منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f498/)
-   -   ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي (https://www.liilas.com/vb3/t200312.html)

simpleness 15-01-20 04:56 PM

رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مَرحبًا جميعًا.. كيف الأحوال؟

مُشاركة سريعة فقط لأخبركم أنّي لا زلت هُنا.. كتبت كمية كبيـرة.. وبقت كذلك كمية كبيرة.. أتمنى فعلًا يكون الجزء الأخير يسوى انتظاركم.

دعواتكم للتيسير.


في حال عندكم سؤال أو استفسار أو أي شيء آخر ارسلوه لي هُنا:



https://curiouscat.me/_Simpleness7

simpleness 30-01-20 02:24 AM

رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

صَبـاح الخير جَميعًا.. شخباركم؟ اشتقت لكم جدًا جدًا.

مثل ما وعدتكم إني راح أعطيكم موعد الجزء الأخير باليوم والتاريخ.. وللتو ولله الحمد انتهيت من كتابته.. كنت أبي أنزله اليوم اللي هو الخميس.. بس يحتاج مراجعة طويلة بسبب حجمه الكبير جدًا.. وأبي أراجعه بدقّة واليوم للأسف راح أكون مرتبطة بأمور كثيرة.. لذلك راح ينزل بإذن الله *يوم الجمعة الساعة السابعة مساءً.

أتمنى من كل قلبي يكون قد الانتظار.


نلتقي بإذن الله

ريميهR 30-01-20 06:27 AM

رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
 
يا مراااااحب ننتظرك على احر من الجمر 🌹🌹🌹🌹

أبها 30-01-20 07:02 AM

رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
 
صباح النور والسرور.🍃🌷

هلا بسمبلنيس ،،،
وحنّا اشتقنالچ جدا جدا ،، 🍃❤
يعطيچ العافية يا جميلة، على قد ما هو خبر مفرح إن الرواية راح تكتمل،
إلا إنه بنفس الوقت خبر محزن ، يعز علينا فراق الأحبة،،
وأرجو إن ما يكون آخر العهد بينّا،،وقلمچ المبدع ما يتوقف عن الكتابة،
ونشوف لچ روايات أخرى أجمل وأجمل ،،🍃❤
بانتظارك بإذن الله🍃

simpleness 31-01-20 06:39 PM

رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
 

بسم الله الرحمن الرحيم
تَوكلتُ على الله

الجزء الثاني والستون
*الأخير


عُتْمة.. بَعْضٌ من رَمادية كَئيبة.. وصَفيرُ رِياح تُنذِر بقدوم الضيف الثقيل.. المَوْت. ها هُو يُبْصِر خُيوط الأَمَل وهَي تُعْدَم لتَستحيل إلى كَفنٍ.. إلى كَفنه. حَفَرَ قَبْره بِعَيْنيه.. ونَبضاته تَعُدّ ثواني نهايته. عَلى أَرْضية المَشْفى، بالتحديد "قسم النساء والولادة" بالقرب من باب غُرفة الولادة؛ كان جُلوسه.. أو انهياره.. هُناك كان يَقضي آخر لحظاته قَبْلَ فَنائه.. يَستنشق ويَزفر الأنفاس الأخيرة.. يُصْغي لحَركة رُوحه في جَوْفه وهي تَجمع أمتعتها اسْتعدادًا للرّحيل. جالسٌ يَشْرح خَلاء وِفاضه، وخَسارته.. طاويًا ساق وسابِلًا الأُخرى. مُتّكئًا بمرفقه فَوْق رُكبته، ويَدهُ قَد قَبَضَت بأَصابعها الوَاهِنة على خصلات شَعره. عَيْناه مُتَعَلّقتان بنقطة غير مَعلومة.. عَشْوائية وتَمضي بهِ إلى التيه والضياع. الوَقتُ يَنقضي وهي داخل الغُرفة والعُتمة تَزداد من حوله وداخله.. الأَصوات أخذت تَتلاشى حتى أَنّهُ لَم يَعُد يَسْمعها. كانت والدتها هُناك.. جُود وعَلي.. جِنان.. سارة التي دَلفت للغرفة بعد أن أَقْلقهم تَأخرها.. وعبد الله وغيداء يَقِفان كَالمُذْنِبَيْن.. وكلاهما يَفيض من عَينيه النّدم. وكان هُناك أَيضًا والدها.. ناصِر. يَقِف على الجهة المُقابلة لطلال وعند الزاوية المُعاكسة.. عاقِدًا ذراعيه على صَدره.. يَتحرك تارةً خطوة لليمين.. وتارةً لليَسار.. يُلْقي على الباب نَظْرة مُطَوَّلة يَشوبها الخَوْف.. ثُمّ يُلْقي نَظَراتٍ على ذلك المُلقى كالجُثّة المَنسِية.. كَما لَو أَنّه كانَ يَنتظر من يَدفنه. هُو بالطّبع خائفٌ مثلهم على نُور والطِفل.. لكن من بين ثَنايا مَلامحه استطاعَ ناصر أن يَلتقط الخَطَر. رَنا جانِبًا لذاك الذي لَم يَبرح بَصره طلال.. نَظَرَ إليه وهُو يَستعيد في ذاكرته الحوار القَصير الذي دارَ بين غيداء وجُود.. فغيداء قَد أخبرتها أنّها وعبد الله كانا في زيارة "غير مُخطّط لها" لنُور وطلال.. وهُناك فَجأة داهمَ نُور المخاض.. وهذه الحكاية القَصيرة و "المَبتورة" دَقَّت ناقوس التَّوجس في صَدره. هُو لا يَتَعَمَّد التَّشاؤم.. لَكن وَجْه طَلال المَخسوف.. حَدَقتَي غيداء الزائغتين بفزع.. وقَبْضة النَّدم التي كان يَضرب بها عبد الله الحائط من خَلفه كُلَّما مَرَّت دَقيقة بلا خَبَرٍ مُطَمْئِن؛ كُل ذَلك يُوَشْوش لهُ بأنَّ الماضي قَد أَزاح عن تلك الليلة الخِمار. التَفَتَ لِزَوجته التي خانتها ساقَيها فَجَلست.. أَخذت تَضرب على فَخذيها والصَّبر منها يَنفد.. وتلك الدّموع التي حَبستها قِسْرًا.. ها هي تَخْترق قضبان عَيْنيها لترتطم فوقَ خَدَّيها.. مُحْدِثَةً ضَجيجَ أَجفلت منهُ جُود بهلع. نَظرت لزوجها ودموعها تنهمر.. هَمَست تسأله بتردد الخائف الوَجِل: عـلي.. يعني اللحين.. إختـ ـي.. بتموت!
أَمْسَكَ كَتفها شادًّا عليه وهو عاقِدٌ حاجبيه وبهمس: جُود شهالحجي! صلي على النبي وادعي لها.. ما فيها إلا العافية إن شاء الله
أشارت لوالدتها الواقِفة على حافة الانهيار: بس أمــي شـ
قاطعها: أُشش.. هي تحاتيها بس.. نُور بخير إن شاء الله.. اللحين بيطلع أحد يطمنّا عليها
أَغْمَضت وهي تُشيح هارِبَةً من الخَوْف الذي تَقَنَّعَ بهِ وَجه والدتها.. رَفعت يَدها لِفَمها عندما فَرّت من قَلْبها شَهْقة اخْتَرَقت الحاجز الوهمي الذي صَنعتهُ حَواس طَلال. رَمَشَ ببطء.. تَحَرّكَت عَدَستاه على الأَرَض.. انخفضت يَده عن شَعره ورَفَعَ جِفْنيه ليصطدم بَصره بليلى. تَطَلَّعَ إليها مُطَوَّلًا.. للوحة الكَمد المَرسومة على وجهها، قَبْلَ أن يُدير رَأسه لجود.. صاحِبة الشهقات المكتومة. نَظَر لوجهها المُحْتَقِن والبُكاء يُبَلّله.. ولعينيها المُتَخَبّطتين على باب الغرفة.. وكأنَّها تنظر لبوابة المَوْت. تَركتها عَيْناه لتنتقلا لذاك الذي ارْتَدى تَجَلّد بالي لَم يَنجح في سَد تَصَدّعات رُوحه.. التوتر جَليٌّ على ملامحه.. ورَجفة يَده العَظيمة تَفْضَح ضعفه. في تلك الساعة والخَوْفُ ظِلٌّ أَسْود يَغشاهم؛ كانت مَشاعرهم وتفاعلات حواسهم تنتقل منهم إليه.. تَسْتقر داخله.. تُسَمّم ذاته.. رُوحه.. وقَلْبه. لَم يَكْفه قَلقه.. فهو اختار أن يَجْترع أَيضًا قَلَقهم. عبد الله كانَ شاهِدًا على رِحلة العينين.. فهي أعادت ذاكرته لمشهدٍ قَديم تغشاه ضبابية الماضي.. مَشْهَدٌ لطِفل غائص في ثَوبٍ نسائي.. تَتَقَلقل عَيْناه على الأَرْجاء.. يُنَبّش بعدَستيه السابحتين وَسَط ماءٍ أحمر عن والدته.. تلك التي غافلها الموت. ذاكرته لَم تُسْعفه جيّدًا.. على عَكس غيداء التي كانت تكبره بقرابة الثلاثة أعوام.. فهي الأخرى اجتَرّت الذكرى وهَبَطت من عينها دَمْعة غَصْبًا.. فطلال هذا لَم يَكن سوى طَلال ذاك.. وكأنّما الماضي أحيا في رُوحه رُوح ذلك الطفل.. لعلّهما بوَجعيهما يُواسيان بعضهما البعض. هُو كان وببساطة طلال الطفل المتعرف على اليُتم للتو.. وهل هُناك أَقسَى من يُتْمٍ يَنهش الرّوح مَرّتين؟ استدارت عندما شُرِعَ الباب من قِبَلِ سارة.. فَزّت لَيلى تَمشي على بقايا صَبرها.. هَمست والصَّوتُ منها قَد اعتذر: بنـ ــتـ ـي..
بنتـ ـي!
ابتسمت لتُجيب بفرحة شاركتها الدّمعة: الحمــد لله.. عَدَّت على خير.. تعسَّرت الولادة.. بس هي والبيبي تخطوها بالسلامة
هَتفت تُريد أن تتأكد لِتُطعم قَلْبها المتضور بضع طمأنينة: هـي بخير؟ بنتي بخير؟
هَزّت رأسها: ايــه.. الحمد لله هي بخير
تساءَلت جُود وهي تمسح دموعها وشَفتيها تتلقفان ابتسامة مُرتجفة: نقدر نشوفها؟
وَضَّحت: شوي وينقلونها غرفتها وتقدرون تشوفونها
استفسرت جود: انزين شنو جابت؟
اتّسعت ابتسامتها: ولــد.. جابت ولد "تعالت الضحكات وكلمات الحمد والثناء لله والتبريكات.. أَشارت للداخل مُرْدفة" تقدرون تشوفونه
تجاوزها كُل من ليلى وجود وجنان وناصر وهي لَحِقَتهم في الوقت الذي تَحرّكت فيه غيداء لطلال.. انحنت إليه لتهمس بنبرة مُرْتعشة تصادمَ فيها بفوضى الفَرحُ والأسى: طـلال.. قوم حبيبي.. قوم عشان تشوف ولدك وزوجتك
لَم يَتحرّك.. كانت عيناه مُتركّزتان على فراغٍ مجهول.. عادت ونَطقت باسمه من جديد تُريد أن تُعيد إليه الوَعي.. هُو تَحَرّك.. رَمَشَ بهدوء لينظر إليها ومن ثمّ ينظر لعبد الله للحظات قصيرة.. قَبْلَ أن يُشيح وصَدره يَرْتفع كاشِفًا عن استنشاق عَميــق.. قالت: قوم طلال ولدك ينتظرك
تَمَسّك بالحائط بيده.. وَقَفَ وكأنّه استجابَ.. خَطى بَجسَدٍ مائل ومُتَعَثّر.. نادتهُ باستنكار وهي تَراه يبتعد: طَلال! طَـــلالَ!
لَحِقهُ عبد الله مُنادِيًا: طلال... لحظة.. طلال.. وين رايح!
تسارعت قَدما عبد الله وطلال أمامه يهرول بلا هوادة.. استقلَّ السلالم وهو من خلفه حتى غادرَ من باب المشفى.. رَكَضَ إليه عندما سَقَطَ كالمُحارِب المهزوم على رُكْبَتيه.. وبلا مُقَدّمات بَدَأ يستفرغ.. لحظة.. وَقف عنده.. لَم يَكُن يَسْتفرغ فقط.. كان.. كان يَبكــي! كان يَسْتفرغ وعَيْناه تَذرفان الدّمعَ والحُب والسعادة.. يَبكي بنَشيجٍ دَبَّ في نَفسِ عبد الله شعور بَغيض.. شعور استحقار النّفس واستصغارها.. كَره ذاته.. كَره الرّغبة التي قادتهُ لشقتهما باحِثًا عن الحَقيقة. أَمسَكَ بكتفه هامِسًا بنبرة يَعج فيها الأسف: طلال اذكر الله.. حاول تنسى كل شي اللحين وتقوم لولدك وزوجتك
أَبعَدَ يَده ليعود واقِفًا والنّحيبُ مُسْتَمِر.. مَشى خطوة فتبعهُ عبد الله بخطوتين حتى صار مُقابله.. قال بهدوء مُحاولًا ثَنيه عن الهروب: طـلال روحتك اللحين غلط.. ما يصير تترك زوجتك وولدك في مثل هالوقت.. هم محتاجين لك
لَم يَكُن يَسْمعه.. فضَجيج تَكَسّر الآمال داخله كان يَطغى على كُل صوت.. لذلك واصَلَ مَشيه الذي تَحَوّل إلى جَري فَقدَ فيه إحساسه كُليًّا بالعالم من حَوله.. فَقد عادَ وَحيدًا مثل ذلك الطفل.. يُنازع الحياة لينجو من بين قَبْضتي عَذابها.. كان يَجري بلا هدى ولا طَريق ولا إلى أيِّ مَلجأ.. يَجري كالفار من الحَياةِ إلى المَوْت. عبد الله حاولَ أن يَلحقه لكنّه كان سَريعًا بطريقة غَريبة.. كما أَنّهُ فَضّل ألا يتخذ دور الناصح بعد الذي أَشعله بسؤاله.. لذلك عادَ أدراجه وهو يخرج هاتفه من جيبه.. بَحث عن الرقم ثُمّ رَفعهُ لأذنه.. يعتقد أنّه الحَل الأنسب لمثل هذه الأزمات.



وَزَّعَ بَصره على الغُرفة الصَّامتة.. جُدران اصطبغت بلونٍ رَمادي كَئيب.. طاولة خَشبيّة مُتوسطة الحَجم.. مَقعد وَحيد كان هُو الذي يَجلس عَليه.. والأَرْض كانت من الإسمنت الذي له لون كلون الجُدران. كانت الغُرفة تَضج بالوحشة والكآبة.. إلا أَنّها لَم تُؤثّر فيه.. فَهو قَد جَمَّد مَشاعره.. أو لنكن دقيقين أكثر.. هُو ذَبحَ مَشاعره. اسْتَقَرَّ بَصره على آستور.. ارْتَفعت زاوية شَفتيه ساخِرًا وهو يقول: تبدو كغرفة استجواب
عَقَّبَ بنبرة كان الهدوء فيها مُتأرجح: لأنّني سأستجوبك
اسْتَرخى في جلوسه وهو يَضع ساعديه على ذراعي المَقعد وبنظرة جليدية لَسعت ضَمير آستور؛ قال: لا أعتقد أَنّك تحتاج لذلك.. فآلات التصوير المراقبة كانت تنقل لك الأحداث لحظةٍ بلحظة
زَمَّ شَفتيه عندما خَطى ناحيته هاينز الذي كان مُنزويًا.. وهو يَتساءَل بغيظٍ عارم: لماذا استسلمت موهاميـد؟ لماذا لَم تُقاومه؟ كُنتَ تستطيع أن تهزمه وتنجو بنفسك بسهولة.. لماذا لم تَفعل! لماذا انتظرت للدقيقة الأخيرة!
حَرّكَ عَدستيه بعيدًا عنه وهو يُجيبه بسؤال اقشعرت من برودته رُوح هاينز: وما الفائدة من نَجاتي؟ "رَفعَ بَصره إليه مُواصِلًا" ما الفائدة من بقائي حَي؟ هـا؟ أخبرني هاينز.. ما الفائدة من وجود مُحمد؟ "نَظَرَ لآستور برأسٍ مائل وحاجبٍ مرفوع وكلماته تنتعل التهكّم" أَم أنّكَ تَخشى على والدك من الوحدة.. فموت عميله السري يعني بقائه خالي الوفاض وَسط المَعركة.. لا هو قادرٌ على التقدم.. ولا هو قادرٌ على التراجع.
اقترب آستور من الطاولة ليتّكأ بقبضتيه عليها وهو يَقذف سؤاله: طالما تؤمن بأن لا جدوى من بقاء موهاميد حيًّا.. فلماذا فَككت قَيدك عند الدقيقة الأخيرة؟
رَدَّ بحدّة نَضحت من عينيه ومن بين كلماته: لأنّني في الوقت ذاته أؤمن بأن استسلامي للموت وأنا قادرٌ على إنقاذ نفسي؛ ما هُو إلا انتحار.. فإن تحولت دنياي إلى جحيم بأيديكم.. فلن أحوّل آخرتي لجحيم بيدَي
عَبَّرَ هاينز وجسده يرتعش كأنّما هو في تلك اللحظة كان يُعايش الأحداث الماضية: كُنا خائفين.. مَرْعوبين.. أنا وأبي.. ذاكَ العجوز القذر عَطّلَ آلات التصوير فَلم نكن قادرين على مُراقبتك
هَمَسَ بلا مُبالاة: لا ضير في أن تتذوقون بعضًا من سُم الخوف
نَطَقَ ووجهه المُحمر قَد نَفَر من صدغيه عرقان محمومان: وزوجتـــك! هل كانت تستحق ذلك العذاب؟ هل كانت تستحق أن تختنق بالخَوْف؟
رَدّ بتبلّد دون أن ينظر إليه: لَم تعد زوجتي
أَدارَ جسده بقوّة وهو يُطلق من حَنجرته صَرخة مقهورة من هذا المَيّت.. من هذا الشّبح.. لَيسَ بإنسان.. لا يُعْقَل أن يكون إنسان! رَنا لوالده بَأسى ولسان حاله يَقول: كَيف استطعت أن تقتل الإنسان الذي فيه! كيف استطعت أن تحوّله لكائنٍ كهذا!
وكأنّ والده سَمعه.. فهو نَطَقَ باستنكار وعدستاه تدوران على وجه محمد المُصْمَت: لَم أعد أعرفك موهاميد.. أصبحت شَخصًا غريبًا ومُختلفًا.. لست موهاميد ولا حتى ديمتري
أَوْمَأ لهُ بابْتسامة وهو يُرْسل لهُ نظرة تفيض منها السخرية: الفضل لك عزيزي آستور
وَقَفَ بلا اهتمام وهو يدفع المقعد للخلف.. تَحرَّك إلى الباب وقَبْلَ أن يخرج أوقفه نداء هاينز.. ظَلَّ في مكانه ويده مُمسكة بالمقبض.. نظرَ من خلف كتفه لقدمي هاينز وهما تقتربان منه.. اسْتَقَرَّ خلفه ليُفصح عن سؤاله: لماذا طلقت زوجتك المسكينة؟
ببرود سَقيم: لا شأن لك
فتح الباب في الوقت الذي نطقَ فيه هاينز بإحباط: لكنَّكَ أحببتهـا!
تجاهله وتجاهل البُركان الذي تَأجَّج داخله ومشى حتى غادرَ مكتب آستور الخاص. استقَلَّ مَرْكبته الذي أركنها بالقرب.. تَسَمَرَّ في مكانه لثواني وعيناه ثابتتان على الزجاج الأمامي حتى تكادان أن تخترقانه.. الأحداث جميعها تدور باعتباطية في عقله.. إلا وَجهها الأخير.. هو الوحيد الذي لَم يبرحه الثَّبات.. باقٍ أَمام عينيه وكُل شيء آخر كان يُدور من حوله.. وجهها بعينيها العاريتين من الدمع.. وشَفتيها المُتَجَمّع فيهما الدّم.. وجلدها الأَسمر المُرتدي الشحوب.. كانت ملامحها الأخيرة تُلاحقه كُلّما أغمض.. أبصَر.. تنفّسَ.. مَشى أو جَلس.. حتى في أحلامه وجهها كانَ صامِدًا.. وهذا أَقسى عَذاب يتلقَّاه في حياته.



أَسْوارٌ شاهِقة.. نُحِتَ فَوْقَها قِصَص أَمْوات كانوا ذات يَومٍ أَحيْاء.. يُجابهون الدّنيا بمشاعرهم. بَعضهم كان الفَوز حَليفهم.. والبعض الآخر أَحنتهُ الهَزيمة.. وهؤلاء لَم يَكن المَوْت عارِضًا غَريبًا بالنسبةِ لهم.. فهم قَد عايشوه أَثناء حياتهم.. الَفَرْق فَقط أَنّ أجسادهم كانت حينها فَوْقَ الأرض.. أما الآن فهي أَسْفلها. مَرَّرَ يَدهُ على القَبْر بَعدَ أَن بَلّلها بالدّموع.. يُريد أَن تَتَشَرّب الرّمال بُكاء قَلْبه لتُرْسِلهُ لوالدته عَلّها تَجيء إليه.. تَحتضنه.. تَحْتوي شَتاته.. وتُضَمّد تَصدّعات رُوحه. آه من أُوار الفَقْدِ وحُرْقَته.. تَسْرقك الحياة عنه لَحْظة فَتظن أَنّكَ نَسيت وَجعه.. لكِنّهُ وبغفلةٍ منك يَعود لِيُغرقك أَدهرًا.. غَرقًا لا نَجاة من بِعده. هَمَسَ ورَجْفة يَده تَترك على التُرابِ آثارًا تُشْبِه العَرج.. وكأنّ رُوحه المَعطوبة هي التي كان تُسَيّر أَصابعه. هَمَسَ مُتَحَسِّسًا بذاكرته مَلامحها: يُمــه
"تَنهّدَ ومع أَنفاسه فَرّت شَهْقة" يُمـ ـه.. للحين ما لقيت نفسي يُمه.. من خذاش الموت وأنا أدورها.. ظنيـ ـت "مَسَح عَيْنه المَأهولة بدَمعٍ أحمر بظاهر كَفّه وهو يُكْمِل" ظَنـيت إنّي بلاقي نَفسي عندها.. بين روحها وقلبها.. ولقيتها يُمّه.. والله.. والله لقيتهـ ـا.. بس ضاعت! بإيدي وجنوني ضيعتها!
أَغمضَ عَينيه رافِعًا رأسه لِسماءٍ ارتدت زُرقة داكنة.. ولسُحبٍ تَبَنَّت بَعضًا من رَماديته.. ولقَمَرٍ خَسَفَ اكتماله حُزنه الطاغي. هَمَسَ بجُل وَجعه: آه يُمـــه.. آآه
أَخْفَضَ رَأسه.. مَرَّغَ عَدستيه بالتراب.. قَبَضَ عليه حتى حُشِرَت ذَرَّاته بين أَصابعه ثُمَّ رَفَع يَده لأنفه.. اسْتنشقَ التُربة والحَنين لوالدته جَعله يَشتم عِطرها.. تلك الرائحة الشَبيهة بالعِناق.. مُذ فَقدها وهو يَتخبَّط باحِثًا عن مَعنى لوجوده.. والليلة.. الليلة فَقط اكتَشَفَ أن لا خَيْرَ من وجوده.. لا خَيْرَ فيكَ طَلال.. الخير ليس فيك وليس لك وليس معك. بَسطَ يَده فتساقطَ التُراب عائِدًا لمكانه.. مَرَّرَ لسانه على شَفتيه وعدستاه تلتفتان لشاهد القَبر.. قَرَأ التاريخ بعينيه.. مالت شَفتاه بابْتسامة تَهَكّمية وهو يُنَكِّس رَأسه.. ثلاثون عامًا وهو والضياع رَفيقان.. ثلاثون عامًا والسعادة في حَياته ليست أكثر من سَراب. ناداها من جَديد.. نادى الرّوح المُرَفْرفة حَوْلَ القَبر: يُمــه "وبرجاءٍ مُرْهَق" اخذيني عندش يُمه.. طلبيني واخذيني عندش

: طَلال

ابْتَسَم بشحوب وهو يُعَلّق دون أَن يَلتفت إليه: ساعات أحس إنّك إنت سبب بقائي حَي.. الله ما يبيني أتركك اهني بروحك
تَنَهّدَ وهو يُقرفص بجانبه.. قَرَأَ الفاتحة ثُمّ قالَ وبصره مُتعلّق بجانب وجهه: طلال قوم عشان أوصلك المستشفى.. ولدك صار له ساعات مولود وهو ما عنده اسم.. حقه إنّك تسميه وتأذن في إذنه
رَنا لهُ بطرف عينيه دون أن يُدير وجهه: وليش مو ناصر اللي يسميه.. هو أبو أفضل مني
أَمسكَ بعضده شادّا عليه وهو يُوبّخه بكلماتٍ طَفرت من بين أسنانه: ابلع لسانك ولا تقول هالحجي مرة ثانية.. إنت راح تكون أفضل أبو في الدنيا.. واللي صار بيتعدل
تَمْتَمَ بيأس: ما ظنتي يا رائد يتعدل.. ما ظنتي
قالَ وهو يَقف: إنت اللحين اترك عنك التفكير في هالموضوع وقوم.. سَم ولدك وسجله واحضنه.. واترك كل شي وراك
وَقَفَ أَمامه وهو ينفض يَديه.. ابتسم بسخرية مَريرة عندما رَأى عيني رائد وهي تتأملان ملامحه.. قال بقهرٍ على نفسه ومن نفسه: طلال الطفل مو راضي يموت رائد.. كل ما قلنا انتهى وقته رجع من يد ويديد "قَبَضَ على شَعر لحيته وبحُرقة ارْتعدت منها أوصاله" والله مستحي من شيبتي.. مـسـتحــي
هَمَسَ بزَفرة مُحَمَّلة بالآهات: الله كريم طلال.. الله كريم
مَشى الاثنان إلى السيارة.. استقَرَّ رائد خلف المقود وعلى يمينه طَلال الذي استفسر: من قال لك؟
وهو يُحَرّك المركبة: عبد الله.. اتصل فيني وخبرني "تَطَلّع إليه للحظات قَبْلَ أن يُعيد بصره للطريق ويُكمل بنبرة خافتة" أنا فهمت كل شي من غير ما يوضّح لي.. ولو مو حالتك هذي جان ذبحتك طلال على جنونك.. لكن مو وقته اللحين
طَرَدَ من صَدره تنهيدة جَديدة وهو يُرجع رَأسه للخلف وبَصره يُشاهد الطُرق والليل يَغشاها.. هو الآن غير قادر على جَر فكرة واحدة.. يَشعر وكأنّه في متاهة مُدَجَّجة بأسلحة الفراق.. والسبيل للفرار منها أَقرب إلى المُستحيل.



أَغْلَقَ صنبور المياه.. أَرْجعَ شَعره للخلف بكلتا يَديه قَبْلَ أن يَلتقط المنشفة ليستر بها جُزئه السفلي. خَطَى إلى المغسلة.. تَعَمَّد ألا يَنظر للمرآة عند دخوله.. لكن الآن وبعد أن انتهى من استحمامه قَرَّرَ أَن يُقابلها.. يُريد أن يَرى وَجْهه الذي تضيق منهُ مَلامح الجَميع بمجرد وقوع أعينهم عليه. وما إن ارْتَدَّت إلى عَينيه صورته حتى انطبعت على ملامحه نسخة من ذلك الضيق بل وأعظم. لوهلة شَعر وكأنَّ قَلْبه هَوى من صدره.. فهذا ليس وجهه.. هذا ليس بوجه فيصل المُعْتَدِّ بنفسه. ازدرد ريق الرُّعب وعدستاه تَمُرّان على خصلات شعره المبللة والكَثيفة على غير العادة.. السواد الناشر جِنْحيه أَسْفَلَ مُقلتيه.. لحيته المُهْمَلة وَجفاف شَفتيه الذي كان تَرْجمانًا لجفاف حيلته. أَرْخَى بصره وهُو يَشعر بالعجز يُكَبّله.. والشّفقة على نَفسه ها هي تَطعنه لأوّل مرة في حياته. وكأنّه ليس هُو.. ليس هُو أَبدًا! شَغلَ نفسه في تفريش أَسْنانه مُتَجَنِّبًّا النَظر لملامحه المَقبورة.. بَصَقَ في المغسلة.. غَسَل فمه ويَديه.. ومن ثُمّ خَرج. قابَلَها في غُرفة الملابس.. كانت تَنزع عَباءتها.. ابْتَسَمت إليه نصف ابتسامة وهو لَم يَردّها بالطّبع وأشاحَ عنها ليقف أمام خزانته. تَنَهّدت بخفوت وهي تُعَلّق العَباءة.. عادت ونظرت إليه تَتفحّص جَسده المُعَذَّب.. كَم من الوَزن خَسِرت فيصل؟ هَمَسَت وقدماها تخطوان إليه: نُور ولدت
التَفتَ إليها مُتفاجئًا من الخَبر.. كما لَو أَنّهُ نَسِي شَقيقته.. ونَسِيَ أنّها كانت حبلى. ظَلَ يَتَطّلع إليها لثواني قَبْلَ أن يُدير رأسه من جديد للخزانة. سَحبَ له ملابس للنوم وهي تساءلت عندما رَأته يرتديها دون تعليق: بتروح لها المستشفى؟
بنبرة باردة: ما يحتاج.. راح تجي اهني
ثُمّ مَضى لغرفة النوم دُون أَن يُضيف كلمة أخرى. زَفَرت بتعب وكتفاها ينحنيان بلا إرادة منها.. تحوَّلَ إلى جَليد.. النار التي اعتادت أن تقتات على ذاته يبدو أَنَّها خَمَدت.. إلى الأبَد! اغتسلت سَريعًا وأَبدلت ملابسها بأخرى خَفيفة ومُريحة.. وكأنَّها كانت تُريد أن تَتخفَّف من كُل شيء حتى تنقذ نَفسها من الانفجار. عادت إلى الغرفة لتراه مُسْتَلقيًا على السرير الذي أَصْبَح مؤخرًا الثكنة التي يَختبئ فيها. خَطت إليه بهدوء وهي تفك عقدة الرداء الذي يعلو ثوب نومها.. وبتعمّد خَلعته لتتركه على السرير قَبْلَ أن تجلس بجانبه. تَأمَّلته.. جَسده مُمدّد وهو نائمٌ على ظهره.. صَدره يَرتفع بهدوء ثُمّ يَهبط وصَوت أنفاسه كان مَسْموعًا كَمُناجاةٍ تَرْجو الخلاص من ضيق روحه. مُطْبِقًا شَفتيه وذراعه اليُسرى قَد حَجبت عن عَينيه الأضواء والعالم. انحنت عَليه وهي تُنَحّي التردّد جانِبًا.. قَصَدت بِشَفتيها مواضِع تَعلم جَيّدًا أَنّها تُضعفه.. وتُذيبه بين يَديها.. لكن للأسف هذه المرة كان حاضر فيصل صَلْبًا كالحَجر.. فهو بعد أقل من دَقيقة أَبعدَ ذراعه عن عينيه ودَفعها بزجرة مُتنرفزة: اللحيــن تشوفين هذا وقته!
نَظَرت لهُ بصدمة للحظات من جلافة دَفعته ووجهها قَد صَفعه الحَرج.. قَبْلَ أن تُرْخي بَصرها وهي تستمع لتوبيخه الذي أجَّجَ غَصّاتٍ وَسَطَ حَلْقها وفي مُنتصفِ روحها: أنـا مو طايق نفسي.. ويا الله متحمّل عيشتي.. وإنتِ جاية تسوين لي هالحركات!
وَقَفت وبحركات سَريعة أمسكت بردائها ثُمّ غادرت الغرفة وشَهقتها قَد فَرّت كالسّهمِ مُخْتَرِقَةً قَلْبه المُوْصَد الأبواب. أَغْمَضَ ورَأسه يَميل بأسَفٍ وأَسى تَغَضّنت منهُ مَلامحه.. زَفَرَ بضيق ويَداه ترتفعان لشعره تحرثان رَأسه الصّدئ عَلّه يَعثر على عِلاج لوبائه المُزمن. نَظَر للباب الذي غادرت من خلاله وهُو يَبحث في ذاته عن باب يُخلّصه من نَفسه.. من ذات فيصل التي أجرمت.. نعم هُو أخطأ واعترف بخطئه أيضًا.. لكنّهُ غير قادر على الإصلاح.. غير قادر على جَبر الكَسْر الذي سَبّبه.. غير قادر على رَتق الشقوق التي أَحدثها بأنانيةٍ وعَجْرفة في رُوح تلك المسكينة.. آه كَم يُشْفِق عَليها.. لا حيلة لهُ على مُقابلتها أو الحَديث معها.. ماذا سَيَقول؟ ما هُو عُذره؟ وبأي الكلمات سَيستعين ليُطَيّب جِراحها؟ هُو يَعلم أن اختبائه هُنا كالمُجرم الهارب لَن يُقَرّبه من الحَل وإنّما سَيُغرقه في وَحْل أخطائه أكثر وأكثر.. لكنّه خائف.. أو بالأصح.. هُو جَبان.. لا يَستطيع مُواجهة نفسه ومُواجهة أولئك الذين ظَلمهم. وكأنّه واقِفٌ في مُنتصف طَريقٍ مُقفر من بَشر وحَياة.. حائرٍ بين العودة والمَضي قَدَمًا.. فالنارُ يُلَوّح لهُ لَهيبها على الجانبين.. ولا يدري أي الاثنتين هي أَخف وَطأة من الأخرى! بعد تَفكيرٍ قَصير تَركَ مكانه مُتوجهًا إليها.. ففي النهاية هي لا دخل لها بجُرمه. وَجدها في غرفة الجلوس.. على إحدى الأرائك جالسة بجذعٍ للأمام وظهرٍ مُعْوَج.. وذراعاها ترتفعان لتسمحا لرسغيها بالاتّكاء على جَبينها.. كما لَو أَنّهما تُسْندانها خَوفًا من انهيارها من فَرط القَهر والوَهن. لانت مَلامحه بَعطف وهو يَراها على هذه الحالة.. وبُكاؤها الذي تُحاول أن تكتمه قِسْرًا لألا تُوقظ صَغيرتها؛ تَلَوَّت منهُ نَبضاته بوَجعٍ عليها. جَلسَ عندَ ساقيها المكشوفتين وبكفّيه قَبَضَ عليهما بحَنو وهُو يُناديها بهمسٍ له لحن أسف: حَبيبتي
أَخفضت يَديها وبغيظٍ وحُرقة بانت على وجهها المُحْمَر؛ دَفعتهُ من كَتفيه، قَبْلَ أن تُحاول إزاحة أصابعه القوية عن ساقيها وهي تقول ببحّة غاضبة: هدني.. هدنـــي.. ما أبيـــك فيصل.. هدنـي
ضَغطَ بكفّيه وعيْناه تُلاحقان عينيها المَغمورتين بالدّمع وبهمس صادق: حبيبتي آسـف.. والله ما قصدت.. آسف
تَطَلّعت إليه والعِتاب يَصنعُ مَجرى للدموع من عينيها إلى وجنتيها.. وبلوعة الأَسى: لين متى؟ ليــن متى فيصل بتجرح وبتتأسف؟ ترى بيجي يوم وهالأَسف ما بيقدر يسكّت وجع جروحك
أغمض للحظات ومن قُعر تيهه ارتفعت تنهيدة ساخنة، ثُمّ قال ببصرٍ منخفض: أدري إنّي غلطان.. بس أنا قلت لش لا تقربين مني هالفترة.. أنا مو طايق نفسي.. ما أبي أطلع حرتي فيش
وهي تبعد خصلاتها عن وجهها: وهذا حـل؟ إنّك تحبس نفسك في الغرفة هو الحل؟! خلاص فيصل.. خلاااص.. هي لامتك وأمك وأنا لمناك.. وإنت عرفت غلطك.. بــس.. انتهت مرحلة كشف الأخطاء.. صار الوقت اللي تتصرف فيه وتحاول توجد حل
نَظَرَ لها وعيناه تمتلآن بقلة الحيلة: ما في حل جِنان
أصَرّت: لازم في.. هذا احنا.. كان مُستحيل يصير لنا حل.. لكن صااار "أردفت وبظاهر كَفّها مسحت دموعها" وبعدين فيصل.. جرحك وظلمك لي كان أقوى وأشد "رفعت كتفها" بس أنا في النهاية سامحتك.. رغم كل شي سامحتك "وبنبرة ذات معنى" وما شفتك اكتأبت جذي على اللي سويته فيني!
مالت شَفتاه بابْتسامة لها طيف عبوس وهو يَهمس وعيناه ترنوان لعينيها بأهدابهما المُبَلّلة: الحُب اللي بيننا يشفع
تَأمّلتهُ لثواني بسكون أعقبهُ نَفْرٌ حاد من كفّيها لكفّيه.. وَقَفت ورَفعَ رَأسه إليها.. ملامحها الحمراء احْتدت ومن مُقلتيها زَعقَ التماع مُحَذّر.. عَقّبت بنبرة لها هَفيف ريح مُوحِش: مو كل مرة هالحُب بيشفع.. إذا تحوّلت حياتي أنا وبنتي لجحيم بذبح هالحب وبعدين بدوسه وبواصل من غيره "رَفعت إصْبعها، سَيْف الحَرب الأخيرة" تذكّر كلامي هذا عدل
استدارت بعد أن ألقت عليه حِمْلًا آخر.. تابعها إلى أن دلفت لغرفة جَنى وأغلقت الباب.. استرجع كلماتها الأخيرة في ذهنه وقَلَّبها بين ***ات روحه.. كان تهديد.. قَولها كان تهديد.. اعتدلَ جالِسًا ويَدُ الهَم تُمْسِك برأسه المُكتظ بأفكارٍ غير مُجدية.. ناقِصة.. ونصفها يتغذى على الضّعف. تمهَّل فيصل.. تمهَّل ولا تُسْرف في الغَرق.. فَقد تخسر كُل شيء.. كُــــل شــيء!

،

داخل الغُرفة كانت هي مُستندة بظهرها على الباب وبذراعين معقودتين من خلفها.. جُزء من عقلها يُفكّر فيه.. والجُزء الآخر يُفكّر بما حدث قَبْلَ ساعات.. وقَلْبها يَضج من الصراع المُحتدم بين نبضات الخوف ونبضات الإقدام.

،

: جِنـان!

صَمتت للحظات قَبْلَ أن تُصفّي صوتها من عوالق البُكاء.. فهي لا تُريد أن تَرجع بهِ الذاكرة لذلك الاتصال المَشؤوم. نَطقت ببحّة وبصوت شبه متزن: السلام عليكم.. شلونك أحمد؟
رَدَّ ونبرته يُسْمع فيها الذهول: الحمد لله بخير.. إنتِ شخبارش؟
هَزّت رأسها وكأنّه يَراها: الحمد لله
مرّت ثانيتان من الصّمت قَبْلَ أن يَتساءَل أحمد بهدوء: جِنان في شي؟
رَدّت ببعثرة لاحظها: أنا آسفة.. أعتذر إنّي اتصلت لك وأزعجتك.. بس ما عرفت شنو أسوي.. يعني.. ما أعرف أحد غيرك قريب.. قريب من ياسمين يعني.. أحتاج أكلمها.. حاولت أتصل لها بس تيلفونها على طول مُغلق.. وصار لها فترة ما تداوم في البنك.. وهي يعني مو في شقتها.. هي وفيصـ ـل... وأنا ما حبيت أكلم زوجتك.. مابي أسبب مُشكلة.. فإذا مُمكن تطرش لي عنوان بيت ياسمين.. أقصد يعني.. بيت أهلها.. أحتاج أقابلها.. إذا عادي يعني
عَقَّبَ: اي عادي.. بس ياسمين اللحين مو في بيت أهلها.. هي في بيتنا
ارْتَفَع حاجِباها بمفاجأة: في بيــتكم! "مَسّت جَبينها بباطن كَفّها وهي تهمس بحيرة" يا الله.. شسوي اللحين!
قال بجدية: جنان تقدرين تجين تقابلينها في بيتنا
رَفضت مُباشرة: لا أحمد.. ما يصير.. مابي أسبب لكم مشاكل إنت وزوجتك.. كفاية اللي جاكم مني
ضحكَ بهدوء: لا تخافين.. ما راح تسببين مشاكل.. أنا أعرف أدير الأمور.. وترى أنفال طيبة "وبنباهة" ومدام إنتِ جاية البيت عشان تنقذين الوضع.. فهي أكيد بترحب فيش عشان إختها
دعكت صدغها وبتردد: ما أدري
بتفهّم: مو مشكلة.. أنا بطرش عنوان بيتنا.. وإنتِ إذا قررتين تجين حياش.. بس قبل اعطيني خبر عشان أمهّد لأنفال
بخفوت: بشوف "استطردت" مشكور أحمد.. تعبتك معاي
ردَّ كعادته: ولو جنان.. حاضرين

,

أَغمضت وهي تَزفر بمشاعر تَخبَّط بين أركانها القلق والحيرة والإرهاق وكُل شيء.. لاحت لها على صفحة الظلام خارطة منزل أحمد التي أرسلها لهاتفها عبر "الواتس أب".. هي كانت تعلم أين يسكن.. بل وكانت تعرف أين يقع منزله تحديدًا.. لكنّها نسيته في خضم المعاناة التي تاهت في دوامتها.. تأففت.. جنان المُشكلة ليست عنوان منزله.. المُشكلة بتلك التي في المنزل.. زَوجته.. فكيف ستُقابلينها! طَردت تنهيدة مُثقله وهي تُزيح جفنيها.. ابتسمت عندما حَطَّت عدستاها على جَناها.. نائمة بعمُق وراحة.. لا تُريد أن تُسْلَب منها هذه الراحة.. لا تُريد لبراءتها أن تتَلوَّث بخطايا الوالدين. فإذن جِنان؟ خَطت إليها ببطء.. اضجعت بجانبها وهي تَشد الغطاء على جَسدها الصَّغير.. مَرّرت ظاهر سَبَّابتها على خَدّها الناعم.. هذا الوجه.. وهذه الرّوح.. وهذه الطفولة البيضاء النقية.. يستحقون المُخاطرة.. يستحقون الوقوف على منحدر المشاكل.



رَتّبَت الوَسائد خَلْفَ ظَهْرها ثُمّ تساءلت: أوكي جذي؟
هَزّت رَأسها بصمت وعَيْناها تَنظران لأصابعها.. عَقَدَت جُود حاجِبَيها مُسْتَنكرة هذه الملامح التي تَغزو وَجهها.. لذلك مَدَّت يَدها وأمسكت بذقنها لتُجبرها على النظر إليها.. وباستفسار هَمَست: إنتِ شنو فيش؟ هذا مو وجه وحدة توها والدة.. لو هذا اكتئاب ما بعد الولادة!
أَشاحت عنها بضيق وهي تُبعد يَدها في الوَقت الذي اصْطَدمت فيه نَظراتها بنظرات والدها التي شَعرت بها تَصل لقلبها وتثقبه لتتفقّده. تَصافَقَت أهدابها بارْتباكٍ واضِح.. ولَمعة الدّموع الحائرة التقطها والدها بسهولة. شَدّ قَبضته وهُو يَزُم شَفتيه.. شكوكه اقتربت بسعيها من أرض اليَقين.. للأسف!
تَقَدّمت ليلى من السرير بعد أن انتهت من ترتيب حاجيات نُور في الخزانة: حَبيبتي ثيابش كلها اللي في الشنطة علقتهم.. عشان ما تحتاجين تفتحينها كلما بغيتين شي... وشنطة الولد بتشوفينها بعد داخل.. ما حبيت أطلع أغراضه.. خلهم مرتبين في مكانهم "أشارت لدورة المياه" وحطيت لش كل اللي تحتاجينه داخل.. عشان أي وقت تبين تتسبحين فيه تلاقينهم جاهزين
ابتسمت لها ابتسامة حاولت جاهِدة أن تُلبسها حَياة وهي تقول: مشكورة ماما.. تعبتش معاي
طَرْقٌ على الباب.. ارْتَجَفَت حجرات قلبها بتأهّب وعيْناها قَد تَسَمّرتا عليه.. أَذِنت ليلى للطارق بالدخول والأعين جميعها كانت تَترقب الداخل الذي خالفَ التّوقعات. ارْتَخت ملامحها ورَجفة القَلب نَحت طَريقًا آخر.. طَريقًا هو نسخة مُصَغّرة من الجَنّة. ازْدَردت ريقها وأناملها تَتصادم بتَخبّط أَرْسَلَ بين أوصالها شعور لَذيذ.
رَحَّبت جود والسعادة تغمرها: هــلا والله بالضيف الجديد "وبمشاكسة" هلا بضحيتي الجديدة "نَظَرت له وهو نائمٌ بسلام وَسطَ السرير الذي يبدو كالمُحيط الشاسع بالنسبةِ لحجمه الصغير.. وبضحكة أرْدفت" كل حقوقي اللي ما أخذتها من أمك باخذها منّك يــا "التفتت لنور وهي تستوعب للتو" إلا تعالي.. شنو بتسمون هالنتفة؟
جاءت لترد لكن الممرضة سَبقتها وهي تحمله بين ذراعيها بابتسامة: الولد خلاص صار عنده اسم
تساءلت ليلى باستغراب: من متى!
أجابتها وهي تُقَرّبه من نُور المُتلهفة: قبل ساعة تقريبًا.. جا أبوه سجَّل اسمه وكمَّل إجراءاته "ابتسمت ببشاشة وهي تُحادث نُور" تفضلي أم ناصر
بانت علامات الدهشة على ملامحهم وجود شَهقت وهي تَبسط يدها فوق صدرها وتقول: شــوووف طلالو باق اسم ولدي
عَقَّبت والدتها بنبرة ذات مغزى وهي ترنو لها بطرف عينها: والله لو من تزوجتين حملتين.. جان جبتين الولد وسميتنه قبل
تأوّهت بقهر مصطنع: خســارة.. فاتتني فاتتني
دَفعتها والدتها بخفّة: أقول امشي امشي خل نجهز قدوع الضيوف قبل لا نروح
انشغلت الاثنتان في الترتيب والتنظيم.. وعلى الجهة الأخرى من الغرفة.. كانت نور ووالدها مُنشغلان بالكائن الذي لَم يَتجاوز عمره الساعات. هي.. نُور الأُم.. فَتحت باعها إليه لتستقبلهُ كَما تَسْتقبل الأَرْض هَدايا السّماء.. احْتضنته ورَجفة قَلْبها قَد طالت لتستحوذ على وُجودها. ابتسمت وضحكة قَصيرة مَبحوحة حَلّقت من حَلْقها وعدستاها تتمرغان بحسنه البريء. شاغبت الأهداب دُموع كانت خَليطًا بين حلاوة الفَرح ومُلوحة الحُزن المتكسّر وَسط رُوحها. لكنّها أعرضت عن أطياف الظلام وتَشَبّثت بما تَبَقّى من ألوان زاهية. حَرّكت يَدها إلى وَجهه وبسبّابتها مَسَحت على خدّه المُتورّد.. هَمَست وجُل مَشاعرها تُغرّد مع كلمتها: حَبيــبي
هَبطت دَمعة وهي تُردّد حبيبي ثانية مع ثانية.. تَأمّلته.. تَحَسّست ملامحه بأطراف أصابعها وكأنّها تَخشى أن تَخدش قُطنية جلده. تَبَسّمت والضحكة تعود لتُباغت كَمدها المُوارب.. تشعر بأنّها تَعرفه! تعرف هذه الملامح.. كما لو أَنّها رَأتها ذات مرة في خيالها.

: يشبهش صح؟

رَفعت رَأسها لوالدتها قَبْلَ أن تعود لصغيرها لتُواصل نَحت ملامحه على جدران قلبها ورُوحها: مـا أدري! بس أحس.. أحس جني أعرفه من قبل!
ضَحكت وهي تقترب منها: عايش داخلش تسعة أشهر.. أكيد بتحسين بهالإحساس.. وترى يشبهش بالضبط.. وكأني أشوف وجهش في أول يوم من ولادتش "التفتت لزوجها" صح ناصر
ناصر الذي لا يزال مُتّخمًا بنشوة من تسمية هذا الصغير، أجاب بابتسامة جانبية أعادتهُ للماضي: بالضبــط.. ونفس الحجم بعد
سَألت والدها: بابا أذّنت في إذنه؟
أَجابت عنهُ جود بحماس وهي تتناول هاتفها: ايــه أذّن وصورناه فيديو وصور "حَرّكت حاجبيها باسْتمتاع وهي تُريها الصّور" لعبنا في ولدش لعبة على ما يخلصون معاش.. والله ما كان يصرخ.. كان يطالع الكاميرا بعيون قوية
قَبّلت جَبينه بخفة: حبيبي هُو "حَرّكَ رأسه وملامحه تغَضّنت مُنذرًا بالبكاء.. عَضّت شَفتها السُفلية وبندم" أووه أزعجته مسكين
ضحكت الممرضة: لا مو منزعج منش.. بس جوعان
نَظَرت لوالدتها التي قَرأت الاستنجاد في عينيها، ضَحكت وهي تقول لتطمئنها: لا تخافين.. بتعلمش الممرضة كل شي "استطردت بَعد أن قَبّلت جبينها" احنا بنمشي اللحين ماما.. باجر من الصبح بجيش
ودَّعتها جود كذلك وتقدمت هي ووالدتها للخارج في حين أن والدها استفسر بهدوء: وين طلال؟
عادَ الارتباك ليُبعثر ثَباتها.. هربت من عينيه المُتفحّصتين وهي تُجيب بهمس: ما أدري
سؤال آخر: راح ينام معاش؟
كَرّرت: ما أدري
هَمْهمَ وكأنّه فَهِم الوضع واكتملت الصورة في عقله.. قَبَّلَ رأسها ثُمّ تراجع للخلف وهو يرفع يده بتوديع: مع السلامة يُبه وتصبحين على خير.. إذا تبين أي شي كلميني
تبسّمت بصعوبة: الله يسلمك.. إن شاء الله
استدارَ بعد أن ألقى عليها نظرة شاملة كانت كالنقطة نهاية الجُملة.. فهو تَيَقّن من شكوكه.. غادرَ الغرفة إلى المصاعد وليلى وجود يتبعانه.. تساءلت جود: بابا وين طلال؟ ما شفناه كلــش من بعد ما ولدت
استنتجت والدتها: يمكن راح يجيب له أغراض مدام بينام معاها
تمْتمت بعدم اقتناع وملامح شَقيقتها توسوس لها: يمــكن!



سَألتها بتعجّب وهي تَراها تَقِف أَمام المرآة تُرَطّب بَشرتها: إنتِ ليش هالكثر باردة! ولا كأن صاير شي!
عَقّبَت بهدوء وهي تنظر لانعكاس صورتها: لأن فعلًا مو صاير شي
ارْتَفَعَ حاجِباها مُسْتنكرة بشدّة: مـــلاك! محمد طلقش.. بدون مقدمات طلقش وإنتِ تقولين مو صاير شي!
حَرّكت كَتِفها بلا مُبالاة وهي تستدير قائلة: عـادي.. هو مو أول واحد يطلق.. ولا أنا أول وحدة تتطلق
خطت ببرود إلى سَريرها.. جَلست وهي تلتقط هاتفها الذي شَبكته بشاحنه أثناء ما كانت تستحم.. حَرّكت اصْبعها على الشاشة تنظر للمحادثات في الوقت الذي همست فيه حُور: إنتِ غَريــبة!
تَجاهلتها وتجاهلت معنى كلمتها لترفع رَأسها وتقول بابْتسامة جانبية: راح تتأجل مقابلتش مع نُور
عَقَدت حاجبيها: ليـش؟
أَجابت: لأنها البارحة ولدت "رَفعت الهاتف تُشير إليه" توني أشوف في قروب بنات العايلة
هَزّت رَأسها بتفهم وهي تعقد ذراعيها: مو مشكلة "استطردت بجدية" ملاك إذا تبين تتكلمين أنا فاضية
أَشاحت عنها لتستقر بالهاتف على المنضدة وتقول: شُكرًا حبيبتي "أَبعدت خصلاتها المُبللة عن جانب وجهها قَبْلَ أن تنظر لها وهي تبتسم وتُرْدف" مو محتاجة أتكلم.. محتاجة أنام بس.. صار لي جم يوم مو نايمة.. والسفر والترانزيت تعبوني
تَنهدت بقلّة حيلة: على راحتش "تراجعت إلى الباب وهي تَسأل" أقعدش للغدا؟
وهي تستلقي وتتدثر بالغطاء: بكون قاعدة أولردي عشان صلاة الظهر
ابتسمت لها بخفة: أوكي "وقَبلَ أن تُغلق الباب ألقت نظرة تفحص سريعة على ملامحها ثُمّ قالت" ارتاحي
أُغلِقَ الباب.. دارت عيناها على المَجال الخالي.. الخالي من كُل شيء.. أَنصَتت للهدوء الذي أَتْخَمَ الغُرفة.. واسْتَشعرت البرودة التي سَوّرت الجُدران وقَيّدت أَطْرافها. انْكَمَشَ جَسدها باحِثَةً عن الدّفء وهي تَشد الغطاء إليها.. لَم يَكن يظهر منها سوى وَجْهها المَأهول بالصَمت. لا تصدعات ولا تغضنات.. لا خطوط تعبيرية.. ولا مياه تُغرق المقلتين.. كانت ملامحها ثابتة بطريقة تبعث على الاستنكار. هي ذاتها تستغرب هذا البرود الذي يَلفّها.. لا تدري أهو تَبَلّد أم أَنّ الأمر فعلًا لا يستحق ردة فعل عنيفة! تَنَفسّت بهدوء وأَسْدلت جِفْنيها.. ومُباشرة رُسِمَ على صَفحة ذاكرتها وَجْهه.. وكأَنّهُ قَدِمَ إليها ليجعلها تُقارن بين يَحموم عَينيه، وبين السواد الذي أَخذَ يَغشى حياتها.. لعلّها تتَيقن أَنّهُ لا ظَلام كظلام ذاته. صَدَح سؤال بين حُجراتها: تُرى ما هُو حالك الآن مُحَمّد؟

،

خارج الغرفة.. في الطابق السُفلي.. جَلست حُور بعد نزولها بجانب زوجها وهي تقول ببؤس: مو راضية تتكلم في الموضوع.. أنا خايفة عليها
نَطَقَ يوسف باستغراب: توقعتها تصيح.. بس كنت معاها من طلعتنا من بيت محمد.. لين ما وصلنا اهني.. ما نزلت من عيونها ولا دمعة!
سَألت مريم تطلب العَوْن: عمتي شنو نسوي؟ مو زين لها جذي قاعدة تكتم في قلبها
بَسَطَت يَديها تَشرح خواءها من الحلول: والله مادري يا بنتي.. حاولت معاها أول ما وصلت.. بس كانت تتجاهلني وتغير الموضوع.. أنا قلت أتركها ترتاح شوي وتستوعب الوضع
يوسف بتفكير: يمكن هي مو متأثرة صدق من اللي صار.. يعني مو شرط تنهار وتصيح.. ردود الفعل تختلف من بنية للثانية بخصوص هالموضوع.. وهي ملاك أساسًا ما شاء الله عليها عندها قدرة كبيرة على تحمل الصدمات والتكيّف وياها
حور بتعاطف: بس هي تحبـه.. مو معقولة ما يحزنها إنها تفترق عنه!
استنتجت مريم: يصير إن كان له أسبابه وهي تفهمتها
ارْتَفعَ حاجبها: بس عمتي هو ما قال لها.. ما قال لأي أحد.. طلقها من غير لا تدري.. ليش سوى جذي.. ليــش!
قالت تتهكّم على الماضي والحاضر المُسْتَنسخ منه: والله يا بنتي مادري شيصير فيهم الرجال من يروحون ألمانيا.. على طول يطلقون زوجاتهم!



دَفعَ باب المَقهى الزُجاجي لِتَسْتقبله رائحة القهوة المُتَطَيّب بها المَكان.. تَقَدَّم خطوة ثُمَّ وَقَفَ يُدير عَدستيه على المُتواجدين.. كانوا قَليلون في مثل هذا الوقت من الصباح.. وهُو كان واحدٌ منهم.. هُناك على إحدى الطاولات كان جلوسه. مَشى إليه بهدوء والرَّهبة تَتَضاعف داخله.. وَقَفَ أَمامه فأشارَ له وهو يقول بنظرة تكسوها الحدّة: اقعــد
جَلَسَ وبظاهر سَبَّابته مَسَّ أَسفلَ أنفه، يُخفي ارتباكه.. شَبَكَ كَفَّيه وبَصره قَد تَعَلَّق بكوب القهوة الخاص بعمّه الذي نَطَقَ بعد برهة بنبرة مُمرغة بالإحباط: بتهورك خَسَّرت نفسك دور المظلوم وبغباء لبست دور الظالم.. الحق كان معاك.. لكن عقب اللي سويته.. صار الحق عليك
هَمَسَ بصوتٍ مُتَخَثّر دُون أَن يرفع عينيه: ما قصدت أضرها
تَقَدَّم بجسده ليهمس بفحيحٍ يَكاد أَن يُرْمد جلد عبد الله من حرارته: تدري لو كان صار شي لبنتي.. أو لولدها.. ما كنت بسامحك طول عمري
أَفرغَ تنهيدة طويـلة وهو يُغمض للحظات قَبْلَ أن ينظر إليه ويهمس: آسف.. بس كنت أحتاج أعرف شنو صار
رَفَعَ حاجبه: ومن قال لك إن لازم تروح لطلال عشان تعرف شنو صار؟
عُقْدة خَفيفة تَوَسَّطت حاجبيه: شلون يعني؟ ما في أحد غيره يدري.. نور ما كانت في وعيها
أَكَّدَ: اي ما في أحد.. بس طلال سوى شي فعلًا.. ويظن إنّه سوى شي ثاني
ازدادت العقدة: ما فهمت!
بهدوء: يعني القرب كان طَفيف "وبصراحة" ما تجاوز القُبلة "أَكملَ سَريعًا قَبْلَ أن يُعقّب عبد الله" وأنا مو قاعد أقول جذي دفاعًا عن طلال أو عن بنتي "وبقهرٍ وغَيظ تَمنى لَو أَنّه يَحرق كُل ما حوله" أنا كــاره نفسي وكاره الماضي اللي خلاني أضطر وأقعد معاك هالقعدة وأقول لك هالكلام اللي ما في أبو في الدنيا يقبل إنّه يفكر فيه، مو بعد ينطقه! "صَمتَ للحظات وهو يُطْبِق شَفتيه.. رَنا جانبًا بعدستيه قَبْلَ أن يُعيدهما لعبد الله ويقول" طلال يعتقد إنّه فعلته كانت.. إنها..
وصَمَت وهو يَزم شَفتيه.. عبد الله الذي استوعب مقصده تَساءَلَ بشك: شلون إنت تدري؟
وَضَّحَ: في نفس الليلة جا واعترف لي.. وقال لي بالضبط شنو صار.. وكنت أدري إنّه فاهم غلط.. بس ما صححت له
ارْتَفَعَ حاجِباه: وليـش!
حَرَّك كتفه وبعدم اهتمام: عقاب له.. عشان كل ما تذكّر ينحرق ويتقطع ندم.. اللي سواه في بنتي مو قليل.. بس اللي يعتقد إنّه سواه أعظم.. فخليته على نفس أَفكاره الغلط عشان ينجوي منها ويحترق
شَدَّ على أَصابعه وعدستاه تَتخبَّطان وَسَط مُقلتيه بعشوائية.. قَبْلَ أن تستقران على عمه ليفصح عن سؤال: ليش وافقت على زواجه منها على الرغم من إنّك تدري باللي سواه؟
ببساطة أجاب: عشان بنتي.. نُور ظلَّت لسنتين مسجونة في أحداث ذيك الليلة.. ما تدري هي حقيقة لو وهم صنعه عقلها.. يوم عن يوم تذبل قدام عيوني.. وأنا أدري إنها بريئة وطاهرة، مثل ما أدري إنّي غلطت يوم رفضت طلال كزوج لها.. فما كان قدامي إلا تزويجها منه.. عشان لو صار وعادت الذكرى المشوشة تهاجمها.. ما تحس بتأنيب الضمير اللي ياكل روحها.. بيكون زوجها.. حلالها.. ونجحت الخطة "سَخَرَ وبيده أشارَ إليه" لكن جيت حضرتك وخرَّبت كـــل شي.. هدمت اللي بنيته بتسرعك
كَرَّر: مــا قصدت عمي أخرب فيما بينهم.. ما كانت هذي نيتي "بَرَّر وبصدق لَمَعَ في عينيه" كنت أحتاج أعرف.. كنت أحتاج أفهم وهذا من حقي.. هي كانت زوجتي.. وهو خالي.. ما بقدر أعيش وأنا أدري إن تسكّر عليهم باب غرفته في وقت كان هو فيه يحبها وهي ما هي في وعيها.. أكيد أبي أعرف شنو اللي صار بينهم
وهو يُرْسِل لهُ مع نظراته سِهام لَوْم: كان في ألف طريقة وطريقة ثانية عشان تعرف
أَخفضَ رَأسه وهو يَشد قَبْضتيه ويَزم شَفتيه ثُمَّ يقول: عمي لا تلبّسني الغلط كله.. في النهاية أنا ضحية حالي من حالهم
ابتَسَمَ ليقول بنبرة يغشاها لحْن الماضي: كنت أقدر أكون مثلك متهور وأروح أفضح أمك عند أبوك.. بس بلعت موس وسكت.. عشان أبوك.. عشان أخوي.. أنا كنت يا عبد الله.. ولا زالت.. ضحية أفعال أمك
هَمَسَ بصوتٍ خاوٍ وهو يَكاد يُصَم من ضَجيج الأسئلة: شلون عرفت إنها.. هـي؟
شَرَحَ له وهُو يُخرج محفظته من جيب ثَوْبه: السالفة ما كانت طبيعية.. ونُور ما كانت طبيعية.. فأكيد هي لها يَد.. وما خاب ظني "أَلقى النقود على الطاولة ثُمَّ وَقَف وهُو يُعيد المحفظة ويستطرد" زوجتك هدمت بيتها.. وهدمت بيت نُور.. أمها ما لها عذر.. طريق الحق حتى لو كان فيه الهلاك.. الواحد لازم يسلكه.. مهما كلّفه من ثمن
أَنهى كلامه ثُمَّ مَشى مُغادِرًا المَقهى.. تارِكًا من خَلْفه عبد الله وهُو يُبصر انهيار حياته الجديدة التي بَناها فَوْق أَساسٍ رَكيك.. أَساسٌ اسْمهُ مَرْوة. أَغْمَضَ والحُزن يَتَشَعَّب في صَدره.. يَمضي ليغزو دمائه.. قَلْبه.. رُوحه.. أفكاره.. حتى لا وعيه سَقطَ صَريعًا عندَ قَدمي الحُزن. مَرَّر يَده على جَبينه وأصابعه تَدعكه.. كأنَّما يُريد أَن يَمسح كُل صورها وهي مُتَسربلة بنظرة الحُب الآسرة.. لَمعة الصَّبابة التي تَسْلب لُبّه.. ويَنع الاخضرار الذي يزهو حدائق بين حجرات قلبه.. يُريد أَن يُمحي تلك الابتسامة المُدجَّجة بنوايا ماكِرة لَم تَلْتفت لها ذاته المُسالمة.. لمساتها المُنطوي أَسْفل دفئها زَمهرير الخيانة.. والقُبلات التي أَصْمتت حَنين عَطشه للارْتواء. لكن كيف؟ كَيــف يُمْحي كُل ذلك؟ كَيْف سَيَقتلعها من أَرْضه بَعدَ أن أَعادت تَرْتيب خرابه؟ جاءَتهُ لِتَطرد عنهُ الفَساد لكنَّها غالتهُ وأَسْرفت في الإفساد! أَيُعْقَل أَن كُل الذي كان لَم يَتعدَّى كَوْنهُ زَيْف؟ زَيــــف! حَتـ ـى.. أَزاح جِفْنيه لتنظر العينان لليباب المُقفر من زُمردتيها.. حَتى امتزاجهما الأخير كانَ زائف؟ خطوات أناملها على جسده.. أنفاسها الساخنة.. وارتعاشها اللذيذ.. ابتسامتها المُنتشية.. وهَمْسها الذي إلى الآن لَو تَذَكَّره يَتنمل منهُ صيوان أذنه.. هل كان كَذِب؟ تَصنّع وتَمثيل؟ غير معقول.. غير معقول مروة.. غــيــر مــعــقــول! عبد الله لَن يَقتنع بزيف أحاسيسكِ.. فذاته يُسْتحال أن تُخطئ. وَقَفَ بِحَزم وبين أَوصاله اشْتَعَلَت رَغبة جامحة للقائها.. يُريد أن يفهم.. يُريد أن يَستوعب.. حتى لَو اضطره أن يفري جلدها ليستخرج من جوفها الحَقيقة.



أَخْفَضت قطعة الخُبز التي قَضمتها لمرةٍ واحِدة فَقط.. نَظَرت لكُوب الحليب الدافئ.. تَأمَّلت سَطحه الرَّاكد والبُخار يعلو منه.. لا رَغبة لها في تناول أي شيء.. لكن هي مُضطَّرة لأن تأكل.. حتى لا يَجُف حَليب ثَدييها. تَنَهَّدت مع ارْتفاع يَديها للكوب.. احتضنتهُ باليُسرى وباليُمنى مَرَّت على فوّهته بأناملها.. تَرْسم دَوائر كتلك الحائمة وَسط رَأسها. فَكَّرت كَثيرًا.. كَثيرًا جدًا.. رُبَّما هي المرة الأولى التي تُفَكّر فيها بكُل هذا العمق وهذه الجدية.. والنتيجة التي اهتدت إليها مُقنعة.. نَوعًا ما. فعدم الإقناع الذي يَرتبط بها مُتعلّق بمَدى شَجاعتها.. هذه هي المُشكلة الوَحيدة.. أما كبريائها وغُرورها البَغيض.. فَأصبحَ في طي النسيان. شاكَست شَفتيها ابتسامة تَهكّم لَم تَفُت والدتها التي تَساءلت بشك: في شنو تفكرين؟
رَمَشَت بخفّة مُنتبهةً لها.. رَفعت عينيها إليها لتنظر لها لثواني قَبْلَ أن تخفضهما وترفع الكُوب لترتشف من الحليب بهدوء.. مَرَّرت لسانها على شَفتيها ثُمَّ أجابت دون أن تنظر لها: في شقتي
عُقدة خَفيفة تَوسَّطت حاجبيها وباستغراب: شقتش! وشنو فيها شقتش؟
أَجابت بنبرة خافتة تُوحي بالتَّردد: راح أرجع لها.. أرجع لشقتي.. ولزوجي
مالَ رأسها وبعتابٍ غَضَّنَ ملامحها: حنين أرجوش.. والله ما فينا شدة.. لا تسوين لنا سالفة جديدة
استنكرت: سالفة شنو يُمَّه! أقول لش أبي أرجع لشقتي وزوجي بدل ما تشجعيني تقولين لي لا تسوين لنا سالفة! وهذا إنتِ تحنين عَلي ارجعي وارجعي.. شصار اللحين؟
قابلتها بسؤال في باطنه رَيبة وعدم ثقة: إنتِ شنو في راسش؟
وَضَعت الكوب على الطاولة قَبْلَ أن تَسْتنشق نَفَس عَميق وتزم شَفتيها.. أَرجعت خصلاتها خلف أذنها ثُمَّ تَحَدَّثت بهدوء وهي ترفع بصرها إليها لعلَّها تَقرأ صدقها: يُمَّه.. أنا فكرت واجد.. اللي سويته غلط.. واجد غلط.. ضريت نفسي وضريت زوجي وولدي.. حتى انتو ضريتكم وبهذلتكم معاي.. وبعد التفكير الطويل قررت أرجع لبيتي.. أبي أحاول أصحح خطأي وألملم اللي طاح.. وأنا أدري.. بسَّام طيّب.. إن شاء الله بيتفهمني
تَساءلت وملامح عدم الراحة تجوس بين طيَّات وجهها: متأكدة تبين ترجعين؟
هَزَّت رَأسها وهي تَتَقَلَّد بثقة فَتِيّة: ايــه يُمّه متأكدة "كرَّرت" متأكدة
ابتسامة ناعمة لاطفت شَفتيها طاردةً كُل التعابير المُتشائمة، وبحماس قالت وهي تقف: من اللحين ببدأ أنا وجيني نجهز أغراضكم "استفسرت قَبْلَ أن تمضي للأعلى" متى بترجعين؟
بادلتها الابتسامة: خلال هاليومين.. إذا يصير يعني
وهي تمشي مُسرعة للسُّلم: يصير يصير "رَكبت العتبات وصوتها يَصل لحَنين كالهمس" الحمد لله يا ربي.. الحمد لله إنّك هديتها
اتَّسعت ابْتسامتها وهي تَسدل جِفنيها كما تسدل الشمس أجنحة شُعاعها؛ بَعد أن تَطمئن على الأَرْض التي تَكَفَّل بها القَمر. تَنَفسَّت براحة كَبيرة وهي تَشعر بجِبال الهَم تَتهدَّم شيئًا فشيء لتتحول إلى ذراتٍ صَغيرة.. تَتخلص من حِملها مع كُل زَفْرة. تتمنى أن تَمر الأحداث بسلام.. كَما تَتمنى أن طِيبة بَسَّام لا زالت حيَّة تُرْزق.. لَم تَستبح دمائها سِهامها المُتعجرفة.



الشِّقة رَقم 5 الواقِعة في الطَّابق الثاني للمبنى "..." الذي يَبعد حوالي خَمسون مِترًا عن موقع حادِثة مَوْت عَمَّار المُفَبْرَكة. هذه المعلومة البسيطة والعَظيمة في آنٍ واحد تَم استنطاق العامل كابي سوري للاعتراف بها.. ولَم تَتَطَلَّب منهما هذه العملية أي جُهْد يُذْكر.. فهو ما إن زُجَّ في مَرْكبة رائد.. حتى انطلق لسانه مُفْصِحًا عن كُل شيء، فَعَيْنَي عَزيز كانت كافِيَتان لإرهابه.. فهو بنظرة واحدة بَصَقَ عَليه السَّواد الذي سَيَبتلع حياته إذ هو حاول أن يُراوغهما أو أن يُكذب عليهما. لذلك سَلكَ الطَّريق ذو العذابِ الأَخف.. طَريق سَيحتفظ له ببعضٍ من الألوان. وفعلًا.. هُما سَرَّحاه مُباشرة بعد أن نَطق ولكن مع تحذيرٍ حاد بأنَّهما سَيُراقبانه إلى الأَبد. فهو من الناحية القانونية يَجِب أن يَتلقَّى عُقوبةٍ ما بما أَنَّهُ مُشاركٌ في الجريمة ولو بطريقةٍ غير مُباشرة.. إلا أَنّهما سَرَّحاه لعدّة أَسباب أَهمَّها غُرْبته وفقره وعائلته في بَلده التي تنتظر منهُ الإعانة نهاية كُل شَهر. وَقَفا أَمام باب الشِّقة.. دَقَّ رائد الجرس وعَزيز بجانبه يَنتظر. إلا أَنَّ جَوابًا لَم يَأتِهما حتى بَعد أن ضَربا الباب بقبضتيهما.. فقال عزيز: بندخل
نَهره رائد: لا عزيز.. شنو ندخل! ما عندنا أمر بالتفتيش
رَفعَ حاجبه وببرود حازِم: مــا يــهــــمنــي
تَراجعَ خطوتان للخلف ثُمَّ عادهما سَريعًا وهو يَرْفع ساقه للأعلى ليهوي على المِقبض بقوّة أَدَّت إلى انفكاك القِفل؛ الذي أَتبعهُ اقتحامهما غير المشروع. تَقَدَّم للداخل وَعيناه تدوران على المَكان بتفحّصٍ دَقيق.. هَمَسَ رائد من خَلفه: عزيز خل ناخذ أمر وبعدين نفتش.. لا نسوي لنا سالفة
تَجاهله وأَشار بيده بعشوائية آمِرًا دون أن يَقطع بَحثه: افتح الليتات
تَأفف مُتَذَمّرًا من هذا العَنيد وهو يَستدير باحثًا عن المفاتيح التي وَجدها خَلْفَ المنضدة المُسْتقر فوقها التلفاز.. أَضاءَ المصابيح ليتَمازج نُورها بنور الشّمس المُخْتَرق الستائِر؛ قَبْلَ أن يخطو وهو يَتَلَفَّت ويستنشق بعُقدة حاجبين: شنو هالريحة!
أَجابَ باسْتخفاف: شنو بعد.. ريحة البلاوي اللي يشربونها
تَغضَّنت ملامحه باشْمئزاز هامِسًا بتقزز: وع عليهم
قالَ وهو يَلْتفت إليه: اترك عنّك التشمم وتعال دوّر معاي
استنكَرَ بعلو حاجبين: أدوّر شنو! الجريمة مر عليها أكثر من سنتين.. مو معقولة بنلقى شي وفي شقة رائد بعد.. مو غبي هو
رَنا لهُ بَطرف عَيْنه مُعَقّبًا: المُجرم لازم يكون غبي في لحظة من لحظات ارتكابه للجريمة.. وبعدين احنا لقينا أشياء في بيت صالح حتى بعد مرور عشرين سنة على الجريمة.. فتعال ساعدني لا تتحجج "وهو يَوخز ضَميره" عشان عَمَّار الله يرحمه
تَنهَّد باستسلام وهُو يَخطو إلى زاوية أخرى من الشِّقة ليبدأ بَحثه. اسْتَمرَّا في مهّمتهما لما يُقارب الأربعون دَقيقة ولَم يَعثرا على طرف خيطٍ واحد.. هُما بَحثا في غرفة الجلوس.. في المطبخ.. داخل دورات المياه وغرف النَّوم الاثنتين.. نبَّشا الأدراج وألقيا نظرات أَسفل الأرائك والأَسرة.. حتى بين الملابس بَحثا. لكن لا شيء. وعَزيز مُقتنع أَنهما سَيجدان دليل ودليل قَوي.. فالشّقة قَريبة جدًا من المكان الذي عُثِرَ فيه عَمَّار.. فَبالتأكيد هو قُتِلَ هُنا ثُمَّ نُقِل إلى سَيَّارته المركونة هُناك أمام مصباح الشارع الذي يَدَّعون اصطدامها به.. بالطَّبع بعد أن حَطَّمها سوري بآلة الهَدم التي كان يتحكَّم بها. تَساءَل رائد ويداه تستقران على خِصْره: هـا؟ شبتسوي اللحين؟
وهُو جالس على رُكبتيه يَنظر لأسفل الطاولة الصغيرة المُتوسّطة غرفة الجلوس: بنشوف إذا له مكان ثاني غير هذي الشقة "رَفَعَ رأسه مُرْدِفًا" باقي وقت على خيبة الأمل
أَوْمأ بتفهّم ثُمَّ قال: انزين امش خل نطلع "أشارَ للباب" ويبي لنا حل للقفل اللي كسرته
هَمَسَ وهو ينحني لمنضدة التلفاز: لحظة
فَتَّشَ في درجيها وأَسفلها.. حتى التلفاز نفسه تَفَحَّصه بدقة وألقى نظرة على جهاز التحكّم الخاص به.. لكن أيضًا لَم يَجِد شَيء.. لذلك رَفَعَ جَسده بحركة سَريعة وقوية تَنم عن قَهره.. وَقَفَ وهو يَزْفر.. وكان سَيَستدير ليخرج.. لكن عَقله اليَقِظ بَرَقَ فَجأة ليُنير في ذاكرته صُورة عمرها لحظات.. صُورة لَم تكون إلا لعجلات منضدة التلفاز. انحنى مُجَدَّدًا وعَدستاه تقفزان من عجلة إلى أخرى.. يَنظر.. يُدقّق.. ويُقارن.. هُو حَتَّى أَخرج مصباحه اليدوي الصَّغير من جيبه ليتيَقَّن مما التقطتهُ حَواسه المُتمرسة. رائد الذي كان يُراقبه تَحرَّك إليه عندما شَدَّت شَفتيه ابتسامة جانبية تَحكي عن اكتشافٍ خَطيـر. تَساءَل بحذر: شنو؟ شنو حصَّلت؟
رَدَّ: تعال شوف
جَلس كجلوسه بجانبه لينظر للعجَلة الأمامية اليُسرى.. كانت سوداء.. يعلوها بعض الغبار.. كما كانت متَّسِخة.. فبقعة رمادية داكنة بحجم عملة معدنية بقيمة خمسين فلس؛ كانت تشغل منتصفها إلى نهايتها المُلْتصقة بالأرض. سَأله عزيز بهمسٍ تُسانده أنفاسٌ مُتَحَمّسة: ها.. ما تشوف عليها شي غير عن باقي العجلات؟ شي مألوف.. أو لون مألوف؟
ضَيَّقَ عيناه مُدَقِّقًا فيها ووعيه بأكمله مُركّزًا عليها. ثواني واتَّسعت ابتسامة عزيز مُحاكاةً لاتّساع عَيْني رائد الذي هَتفَ: دم.. بـقـعـة دَم!
هَزَّ رأسه وهو يُشير للبقعة الرَّمادية بطرف المصباح الشبيه بالقلم: اي دم.. وواضح من لونه إنّ مرت عليه أكثر من سنة.. وتسعة وتسعين بالمئة احتمال يكون دم عَمَّار "أَرْدَفَ" لازم نوديه المختبر
تناول من جيب بنطاله مشرط في الوقت الذي أخرج فيه رائد كيس بلاستيكي صَغير.. وبسهولة كَشَط الأَثر الرَّمادي مُباشرة إلى داخل الكيس. وَقفا بالدليل وعيناهما تتبادلان نظراتٍ عَبَّرت عما يَجول في خاطر كُل منهما.. يبدو أَنَّ النهاية اقتربت. خَطى الاثنان لخارج الشقة بعدَ أغلقا المصابيح.. تساءلَ رائد وهو ينظر للقفل: شنو نسوي وياه؟
ببساطة أجاب: بنكلم البواب.. بنقول له يتصل في صاحب الشقة ويخبره إن شم ريحة غاز فاضطر يكسره عشان يدخل قبل لا يصير شي خطير
حَكَّ صدغه: بيقول له ليش ما فتحته بالمفتاح اللي عندك
رَفعَ حاجبيه بابتسامة: عنده رزمة مفاتيح لاثنعشر شقة بغرفها.. على ما يحصّل المفتاح المطلوب انفجر الغاز واحترق المكان بكبره
ابتسمَ باقتناع إلا أَنَّه سألَ سؤال أخير وهما ينزلان العتبات: انزين البواب.. شلون بيطاوعك؟
ضَحكَ: هو بس بيسمع اسم الشرطة بيقول حاضر وعلى أمركم
عَلَّقَ رائد: نفسي نفسي والناس خل تولّي



عادَ من المَسجد بعدَ أن أَدَّى صَلاة الظهر.. وكالعادة بعَد أَن تُسْبِغ عليه الصلاة سَكينتها يُقَرّر أن يَذهب إليها. في المرات السابقة كان يتردد فيعود أدراجه لغرفته الجَديدة التي باتَ يَنام فيها بعد الذي حَصَل. لكن اليوم واصَلَ ودَخلَ إلى غرفته السابقة.. حَيثُ كانت تَنزوي. وَقَفَ خَلْفها.. هي التي اتَّخذت من النافذة الكبيرة المُطِلّة على باب المنزل طَريقًا مَخْفِيًا.. يَمضي بها للقيا ابنها الغائب. إلا أَنَّ الطَريق طال.. والرحلة باتت شاقة.. والرُّوح قَد أَنهكها الشَّوق وأرهقتها اللهفة. هَمَسَت وهي التي ميَّزته من خلال طَرقه: ما رجع.. عبد الله يا بو عبد الله ما رجع
عَقَّبَ بجُملة كانت كالحُمم في لهيبها.. وكالجليد في زَمهريه: ولا راح يرجع
استدارت إليه كالملسوعة وهي ترشقه بنظراتٍ مُهدّدة.. هُو تجاهلها واتَّجه ليجلس على السرير ويقول: أنا مو جاي أتكلم عن عبد الله.. ما في كلام أصلًا بخصوصه "أَرْدَفَ بجديّة غمرت صوته وتكاثرت في عينيه" أنا جاي أتكلم عن أخوي.. عن ناصر
دارت عدستاها على وجهه ببرود ثُمَّ التفتت مُجدَّدًا للنافذة لتقول بنبرة تنضح منها الحِدَّة: ما في شي نتكلم عنه بخصوصه
رَدَّ: امبلى في "وببساطة" إنش تحبينه
هذه المرة فَزَّت واقفة لتواجهه وتقول بانفعالٍ بانَ على وجهها الذي خالطته الحُمْرة: كــنــت أحبه.. كــنـــت.. ولا تظن إني بنكر.. لأنه مو شي عيب ولا حرام.. وهو كان يدري.. ناصر كان يدري إني أحبه بس هو ما كان يشوف غير ليلى "وبثقة لا غُبار عليها أكملت " وأنا لو ما حبيتك جان ما قعدت معاك ولا دقيقة.. وطول ما أنا على ذمتك ما خنتك حتى بتفكيري
وَقفَ ليُقَلّص المسافة بينهما.. ليتسنَّى لهُ تحسّس ملامحها بعينيه.. لرُبّما وَجدَ صِدْقًا. هي أَكملت بحشرجةٍ غريبة على صوتها الذي نادِرًا ما يَخلع ثوب الشّموخ: أنـا.. ومن أوّل أسبوع لي معاك.. حمدت ربي إنّك إنت اللي كنت نصيبي في النهاية.. ومن يومها وأنا في كل صلاة أحمد ربّي "أشارت لصدرها بيدين غالتهما الرّجفة" إنت ما كَبّلتني.. إنت طَوّقتنـ ـي.. بحنانك وتفهمك وصبرك طوّقتني
تَطَلّع لوجهها.. نُور الشمس المُتَمرّد من أَسْفل الستائر صُبَّ على جانبه الأَيسر.. مُضيئًا بذلك عَينها التي تَرقرقت وَسطها دَمعة. هَمسَ وهُو في نَفسه يُحاول أن يَطرد الصّدق الذي استشعره بين كلماتها ورآه بين طَيّات ملامحها: مدام كل هذا في قلبش.. ليش سويتين اللي سويتينه!
أَجابت بإفصاح: عشان كرامتي.. عشان نفسي.. وعشان سنيني اللي راحت وأنا محرومة من أبــ ـوي.. أبوي اللي مات وهو ما يكلمني.. مات وهو غضبان عَلَي
عَقّبَ بهدوء: كنتِ تستاهلين
نَفت بشدّة: لاا.. ما كنت أستاهل.. ما كنت أستاهل هذا العقاب.. أنا كنت مراهقة.. متهورة والحُب الغلط أعماني.. كانت كل هالأمور لصالحي.. كنت أستاهل أتعاقب.. بس مو جذي.. مـو جـــذي!
وعُقْدة خَفيفة بين حاجبيه: بنخلي نور وعبد الله على صوب.. طلال شنو ذنبه؟ شنو ذنبه يتصوّب بشظايا قهرش من ناصر اللي خله أبوش يغضب عليش؟
بثقة ردّت: ذنبه إنّه ولد أمه.. حنان اللي حامت حوالين أبوي لين ما تزوجها وأمي ماتت من قهرها.. نست شلون أمي ضفّتها من بعد ما بقت وحيدة لا أهل ولا عزوة
ارْتَفَعَ حاجِباها باستنكار عندما ضَحكَ ضحكة قَصيرة وعلامات التعجب تغص بها ملامحه ومُقلتاه.. هَمسَ غير مُصَدّق: يا الله بلقيس.. يـــا الله! تكسرين الخاطر.. والله تكسرين الخاطر
تَخَبّطت عدستاها على وجهه بعدم فهم ونبضاتها قَد حَفّز من سرعتها توجّسٌ دَبّ وَسط قلبها من ردة فعله الغريبة.. تساءلت بحذر: ليش تقول جذي!
قالَ وبقايا الضحكة تتحوّل لابتسامة لمحت فيها السخرية مع الخَيبة: الشره على خواتش اللي يدرون وما علّموش.. لا وفوق هذا واصلوا في تعذيب وتهميش طلال المسكين!
نَطقت بقلبٍ يرتعش: بو عبد الله تحجى واللي يرحم والديك.. شتقصد بحجيك هذا! شنو اللي ما علموني فيه خواتي!
أَجابَ بحاجبٍ مرفوع: سبب زواج أبوش من حنان.. حنان بنت خالة أمش اللي ضفتها في بيتها
هَمست بتلعثم وخوفٍ مُوارب من الحقيقة: شـ ـ ــشــ ـنو.. شنو!
نَطقَ ليقذفها برصاصة ثَقَبت رُوحها لتُحيي جِرْحًا بعُمق جِرْح عذابات طلال الطويلة: إنتِ ولأنش ما سمعتين الوصية ولا اطّلعتين عليها مثل ما طلب أبوش قبل موته.. ما تدرين إنّ أمش بنفسها قالت لأبوش يتزوج حنان.. عشان يكون وراها رجّال حلال عليها
شَعرت بتنمّل يجري من أطرافها لباقي جسدها من هذه الصاعقة التي ألقاها عليها.. هَزّت رَأسها ترفض ما قاله وهي تهمس ببحّة الصّدمة: لا.. لا.. مُستحيل.. لاا.. أمي مُستحيل تسوي هذا الشي.. أمي ماتت مقهورة.. مقهووورة
قالَ ليستل منها بقايا أنفاسها: أمش ماتت من سرطان القولون اللي اكتشفوه في آخر مراحله.. بس أبوش ما قال لكم.. تقارير المستشفى كلها موجودة ووصية أبوش إذا تبين تتطلعين عليها.. أخوي ناصر خبّرني بكل شي.. وكل هالأشياء محفوظة عنده مثل ما طلب أبوش الله يرحمه
لَم تعد تشعر بجسدها.. شُلَّ بأكمله.. حتى أَنّها لَم تعد تَسمع صَوته.. جُفَّت عُروقها والدُّم نَزحَ عن أراضيها.. أَصْبَحت بَلقعًا.. صَفحة بيضاء باهتة ماتت فيها المشاعر والأحاسيس وانتحرت من على قارعتها الحَياة. تَقَهقر جَسدها حتى اصطدمت بالمقعد.. اخْتَلَّ توازنها.. وجَسدها الهَزيل تَكالبت عليه الأيام الخالية التي ساندتها الحَقيقة القاتلة للماضي الغابر؛ ليسقط باستجابة للجاذبية الأرْضية بعد أن غابَ عنها الوَعْي.. وكانَ آخر ما حَلَّقَ بوهْنٍ من حَنجرتها وَجْسٌ شَقَّ قَلْبها لتعلو كلمته: أخــــــوي



اسْتَقبلهُ بِصَمت.. وجَلَسَ مُقابلهُ بِصَمت.. وها هي انقضت سِتُّ دَقائق والصَّمتُ لا يَزال مُتَرَبِّعًا بينهما. كلاهُما كانَ يَضِج في روحه الكَلام.. أَحاديث كَثيرة تُريد أَن تَعْبر لَرُبّما تَسْتريح من ثِقْلها القُلوب.. لكن هَيْهات.. هَيْهات أن يَكون للراحة مُسْتَقر وَسط الجَوى. رَفَعَ بَصره لِناصر عندما تَنحنح وكأنهُ أَرادَ أن يُنَبّهه.. وفعلًا.. ثَبَّتَ طَلال عَيْنيه عَلى وَجهه مُنتَظِرًا ما سَيَقوله. مَرَّرَ لِسانه على شَفتيه وهُو يَتَقَدّم بجذعه للأمام.. اتَّكأ بمرفقيه على فَخذيه وشَبَكَ أصابع يَديه.. كُل ذلك فَعله دون أن يُدني بطرفه لطلال الذي اسْتَفسَر بهمسٍ يُغَلّفهُ الذّبول: شنو تبي تقول؟
أجابَ بَعدَ ثواني بسؤال وهو يَتَطَلّع إليه بدقّةٍ وتَركيز: شنو صار بينك وبين نور بالضبط ذيك الليلة في غرفتك؟
تَغَضَّنت ملامحه بتعب في الوَقت الذي مالَ فيه رَأسه وهو يَقول بضَجَرٍ كَبير: ناصر كلش مو وقته.. والله ماني طايق نفسي عشان تيي وتسألني.. كفاية اللي صار
كَرّرَ بحزمٍ انعكسَ في عَيْنيه وبجديّة تَمَرّغَ بها صَوته: شنو صار بالضبط بينك وبين نور ذيك الليلة؟
قابلهُ بسؤال وبعقدة حاجبين: ليش تسأل اللحين؟ في هذا الوقت بالذات؟ وإنت أساسًا تعرف الجواب!
قالَ من بين أَسْنانه: طـلال جـاوب على السؤال
زَفَرَ وهو يَلتفت بعدستيه جانبًا للحظات قَبْلَ أن يعاود النظر إليه ليُجيبه بهدوء. ناصر كان يُنصت إليه وَعقله يَسْترجع تلك الليلة المشؤومة واعتراف طلال المُنهار الغارق من دموع نَدمه.. يَسْمعه وبصره يَتفحّص ملامحه بدقّة.. تلك المَلامح التي تَكالبَ عليها ماضيه مع حاضره بلا رَحْمة. كانت تَجاعيد التّعب والإرهاق تَشق قَسمات وَجْهه من جميع الجوانب.. فَوْقَ جَبينه.. أَسْفَلَ عينيه.. وحَوْلَ فَمه.. بَياض مُقلَتيه احتفظَ بلونٍ أحمر باهت يَدل على أَنّه بَكى لساعاتٍ طَويلة.. والسّواد الجاثم أَسْفَل عَينيه يَفضح سَهره. هُو تَحَدّث وسَردَ المَوْقف الأَرْعن للمرةِ التي لا يَعْلمها.. فهو إلى جانب أَنّهُ حكاه لناصر ورائد سابقًا.. فلقد استفرغهُ لعشرات المرّات على مسامع ذاته المُتأسّفة. أرْدَفَ بعد أَن انتهى: واللحين قول لي.. ليش تسأل؟
كَشَفَ صَدره عن تَنهيدة أَثارت استغراب طلال أكثر وأكثر.. عَرَكَ كَفّيه ببعضهما البَعض وعدستاه تَتأمّلان الأَرض بشرود حَفّزَ القَلق بين عروق طَلال الذي هَتَفَ: نــاصــر
نَظَرَ إليه.. ازْدَرَد طلال ريقه عندما أَبْصَرَ شَفَقةٌ مُقيتة تُلَوّح من عَيْنيه.. شَعرَ بشيءٍ يَنقبض في قَلْبه.. في الوَقت الذي نَطقَ فيه ناصر بهدوءٍ كالذي يَسْبق دوْي انفجار قُنبلة: اللي صار بينك وبين نور حَرام.. ما في شك بهذا.. بس مو الحرام اللي تعتقد إنّك سويته
تَقَدّمَ جَسده للأمام بتحفّز والعُقدة تَسْتحوذ على ملامحه، وبعدم فهم: شتقصد!
تَنهيدة أَخرى.. ومن ثُمّ: يعني إنت ما زنيت.. اللي صار بينكم مو زِنا مثل ما تعتقد
وَقَفَ ببطء والانشداه أَرْجَفَ أَطْرافه خاوية القِوى.. وبتعثّر قال: بــ ـ..ــبس.. إنت.. إنـ ـت.. قلت.. لازم أنجلد.. لأنّي زنيــ ـ... ووجلدتني.. جلدتنـ ـي
وهو على جُلوسه حَرّكَ لسانه باعترافٍ طَعنَ طَلال في ظَهره: إنت نسبت الجُرم لنفسك وأنا ما صحّحت لك.. استغليت جهلك عشان أطفي ناري المشتعلة على بنتي
أَشارَ لِنفسه.. لِخرابه.. لِذاته.. وبهمسٍ مَشْروخ لَم يَكن سوى آه هَتَفَت بها نَبْضة بعد أن عَثّرتها الخيانة: وأَنــا! "صَرَخَ من قُعر أَلمه" وأنـــــا!... من يطفي النــار اللي حرقتني وحرقتني وحرقتنـــي وللحيـــن تحرقني؟ مــن؟ كلما أَشوف الراحة وهي تنسلب مني أقول اي.. هذا عقاب ربي.. ربي للحين ما تاب عَلَي.. ما غفر لي جُرمي.. ما تجاوز عن الكبيـــرة اللي فعلتها.. واللحيـــن ياي تقول لي إنّي بــريء وإنّك جذبت عَلي! "تَقَدّمَ منه وهو يَضرب بقبضته على صَدره.. فَوْقَ قلبه.. مُرْدِفًا بحُرقة احْتَقَن منها وجهه المكدود" هذا ما عاد له وجود ناصر.. البارحة نور ذَبحت آخر جزء منه "وهو يُعَدّد على أصابعه المُرتعشة" انطعن من خواتي.. وانطعن من بلقيس.. وانطعن منك.. وانطعن من نور وعبد الله "عاتَبهُ وغَمامَ عُمره يُسْقِط على عَينيه دُموعًا ليذرفها" ومو طعنة وحدة يا ناصر.. مو طعنة وحدة! تماديتون في قسوتكم.. وااايد تماديتون.. وأنا ساكت ومنجب... أقول ما عليه.. أستاهل.. أنا اللي يبته لنفسي.. أستاهل.. عشان أتأدب "رَفع كَتفه وهو يَبتسم بخيبة مُرْدِفًا وبصوته المبحوح يستغيث" لكن طلعت ما أستاهل.. ما أستاهل هالظلم اللي انظلمته منكم "أدارَ جَسده وهُو يُغمض عينيه وأصابعه تتخلل خصلات شعره المُبلّلة بعرقه.. وبهمسٍ تغمره الحيرة" يا الله.. يــا الله! "التَفَتَ إليه وعلى وجهه نُحِت سؤاله الأبدي" أنا ليش عايش! شنو الفايدة من عيشتي؟
وَقفَ ليُقابله وهو ينهره بهدوء: طلال لا تقول هالحجي
أَعادَ بإصرارٍ نابع من جراح رُوحه المكشوفة: لا قول لي ناصر... قــول لي ليش.. ليش أنا للحين عايش؟
رَدَّ: أمر الله يا طلال
ابتسامة لا معنى لها ولا لون عَبرت أرض شَفتيه القاحلة وهو يَقول: تدري.. السعادة اللي طول عمري أحلم فيها.. أدري إني راح أحصّل عليها وللأبد وقت ما ربي ياخذ روحي.. خلاص أنا تيقنت.. الموت بالنسبة لي هو المرادف للسعادة
ناداه: طلال اسـ
قاطعه بكلمتين جليديتين: اطلع برا
استنكرَ التغيّر الغريب والسريع الذي تَمَكّن منه.. جاءَ ليتحدث لكن صَرخة طلال المجنونة أَلجمته: اطــــلـــع بــرا.. اطــلــع من حـيـاتي ناصر.. اطــلــــع... خــلاص.. أدّيت اللي عليك "ضَحكَ وكأنَّ مَسًّا قَد أصابَ عقله وهو يُكمل" صدق ما أدّيته على أحسن وجه.. بس يكفي إنّي للحين حَي.. دمرتني صح.. شوّهت أحلامي.. حرمتني من حبيبتي لمرتين.. وذبحت حلم الأسرة اللي كنت أسعى له.. بس ما عليه.. أنا للحين أتنفس "رَفَعَ حاجبيه وبتساؤل لاسع" مو هذا المطلوب؟ مو مشكلة.. بنجرح الإنسان.. بننتزع من قلبه أحلامه وبنكسرها وبعدين ندوسها.. بنقلب له الحقيقة أوهام والأوهام حقيقة.. بنطحنه وهو خل يختنق بآهات روحه.. ما عليه مدامه بعده حَي.. بعده يقدر يمشي.. حتى لو كان إير وراه حطامه مــا عــلــيــه.. صح ناصر؟ صــح ولا أنا غلطان؟
نَطَقَ وهو يَنتقي كلماته بحذر ليتفادى أي ردة فعل غير مُتوقعة: طـلال الأمور تحت السيطرة.. نور قاعدة تمر في صدمة.. وأي شي قالته فهو بسبب صدمتها.. يعني هي ما تقصده.. فلا تستعجل السوء.. أنا راح أكلمها وأفهمها.. كل شي راح يتعدل ويرجع مثل قبل وأفضل
كَبّلت العُقدة ملامحه الرّمادية وهو يتساءَل: ليش للحين ما طلعت!
رَفَعَ يده يُحاول أن يَتفاهم معه: لحظة طـ
اتّسَعت عيْناه بصدمة من الدّفعة القوية وغير المُحترمة التي وَجّهها إليه.. وقَبْلَ أن يُعَبّر عن صَدمته أَتته الدّفعة الثانية أقوى من سابقتها ولسانه يُردّد بحقدٍ كان غَريبًا وجدًا عليه: اطــلع.. اطـلع ناصر "وبصرخة أَكّدت لناصر أن هذا الذي أمامه قَد سُلِب منه وَعيه" اطــــلع.. بـــرا ناصر براا.. اطــلــع بــرا
فَتحَ الباب ثُمّ أخرجهُ قِسْرًا من شقته وصرخاته تتردّد بين أرجاء المَبنى وتَصْدح بين جُدران رُوح ناصر المذهولة.. لقد ذُبِحَ طَلال.. لَقد ذُبح بيدين أَحبِّ خَلْق الله على قَلْبه. أغلق طَلال الباب.. اسْتندَ عليه بجانب جَسده المُرْهَق.. المَذبوح بسيوف الخيانات.. المطعون في خضم انتشائه من عِناقٍ وَهْمي.. اسْتَنَدَ والرّوح في جَوْفه تَصرخُ أَين سَندي وكَتِفي وأَرْضُ بقائي؟ أَين تلك اليَد التي وَجّهتني لطريق النّور؟ أَين دوائي وقوّتي وصَبري؟ أين أَنتَ ناصِر؟ وهُناك.. على أرْضية شِقّته المُختنقة من الكآبة.. استسلم جَسده بسقوطٍ خافت.. كصوت وَقع أَقدامه وهي تمشي على طريق السعادة.. انهارَ وجوده والصّمت الذي أَخذَ يَزعق داخله صَرّح لهُ بالحقيقةِ القَبيحة.. بالحَقيقةِ التي أَعمى بَصيرته عنها لسنوات.. بالحَقيقة التي لَم تحتمل أَيّة ظنون.. حَقيقة وحدته. كُنتَ طَلال.. كُنتَ ولا زلتَ وحيدًا.. وافتقار ذاتك لجوابٍ عن أَسئلتك يؤكّد على انتمائك للوحدة.. لا ناصر ولا نور.. لا عائلة ولا أُسرة صَغيرة.. فوحدتك وُلِدت بموت أُمِّك.. وُلِدت بعمرٍ مُخَلّد.. فهي سَتبقى حتى وإن أتى وأَنقذكَ المَوْت.. سَتبقى إثْباتًا على أَنّك عُشْتَ ومُتَّ وَحيدًا. احْتَضَن جَسده.. كان يَرتعش.. يعتقد أَنّهُ مَحْموم.. لا لا طَلال.. لستَ مَحْمومًا.. هذه نتائج النار التي زَجَّ فيها ناصر حَطَبَ خيانته.. أصْبَحتْ أكبر.. أَصبحتْ أَشرس ولهيبها ازْدادَ تَمَرّده.. باتَ يَتغَذَّى على أَشْلائك بلا رأفةٍ وشَفقة. ها أنتَ تَستنشق رائحة ذاتك وهي مُسْتسلمة للفناء.. ها أنت تختنق من جُثث دواخلك.. قلبك.. رُوحك.. وأحلامك.. من أَين لكَ توابيت تضمها فيها؟ بل من أين لك أرض تدفنها فيها؟ وهل تَحْتمل الأَرْض دَفْنَ كَيانٍ مُدَمَّر؟ هُنا بَكى طَلال.. أَفْرَغ من العين دُموعه وناحَت من حنجرته آهات ذاته.. وبَكى.. بضياعٍ وتيه بَكى.. فهو اكتشف في نهاية المطاف أَنّه لا يدري إلى أَيْن ولِمن ينوء بوجعه!




يتبع



الساعة الآن 11:26 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية