف6صوت ابيها يقول :
- انها هنا... كنت قلقا خشية الا يسمحو لك بالمجيء!
وبعت ذلك غمغمة غير واضحة بين الرجلين , فدبت الحياة في تيسا واسرعت تجر اليها الصناديقوالحقائب في نصف دائرة كان تصرفا غير ارادي وكأنما شاءت ان تقيم حاجزا دفاعيا ,وفطنت الى ان شكلها ولابد يثير الضحك وسط هذه الفوضى .
ورفع رأسها وهي متقطعه الانفاس فاذا بول في فراغ الباب والنظارة السوداء تحجب عينيه ومع ذلك احست بأنه يجيلهما في الغرفة غير مصدق , قبل ان تستقرا على وجه زوجته المحتقن بالدماء . وكانت السابقة الى الكلام , اذ هتفت بصوت مشروخ ومرتجف :
- بول !
ومع انها نطقت بأسمه فان ذهنها لم يكد يستوعب واقع وجوده واردفت :
- هل جئت تنشد , لوسيندا ؟ ولكنها انا ... .
وتقطع صوتها مخلدا الى الصمت .. كيف جاء ؟ وسمعته يقول :
- بل جئت انشد زوجتي !
وارتجفت وهي تقول :
- نعم اعرف هذا ... ولكن يا .. بول , انك .. انا ... انك متزوج من .. .
وامسكت تبحث عن كلماتها ثم قالت :
- اوه يابول انا لست لوسيندا !
وحجبت وجهها براحتيها فأزال النظارة عن عينيه لحظة ثم تقدم منها وتوقف عند الحاجز الذي اقامته وقال في هدوء :
- انني ارى انك لست لوسيندا !
ازاحت يديها عن وجهها ونسيت للحظة خاطفة كل شيء الا ان زوجها استرد بصره .. وامتزج صوتها العذب بعجب وحنان طاغيين وهي تهتف :
- انك تبصر !
انهما العينان الداكنتان اللتان اسرتا قلبها يوما . العينان اللتان اوسعتهما يوما ازدراء وعدم اكتراث .. العينان اللتان كانتا تفيضان بالحب والحنان للوسيندا .. واعادت تقول :
- انك تبصر !
انطلقت الكلمتان مع زفرة عميقة .. لقد ضاع زوجها منها الى الابد , ومع ذلك فما كانت تملك سوى ان تفعل ما فعلت لو دعيت لذلك مرة اخرى وقالت :
- لماذا نزعوا الضمادات قبل الموعد ؟ كيف... ما الذي دفعك للمجيء ؟
وقبض الخوف على فؤادها اذ بدا لها ان عينيه كانتا ترمقانها بقسوة وحده .. ولم يجبها على الفور .
وتبينت لدهشتها ان الكلمات استعصت عليه .. وتحركت شفتاه ولاحظت ان جانب صدغه ينبض بشكل غريب .. اكان من الغضب بحيث امتنع عن الكلام ؟ وانحرفت نظراتها الخائفة الى والديها فاذا بهما واقفان وتساءل اخيرا في صوت خافت :
- ما كل هذا ؟ اتعتزمين السفر ؟
وندت عنها شهقة خافته , احست بأنه غير واثق من نفسه وقالت :
- انني راحلة الى هونغ كونغ .
- اصحيح هذا ؟
واعاد النظارة الى مكانها اما عينيه وهو يجيل بصره فيما حوله اين فورة غضبه ؟ على العكس سمعته يقول :
- ولماذا هونغ كونغ ؟
- انهم بحاجة الى مدرسين .
وسكتت فقد اصبح الموقف بأكمله غير معقول, واحس ابوها بذلك فقرر ان يخف لنجدتها , وقال وزوجته تنقل بصرها بينهما تكاد لا تفقه ما يجري :
- تيسا يا ابنتي انا ذهبت لأرى بول في المستشفى هذا الصباح , واخبرته بكل شيء فأقنع الطبيب بأن يرفع الضمادات . ليس هذا فحسب بل بأن يسمح له بالخروج ساعه ليأتي قبل ان ترحلي !
وصاحت السيدة بلين في عجب :
- هل ذهبت الى المستشفى !
وتجاهل السيد بلين دهشتها وقال لبول:
- اظنك الآن قادره على ان تتولي الموقف !
وشاعت في وجه بول ابتسامه وقال :
- شكرا .. نعم بوسعي ان اتولاه !
وازاح السيد بلين الحقائب والصناديق جانبا ثم انسحب مع زوجته وماهي الا لحظات حتى كانت تيسا بين ذراعي زوجها , ولكنها حائرة وقد تسارعت دقات قلبها بشده :
وغمغمت, وهي لاتكاد تصدق :
- انا ؟ انا حقا ؟
ورفعت عينيها وهما تشرقان بالفرح , واستأنفت :
- منذ متى كنت ترعف ؟
- ساورني اول شكل عندما قرأت لي احد خطابات والدك !
- اجل اتذكر هذا لقد ظللت يوما او يومين خائفة !
- خائفة اذا فلا بد ان ارتيابي سرى اليك بطريقة ما .. فما اظنني كشفت عنه .
وتحسست يده جبينها بحنان وتابع حديثه :
- وعرفت عن يقين , عندما هاجمت ذلك الثعبان ! عذوووب
وتراجع قليلا ليتأمل عينيها وقال :
- لعلك لم تكوني تعرفين ان لوسيندا ترتعب من الثعابين . اذ اصطحابتها مرة الى حديقة الحيوانات واضطررنا الا نبقى في بيت الافاعي لحظة, لأنها تجمدت من الرعب . وفي مرة اخرى اخرى كنا في الريف فرأينا ثعبانا صغيرا رفيعا من النوع الذي لا يؤذي .. واذا بلوسيندا تصرخ وتجري الى السيارة فلم افلح بعد ذلك في اقناعها بمغادرتها . وهكذا ترين يا حبيبتي , انني ادركت ان التي انقذتني من الثعبان لم تكن لوسيندا !
قالت دون تفكير :
- ولكن ... اذا كانت تحبك فهي خليقة بان تنسى خوفها اعني , يكون خوفها من اجلك انت وحدك !
وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة وقال في ازدراء :
- ارى ان لا نتكلم بعد الآن عما تسمينه حب اختك !
فانكمشت في احضانه وارسلت زفرة طويلة راحت تردد خلالها :
- كلا .. اهي انا .. انا حقا ؟
فرفع وجهها باصابع حانية وقال:
- اهذا يدهشك ؟ ما اقل ما تعرفين نفسك .. انك احلى واروع زوجة يستطيع ان يحظى بها رجل ولست ادري لماذا اخترتني من دون الآخرين لتجعليني اسعد رجال العالم حظا ؟
وكان يتحدث بتواضع غير معهود فحاولت ان تمنعه ولكنه تجاهل محاولتها وقال :
- كيف كنت بهذه الحماقه في البداية ؟ كنت اذ ذاك اكثر عمى مما اصبحت بعد ذلك , اذ لم اميز بين الذهب والنفاية ! وكنت مفعما بالكراهية والاشمئزاز عندما جئتني معتقدا انك لوسيندا , ومع ذلك شعرت بالانتصار لأنني كرهتها منذ اللحظة التي نبذتني فيها , وعندما عرضت ان اتقبلها اذا عادت واغفر لها كان ذلك املا في ان تتاح لي فرصة الانتقام .. كان املا واهيا اذ كنت قد عرفت لوسيندا على حقيقتها لذلك فلك ان تتصوري كم كانت دهشتي عندما جئت تسأليني الصفح !
وامسك قليلا ثم اردف : عذوووب
- لكم الوم نفسي ! كان ينبغي ان اعرف على الفور ان التي داءت لم تكن لو سيندا . ولكني كنت مفعما بكراهية سوداء نحوها , فلم استطع ان افكر الا في الانتقام , اعني ان اجازيها باضعاف مافعلته بي !
وكف عن الكلام اذ احس بها ترتجف بين يديه وقال :
- لا ترتجفي ياغرامي ... سأعوضك عما فات , فلا تخشى شيئا !
ابتسمت ولمست وجهه , وهي تقول :
- ما من داع لتعويض ما , لا تلم نفسك يا بول فالواضح انك كنت راغبا في الثأر .. .
وتذكرت تعليق لو سيندا وهي تصف ما عرضه بول من صفح بالغرور والغطرسة . ما اقل ما كانت لوسيندا تعرف عن انه ما عرض الصفح الا املا في يوم يتمكن فيه من ان يكسب نقمته السوداء عليها !
*********
وبعد برهة خطرت لها فكرة اخرى فهتفت :
- بول بعد حادث الثعبان عاملتني بخشونه لفترة قصيرة اكان هذا غضبا من انك خدعت ؟
فأومأ برأسه وقال :
- لقد كرهتك في البداية اكثر مما بغضت لوسيندا كما اعتقد لانك بتصرفاتك جسمت عجزي وقلة حيلتي , وما اقسى ما يحدثه هذا من ألم , اتتمادى هذه الفتاه الى درجة الزواج مني والعيش معي بدون ان اعرف انني مخدوع ؟ هذا ما يجرح الشعور جرحا قاسيا , حتى اصطبغ كل شيء بلون الدم , ولذلك لذت بحجرتي الخاصة , أملا في ان اجعلك تتعذبين لأن حبك لي كان واضحا , ولكني حين اطلت التفكير في مجيئك لتتزوجي وتعتني برجل اعمى , عندما فكرت في حبك وحنانك وكيف حاولت ان تتقاسمي عينيك معي , وان تري لي ..اذ ذاك تبينت مدى ما انحرف اليه عقلي . وما استطعت ان اعاقبك عن جرم لوسيندا , وعن ذنبك كذلك !
وتوقف عن الكلام ثم اردف :
- انك بحبك ولطفك قدتني لأعود الى العقل يالبصرك وأملك في ان نسعد معا يوما ما !
وسكت وهز رأسه وعاد يقول :
- كنت استحق الدرس يا اعز الناس , لو انك تركتني فبادرته قائلة :
- ما كنت لأفعل هذا ابدا ولن افعله . لقد ادرك جو فتورك ولكن ايا منا لم يستطع الاهتداء الى سبب , الآن افهم السبب طبعا .
وسكتت لحظة مترددة ثم قالت :
- اذا كنت عرفت انني لست لوسيندا فلماذا لم تقل شيئا ؟
- كرهتك في بادئ الامر لقاء خدعتك , كما قلت فلم اكن ابتغي في عقلي المتلوي سوى ان ازيدك ايلاما وايذاء , كنت اقول لنفسي صب ايذائك هذه المرة على تيسا عقابا لها على الزواج منك . ثم عندما فطنت في وقت لاحق الى مدى ميلي اليك واني لأدري عندما فطنت في وقت لاحق الى مدى ميلي اليك .. واني لأدري الآن انني ظللت فترة اقاوم هذا الميل واناضله ! ملأني الخوف من انك قد تشعرين بالذنب وبالحرج , اذا ما كشفت عن معرفتي بانك لست لوسيندا , فتتركينني .. واذا اكتشفت في تلك الاثناء انني لا استطيع ان اعيش بدونك لذت بالصمت !
وأطل عليها من علياء قامته مبتسما في حب واردف :
- بل داخلني الامل يا اعز الناس في انك ستخبرينني بنفسك !
- قالت تيسا بصوت خافت :
- الان ارى انك كنت تريد ذلك .
فقد تذكرت الترقب العجيب الذي لاحظته على سلوكه في زيارتها الاخيرة للمستشفى !
- كنت اريده .. ويقينا انني كنت سأكشف لك عن معرفتي , لو خطرت لي اتفه فكرة عما كنت تتأهبين لفعله .. هونغ كونغ ؟ لقد فعل ابوك خيرا اذ زارني فلو انك جشمتني عناء تعقبك الى هونغ كونغ لعاقبتك عقابا لا ينسى ؟
وانكمشت تيسا ملتصقه به , وغمغمت في حبور :
- هل كنت ستتبعني الى هونغ كونغ ؟
قال وصوته ينضح بالانفعال العاطفي :
- كنت اتبعك الى اقصى اطراف الارض !
وللمرة الثالثة رأته تيسا يونانيا قحا , قويا , مشبوب العواطف , مسيطرا الى اقصى اطراف الارض ... وما وراءها !
.:. تـــَـــمْـــتَ .:.