رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
السلام عليكم ورحمة الله ..
أسعد الله مساءكم بكل خير سمبلنيس ومتابعاتها الكريمات يعطيچ العافية سمبلنيس على الجزء الأخير ،، جميل كجمال كاتبته ،، وأعتذر عن عدم الرد في حينها لظروف خاصة ،، متشوقة للجزء القادم بإذن الله .🍃🌷🍃 |
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شخباركم جميعًا؟ بقى يوم على نهاية الأسبوع.. فيعني أكيد هو اللي بينزل فيه الفصل.. أي أن بُكرة السبت بإذن الله راح ينزل.. ما بين الساعة العاشرة والحادية عشر مَساءً.. مُمكن ينزل قبل.. بس لأن للحين باقي جم فصل.. ومراجعته بتاخذ وقت طويـــل.. فقلت مبدئيًا أختار هالوقت.. ونشوف بعدين شنو يصير. الفصل لحد الآن كميته حــلوة جدًا.. فيعني مع باقي المواقف بتكون الكمية رائــعة.. أتمنى! الفَصل بالنسبة لي مُتّخم بالمشاعر بجميع أنواعها.. أرجو إنها تَصلكم. نلتقي غدًا. |
بسم الله الرحمن الرحيم تَوكلتُ على الله الجزء التاسع والخَمسون الفَصل الثاني وَقَفت لِتَسْتَفِيق عَضلاتها بَعْدَ نِصْفِ ساعة من الاسترخاء.. أَخرجت ساقها اليُسرى ومن ثُمَّ تَبِعَتها باليُمنى.. خَطَت خطوتان قَبْلَ أن تَلْتَقِط رِداء الاسْتحمام وَترتديه. وَقفت أَمام المرآة المُصْمَتة من تَكثّف البخار فَوقها.. مَسَحتهُ بيدها فاتّضحت لها صُورتها مع بعضٍ من التَشويش.. وَجْنَتاها النّحيلتان مُتَوَرّدتان كما لَو أَنّهما ثِمار زَهرية حان وَقت قِطافها.. وَجْهها بأكمله كانَ نَدي والحَيوية بادِية عَليه.. لا تَدري هَل لأنّها وأخيرًا تَأقلمت على وُجودها مَعه.. أَم لأنّها أصبحت مُتَيَقِّنة حَدّ الغُلو أَنّهُ يَكادُ يَفقد عَقله من فَرط اشتياقه إليها ورَغبته في قُربها؟ فهي عندما تَدّعي النّوم، لا تَفتها يَده وهي تَتحسس أطراف شَعرها السّابح كَموج من خَلفها.. تَخبّط أَنفاسه إذ اضطرا للاقتراب عند الجلوس مع جَنى.. نَظراته المُسترقة.. تَبعثر كلماته أَمام حُسْنها.. واسْتنشاقه السّري لبقايا رائحتها في الوسادة والذي رَأتهُ بأم عَيْنيها.. بالطّبع هي لَم تُفصِح لهُ عن اكتشافها الخَطير.. فهي لا تُريد أن تَحرم نفسها من لحظاتٍ يكون فيها غُروره هَشًّا وَضعيفًا. ابْتَسَمت لذاتها التي تَرَمّمت ثِقتها خلال الأيام الماضية.. وأَرضاها أنّه يُعاني.. أَرهقهُ الشَوْق وأَضنى صَبره.. مثلها تَمامًا. تَركت دورة المياه وهي تَشد الرّداء الأبيض حَوْلَ جَسدها.. انتعلت خُفّها ثُمَّ مَشَت إلى الغرفة.. جَلَست أَمام المرآة وشَرعت في تَجفيف شَعرها بفوطة صَغيرة.. كانت تَضغط بخفّة وعناية على خصلاتها وعقلها يُواصل أفكاره.. بَقِي في سِجّلها ثلاثة أيام إجازة لهذه السنة.. وجَنى لديها يومان لإجازة الكريسماس.. لذلك اختارت أن تبدأ إجازتها اليوم مع ابنتها.. سَتقضيان وَقتًا مُمتعًا بالتأكيد.. فهي قَد خَططت لهذه الإجازة.. تُفَكّر أن تَأخذها لمحمية العَرين.. جزء من ذاكرة الطفولة والمراهقة، رحلات أيام المدرسة.. تُريد لِجنى أن تَحتفظ بهذه الذكرى كذلك.. وتعتقد أنّها سَتسعد كَثيرًا برؤية الحيوانات. كذلك فَكّرت أن تذهبان في نُزهة للتسوق وتناول طعام الغداء.. هما الاثنتان فقط.. ومن ثُمّ اللعب وأخيرًا مُشاهدة فيلم كارتوني في السينما.. وأَيضًا فَكّرت أن تقترح على نُور أن يُرَتّبان ليلة شِواء مع باقي الفتيات في منزلهم.. فمنذ فترة لَم يَجتمعن وهذا الاجتماع سَيكون جَيّدًا لـــ... قَطَعَ أَفكارها دُخوله الذي أثارَ استغرابها.. تَحَرّكت عَدستاها مُباشرة للساعة.. كانت التاسعة وبضع دقائق.. أَخفضت الفوطة فَوْقَ فَخذها لِتَتحرر خصلاتها مُلامسةً إطار وَجهها.. نَظرت لانعكاس صورته في المرآة.. كان يَجلس على السرير وهو يَشرب من قارورة ماء في يَده وبَصرهُ مُوَجّهًا لها.. قالت بهدوء: يوم قعدت وشفتك مو اهني توقعت إنّك رحت الدوام وَضّحَ: عندي شغل برا البنك هَمهمت بتفهّم قَبْلَ أن تَتساءل وهي تفتح عُلبة مُرَطّب الوَجه: كنت في الصالة؟ نَفى ببحّة: لا.. كنت تحت.. تريقت مع أمي وأبوي.. توني راكب ارْتَشفَ من الماء وعَيْناه يَزْداد تَعلّقهما بها.. بظهرها تَحديدًا.. كما لَو أَنّهُ كان يَنظر للرداء! عُقْدة خَفيفة تَوَسّطت حاجِبيها ويَداها تُوَزّعان المُرَطّب على وَجْهها.. فيمَ يُفَكّر؟ مَسحت عَلى وَجْنتيها بنعومة وعَيْناها تُراقِبان شُروده.. فَجأة باغَتتها عَدستاه واصطدمتا بِعَدستيها.. تَوَقّفت أَصابعها عن الحركة لِتَلتفت بكامل حواسها إليه.. إلى نَظرته.. كانت المرآة الجِسر الذي أَوْصَل الذِكرى العابرة من عَيْنيه إلى عَيْنيها.. ابتلعت ريقها وجواب سؤالها ها هُو يَخِز قَلْبها.. فهو بعد هذه الأعوام التي مَضت؛ يَراها وللمرة الأولى برداء الاستحمام الأبيض.. الرداء الذي لطالما ارْتَبط بتلك الذكرى الدموية. ارْتَفَعَ صَدرها مُسْتَنشقة الهواء بعُمق لِيُعينها على الإفصاح عن سؤالها الهامس: تبي تشوفه؟ لَم يُجِبها.. هُو وَقَفَ وفي نِيّته الخروج من الغرفة.. لكن عندما وَصَل للباب لَم يَتجاوزه.. ظَلّ لثواني يُقابلها بِظهره قَبْلَ أن يَستدير مُتّجِهًا إليها، وبحركة سَريعة قَرْفَصَ عند ساقيها.. يُمناه مُمسكة بالقارورة.. وشماله تَتناقش مع أصابعها، تَتقَدّم أَم تَبقى في مركزها؟ هي عندما رَأت تَرَدّده شَعرت بأنّها مُلْزَمةً على تسهيل الطريق إليه.. لذلك تَجَرّأت وأَزاحت الرداء عن فَخذها.. حَيثُ غَفى أَثَر الجِرح الذي حَفَره وَسط جِلْدها الرّقيق.. نَبضاته بتلقائية اسْتجابت لمنظره.. لَم يُغَيِّرهُ الزّمن.. لا زال كما هُو.. على مَقاس الجِرح الساكن جَواه.. عَدا أَنَّ هذا مُخاطًا، بخلاف جِرحه الذي لَم يَنضب نَزْفه حتى هذه اللحظة. رَفَعَ يَده.. تَوَقّفت في مُنتصف الطريق فَقَبضها بِقَهر.. أَراد إن يَهبط بها لكن كَفّها كانت أَسرع.. فهي أحاطت معصمه بنعومة بالِغة لِتُسَيّر يَده إلى الجِرح المُفتقر للمسته.. ثواني وصُبَّت عليهما رَعشة غَريبة.. هل لأنهما هَجَرا تَماسًا كهذا لأعوام؟ أم أَنّ تَضادًا حَدث من التقاء دِفء أنامله ببرودة جِلدها المكشوف أكثره؟ أو رُبّما مَشاعر تلك الليلة المَدفونة قِسْرًا عادت وَتَفَجّرت فيها الحياة؟ أو أنّ الأسباب هذه كُلّها أَدّت لهذه الرّعشة المُباغتة؟ تَركت معصمه سامِحة لِيَده بأن تَتكاشف مع الجِرح.. وهي سَتكتفي بالمُشاهدة.. مُشاهدة لِقاء الجِرح بِرَسّامه. مَرّرَ ظَاهر يَده عليه يَسْتأذنه لاسْتباحة أَلمه من جَديد.. مَسّه بباطن إبْهامه يَتحسّس تفاصيله.. تَعَرّجات خَفيفة بَدا بشكل واضح اختلافها عن باقي جِلدها المَصْقول.. غاصت عَيْناه تُدَقّقان فيه وأصابعه لا تَزال تَمسح عَليه كما لَو أَنّها تُحاول مَحوه أو حتى اقتلاعه من أَرْض جَسدها الغنّاء. طال تَأمله للجِرح.. وطال تَأملها له.. وكلاهما صافحت أَحداث تلك الليلة ذاكرتيهما المُسْتَجيبَتين. ، دَفْعة قَويّة.. عَنيفة.. لَحظتها أَدّت إلى سُقوطها على الأَرْض الخَشَبية.. ولسنوات أَدّت إلى دَفْنها تَحْت كُثْبانٍ من رِمال خانِقة.. تَتراكم فَوْق صَدرها يومًا بعد يوم.. سَنة بَعْد سَنة.. كُثْبان تَتَحَوّر إلى جِبالٍ شاهقة تَفصلها عنه.. تَحرمها من قُرْبه.. لَم تَكُن تَدري لَحظتها أَنّ دَفعته كانت طَرْدًا نِهائيًا من مَملكته.. من حياته.. ومن قَلْبه. رَفَعت رَأسها إليه وهي لا تَعي شيء.. لِوَهلة ظَنّت أَنّها واقعة بَين قَبْضَتي الحُلم.. أَبْعدت خصلاتها المُبَلّلة عن وَجْهها لتنظر لهُ بوضوح.. هالها الظَلام الذي كان يُحيط به.. عَيْناه تَسْتفرغان السواد وملامحه قَد احْتكرتها قَسْوة تُبْصِرها للمرة الأولى.. تَوَجّسَ قَلْبُها.. تَسارعت نَبضاته بِقَلقٍ وخَوْف.. ما بـه! هَمَسَت وهي تَعتدل جالِسة: فيصل.. شفيك؟ لَم يُجِبْها.. فهو تَقَدّمَ خطوة ينظر لها من مكانه.. اسْتجابت عَدستاها لحركته وارْتفعتا إليه.. تَساءلت والدماء التي ذاقتها من فَمه والتَقطتها عيناها من قُبّة قَميصه لَم تُفارق هَواجسها: من شنو الدم؟.. شفيك فيصل؟ أَيضًا لا جواب.. وَقَفت بِحَزمٍ وغَيظ.. لماذا لا يَنطق؟ وكأنّها وحيدة هُنا.. تُخاطب الحائط والجمادات! اقتربت منه وخَوفها عَليه يُسَيّرها: فيصل شفيــك؟ ليش جذي ساكت؟... والدم من شنو؟... ترى خوفتني وخليتني أحــ اقْتَطَعت كلماتها الشهقة التي فَرّت من حَلْقها بفزع.. فهو قَد دَفعها للمرة الثانية.. تَمَسّكت بيده تحاول أن تمنعه لكنّه دَفرها بعيدًا عنه واسْتَمَرّ يَدفعها للخلف بضربات قاسِية شَعرت بأنّها سَتكسر أضلاعها.. صَرخت فيه والأَلم يتضح من تَصدّعات ملامحها: شفيــــك! ليش قاعد اتدزني جذي! اصْطَدمت ساقاها بالسرير من خلفها.. ولأنّهُ كان يَدفعها وهي حينها كانت فاقدة لتوازنها؛ سَقطَ جَسدها فَوْق السّرير بطريقة آلمت جانب وِرْكها.. تَجاهلت الألم لِتَتساءل بحشرجة بُكاء يَنذر بالوصول.. وعَيْناها تَدوران على وجهه الأســود: فيصل شفيك؟ أنا والله.. مو فاهمة شي! ليش قاعد اتدزني وما تتكلم! "انتظرت منهُ جواب ولكنّه ظَلَّ صامِتًا مُفْسِحًا المجال لعينيه للاشتعال.. هَمست تَسْتَعطف قَلْبه" حَبيــبي؟ زَجَرها بقسوة لا تُناسبه: جَـــب "أَكْمَل طائِرًا بالسهم إلى قَلْبها" جَــب يا الخـــايـــنــة تَخَبّطت الشّهقات في صَدرها واتّساعٌ مَذْهول أحاطَ مُقْلَتيها.. ارْتَعَشَت شَفتيها وهي تنطق بصدمة كاسِحة: شــ ــ...ــشــ ـ..ــنو.. شــ ــ ـنو قاعد.. تقول! "صَرَخت فيه والدّمعُ بات يَسْبح وَسَط ضِفَتيها" إنت شنو قاعد تقول! إنـ ــ... إنــت واعي.. واعي للكلمة اللي قلتها! هَزّ رأسه ووَجهه المُحْمَر كان يبدو وكأنّما بُرْكانًا يَسْكن أَسْفله.. وبفحيحٍ أَحْرَقها: ايـــــه.. واعي.. واعي للكلمة.. واعي يا الخاينة.. يا الجذابة.. يا المُنافقة "أشارَ لها والتَّقزز يَنطق مع كلماته" إنتِ شنو؟ ما عندش حيا؟ ما تستحين؟ من أي خمـــام مولودة؟ إذا ما مسوية لي قَدر وحشيمة.. جان قدّرتين أهلش.. خفتين على سمعتهم.. جـان خفتين من ربش واستحيتين منه! حَرّكت رأسها تَرْفض الذي تَسْمعه.. هذا الذي أمامها ليس فيصل.. هذا ليس بكلامه.. لا تعرف هذا الرجل.. لا تعرفه.. هَمست بأنفاسٍ مَخْطوفة: إنت.. إنت شكلك مو في وعيك فيصل "وَقَفت تريد أن تبتعد عنه وحواسها جميعها تنكر واقعية الموقف" أنا بروح عنّك.. تهدا ويرجع لك عقلك وبعديــ شَهقة جَديدة وهذه المرة كانَ سَببها قَبْضه العَنيف على ذراعها وشَدّه إليها.. هَمَسَ من بين أَسْنانه وأَنفاسه الحارة تَسْلخ جِلْدها الرقيق: عقلي في راسي.. عقلي في راسي يا الخايسة.. تبين تطلعيني مجنون؟ هـا؟ تبيني أكون مجنون عشان تبرئين نفسش؟ حاولت أن تَتملص من قَبْضته القوية وهي تقول بجَهْل: أبرئ نفسي من شنو؟ من شنــو! فيصل أنا مو فاهمة.. مو فاهمـ ــة! هذه المرة كانت الشهقة افتتاحية للبُكاء الذي خَرّت دموعه على وَجْنتيها.. أَغْمَضَت بتأوّه من ضَغْطه.. حتى أَنّ أصابعه تكاد تخترق لحمها الطَري.. نَطَقَ ليَصْفعها بكلماته: قاعدة تحاولين تنكرين؟ قاعدة تحاولين تسوين نفسش غبية؟ ترى عيوني الثنتين كانوا شواهد.. عيوني وقلبي وروحي اللي رفعها الموت.. وبدلهم عندي بعد شواهد.. رَبعــي.. رَبعي يا الخاينة.. رَبعي اللي كسرتيني قدامهم.. كَسرتين ظَهري.. سَوّدتين وجهي وسَحقتين قلبي شَدّت على عَيْنيها وَرَأسها تُحَرّكه بِتَعَب رِياح رَفْضٍ قاطِعة.. هي ليست خائنة.. لَم تفعل شيء.. لَم تفعل شيء.. لِمَ يُلقِ عليها هذه الاتّهامات؟.. متى هي كَسرته! مَتــى! هُو نَطَق.. وكان بنُطقه يُجيب على سؤالها ويَنحرها من الوَريد إلى الوَريد.. أَبْصَرت بجحوظ وهي تَسْتمع للسُم الذي أَخَذت الحياة تَنثره في كأس حُبّهم المثلوم: كنتِ معاه.. مقابلته.. تبتسمين له وبينكم وردة.. كنتِ معاه في هالليــل.. إنتِ حرام عليه وهو حرام عليش.. كنتِ معاه وأنا مثل الحمـــ.. خايف عليش.. أقول شفيها ما كلمتني من طلعتها! كنتِ معاه وبعيوني شفتش.. وبعيوني شفت نظرات ربعي الشافقين عَليّ حَرّكت رَأسها بهستيرية والشحوب بَدأ يَنزح إلى ملامحها شَيئًا فَشيء.. هَمسَت بهلع: لا.. لا.. لا فيصل.. أنا ما خنتك.. ما كسرتك.. أنا كنت معاه بس عشان.. عشان هو.. الموقف.. والله فيصل ما خنــ ـ دَفَعها من جَديد وهي صَرخت حتى انجرح صَوْتها: ما خنتــــك.. فيصل أنا مو خاينة.. فيصل اسمعني "هَدأ صَوْتها وهي تعود لتقترب منه والرّجاء حاديها" فيصل اسمعني.. أنا.. مُستحيــ ـل "وبوجهها المَسْفوكة ملامحه من الدّمع" مُستحيـــل أخونك.. مُستحيل.. اللي شفته مو نفس اللي في بالك.. فيصل أنا أحبــك صَرَخ فيها: انطمــــي رَفَضَت.. رَفضَت والجُنون بَدأ يَعتريها.. قَبَضت على قَميصه عند الصَدر وشَدّتهُ إليها لتهمس بقوّة راجِفة وعَيْناها تُحاولان عُبور الأُوار الذي يَشْتعل بين جِفْنيه: فيصـ ـل.. فيصل.. اسمعني.. أنــا ما خنتك.. مُستحيل أسويها.. إنت زوجي وحبيـ ـبي " تَغَضّنت ملامحها بِوَجَعٍ وتَوَسُّل" الله يخليك.. الله يخليك اسمعني.. اسمعــ أَبْعَدَ يدها عنه ناطِقًا بتقَزّز نَهَشَ قَلْبها وقَطّعه: لا تلمسيني يا النجسة تَكَسّر البُكاء في صَدرها والغصّة قَد وَرّمت حَلْقها حتى أنّ صوتها خَرَجَ مُتَخَثِّرًا: حــرام عليــك "مالَ رَأسها تَسْتجدي عَطْفه" لا تظلمني فيصل.. أرجوك اسمعني هو الغارق في قُعر صَدمته.. المَجروح قَلْبه والمَيّتة رُوحه.. عَلا صَوْته مُسْتَنكِرًا طَلبها: شنو اسمع! .. شنو اسمع بعد اللي شفته! أي تبرير مُمكن يشيل عنش هالجُرم.. أي تبريـــر! بتجذبين مرة ثانية؟ بتدورين أي جذبة وبتقولينها وأنا الغبي بصدقها نفس ما صدقت جذبة الصورة! "حَرّك رأسه بعدم تَصديق واعتباطية المواقف تَتلقّفه ذات اليمين وذات الشمال" إنتِ من ذاك اليوم.. من ذيك الليلة.. ليلة البحر.. كنتِ تلتقين فيه.. ويمكن من قبلها بعد.. والليلة كنتِ معاه.. إنتِ.. إنتِ يعني.. طول ما احنا متزوجين.. كنتِ تشوفينه! نَفَت سَريعًا وهي تتنشق بقوة: لالا.. لا فيصل لا.. والله ما كنت أشوفه.. صدقني.. والله فيصل.. بس الليلة.. والله.. هو شافني.. وأنا كنت قبـ رَفع يَده أَمام وَجْهها يقاطعها: مابي أسمع.. مابي أسمع جذب جديد صَرَخت: لا بتسمـــع.. بتسمع فيصل انكمشت ملامحه باشْمئزاز وتقزز: ما بسمع.. أنا مو طايقش ولا طايق شي فيش.. مو طايق حتى أنطق اسمـش ضَرَبت على فَخذيها بعُنف غير آبهة بالألم ولسانها يُردّد بصراخ هيستيري: بتسمعني فيصل بتسمعني.. أنا مو خايــنة.. موخاااينــة وبتسمعنــي أَخْفَضَ بَصره لساقيها المَكْشوفَتيْن وَوجهه قَد اكتساه جمود مُخيف، مُرْعِب.. وبوجْسٍ غَريب أَجْبرها على الإنصات: قاعدة تعاقبينهم؟ تبين تعاقبينهم لأنهم ساقوش للحــراام؟ " صَمت للحظات قَبْلَ أن ترتفع عَيناه لعينيها ويهمس بخفوت يُنذر بالخَطر" مو جذي العقاب.. أنا أعلمش العقاب الصح اسْتَدارَ خارِجًا من الغَرفة وهي بَقيت واقفة في مكانها وكأنّ على رَأسها الطَير.. لَم تفهم معنى كلماته ولا تدري إلى أين ذَهب! تَقَدّمت خطوة تُريد أن تَخرج تبحث عنه.. لكن دخوله أَوْقفها والذي في يَده زَلْزَلَ الأَرْض من تَحْتها. ارْتَعَدَت فرائِصها وفي ثواني تَجَمّدت أطرافها وتَصَلّبت.. سِكّين.. كان يحمل في يَده سِكّيــن! سَيذبحها؟ حَتْمـًا سَيذبحها.. حاولت أن تُحَرّك قَدميها.. أن تَفر هارِبة وتنجو بنفسها.. حاولت ولكنّ شَلَلًا قَد أَصابها.. زاغت عَيْناها ولَوعة يُصاحبها غَثيان حَمت وَسَط صَدرها.. الغُرفة تَدور بها وأَنفاسها نَفَذت بريشها بَعيدًا عن وَخز النّشيج الذي بَدأ يَنخر في أَضلاعها. كان يَتقدّم منها وهي لا تَرى في عَيْنيه سوى الذبح.. أَتهون عليه؟ بهذه البساطة تهون عَليه! بهذه السرعة مات الحُب وأَصْبح في طَي النسيان؟ سَوف يَتخلى عن كُل شيء بسبب غلطة واحدة؟ سَيُنهي حياتها دون أن يَرف لهُ رِمش! ألهذه الدرجة هي رَخيصة؟ دَفعها الدفعة الأخيرة.. جَسدها كان خرقة بالية فَسَقط بلا مُقاومة على السّرير.. انكشفت ساقيها أكثر وبانَ فَخذها الغَض.. هَمَسَ بنبرة خاوية ولَم يَفتهُ الاستسلام التام الذي طَرأ عليها فَجأة: تبين أعاقب أي وحدة فيهم؟... ولا أعاقب الثنتين؟.... لو الأحسن أعاقب أول وحدة أجرمت فيهم؟.... "رَفع ردائها الذي انحسر مُواصِلًا تساؤلاته التي تفري رُوحها بلا رَحْمة" أي هي اللي قادتش له؟ أي وحدة فيهم؟ "نَظَرَ لوجهها الذي ابْيَضّ وضاعت منه ألوان خَمْرٍ لطالما عَشقها.. اسْتَفَزّهُ صَمْتها وسكونها.. لذلك قَبَضَ على فَخذها الأيمن بقوّة وهو يُرْدِف بحقدٍ وَليد اللحظة" أعتقد اليمين هي أول من قادتش للخيانة أَنهى جُملته وفي ثانيتين رَفَعَ السّكين وهَوى بها فَوْق فخذها ليضرم فيه طَعْنة غارت في رُوحها لأعوام.. هي التي ذَوت بين أمواج الهَلع والإعياء.. باغتَتها حَـرارة عَظيمة.. كما لَو أَنّ قَضيبًا حَديديًا قَد صَهرته النيران نَفَذّ إلى جِلْدها.. بلا إرادة منها انتُزِعَت من أَعماق رُوحها صَرْخة مُجَلجلة قَوّضت حجرات قلبه المُتَحَجِّر.. لذلك رَفَع يده مُكَمّمًا فَمها والأخرى تُحَرِك السِّكين للأسَفل ببطءٍ مُعَذِّب. كان جَسدها يَهْتز كالممسوسة من هَوْلَ الأَلم.. صَوتها المكتوم خَرَج على شَكلِ أَنينٍ صَمَّ أُذنيه.. سَالَ الدّمعُ من عَيْنيها مُغْرِقًا وَجْهها والسّرير والشقة ولندن.. ببكائها أغرقت الماضي وخَسَفت حَلاوته.. ببكائها أَبكمت كُل الأَصوات وأَبقت صَوْتها ليُزَعْزع وُجوده.. ببكائها شَطَبت على الرّحمة وبَترتها من إنسانيته. ابْتَعَدَ عنها بحركة مُفاجِئة فانتشر صَوتها بين الأَركان.. نَقَلَ بَصره بينها وبين السّكين المُضطربة بسبب رَجفة يَده.. كانت تَتلوى بِوَجَعٍ حامٍ.. بالتفاتها كانت كمن يَبحث عن مَخَرْجٍ يَنقذها من سَطوة الوَجع.. ولكن كيف الخروج والجِرح قَد وُسِم على جَسدها وقَلبها! سَقَطت السّكين.. تَقهْقَرَ جسده ويداه ترتفعان إلى رَأسه تَتخلّلان خصلاته بتِيه.. كان مَصْدومًا.. مَذْهولًا.. كان بينه وبين الجُنون شَعَرة.. فنياحها المُسْتَمر كمَعزوفة حَزينة أَبى أَن يَفلته لقبضة الجُنون.. فَليبقى عقله سَوِيًّا.. ولتَبقى حَواسه يَقِظة.. وليَكتوي فؤاده من نيران بُكاء حَبيبته الخائنة. اجْتَذَبته الأَرْض فانهارَ مُسْتَسْلِمًا لها.. بجسده السابح في العَرَق.. وأنفاسه اللاهثة.. وأَنّاته المشروخة.. أَسْنَدَ ظَهره وأَخذَ يَضرب رأسه بالحائط من خلفه بحركات مُتتالية ورَتيبة.. وعَيْناه المَذْبوح فيهما الواقع تُشاهِدان الدّم وهو يُخَضِّب ساقَيها. , انْتَهَت الذّكرى هُنا.. انتهت ومع انتهائها كان وَجْهها قَد غَسّلته الدّموع، وَوجهه قَد تَزاحمَ فيه الأَسَف.. أَطْبَقَت شَفتيها بأَلمٍ وَحَسْرة ولَمْسته الحانية تُعَذِّبها.. لَم يَرْأف بها ساعتها.. لَم يشفق ولَم يَحْنو عَليها.. تَحَرّكت تُريد أَن تَبْتعد لكنّه قَبَضَ على فَخذها.. فَتَحت فمها تنطق باسْمه: فيصــ ـ ـآآآهــ ـهـ ـ شَهقت بدهـشة وجَسدها بأكمله يَستكين بتَصلّب.. فَهو أَخفض رأسه.. وبحِنانه وبرقّته العَتيقة.. أَخذَ يُقَبِّل الجِرح من بدايته حتى نهايته بقُبلاتٍ أَنبتت بين تعرّجاته الأَزهار وأَجرت الأنهار.. أَغْمَضَت وعُنقها يَشْرئب مُحاولةً الْتقاط ذَرّة هواء تُعينها على التنفس.. فهو بحَركته قَد سَلَبَ لُبّها.. أَجنّ قَلْبها.. نَهبَ منها أَنفاسها.. وأَعانَ رُوحها على الرّفرفة.. كانت مع كُل قُبْلة يُحْييها هي تَذوب.. ذلك الجِرح.. ذلك المَوضع المَيّت فيها.. لحظتها ناقَضَ قوانين الطَبيعة والمَنطق وحَقيقة تَكوين جَسد الكائن الحَي؛ فإحساسها كُلّه تَمَركز عند ذلك المَوْضع.. عند ذلك الجِرح.. كانت قُبلاته الدافئة تَعبر من خِلاله إلى دواخلها فَتُطَيّبها. رَفَع رَأسه إليها وهي أَخفضت رأسها بعد أن انتهى من خِياطة الجِرح بِشَفتيه.. أزاحت جِفْنيها فالتقت نظراتهما.. ارْتَعشت بحُبٍ يَرفض المَوْت وهي تَحتضن بعينيها عَيْنيه المأهولتين بالكلام.. هَمَسَ بنبرة نادِرًا ما تزور صَوته المَبحوح: آســف... أدري كان لازم أقولها من زمان.. أدري إنها ما تكفي ولا تغير اللي كان.. بس رغم كل هذا آسـف.. آسف جِنان هَزّت رَأسها بتفهّم وهي تنطق بحشرجة: ما عليه.. الشي صار.. وخلاص... انتهـى تَرَدّدت كلمتها الأخيرة بين فَضاء رُوحه.. انتهى.. انتهى.. نَعم فيصل... الماضي انتهى... انتهــــى! ,، ارْتَدَت عباءَتها وأَحكمت لَف حِجابها حَوْلَ وَجْهها.. أَخْفَضَت لها الأخِصّائية السّرير حتى مُسْتوى المعقد المُتحَرّك.. وكما تَدَرّبت خلال الأيام السابقة.. ثَبّتت كَفّيها فَوْق السرير.. حَرّكت نصف جَسدها السّليم ناحية المقعد.. اسْتَنشقت نَفس وكَتمتهُ في صَدرها... وبهدوء وحَذر انتقلت إلى المَقعد.. عندما استقامت في الجلوس أنزلت ساقيها بمساعدة والدها إلى الأرض.. زَفَرت براحة مثل كُل مرة بَعد انتهائها من هذه المُهمة الشاقة نفسيًا.. أتاها تَشجيع الأخصّائية المُتَحَمّسة دَومًا: براافو حَنين.. يوم عن يوم تصير حَركتش أخف ابْتَسَمت لها مُجاملة ووالدها عَقّب بَدلًا عنها: فعلًا.. أنا ملاحظ بعد.. واضحة خفّة حركتها أَشارت لها بإبهاميها وهي تغمز بابتسامة: كيب قوينق حَنين.. أشوفش عقب باجر لَوّحت لها وهي تُبادلها الابتسامة بأخرى باردة كبرود نَبرتها: مع السلامة شَكَرَها والدها ثُمَّ مَشى بجانبها وهي تُقيد المَقعد بجهاز التحكم ليخرجا من غرفة العلاج.. اسْتَقَلّا المصعد لينقلهما في ثواني للطابق الأرضي حيث تَجاوزا باب العيادة للخارج.. وخلال دقائق كانت السيارة تَشق الطُرقات لتحملهما إلى العيادة الأخرى حيث تَتلقى جلسات العلاج النفسي؛ والذي بدأت أولى جلساته من الأسبوع الماضي. كان والدها الذي يُرافقها لجلسات العلاجين.. يبقى معها إلى حين انتهائها ثُمّ يُعيدها للمنزل حيث والدتها والصّغير.. اعتادت على هذا الروتين.. نَعم تَكرهه.. وتَبكي لَيلًا خِلسةً منه.. ولكنّها مُجْبَرة على الانخراط فيه.. فهي مثلما يَقولون من دون هذه العلاجات لَن تُشْفى ولَن تَعِش حَياة سَليمة وهانئة مع ابنها وزَوجها... زَوجها؟ أَين هُو زَوجها.. لَم تره ولَم تُحادثه مُذ حَملها إلى منزل والديها.. هو يأتي.. يأتي لزيارة حُسين فَقط.. ويُرسل لها المال بداية كُل شَهر أيضًا.. لكنّهُ لَم يَطلب رؤيتها قَط.. على الرغم من أنه يأتي لمنزلهم كُل يوم من دون انقطاع. هي أيضًا لَم تطلب رؤيته.. بل ولا تسأل والديها عنه.. وكأنّه غير موجود.. فَصلتهُ عن حياتها ووجودها.. وتفكيرها... رُبما. ازْدَرَدت ريقها وعَدستاها تَتَخبّطان على الشارع الجاري بلا توقف من وراء نافذة السيارة.. نَظرت للمركبات.. سيارات صغيرة.. أخرى كبيرة.. باصات.. سيارات حَمْل الرّكاب.. دراجات نارية وهوائية أيضًا.. سيارة بها عائلة.. أم وأب وطِفلان.. أخرى كان فيها آسيوي مُتَمسّك بمقوده وكأنّه طَوْق نجاة.. ثالثة بها شابة تَعتقد بأنّها صَبغت وجهها بكُل المساحيق التي تَملكها.. رابعة كان بها شيخ كبير وسَبحته تدور بين أصابعه يَجمع حَسناتٍ بين الزّحام.. وأخرى حَوت اثنين.. رَجُل وامْرأة يَتشاركان الحَديث والضحكات.. بَحثت عنه بين المركبات.. بحثت عنهُ بين عابري الطُرق.. بين أولئك المُختبئين عن البَرد داخل المتاجر.. بحثت عنهُ بين المُتَسَوّلين.. فلُربما قَصمت ظَهره حاجته للحُب وذَهب يُنَبّش عنه في جُيوب الناس.. راقبت السّماء المُلَبّدة فَقد يكون غافيًا فَوق غَيْمة حُبْلى وتحت دِفء شَمسٍ حانية.. لكنّها لَم تَجِده.. وَجدت كُل شيء ولَم تَجده.. هي.. اشــ ـ.... اشـ ـ ـتـ ..ـاقتـ ـ... اشتـ ـاقتـ ـ... اشتــاقت إليــه! تَكَوّمت الغصة في حَلْقها.. الحياة فارغة دونه.. كَئيبة.. مُوحشة.. باردة.. مُملة وبَطيئة.. كما لو أنّها تَمشي على ظَهْرِ سُلحفاة مُعَمِّرة. اعتقدت أَنّ الضيق الجاثم فَوْق رُوحها سَينقشع إذ هو أَعتقها.. لكنّهُ تَضاعف حتى باتَ لَيْلًا حالكًا يَسكنها.. أَين صَوْته الحنون؟ أين لَمسته الرَقيقة؟ أين هَمْسهُ المُحِب؟ أين نظراته الدافئة؟ أَين أنت بَسّام؟ أَيُعْقَل أَن الشّوق لَم يَهزّ أَرْضَك بَعْد؟ أَيُعقَل! : يلا بابا وصلنا التَفتَت لوالدها بانتباه وفي عَيْنيها قَد نَسِيَت ماءً رمادي.. لذلك تَساءَل باهتمام: بابا فيش شي؟ رَشّحت صَوتها من عَبراته لتُجيب ببحّة: لا بابا.. بس شوي تعبانة.. يمكن من الجَو تَساءَل: تبينا نروح الطبيب بعد ما تخلص الجلسة؟ رَفضت بسرعة: لالا بابا.. ما يحتاج.. ما أقصد إني مريضة.. أقصد بس تعب عادي هَزّ رأسه بتفهم: زين.. خل ننزل غادرا المركبة ليتجها إلى عيادة الأخصّائي النفسي الواقعة في أحد المباني المعروفة.. دَلفا للغرفة بعد النداء.. رَحّبَ بهما بحفاوة كالعادة.. قَرّبها والدها من المَكتب ثُمّ استأذن لتبقى مع الطّبيب بمفردها. تَساءَلَ بابْتسامة وهو يَفتح مَلَفّها: كيف الأحوال حَنين؟ وشخباره حسّون الصغير؟ رَدّت بهدوء وبابْتسامة صَغيرة تكاد لا تتضح: الحمد لله.. وحسّون بخير : هـا كَبر؟ رَدّت بجوابٍ مُختَصَر: قاعد يكبر : الله يخليه : إن شاء الله أَغلق الملف بعدما سَجّل فيه بعض المعلومات.. اسْتَفسَر باهتمام جدّي: شلون مر يومش أمس؟ رَفعت كَتفها وببرود: عـادي هَمهم وهو يَشبك كَفّيه: أبدًا يعني ما في أي تغيير؟ نَفت: لا ضَيّقَ عَينيه: ولا تغيير صغيرون؟ صَمتت للحظات تُفَكّر وفجأة تَذَكّرت فقالت: امبلى.. حسّون انقلب لأول مرة ابْتَسمَ بسعة: ما شاء الله.. إنتِ قلتِ لي هو في الشهر الخامس صَح؟ هَزّت رأسها: اي واصَلَ أَسْئلته: بما إنّه اللحين قاعد يكبر مثل ما تقولين.. فشنو إنتِ مخططة للجاي من عمره؟ استعانت بالكلمة السحرية: عادي : شلون يعني عادي؟ وَضّحت: يمكن رايي ما يعجبك بصدق: أهم شي تكونين إنتِ مقتنعة فيه ومؤمنة من توافقه مع مبادئش.. وأنا اللي عَلي إنّي أحترمه.. سواء عَجبني أو لا نَطَقت بتردد بَعد صَمْتٍ قَصير: أبيه يكون مُستقر.. يكبر وهو مستقر نفسيًا وجسديًا وماديًا.. أبي أعلمه من صغره شلون يهتم بنفسه بنفسه.. يعتمد على نفسه.. من دون الحاجة لأحد.. هُو ساعات أكيد بيحتاج لأحد يساعده.. بس أقصد ما يكون اتكالي.. وقت اللي فعلًا يحتاج.. يلجأ.. وأبيه يتحمل المسؤولية.. يعرف الصح من الخطأ ويعرف هو شنو يبي وشنو يحــ ـب.. يكون واثق من نفسه لدرجة معقولة.. ما تخلي الناس تعتبره مغرور وتكرهه.. والخوف.. الخوف بحاول ما أخليه يتعرف عليه.. أبيه يكون قــ ـوي "كَرّرت بخفوت" قـوي سؤال: شنو الخطة اللي بتتبعينها عشان تنمين فيه كل هالصفات؟ أَجابت بصراحة.. وبقلة حيلة: مادري "أكملت بإسهاب وهي تُبعد نظراتها عنه" بس هو ما لازم يكون مدلع.. ما لازم أكون لينة معاه على طول.. اللين يخرّب.. الإنسان في طفولته يحتاج للشدة.. يحتاج يسمع كلمة لا.. مو كل طلباته لازم ينقال لها من عيوني وعلى أمرك.. هو.. هو ما لازم يصير عديم مسؤولية.. بعدين.. راح ينصدم.. راح ينصدم إذا بدأ يخوض الحياة بروحه.. واجــ ـد راح ينصدم.. الحياة صعبة.. ومو كل الناس ترحم.. عادي.. أقرب الناس لـ ـه.. يجرحونه! ما يصير يكون ساذج ويعيش في أحلام اليقظة.. الدنيا مو كلها وردية.. ولازم يعرف.. اللي يحبه صدق.. واللي ينافقه.. هو لازم.. لازم يصير قوي.. ومعتمد على نفسه.. عشان بعدين لو مثلًا.. يعني.. تعرض لشي.. مُفاجئ.. ما يحس بالنقص.. وإنّ هو عاجز.. ويحتاج لأحد "حَرّكت رأسها بضيق من استرسالها" كلامي ملخبط هَزّ رأسه مُتجاهلًا بعمد كلمتيها الأخيرتين: جميل جميل.. أفكارش ناضجة.. يبين فاهمة الحياة صح أَخفت ابْتسامة أسى في نفسها.. فهي فَهمتها مُتأخرًا.. مُتأخرًا جدًا.. للأسف! التَفَتَت للطبيب استجابةً لسؤاله المُفاجئ: شخبار بسّام؟ رَدّدت اسْمه بهمس وكأنّها تتأكّد بأنّهُ نَطَق به: بسّــام! أَكّدَ: اي بسّام.. زوجش بسّام غادرت عَيناها وجهه.. إنها المرة الأولى التي يسألها فيها عنه.. حتى في جلستهما الأولى عندما طلب منها التكلم عن نفسها وأخبرته بأنّها مُتزوجة.. لَم يَسأل سوى عن اسمه.. فلماذا يسألها الآن؟ يسألها في اليوم الذي لَم يُفارق فيه بَسّام فِكْرها! تَنَحْنَحت وهي تَمس أنفها بظاهر سَبّابتها.. أخفضت يَدها إلى فخذها لتنقبض بجوار الأخرى قَبْلَ أن تُجيب بنبرة خافتة: زين استفسرَ: جم عمره زوجش؟ فَتحت فمها لتُجيب لكنّ جاوبًا لم يَعبره.. قَلّبت السؤال في رأسها باحِثةً عن جوابه ولكنّها لَم تجده.. باغتتها رجفة سريعة.. هي للتو وللمرة الأولى تكتشف أنهّا لا تعرف عُمْر بسّام.. عُمْر زَوْجها! ازْدَردت ريقها ثُمّ أجابت بإشاحة: ما أدري لَم يُعَقّب على جوابها وهي التي ظَنّت أَنّه سَيسخر من جهلها لمثل هذه المعلومة البسيطة عن زوجها.. فهو على خلاف ذلك أفصح عن سؤال آخر: تعتقدين لو خيرتين زوجش بين هديتين.. ساعة لماركة مشهورة.. ومجموعة ألوان زيتية قيّمة.. شنو راح يختار؟ ساعة.. حتمًا سيختار الساعة.. فمعصمه لا تنفك عنه الساعة.. لكن.. ليس شرطًا أنّه يُفَضّلها.. لحظة.. ولمَ لا يُفَضّلها على الألوان! هل لأنّه مُهندس فسيختار الألوان؟ لا تعتقد أن المهندس يستخدم الألوان كثيرًا أو يهتم لنوعها.. الساعة بالتأكيد.. فهي من علامة تجارية مشهورة.. لحظة حَنين.. رُبما هو لن يختار الاثنين وهذا سؤالٌ مُخادع؟ دَعَكَت صدغها بضيق قَبْلَ أن تنطق باقتضاب: ما أدري واصَل لعبة الأسئلة التي بغضتها من التجربة الأولى: تذكرين تاريخ تخرجش من المدرسة؟ أجابت سريعًا وبثقة: اي.. اثنينه وعشرين ستة : وتاريخ ليسن السيارة؟ بفرحة داخلية لعلمها بهذه الأجوبة: اثنين احدعش : تاريخ أول سفرة في حياتش؟ : ثمانية سبعة : وتاريخ زواجش؟ أَطبَقت شَفتيها من جَديد.. ازْدَردت ريقها قَبْلَ أن تستفسر: الملجة لو العرس؟ أَجابَ: اثنينهم إذا تذكرين نَطقت بتفكير عميق: الملجة... .. الملجة.. "تنحنحت" آآ.. الملجة.. لحظة "حَكّت وَسط جَبينها بطرف ظفرها" العرس.. يمكن.. تاريخ.. ثمــ.. لا.. العرس.. "أغمضت وهي تَهز رأسها" العرس.. كان صيف.. بس الملجة.... .. "دارت عدستاها وَسط المُقلتين تُنَبّش عن الجواب ولكن بلا فائدة.. لذلك نَظَرت إليه أخيرًا والإحباط يَكتسيها وبنبرة تكالبَ عليها الضيق والإحراج والحُزن كذلك.. وبهمسٍ خائب الأمل" ما أدري... ما أدري! ابتسمَ ابتسامة واسعة وهو يفتح الملف ويقول: حتى أنا ما أذكر تاريخ زواجي "ضحكَ مُرْدِفًا بكلمات ضاعفت من محنتها" شيذكرني بتاريخ حدث صار قبل ثلاثين سنة! ,، الْتَقَى معها عند إحدى عَتبات السُّلم فقال: كنت راكب عشانش تساءلت وهي تهبط العتبات معه: تبي شي؟ حَشَر يَديه في جَيبي بنطاله مُوضّحًا: كنت أبي أسأل عن أولاد عمّار.. انشغلت عنهم الفترة الأخيرة أَجابته وهي تخطو للمطبخ: الحمد لله زينين.. البارحة كنت طالعة مع أمهم اسْتَفسرَ: وهي أمهم زينة؟ هَمهمت وهي مُندمجة في تجهيز ما تحتاجه لإعداد طعام الإفطار: زيــنة عَقّبَ بانزعاج: زينين وزينة.. ليش جذي إجاباتش مختصرة! التَفتت لهُ بتعجّب: شتبيني أقول يعني! أعطيك تقرير مُفَصّل عن حالهم! اتّكأ على المنضدة من خلفه وأحاطَ كاحله بالآخر وهو يقول بجدية: يُفَضّل أَبْعدت عينيها عنه ببرود لتستأنف عملها.. وبهدوء شرحت له: عبّود أموره ماشية تمام في المدرسة.. بعد إجازة الكريسماس راح يبدأ امتحاناته النهائية.. وبيان تأقلمت مع جَو الروضة "وبضحكة" أمها تقول حتى في الويكند تبي تداوم ابتسَم بخفّة وبسؤالٍ هامس: وأم عبد الله؟ أجابت بتلقائية: زينة "تداركت سريعًا" أقصد.. يعني "بحثت عن كلمات داخلها ولكنّها لَم تجد شيء.. لذلك قالت" عادي.. هذا حالها.. ما في شي متغير.. حياتها هي حياة أولادها.. يعني حالها من حالهم "أشارت بالبيض الذي في يدها" أحسبك معاي؟ حَرّك رأسه بالنفي دون أن ينطق.. كَسرت البيض في مقلاة نظيفة ثُمّ التفَتت إليه لتُبصره غارِقًا في بحرٍ من أفكار يبدو من عُقدة حاجِبَيه أنّ عُمْقه لا يحْوي غير السوء والظلام.. تساءلت بهدوء: عزيز شفيك؟ أَفْرَغ من صَدره زَفْرة ناقعة في الهَم.. رَفع عَينيه إليها ليُجيب بهمس: قضية عمار متروكة من فترة.. ما قاعد يستجد فيها شي.. عكس باقي القضايا "حَرّك كتفه بتيه" مو داري شنو أسوي! نَطقت بما يجول في خاطرها: ما أحسها هي تهمها القضية لذيك الدرجة تضاعفت عقدته وباستنكار شَديد اللهجة قال: شنو يعني ما تهمها! ما يهمها تطالب بدم زوجها؟ ما يهمها المُجرم يحصّل جزاءه؟ وَضّحت وهي تُقَطّع بعض الخضروات: ما قصدت جذي.. أقصد إن سواء تغير شي في قضيته أو ما تغير هو عّمّار ما راح يتغير مكانه في حياتها.. بيبقى عايش فيها.. وبيبقى اسمه ملازم نحرها.. وبيبقى طاريه على لسانها اسْتقامَ في وقوفه وجُملتها قَد اسْتَفزّت وفاءه: بس بعد.. لازم تكون مهتمة إنها تعرف اللي قتله رَفعت كَتفيها وشَفتيها تتقوسان للأسفل: ما أدري.. أنا جذي أحس استطردَ باسْتفسار: هي تشتغل؟ حَرّكت رأسها: لا.. كانت تشتغل بس بعد موته فنشت رَفعَ حاجبه: زين شنو تسوي طول يومها! الفراغ يقتل وخصوصًا هي فاقدة أَخْفَضت النار على الحليب: شاغلة نفسها بشغل البيت وتدريس عيالها ورسمها كَرّرَ بنبرة متسائلة: رسـمهــا؟ أَكّدت بابْتسامة: اي.. غيداء فنــانة " وهي تلتقط هاتفها من جيب بنطالها الخلفي" انتظر انتظر بخليك تشوف تقدمت منه وهي تبحث بين الصور وعندما وَجدت ضالتها أدارت الشاشة إليه.. تَأمّل الرسمة بحاجبين علّاهما التعجب: هذي هي اللي راسمتها؟! : اييي.. عطتني إياها في عيد ميلادي.. مرة ثانية بخليك تشوفها على الطبيعة "رَفعت الهاتف بالقرب من رأسها" تشبهني صح؟ نَقَلَ بَصره بين وَجهها وبين الرسمة المُصورة.. هَزّ رأسه بابْتسامة مائلة: بالضبط.. توني أدري إنها رسامة قالت مُسْهِبة وهي تسكب الحليب في الكوب: عندها مرسم في بيتهم كلــه لوحاتها.. حتى أقول لها حرام هالفن محبوس بين أربع جدران.. لازم الكل يشوفه ويتزود من جماله هَمهمَ بشرود وابْتسامته تَبَدّلَ لَوْنها.. كان جليًّا وجدًا أَنّ خِطّة ما قَد وَضعت حَجر أساسها الأوّل على أَرْض أَفكاره المُتوارية دومًا. ,، يتبع |
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
أَزاحت الجهاز عن ذراعها قائلةً بِقَلقٍ غَمَرَ عَيْنيها وصَوْتها: يُمه أحس نروح المُستشفى أفضل ابْتَسَمت لها وهي تعتدل في جُلوسها وتقول بأنفاسٍ قَصيرة: ما لها داعي العبالة.. مُستشفى وتحاليل وفحوصات ما لها أول ولا تالي.. بس بيضيع وقتنا بدون فايدة هَزّت رأسها: ما عليه يُمه يضيع وقتنا ونتطمن ولا بعدين لا سمح الله يطلع فيش شي ونتأسف إن احنا ما رحنا ضَحكَت بخفّة وهي تنظر لها من خلف جِفْنيها: حُور يُمّه ليش هالخوف كله؟ عادي يعني ضغطي منخفض.. مو أول مرة جَلَست بجانبها بعد أن أعادت مقياس الضغط مكانه لتُعَقِّب وبيدها تُشير لوجهها: يُمه شوفي شلون وجهش أصفر.. وضعفانة واجد.. والضغط هالمرة نازل أكثر من كل مرة "احتضنت كَفّها بكلتا يَديها راجِية" حَبيبتي ماما عشان خاطري خلينا نروح.. نتطمن بس.. بنروح مستشفى خاص عشان بسرعة نخلص "ارتخى حاجباها وبتوسّل" الله يخليش خليني أرتاح رَبّتت على ظاهر يَدها: ما عليه حبيبتي.. بس خل ننتظر جم يوم بعد.. إذا ظل الضغط مثل ما هو وعد راح نروح المُستشفى استنكرت: وليش مو اللحين؟ ما يحتاج ننتظر مَسحت على ساعدها بملق مُوَضّحة: أدري لأنّه مال تعب وقلة أكل.. بس أرتاح وآكل عدل بيرجع طبيعي.. لو ما رجع بروح معاش "ابتسمت لها بصدق" والله تَنَهّدت مُستسلمة لقرارها: زيـن.. مثل ما تبين "وَقَفت وبيدها ساوت قَميصها عند الخِصر وباستفسار" متريقة؟ أَجابت وهي تُضَيّق عَينيها وابتسامة مائلة تشد شَفتيها: شربت جاي حليب عاتبتها برأسٍ مائل: يُمـه! الساعة قريب الإحدعش وإنتِ تقعدين من الفجر.. ليش جذي تاركة نفسش بدون أكل؟! كَتمت في صَدرها تَنهيدة شائبة لتُجيب بهدوء: مو مشتهية حبيبتي حَرّرت شَعرها من الربطة ثُمَّ جمعتهُ عند قمّة رأسها وهي تقول بحزم: اللحين بسوي لش شي خفيف ومُفيد عشان تتغدين بعدين.. وبتاكلين غصبًا عنش.. ما راح أدلعش.. فاهمة؟ ضَحَكت تُشاكسها: من الأم فينا يا حُور؟ رَدّت بابْتسامة وهي تبتعد للمطبخ: حاليًا الأم هي أنا وراح تطيعيني انْشَغلت حُور في تَحضير الطعام لوالدتها التي ظَلّت جالِسة في مكانها والأَفكار تُواصِل قَطع طُرقات عَقلها.. صحّتها ليست جَيّدة.. هي تعلم ذلك بل ومُتَيَقّنة منه.. لكنّها ترفض الذهاب للمَشفى لسبب واحد فقط.. هي خائفة.. خائفة من النتيجة.. خائفة من اسم المَرض الذي قَد يَنطق بهِ الطّبيب.. ليست مُتأكدة من خطورة ما بها.. قَد يكون تعب بسيط.. فقر دَم أو ما شابه.. لكن احتمالية أن تكون مُصابة بِمَرض خَطير لا تفتأ تَطرق بابَ هواجسها.. أَفَرغت زَفْرة بارِدة من صَدرها وبيديها مَسحت وَجْهها الذي حَفَرَ الماضي ذكرياته بين طَيّاته.. هذا الخَط وُلِدَ بَعْد وَفاة والدتها مُباشرة.. ذاك الذي يَغفو أَسْفَل عَيْنها اليُسرى انبجس من أَرْض وَجْهها بعد أن فارقها والدها.. أَما الخَطان المُتقوسّان حَوْلَ زاوية فَمها اليُسرى.. فَقد كَوّنتهما الابْتسامة المُصْطنعة التي آثرت على ارْتدائها مُذ تَزَوّجت.. وتلك المُتَشَعّبة وَسط جَبينها سَكنت مَلامحها بعدما هُجِّر رَحْمها عن جَسدها قِسْرًا. كان وَجْهها يَغص بعَشرات الخُطوط المُتوارية من خَلْفها عشرات القصص.. لوهلة فَكّرت.. لَو أَن المَرْء يَسْتطيع أَن يُبْصِر قَلْبه كما يُبْصِر وَجْهه.. فكيف سَيكون شَكْل تَجاعيد قَلْبها؟ أَستكون على شَكْلِ حُجْرة مَفْقودة؟ أم نَبضات مُسْتَنفَذة؟ أو رُبّما شِرْخٌ تَشخب منهُ الدّماء؟ أم أنّها سَتُبْصِر بقايا عُضْوٍ تنتحر منهُ الحَياة؟ مَسَحت على صَدرها بحركات مُتتالية وهي تستعيذ بالله بهمس.. لا داعي لهذه الأفكار.. هذا ما أراده الله.. هذا امتحانها الدنيوي.. تَعلم أَنّها سَتُجازى على صَبْرها.. هي الآن إن اشْتهت المَوْت فمن أَجْلِ فَوْزٍ مؤمنة هي بلقياه. تَجاهلت الوساوس المُتَصَيّدة هَشاشتها وبدأت تستغفر وتُسَبّح إلى أن قَدِمت إليها حُور بأطباق الطعام.. قالت بعد أن رَتّبتهم على الطاولة الصغيرة أَمامها: سلطة كلها فيتامينات وألياف.. شوربة تعطيش طاقة.. وماي "رَفعت إصْبعها بتهديدٍ باسِم" إذا ما فضيتين الصحون بأكلش بإيدي غصب اعتدلت وعَيْناها تَمُرّان على الأطباق القليلة: لا بآكل.. أشوى شي خفيف جلست بجانبها وفي يَدها عَصير طازج.. كانت تَرْتشف منهُ بين الثانية والأخرى والصّمت يَسْبح بينهما.. لحظات سُكون تُداعبها أَشعة الشمس الباهتة المُنزَلِقة من جوانب الستائر. مَضت دقائق قَبْلَ أن يُزَعْزِع هذه الخُلوة البيضاء دُخوله.. رَفعت رأسها ونَبضاتها مُباشرةً هَرْولت بغضب.. بغيظ.. بألم ووَحْشَة.. تَأمّلت وجهه المُبْتَسِم بِتَرحيب.. لطالما كان غَريبًا عن رُوحها.. لكنّه الآن أَصْبح أغرب من ذي قَبْل.. تَشعر بأنّها مُنفَصِلة عنه.. لا تنتمي إليه.. غريبة هي عن دمائه وجيناته وملامحه.. حتى كلمة أبي عندما تُرَدّدها في نِفْسها؛ تَتَخبّط بتيه باحثة عن ملجأ.. إلا أَنّها لا تَجِده وتعود أدراجها خائبة.. فَرُوحها قَد غَلّقَت الأبواب.. لولا اسْمه المُحتفظة به الأوراق الرسمية خلف اسْمها لَنست تَمامًا أَنّهُ يُقال له والدها. وَقَفَ أَمامها.. أَخْفَضَت عينيها ليده الممدودة دلالة على الرغبة بالمُصافَحة.. بَقِيت مُرَكِّزة بَصرها عليها دون حَراك.. تَساءَلت بصمت.. هل سَتَتنَجّس بجرمه إذ هي صافحته؟ التَفَتت لوالدتها التي قالت بلُطف: ماما حُور سلمي على أبوش عادت ونظرت ليده.. حَبَست أَنفاسها ورَفعت يَدها وصافحته.. كانت المُصافَحة مُلامسة سَريعة بَدا عليها التّهرب.. كَتَمَ استنكاره في نفسه وتَحرّك ليستقر على الأَريكة أمامها.. تَساءَل والابْتسامة لَم تُفارق شَفتيه: شخبارش؟ من زمان ما التقينا رَدّت ببصر منخفض: الحمد لله.. زينة.. أنا أزور أمي على طول "نَظرت إليه" ما أشوفك اهني أَسْنَدَ ظَهر وذراعه تَسْتريح بجانبه: تعرفين بعد الشغل.. ماخذ كل وقتي "استطردَ باهتمام" شلونه يوسف؟ تَشابكت عَينيهما عندما أَفْصَحَ عن هذا السؤال.. للحظة تَعَثّرت وَسَط مُقلتيها نظرة ارْتباك حاولت أن تَتدارك نفسها وتُخَبّئها.. لا تُريده أن يُراوده الشك حيال موضوع يوسف ووالده.. فهي لا تَسْتبعد أَن يَتجاوز حَدّه في ضَرِ يُوسف من أجل حِماية نَفْسه.. لذلك شَدّت على قَبْضتها تُرَمّم ثَباتها.. استعانت بابْتسامة خَفيفة لتُجيب بنبرة هادِئة: يوسف زين.. يسلم عليك : الله يسلمه "وهُو يُخرج هاتفه الذي علا صوته من جِيبه" سلمي عليه "وَقَفَ وعيناه مُتَوَجّهتان للشاشة بانتباه شَديد" أستأذن تابعتهُ إلى أن خَرَج من المنزل.. ظَلّت شاردة في اللا شيء وعقلها يتراجع للأيام السابقة.. لتلك الساعة تحديدًا التي أَلقت عليها فيها مَلاك قُنبلة كانت قَد تَفَجّرت ماضيًا دون أن تَنتبه لما خَلّفته من دَمار. ، تَساءَلت باسْتنكار وهي تراها تَتلفت بريبة وقَلق: ليش جذي تلتفتين؟ جنه أحد يراقبش! نَظرت إليها لتهمس: الصراحة حُور "عادت ودارت ببصرها على الأرجاء قَبْلَ أن تُكمل وعينيها مُتركزتان في عَيْني حُور" هو فعلًا في أحد يراقب.. ما يراقبني بس أنا.. يراقبنا كلنا عُقْدة خَفيفة تَوَسّطت حاجِبَيها وفَمها مَرَّ عَليه طَيْف ابْتسامة وهي تَقول: شنو هذي مزحة لو مقلب لو شنو! أَغْمَضت للحظات قَبْلَ أن تُجيب بنبرة خائبة: لا حُور.. لا.. يا ليت مقلب "أَبْعدت خصلاتها عن وجهها المُبَعثر الملامح وهي تَزْفر ارتباكها ومن ثُمّ سَألتها" تذكرين ذيك الليلة.. يوم سوت لنا انترجن عصير؟ دَارت عدستاها وَسط البياض مُعَقّبة باسْتغراب: غالبًا انترجن تسوي لنا العصير.. يعني هي مو مرة ولا مرتين عشان بذكر! وليش أصلًا قاعدة تذكريني؟ تجاهلت سؤالها مُواصلة تَذكيرها: كانت ليلتها مشتغلة واجد.. وآخر شي عصرت لنا برتقال.. وجت بتضيفنا بس عند باب المطبخ إنتِ أخذتِ منها الصينية عشان ترتاح.. تذكريــن؟ أَرْخَت طَرْفها تَبحث بين الأحداث العابرة لليالي السابقة المُختزنة في عقلها.. عصير.. عصير برتقال من صنع انترجن.. كانت ستضيفهم ولكنّها أخذت العصير منها.. لحظة.. عند باب المطبخ.. حتى تذهب ترتاح.. آه.. نعم نعم.. رَفعت رأسها: ايــــه تذكرت "مالَ رأسها بعدم فهم" بس شدخل انترجن باللي قلتيه في البداية؟ نَظَرت لها لثواني دُون جواب بنظراتٍ أَجّجت من استغراب حُور قَبْلَ أن تَلتقط حَقيبتها القَريبة.. فَتحتها وأخرجت منها ورقة بيضاء مطوية.. مَرّرت لسانها على شَفتيها وهي تتأمّلها.. رَفعت رأسها وبتردد قَدّمتها إليها.. تناولتها حُور منها وأسئلة عَديدة تَجول حَول رأسها وفي عَيْنيها.. فَتحتها.. قَرأت المكتوب.. اسم ملاك الرباعي.. رقمها الشخصي.. عمرها وفي الأسفل نتائج تبدو لتحليل دَم.. نَطقت باستغرابٍ كَبيـر: مـلاك شنو هذا؟ "اتّسعت عيانها لتهتف بابْتسامة واسعة" لا تقولين هذا تحليل حمل وإنتِ حامل؟ امبــلى حامل وتقصدين البيبي يوم تقولين إن في أحد يراقبنا نَظرت لها بدهشة: من وين جت في بالش هالفكرة الغبية! "نَفت ما استنتجته" لا مو حامل.. هذا تحليل لدمي.. بس مو تحليل حمل أَخفضت الورقة وهي تقول بإحباط: أفــا.. وأنا كنت مستانسة "صَمتت تستوعب ثُمّ تساءلت" انزين التحليل لشنو؟ "وبشك يخامره خَوْف مُتَردد" إنتِ فيش شي؟ أَجابت بجدية: لا ما فيني شي.. اللحين الحمد لله ما فيني شي.. بس ذيك الليلة عقب ما شربت العصير.. في السيارة واحنا راجعين البيت.. استفرغت بطريقة غريبة.. وصادني غثيان ودورة وخفقان مو طبيعي فَغرت فاهها بصدمة وعقلها مُباشرة رَبط الخيوط.. هَمست بتعثّر: إنتِ.. إنتِ تقصدين.. العصير.. انترجن.. حاطة فيه شي! هَزّت رأسها مؤكّدة: اي.. "أشارت للورقة" نتيجة التحليل بينت إن العصير كانت فيه مادة تسبب الهلوسة وفرط نشاط للأعصاب وتلخبط في نبضات القلب.. أنا جسمي رفضها من جذي استفرغت بهالطريقة "استطردت" تدرين حُور شنو معنى اسم انترجن "وبحدّة" اللي وظفها أبوش في بيتكم؟ حُور التي اختنقت من الذي بَصقتهُ عليها ملاك؛ أجابت بهمسٍ مبحوح: لا! نطقت بكلمة واحدة صَفعت وَعيها: مَكيـــدة , كانت تتأمّل العصير ومعنى الاسم يَتردد في عقلها.. مَكيدة.. مَكيدة زَرعها والدها وَسط منزلها.. هي مُتيقنة تسعة وتسعون بالمئة بأنّ تحليل مُحمّد صَحيح.. فهذه الخادمة وَظّفها والدها لمراقبة يوسف ولزج عقاقير تؤثر على وَعيه بين دمائه.. حتى السائق.. لَم يَسْتبعد مُحَمّد أن يكون شَريكًا مع الخادمة.. مع المَكيدة. فحتى هذه اللحظة.. أَتُلام إذ تنافرت رُوحها البريئة مع رُوح والدها الخَبيثة؟ : حُور ماما؟ "هَمهمت بفكرٍ غائب فتساءلت والدتها باهتمام" حَبيبتي شنو فيش؟ من طلع أبوش وإنتِ ساكتة وتفكرين.. شنو شاغل بالش؟ مَرّرت سَبّابتها على فوهة الكأس بلا جواب.. فهي كانت تتناقش مع ذاتها.. هل تُفصح عن سؤالها أم أَنّها تلتزم الصمت؟ نادتها والدتها من جديد: حُـور! شعندش مع السرحان؟ "وبضحكة مازحتها" إن شاء الله قاعدة تخططين تخطفيني وتوديني للمستشفى غصب استدارَ رأسها إليها وكأنّها للتو تنتبه.. والدتها مريضة.. نعم حور أنتِ تعلمين ذلك.. قبل نصف ساعة كُنتِ تُحاولين إقناعها لزيارة الطبيب.. هي مريضة.. نَفسيًا أكثر مما تكون مريضة جسديًا من خلال ما كَشفتهُ لها المواقف والأحداث.. فيكفيها ما أهمّها. حَكّت أنفها بطرف إصْبعها قَبْلَ أن ترسم على شَفتيها ابْتسامة وتقول بنبرة مُطَمْئِنة: لا لاتخافين.. بخليش على راحتش سألت من جديد: زين حق شنو السرحان؟ ولا سر؟ نَفت: لا.. بس "نطقت بأوّل شيء خَطر في بالها" اي.. أفكر في الجامعة اللي قلت بسجل فيها وولا سجلت "سخرت من نفسها وهي تضحك" طلعت بس أعرف أتحجى.. وفاشلة في التنفيذ رَبّتت على فخذها تُراضيها: ما عليه حبيبتي.. انشغلتين مع زوجش.. خيرة إن شاء الله تَمْتمت ببسمة تحمل في بطنها عبوس: إن شاء الله ,، ارْتَدت مَلابسها.. أَحاطت وجهها بحجابها.. ثَبّتت الحقيبة على كَتفها.. ثُمَّ طَوت المعطف الأبيض فَوْق ذراعها.. كُل ذلك فعلته بآلية وبحركة بطيئة توحي بالكآبة.. خَطت مُغادرة الغُرفة.. وقَبْلَ أن تخرج من الشقة أَخفت عَيْنيها بالنظارة الشمسية الكبيرة.. لا تُريد لأحد أن يُبْصِر اعتلال مَلامحها. هي مُذ اسْتَيقظت صَباحًا وحالها مُنقَلِبٌ رَأسًا على عَقِب.. هدوء مُوْحِش يَصُم الآذان ويَنقبض منهُ القَلب ذاك الذي كان يَملأ دَواخلها.. كانت وكأنّها قَد انفصلت عن صَخَبِ العالم لِتُسْجَن بين قُضْبان هذا الصّمت الذي يُجْبِرها على إعادة شَريط الحُلْم الذي عاثَ فَسادًا في نَفْسِها. نَزلت العَتبات والحُلم يَشق ذاكرتها من جَديد.. كانت تَقِف بطولٍ رَهيب يُشْبِه سَطوة الظالم إذا أراد أن يُذِل.. تَقِف فَوْقَ رَأسه وهُو مُنْكَمِشًا في الزاوية يَتَوَسّلها.. لكنّها لَم تَكُن تَسْمعه.. حَقيقةً هي اختارت ألا تَسمعه.. فهي بلا رَحْمة ولا عَطْفٍ هُو وَليدًا للحُب؛ كانت تَضربه.. بسوطٍ على ما تعتقد.. أي كانت تَجلده وهو يَبكي ويرجو منها كِفاية.. نَعم هُو.. عَبد الله. ازْدَردت ريقها المُتراكمة فيه الغَصّات مُنذ ساعات.. لن تبكي.. لن تبكي.. حُلْمٌ تافه ولا معنى له. تَنَشّقت.. رَشّحت صَوْتها من العبرات المكتومة.. ثُمّ مَسّت أنفها بظاهر سَبّابتها. تَقابلت مع غَيْداء القادِمة من المَطْبخ وهي مُحَمّلة بطبقٍ كَبير باتّجاه غُرفة الطعام.. ابْتَسمت لها ابتسامة صَفراء تُناقض الابْتسامة المُنتعشة المُتسَرْبِلة بها شَفتي حَماتها بحلاوة. تَساءلت وهي تنتبه لمعطفها: اللحين دوامش؟ هَزّت رأسها: اي اللحين.. بعد ساعة إلا ربع تقريبًا استوعبت: أووه يعني ما بتتغدين "اقترحت" خَل أحط لش غدا في الحافظة واحمليه معاش تلقائيًا تَصَدّعت ملامحها: لا غيداء مشكورة مابي مالت شَفتاها: ليش عاد! تراش محسوبة ويانا أَصَرّت: والله حبيبتي تسلمين مابي "كَذبت" متريقة متأخر.. إذا جعت باكل لي أي شي من المستشفى أو حتى بطلب لي حَرّكت كَتفيها وهي تعود وتبتسم: على راحتش تَحَرّكت مُبْتعدة: مع السلامة : في حفظ الله فَوْرَ تجاوزها للباب الداخلي ارْتَفعت نَغمة الرسائل من هاتفها.. أَخرجته من الحَقيبة وهي تَمشي باتجاه مَرْكبتها.. انقبضت حُجْراتها.. كانت رسالة من عبد الله.. يَطلب منها أن تذهب إلى المشفى مع السائق حتى تعود معه بعد انتهاء الدوام.. لَم تُعَقِّب على رسالته وبدلًا عن ذلك هي اتصلت إليه.. رَدّ مُباشرة: هلا والله.. مساء الخير بخفوت ونبضٍ مُرْتَبِك: مساء النور "اسْتَفسرت" ليش تبيني أروح مع السايق؟ إنت تخلص قبلي بجم ساعة وَضّح: عندي جم شغلة بقعد أخلصها.. وتقريبًا بخلص في نفس وقتش.. قلت نرجع مع بعض.. وترى عطيت أكبر خَبر بموافقة وهي تُغَيّر اتجاهها: زيــن هَمَسَ ومن خَلف صَوْته اسْتطاعت أن تلتقط أصوات بعض الأطباء: أوكي حَبيبي.. أشوفش أَنهت الاتصال في الوقت الذي كانت تدخل فيه السيارة.. سَلّمت بهمس وعَيْناها لا تزالان على الشاشة.. كانت تقرأ رسائل المُعاتبة التي أرسلتها لها شَقيقتها مَرام.. ابْتَسَمت بخفّة وهي تختار رَقمها.. رَفعت الهاتف ليأتيها الجواب بعد ثواني: هلا بالمغرورين.. أكثر من أسبوع غايبة.. نسينا شكلش مَرّرت لسانها على شَفتيها قَبْلَ أن تُعَقِّب بنبرة مُرْتَخِية: شكلي بعده مثل ما هُو.. ما ينتمي لكم ضَحكت: يعني ما غيرته الغيبة وصار بيننا شبه بالغلط؟ بثقة بها شيء من خمول: لا للحين متميزة عنكم.. أشبه أمي الله يرحمها وبس : الله يرحمها " استفسرت" شفيه صوتش؟ أَسْندت جانب رأسها للنافذة: شفيه؟ وَضّحت: تعبان هَمْهمت بالإيجاب: شوي تعبانة مُباشرة أَفصحت عن الاستنتاج العَجيب: يمكن حــامل تَقَلقلت عَدستاها على الشارع المُكتَظ دون أن تنطق بكلمة.. ارْتَفعت كَفّها لبطنها وبخفّة ضَغطت عليه.. قالت بخفوت: لا.. مو حامل : وإنتِ شدرااش إلا على طول تنكرين؟ ارْتَفَعَ حاجِبَاها واعتدلت في جلوسها مُسْتَنكرة: يعني شنو شدراني! كل وحدة تعرف نفسها تساءلت: مسوية تحليل يعني وطلعت النتيجة بالسالب؟ شَدّت قَبْضتها ومن ثُمّ التفتت جانبًا وبطرف إصبعها مَسّت صِدْغها: لا ما سويت.. أنا أدرى بنفسي "استطردت قبلَ أن تَتعمق في الأسئلة" بسكّر مرام.. وصلت المستشفى تفهمتها: أوكي.. بس عاد خلينا نشوفش هَزّت رأسها وكأنها تراها: أوكي... باي أخفضت الهاتف وحواسها مشدوهة للاستنتاج الذي نطقت به شَقيقتها.. نَظرت للشاشة بفكر غائب حتى انطفأ ضوءها.. تابعت الطريق من النافذة.. هم فعلًا بالقرب من المُستشفى.. أَلَقت نظرة على الجهة المُقابلة من الشارع حيثُ تَقبع الصيدلية.. ساقها اليُمنى تَهتز بلا إدراكٍ منها وقَدمها تَصطدم بأرضية المركبة بضرباتٍ مُتلاحقة. هي انشغلت في العَمل والتفكير في موضوع بَلقيس وانتقامها ونَسِيَت أمر الحَمل أو لنقول تَناسته.. لَمست الشاشة بإصبعها.. استعلمت تاريخ اليوم وفي نَفسها تَساءَلت: متى كانت آخر دورة لها؟ أَغمضت وبيدها دَعكت فوق حاجبها بتفكيرٍ قَلِق.. لا تتذكر.. كالعادة هي لا تحفظ مواعيد دورتها ولا تسجلها.. فلا تدري هل هي متأخرة أم لا.. وكذلك علاقتها مع عبد الله مُسْتمرة بانتظام.. فاحتمال كونها حاملِ ليس ببعيد. تَلَقّفت شَفتها السُفلية بأسنانها وحركة قَدمها لَم تتوقف.. السيارة هذه هي تقترب من باب المُسْتَشفى.. استدارت للخلف تنظر للصيدلية.. الحل الأسلم والأكثر أمانًا.. في المستشفى الأعين تكون مُشَرّعة والآذان صاغية على مَدار الساعة.. لذلك التَفتت للسائق قائلة: أكبر ارجع حق فارمسي وافقَ أكبر بطاعة وأَدارَ المقود ليعودا للشارع المؤدّي للصيدلية.. نزلت دُون أن تسمح لنفسها بالتردد أو التراجع.. اشترت ما تحتاجه ثُمّ عادت لتمضي بها المركبة إلى المُستشفى من جديد.. شَكرت أكبر قَبْلَ أن تُغادر.. كانت تَقريبًا تُهرول وهي تتجه للداخل.. اتّجهت لدورات المياه الخاصة بالموظفات.. أَخرجت الكيس من حَقيبتها وتناولت العلبة.. أَفرغت ما فيها لتُطَبّق التعاليم بحذر ثُمّ بَقِيَت واقفة تَنتظر وَجِلة.. بإصْبَعيها تَحْمل الجهاز الطولي ويَدها قَد سَوّرتها الرّعشة.. على الرغم من برودة الجَو في مثل هذا الوقت من السنة.. إلا أَنّها من شِدّة تَوتّرها كانت كمن اسْتَحَمّ بالعَرق.. وَجْهها وأَطْرافها مُحْمَرّة وقَلْبُها يَخفق بطريقةٍ أَشعرتها بأنّهُ قَد تَضَخّم من فَرط ما استفرغ من نَبضات. الاحتمالان يَجولان في خلدها ولا تدري أيّهما تُرَجّح وجُل حَواسها كانت مُلْتَفِتة للنتيجة المَصيرية.. وبينما هي كذلك إذ انعكَس في صَفحة عَيْنيها الجَواب.. تَلألأ شَيءٌ في عَدستيها.. شيءٌ يُشْبه الماء.. دَمعة رُبّما.. أَحْنت ظَهْرها وهي تَشِد على وَسْطها.. اسْتَنشقت الهواء بتهدّج ومن بين بَعثرتها هَربت شهقة وانتحرت.. رَفعت يَدها وبظاهرها كَبست على شَفتيها بقوّة وبَصرها يَتحرك بشعواء على المجال المحدود أمامها.. تضاعف احْمرار وَجْهها كما لَو أَنّها تحبس انفجارًا داخلها.. اليوم صَفعت الدّمع لرمتين وأَبْكَمت صَبيبه جَبْرًا.. تُرى مَتى سَينكسر صَمْته ويَتَفَجّر ليفضحها؟ لم تنتظر أن تهدأ.. بسرعة أعادت الجهاز للعلبة وحشرته في الكيس الذي عَقدته لعدّة مرّات قَبْلَ أن تُلقيه في سلة المُهملات.. نَظّفت يديها جَيّدًا ورَشَحت وجهها بالماء لتُخَلّصه من شوائب التباسات رُوحها.. جَفّفته قَبْلَ أن تُرَتِّب حجابها لتخرج إلى الجَناح.. تنحنحت وحاولت وبشق الأنفس استطاعت أن ترْتدي ابتسامة طَبيعية.. خَطَت وأَمام ناظريها عادت النتيجة لتَسْتَقِر.. صَرخ قلبُها باعتراضٍ شَديد.. لَم تُعجبني النتيجة.. لَم تُعجبني البتّة. ,، إنّها المَرة السادسة التي يَتّصل فيها وهي تَتجاهله بِتَعَمّد.. الارْتباك المأهولة بهِ رُوحها وحواسها يَمنعها من مُحادثته.. تَخْشى أن يَزِل لسانها بِكَلمة، أو حتى أن يَسْتَشِف من نبرة صَوْتها الغَرابة. الليلة سَتلتقي مع مَلاك في شقة طَلال.. ملاك شَقيقة زوج حُور.. التي قَد تَكون ابنتها.. حَنان. سارت بين أوصالها قَشْعريرة حينما لاحَ لفِكْرها هذا الاعتقاد.. لا تُريد أَن تَتأمّل.. الشَبه ليس بدليلٍ كافٍ.. فَقد تكون مَلامح حُور الطفلة المُسْتَنسخة من ملامحها مَحض صُدْفة.. وشُكوكهم جَميعها ما هي إلا آمالٌ رَكيكة لا تَسد صَدْع الفَقْد الغائِر في ذاتها. كانت تَقِف أَمام المرآة تَتأَمّل صورتها الخالية من أي شائبة.. امْرأة ذَرّفت على الأَربعين.. لها جَسَدٌ يُشْبِه الحُلم الناقص.. ذاك الذي تَكادُ أن تَلمسه في مَنامك فتُباغتك صَحْوة الواقع الجامد.. مَلامح ناعِمة.. رَتّبها الله بعنايةٍ وَجمال.. ثَقافة لَعقت الأَرْض حتى مَلكتها.. ولباقة سَلخت جِلْدها لِتَرْتَديها.. كانت كامِلة إلا من نُقْصٍ بَشري قَدّره الله لعباده. هل لو كانت حُور هي حَنان.. ابنتها.. هل سَتُعْجَب بها؟ سَتحبّها؟ سَتَتقبّلها؟ زَفَرت هواجسها وبكفّيها أَخفت وَجْهها المُعْتَرِكة فيه علاماتٍ مُتناقضة.. ما بين الثقة والاضطراب والحُزن والإحباط هي ضائعة. أَخفضت يَديها مع ارتفاع صَوْت الهاتف.. هذه المرة كانت رِسالة.. منه بالطّبع.. تناولت الهاتف لِتَقرأ مَضْمونها الذي كان " ما أدري شنو سبب عدم ردش على اتصالاتي بعد إصرارش القوي والغريب على الاجتماع معاي والكلام بخصوص أمور ما تفيدش في شي.. أتمنى ظنوني تكون خائبة.. وأتمنى إنش بخير.. راح أعطيش فترة نقاهة مني.. يمكن تفكرين تعيدين حساباتش" التقطت زاوية شَفتها السفلية بأسْنانها وعَيْناها تَمُرّان من جَديد على كلماتٍ مُعَيّنة.. "الغريب".... "ظنوني"... "نقاهة"... و"تعيدين".. دارت أَصابعها بحيرة على الحُروف وهي تَتراجع لتجلس على سَريرها.. الواضح من كلماته هذه أَنّه بَدأ يُفَكِّر فيها بطريقة أخرى.. يبدو أن تصرفاتها الأخيرة زَرعت في نَفسه المَريضة شُكوكًا قَد تكون صَحيحة.. زَمّت شَفتيها وبطرف الهاتف دَعكت ذقنها مُفَكّرة.. بماذا تُجيب؟ كيف تَمْتص من عقله هذه الاحتمالات؟ لا تدري لا تدري! هي في هذا الوقت وبهذا الكَم الهائِل من القَلق؛ غير قادرة على توليد أي فِكْرة.. زَفَرت من جَديد وبمرفقها اتّكأت على فخذها.. أَعادت خصلات شعرها للوراء وبَصرها مُعَلّقًا بالهاتف.. بماذا تُعَقّبين فاتن.. بماذا؟ فَكّرت وفَكّرت.. وفَكّرت.. ثُمّ اهتدت لهذه الكلمات.. " أنـا وعد.. أعتقد اسمي كافي ما أحتاج أفَصّل لك.. بس إذا تبي أذكرك بذكرك مرة ثانية وعاشرة.. عندي غيرك أشغال.. مع اللي مثلك واللي أكبر منك.. وراح نلتقي متى ما أنا أحدد" مالت شَفتاها بابْتسامة ثِقة يُخامرها ضيقٌ خَفي.. رَمت الهاتف على السرير في الوقت الذي صَدّرت من صَدرها للهواء زَفْرة مخنوقة.. وَقفت ودارت حول نَفْسها.. يا الله.. بقيت ساعات حتى الاجتماع.. كيف ستصبر؟! تسلقت جَبَل الصّبرِ لسبعة وعشرين عامًا.. وها هي بعد جُهْدٍ سَحيق وعناءٍ مَرير تَقترب من القمّة.. فهل سَتظفر بسُقيا تُطْفئ أوار الفؤاد؟ أَم أن الذي ترْجاه ما هو إلا سَرابٌ تَحْسبهُ الثَّكلى لِقاء؟ ,، ضِحْكاتها تَعلو حَماماتٍ زاجلاتٍ بيض.. تُوْدِع في قَلْبها رَسائل الأمومة والحُب والرّغبة في الحَياة.. تُلَوّح لها بِكَفّها الصّغيرة كما لَو أَنّها تُزيح ضَباب الكَمَد الذي شَوّش في عَيْنيها رؤية السعادة.. هي مَجْروحة.. لأقصى رُوحها مَجروحة.. جِرْحًا مَسْتورًا والآخر مُعَرًّى على فَخْذها. عَبرَت ظَهرها قَشْعريرة وقُبْلته صَباحًا تُلاطف مشاعرها.. صَدمَها.. بنظرته ولمساته، بقُبْلته وأَسَفه.. على الرّغم من الجِرح فهي سامحته.. حتى قَبْلَ أن يطلب منها.. لَم تَجد للراحة بابًا سوى السَماح.. تعتقد أَنّهما مُتعادلان.. لحدٍّ ما.. فَلِمَ لا يَعود السيف لغمده؟ وتهدأ طُبول الحَرب؟ وتعلو رايات السلام؟ لِمَ لا؟ ارْتَفَعَ صَدرها بتنهيدة خافِتة.. طَردت عن ملامحها أَيُّ آثارٍ دَخيلة عندما نَزلت صَغيرتها من اللعبة وجَرت إليها بابْتسامة تَشع فَرحًا.. احتضنت يَدها وبسؤال: ها حلوة اللعبة؟ عَبّرت بحماس: عَجيــــبة داعبت أنفها: حَياتي إنتِ "أشارت لباقي الألعاب وَسط هذا المكان المُزْدَحِم بالناس" أي لعبة اللحين تبين؟ راح تكون الأخيرة قبل الفيلم تَأمّلت الألعاب بعينيها الواسعتين قَبْلَ أن تُشير بإصْبعها: هذيك نَظرت إلى حيث أشارت.. كانت لعبة تسلق الجدار.. اسْتَفسرت بحذر وهي تخطو معها إليها: ماما تعرفين لها؟ أحسها خطيرة ضَحَكت الطفلة: لا ماما عــادي مو خطيرة.. كان يوديني بابا البلاي قراوند وألعب فيها "وبثقة أردفت" سَيْف سَيْف هَزّت رأسها بموافقة وابتسامة: زيــن.. إنتِ أدرى تجاوزت جَنى الباب الصغير باتّجاه الجدار.. أَلبسها الموظف أحزمة السَلامة والخوذة الخاصة.. تَمَسّكت بالحبل بحماس وهي تَبْتسم بسعة لوالدتها.. بَدأت الساعة بحساب الوَقت المَسْموح لهم فيه باللعب.. أَخذت تَتسلّق برشاقة واحتراف.. ارْتَفَع حاجِبا جِنان وشَفتاها تَميلان بابْتسامة تقييم عالي.. يبدو فعلًا أنّها مُتمكنة من هذه اللعبة. أَخرجت هاتفها من الحَقيبة لتلتقط بعض الصور.. كانت جَنى كُلّما وَصَلت للقمّة اسْتدارت لها بضحكة وهي ترفع قبضتها دلالة على الفوز وجنان بكل زَهْو وجَذل كانت تَلْتقط هذه الأفعال العَفوية منها.. وأثناء اندماجها في تصوير فيديو قَصير لَفتها تَوَقّف جَنى عن التسلق وتعلّق بصرها بشيءٍ لَم تَعلمه.. وَقبْلَ أن تَسْتدير لتستعلم.. ارْتَفَع نداء جَنى المُتَفاجئ: بــابــا! التَفتت تنظر للذي خلفها ويَداها تنخفضان بالتوالي.. ارْتَطم قَلْبُها بصدرها عندما أَبْصَرته يَسير إليها وعَيْناه وابْتسامته مُتَوَجّهتان لابنته التي كانت تُلَوّح له بسعادة كبيرة.. بادلَ جنى التلويح ثُمّ وَقَف خلف السور بجانبها.. نَظَرت إليه والاسْتغراب يتصادم مع الأسئلة وَسط مُقلَتيها.. حَشَرَ يَديه في جَيْبي بنطاله وهو يهمس دون أن تُغادر عَيْناه ابنته: ذيك الليلة.. اتصلت فيش أكثر من مرة.. بس ما رديتين.. ولا اتصلتين.. ولا حتى كتبتين شي... ليش؟ صَمتت تَستوعب عن ماذا يتحدث.. وعندما امتص عقلها مَقصده اهترأت ملامحها بتَعَبٍ وكآبة.. هَمَست بإحباط: للحين فيصل؟ للحيـن! رَنا لها بطرف عَيْنه قائِلًا بنبرة التَقطت مَسامعها فيها الرّجاء: جاوبيني جِنان.. جاوبي على قَد السؤال تَنَهّدت وبدورها استدارت تُواجه اللعبة وعَيْناها تُساندان عَيْنيه في احْتواء جَنى.. أَجابت بهدوء: كان تيليفوني سايلنت.. وأساسًا ما فتحته إلا يوم ثاني.. بعد ما رجعنا من المستشفى.. طول اليوم كنت مشغولة مع البنات.. اندمجنا في السوالف والتسوق.. وإنت بعد كنت مع ربعك.. فما توقعت تكلمني.. عشان جذي ما اهتميت له "نَظرت إليه" والله ما شفت اتصالاتك إلا يوم ثاني انتظرت منهُ تَعقيب.. هُجوم.. لَوْم.. أي شيء.. لكنّهُ فَضّل حَبس الكلمات.. أَرْخت كَتِفَيها ومن فَمها عَبَرت زَفْرة مُرْسَلة من قِبل رُوحها، ومُذَيّلة بمُلاحظة تقول بأن أَضْناني الانتظار.. أَضناني انتظار العَفو.. ارأف بي فَيْصل.. ارْأف بي! انتهت اللعبة ولَم يَنتهِ الوَجع.. رَكضت جَنى لوالدها تَشرح لهُ كَيْفَ رَفْرَف قَلْبها مُذ رأته مُقْبِلًا.. قَبّلَ جَبينها ثُمّ وَجّه سؤاله لجِنان: وين بتروحون اللحين؟ تنحنحت لتُجيب ببحة وعدستاها تتهربان منه: السينما "نظرت لساعتها" شوي ويبدي الفيلم هَزّ رأسه: زين أنا ماشي رَفعت عَيْنيها إليه باسْتنكارٍ كَبيــر.. تَسَلّقت الغصّة صَدرها لتختنق في حَلْقها والمُقلَتَيْن هَتَفَ فيهما الدّمع.. أَقطعتَ مَسافة من أجلِ سؤالٍ واحِد؟ تَركتَ كُل شيء من خلفك وأتيت إلى هُنا لتُوقظ الضيق في صَدري؟ أو أَنّكَ أَردتّ أن تُنَبِّش عن خَطأ جَديد يَسْتغلّه كبرياؤك ويعذبني به؟ الرّحمة فيصل.. الرّحمة! أَرْخت أَهْدابها وأسْنانها أعانتها على كتم البُكاء وانقضّت على شَفتها السُفلية.. لم تَكن تنظر إليه ولا حتى لجنى.. ولكن حديثهما كان يصلها.. فجنى قالت بإحباط: بـابا ليــش بتروح؟ "أمسكت يَده الكَبيرة بكلتا يديها مُتَوَسّلة" تعال معانا السينما.. بليز بابا بليـــز ابْتَسمَ باعتذار: ما أقدر حَبيبتي.. عندي شغل قريب من اهني وقلت بس أمر أشوفكم قبل لا أروح له ببراءة اقترحت: عادي.. قول لهم الفيلم بيبدي بجيكم بعد ما يخلّص شَدّت على قَبْضتها وضِحكته المَبْحوحة اسْتَفَزّت خَيْبتها.. عَقّبَ وهُو يُخلّلَ أصابعه بين خصلات شعرها: يا ليت يصير أقول لهم.. بس للأسف ما يصيــر "تَقَوّست شفتاها بزَعل فأرْدَف بهمس بعد أن قَرْفَص حتى يُقارب طُولها" بابا هذي الطلعة بس حقش وحق ماما.. أونلي فور قيرلز.. ما يصير أنا أخربها.. مرة ثانية بنخليها طلعة فاملي تمام؟ حَرّكت كتفها: أوكي مَسّ شَفتيها الصغيرتين بإبهامه: أشوف الابتسامة الحلوة "ابْتَسمت بسعة فَقبَّل خَدّيها ثُمّ استقامَ واقفًا وهو ينادي زوجته" جِنان رَدّت بصوتٍ قاربَ على المَغيب: نعـ ـم اقتربَ منها هامِسًا: طالعيني "أَشاحت عنه ورَقْرَقة الدموع أَزّمت قَلْبه.. أكملَ وعيناه مُتَعلّقتان بشفتيها وذقنها المُرتعشين" بقول شي وأبيش تطالعيني "أَغْمَضت بضعف ورأسها يَميل كناية عن الاعتراض.. طَلبَ من جديد" طالعيني جنان.. أرجوش فَتحت عينيها ويدها أسرعت للمؤق تُخفي فضائحها.. تَنَشّقت ثُمّ وبتردد ساقت البَصر إليه.. هُو ابتسم.. أو أن عَيْناه ابْتسمتا؟ لَم تُكن مُتَأكّدة.. فجَميع حواسها كانت مُلْتَفِتة بدهشةٍ وذهول للعَلمِ الأبيَض الذي رَفعه لسانه.. فهو قَد هَمَسَ بالكلمة التي نَسَفت الحَرب عن بكرة أبيها: مَــسْــمــوحــة ,، قَبّلَ رَأسه لتنفذ إلى قَلْبه رائحة الطفولة المُميزة.. ابْتَسَم وهُو ينظر لوجهه المُطَعّم بالبراءة.. ضَحكَ بخفّة عندما وَجدهُ يُبادله النظرات كما لو أَنّهُ يَتعرّف عليه.. هَمَسَ له: ما ألومك على هالنظرة.. ما تشوفني إلا جم ساعة في اليوم "مَسَحَ على خَدّه المتورّد وهو يقول بنبرة مَسْموعة" لون عيونه صار أوضح أَضافَ أبا حَنين: مثل لون عيون أمه أَصْدَرَ من بين شَفَتيه صوتٌ نافٍ وعَيْناه تَتراءى لهما ذلك العَسَل الفَريد، وبنبرة غارَ فيها شيءٌ لا يُقال: عيون حَنين أَفتح دَقّقَ في عَيْني حَفيده قَبْلَ أن يقول: اي يمكن شوي قَرّب ابنه منهُ أَكثر ليَغمر أنفه بنحره الصافي.. اسْتَنشق رائحته المُختلطة برائحتها التي هَجَرت رئتيه.. هَمَسَ وهو يُسْكنه حِجره ويمسح بيده على شَعره: وحشني.. ما تكفيني هالساعات "ابتسمَ مُكمِلًا" لو يصير جان أخذته معاي جم ليلة تَبادل الوالدان النظرات وشحنات القَلق تنتقل بينهما.. عَركت أُم حَنين يُسْراها بيمينها حتى احْمَرّت أَطْرافها.. مَرّرت لسانها على شَفتيها ومن ثُمّ نَطقت بالذي يَجول في خاطرها: وليش ما تاخذه؟ "رَفَعَ عينيه إليها باسْتغراب وهي أكملت مُبَيّنة مقصدها" اخذه هو وأمه.. أكيد ما بيظل وضعكم جذي على طول "أَرْخى بَصره لإصْبعه القابض عليها الطفل بكفّه الصَغيرة والجدة تُواصل" لازم تقعدون وتتفاهمون.. إذا مو عشانكم عشان هالصغير اللي توه جاي على الدنيا.. شنو ذنبه يعيش في حياة غير مستقرة؟ حاولَ أن يَبْتسم ويُكسب صَوْته الثّبات وهو يُعَقِّب دون أن يَرفع عَيْنيه: عمتي ما في شي نتفاهم عشانه.. حَنين تمر بفترة صعبة وتحس وجودها اهني أفضل لها.. وأنا اللي عَلي إنّي ألبّي رغباتها عشان نفسيتها وصحتها اقترحَ عَمّه: انزين إنت تعال اهني معاها.. البيت بيتك رَدّ ببصره المُشيح: اعذرني عمي بس ما أقدر أترك أبوي في البيت بروحه نَطَقَت عَمّته باستنكار: انتو حتى ما تشوفون بعض.. من جبتها اهني ما تلاقيت معاها! "مالَ رأسها قَليلًا وبأطراف أصابعها دَعكت أعلى حاجبها مُرْدِفة" أدري هي رافضة إنها تقابلك.. بس يُمّه بسام إنت ما يصير تطاوعها نَظَرَ لها بابْتسامة اصْطنعتها شَفتيه ولَم تستقبلها عَيْنيه: عمتي أنا أهم شي عندي راحتها.. ما أبي أضغط عليها وأخلي الأمور تزيد سوء.. خلها على راحتها لين ما تتحسن أمورها "صَمت لثواني ومن ثُمّ أكمل وهو يعود بنظراته لابنه" وبعدين بنشوف شنو بتقرر تَمْتَمت باسْتسلام: الله يهديكم "وَقَفت وهي تقول" بروح أجيب لك جاي رَفَضَ سَريعًا: لا عمتي ما يحتاج.. اللحين بمشي ارْتَفعَ حاجباها: بسّام ما صار لك ساعة من جيت! وَقَفَ لِيُسَلّمها الطفل بعد أن تَرك على رَأسه آخر قُبْلة: ما عليه عمتي.. بس من الصبح أنا برا البيت.. واللحين قريب يأذن المغرب اسْتَفسَرت باهْتمام: ضايقتك بكلامي؟ اعذرني يُمه إذا ضايقتك تـ قاطعها بأدب: أفا عليش عمتي "ابْتَسَم بسماحة" من حقش تسألين وتتكلمين وتعطين رايش.. بس أحتاج أرتاح شوي قالَ زوجها: خلي الرجال على راحته "حادثه بابْتسامة" الله وياك يُبه.. بس باجر عشاك عندنا أَوْمَأ له: على أمرك "مَسَح على شعر ابنه ومن ثُمّ رَفع يَده مُوَدّعًا" مع السلامة : في حفظ الله "جَلست مكان بَسّام لتستطرد بضيقٍ خانق بعد أن تأكدت من خروجه" حالهم مو قاعد يتعدّل.. شفته شلون طلع بسرعة من عقب ما كلمته؟ أَبدى رأيه: أنا أقول خلهم اللحين.. ما نبي نصعّب عليهم الوضع أكثر.. خل حنين تخلص علاجها وبعدين لكل حادث حديث هَزّت رأسها بموافقة: على خيـر ، يتبع |
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
في غُرفتها.. هذه المَرّة لَم تَخْطو.. وإنّما عَرّجت إلى النافذة بمقعدها.. أَي أن العجلتان كانتا خطواتها.. أَمسكت بطَرف السِتارة وأَبْعَدتها قَليلًا وهي تُقَرِّب وَجْهها من الزُّجاج.. ازْدَرَدت ريقها عندما أَبْصَرت مَرْكَبته.. لَم تَرهُ مُنذ ذلك الصباح.. في كُل مَرّة يزور المنزل تنعزل في غرفتها إلى حين خروجه.. وهذه هي المرة الأولى التي تَلجأ فيها إلى النافذة من أجل رؤيته.. لا تدري هل الرغبة كانت نَتيجة للشوق؟ أم لأنّ ظِلّه لَم يَبْرح خَيالها طَوال ساعات اليوم؟ رَعْشة فارقتها لأيّام سَرت بين أوصالها السّليمة ووجوده يُصافح بَصرها.. أَطْبَقت شَفتيها ووميضُ الدّمع يُشاغب أهدابها.. هُو كان يمشي لسيارته.. وحينما وَصَل إليها اتّكأ على سَقْفِها بساعديها وأَرْخى رأسه.. لا.. بَل جِبال الهَم التي أَلقتها على حياته هي التي أَرخت رأسه المُثْقَل.. أَغْمَضَت للحظة فسالت قَطْرة مالحة على أَرْض خَدّها الجافة.. تَأمّلتهُ من مكانها.. دَقّقت النظر في مَلامحه البعيدة وتَفَحّصت أحواله.. جَسدهُ ارْتَدى النحول، حَتى أن معطفه الجلدي لَم يُخفِ ضِعفه الجَلي جدًا.. تَنَفّست برجفة وهي تَمُر على وَجْهه.. لا تُبالغ إذا قالت أنّهُ كانَ رَمادي.. يغص بالضيق والوحشة.. نَهبتُ من مَلامحك السّلامَ بَسّام.. سَكبتُ علَيها بَعضًا من حُلْكة ذاتي ثُمّ هَرِبتْ.. نعم هَرِبتْ. رَفعَ رأسه للسّماء.. أَغمضَ عَينيه وشَفتاه تتحركان بكلماتٍ لا تُسْمَع.. أَخْفضَه.. اسْتَلَ من صَدره تَنهيدة ثُمّ رَكب سيارته وغادر. أَسْدَلت الستارة.. أرجعت المعقد للخلف وصَدرها يرتجف بجنون.. نَظرت للباب الذي فُتِح.. كانت والدتها وبين ذراعيها الصغير، ومن خلفها جيني تحمل طَبَقًا من الفواكه وكأس ماء.. ازْدَردت ريقها وأخذت ترمش سريعًا لرُبّما تضيع الدمعات.. قالت والدتها وهي تنظر لابنها: يبي ينام هَزّت رأسها وفَتحت باعها إليه.. وما إن أَراحتهُ أُمّها بين ذراعيها حتى سَلّمَ عَليها نَسيمٌ محفوف بعطر ذاكَ الذي يَحْترف غَزْو الأَراضي الباردة.. تلكَ التي لا يَرْضخ جَليدها لِضَرْبَة فَأسٍ قاسية.. وإنّما تنصهر بذوبانٍ تام إذا ما قَبّلها دِفء الرّبيع. هي تَشَبّثت بأنفاسها.. حاولت أن تُحيدها عن الرائحة.. لكنّها لَم تستطع.. فالشّوق كان المُسَيّر لحواسها لحظتها.. لذلك ارْتَفَع صَدرها بتنشّقٍ مُتَقَطّع أَجفلت منهُ والدتها وجيني المُتَفَرّجة.. زَفَرت ببطء ثُمّ عادت واستنشقت بصعوبة نَفَسًا عَميقًا أَعْقَبتهُ شَهْقة مُلْتاعة.. مالَ جِذْعها وبكاءٌ حـاد سَيْطر عليها بلا مُقَدّمات.. انحنت لها والدتها لتُمسك سَريعًا بالطفل الذي كاد يَسْقط من ارْتخاء ذراعيها.. نَطقت بخوف ورَبْكة وهي تُبْصر حال ابنتها: بسم الله الرحمن الرحيم.. بسم الله.. حَنين شنو فيش؟ شصار اللحين! كانت تبكي والعَين مُغْمَضة.. فالجِفنان لا يَقْبلان أن تُبْصِر الضياع المُبَعْثِر حَياتها.. لكن لا جدوى حَنين.. حتى ولو صابَكِ عَمى.. سَيَظَلُ الفؤاد شاهِدًا على دَماركِ الداخلي.. على ذلك النبض المُتردد، المُتَمَسّك بأطراف عباءة الكبرياء.. وتلكَ الرّوح التائهة، التي تَنظر للحياة من شِقٍّ صَغير تَعْبر منهُ الخَيبات وَتستريح.. ثُمّ تَكبر وتتراكم حتى يُسْتَعصى على الشق لَفْظها. التَفتت والدتها للخادمة وهي تُشير بعينيها للصغير: أرجوكِ جيني هَزّت جيني رأسها سريعًا وتَقَدّمت لتأخذ حُسين الذي أَرْهب قَلبه الصغير الكآبة التي حاصرت المكان فجأة. الأُم انحنت لابنتها وشَدّت على كَتفيها وهي تهمس بقلقٍ هَدّل ملامحها: حبيبتي.. حنين يُمه.. شنو فيش؟ متوجعة من شي؟ "أَشارت لصدرها بنحيب ووجهها السابح فيه البَحر اقتطعت قَسامته تصدّعات مُتألّمة.. لذلك سَألتها ويدها تتجه لصدرها تتحسسه" صدرش يعورش؟ نروح المستشفى حبيبتي؟ حَرّكت رَأسها بلا.. لَيس صَدري.. وإنما ذاك المنطوي خَلْفَ أَضْلُعي.. تَمَسّكَت بساعد والدتها تَرْجو منها احْتضان ثواني واحتوى جَسدها المُرْهَق.. أنتَ حينما يكون جَسدك سَليمًا.. يَقِظًا بأكمله.. وتُهاجمك الرّجفة.. فإنها تَتوزّع على الجَسد بأكمله.. لكن ماذا لو أَنّ نصفك كان مَيّتًا؟ أَتعلم إلى أي مَدى هُو مُهْلِك أَن تَنحصر الرّجفة في نصفك الحَي؟ في النصف الذي يَقبع فيه الفؤاد ويَعيش؟ فلو كان لَك قَدَمين.. لَخَلعت نِعليك ومَضيت هاربًا إلى حين الفَرج. شَدّت عليها والدتها وبيدها تَمْسح فوق شَعرها وتذكر اسم الله.. هَمَست ولحن القَلق يُسَيّر كلماتها: يُمه حَنين.. قولي لي يُمّه.. شنو فيش.. لا تخوفيني.. والله قلبي ما يتحمل دَفَنت وَجْهها في صَدرها، تُخْفيه عن العالم وعَن نَفْسها.. ماذا بي أُمّي؟ ماذا بي! هل أقول؟ هل أعترف؟ هل أَفْضح الشَّوق الذي يَتجلبب بسِتر كبريائي المُهْترئ؟ هل أنطق بكلماتٍ كانت ذاتي مُتَيَقّنة حَدّ الغلو بأنّهُ يُسْتحال للساني أن يَتَلَفّظ بها؟ ماذا أقول؟ بأي عَين أعترف وبأي وَجه! حَططتُ بنفسي.. حَططتُ بها إلى دَرَكٍ أَخشى ألا تَهبط لهُ رُوح بَسّام الطاهرة. وَصَلها نِداء اُمّها الجافلة: حَنيـــن! حَرّكت رأسها قَليلًا فبان جزءٌ يَسير من وجهها المُختنق بالأحمر.. هَمَست من بين حَشْرجاتها وطَيفهُ المُنَهك يَجثو فَوْقَ جِفْنيها: تَعـ ـبـ ـانة.. . ,، دُقّ الجَرس فالتقت نَظرات الاثنتين بِرَهْبة.. أَجْفلتا لثواني في مكانهما حتى عادَ الرّنين من جَديد فَوَقفت نُور ومشت بخطوات واسعة إلى الباب.. فَتحته لتُقابِل ضَيفتها بابْتسامة وَدودة وهي تَقول بترحيب: أهـلًا وسهلًا مـلاك.. تفضلي حياش دَلفت وعلى وجهها أمارات الحَرج.. وباعتذار قالت: آسفة تأخرت.. بس كان الشارع زحمة حَرّكت رأسها: لا عادي.. مو متأخرة "أشارت لساعتها" جاية على الوقت "تناولت منها عباءتها وحجابها" دخلي ملاك البيت بيتش خَطَت للداخل حيث كانت تَقِف فاتن بتَرَقّب.. اقتربت منها ملاك وصافحتها بابْتسامتها الناعمة.. قالت نُور بتعريف: مَلاك هذي فاتن إخت طلال أَوْمأت لها ملاك: تشرفنا بادلتها فاتن الإيماءة: الشرف لي أشارت لهما نُور بالجلوس: تفضلوا استريحوا "اسْتَطردَت مُوَجّهة الحديث لملاك" أعتذر ملاك إذا سببت لش ضيق بما إنش بتسافرين بعد جم يوم.. بس الموضوع واجد مهم هَزّت رأسها بتفهم: لا عـادي نُور.. ما فيها ضيق ولا شي "استفسرت" شنو الموضوع؟ إنتِ خبرتيني إنّه يخص حُور ارْتَجفَ فؤاد فاتن المُعتكفة في قوقعة صَمْتها.. كانت تُريد أن تتكلم.. أن تسأل وتبحث وتُنَبّش عن بُكاء ابنتها ورائحتها ووجهها البريء.. لكن الكَلام كان عَصِيًّا عليها.. فالمَرء عندما تَعُج في صَدره الكلمات تُبنى من تراكمها جِبالًا لها قِمَمٌ تَمْتَد حتى تُوْصِد بوابة الصوت.. حينها تُحْبَسَ العَبرات بين فَمٍ ولِسان، فَعِوَضًا عن الكَلام يَنطق المَرء بعَبراته.. فلا تفهم شيء.. لأن غَيْر الوَجع لا يَنفذ إلى أُذنيك. نُور عندما رأت الحيرة والاستنكار تحومان حَوْل وَجه مَلاك، والسكوت بجموده وضياعه يُغشي حواس فاتن؛ تَكَفّلت بمهمة الحديث والنقاش.. شَبكت أصابع يَديها وهي تَتقدّم قَليلًا في جلوسها للأمام.. وبهدوء: مَلاك أدري إنش حاليًا مستغربة لدرجة كبيرة.. "أَرجعت الصوت في حلقها ثُمّ أكملت" الموضوع اللي بنتكلم فيه يخص حُور مثل ما خبرتش.. الموضوع حساس واحنا نحتاج مساعدتش.. بس راح نتفهمش لو رفضتين المساعدة بَسَطت يدها على صَدرها ونَبضها أَربكته ريح التّوجس.. قالت برجاء: نُــور قولي لي شنو الموضوع ترى خوفتيني أَلقت نظرة على فاتن.. وَجْهها مُحْتَقِن وعَيْناها احتكرهما جحوظ المَيت رُعْبًا.. عادت ببصرها لملاك.. تَنهدت ثُمّ نَطقت بالحَقيقة الأولى: فاتن قبل ثلاثين سنة تزوجت.. تزوجت سلطان.. أبو حُور التَفتَت لفاتن بحدّة سَطعت من عَيْنيها.. نَقَلت بصرها بينها وبين نُور مُتسائلةً بريبة: وشنو يدخّل حُور بهذا الشي؟ ابْتلعت نُور كمية كبيرة من الهواء قَبْلَ أن تُفْصِح بَتردد: فاتن ولدت بنت.. وأخذها منها سلطان وهي بعمر السنتين وانقطعت عنها أخبارها.. وللحين.. ما تعرف عنها ولا شي رَكّزت بصرها على نُور.. كانت تَدعك باطن يَدها بإبهامها وأهدابها تُحَلِّق للأعلى وللأسفل بحركاتٍ تنم عن الارتباك.. حَرّكت عدستيها لفاتن.. كان وجهها كالقنبلة الموقوتة.. بَل وجسدها بأكمله! ازْدَردت ريقها وهي تَجتذب ظهرها للأمام لتتساءَل بلحنٍ مُفَكّر: يعني إنتِ.. تقصدين إن حُور.. مُمكن تكون الطفلة اللي اخذها سلطان.. بنت فــ قاطعتها فاتن التي هَتفت بصوتٍ مَسْلوخ: فاتن.. بنت فاتن.. بنتـ ـي "ذَرفت بمقلتيها الغائمتين دُموعًا ناحَ فيهما الأَمل" أرجوش.. أرجـ ـوش.. ملاك..... إذا تقدرين تساعديني.. تتأكدين.. إذا.. إذا هي.. بنتـي.. أو حتى لو يصيـ ـ انهارت حُروفها بضعف.. فهي أجهشت بالبُكاء من شِدّة العَوَز الذي يَرفض فكاكها.. لسبعةٍ وعشرين عامًا أُغْلِقَت في وَجْهها كُل المنافذ.. انفلقت تحت قَدميها الطّرقات وتعاكست الجهات.. كُلٍّ يَسوقها لأرْضٍ بَلْقع حيثُ التيه والضياع.. لَم تعثر على وَجه ابنتها.. ولا على صَوْتها ولا حتى رائحتها.. فالملابس التي بَقيت لديها بات يغفو بين طَيّاتها الفَقْد برائحته اللاذعة.. تلك التي تَخز العين فيعلن ماؤها انتحاره على الوجنتين. تناولت بعض قطع المناديل من يَد نُور برأسٍ مُنخفض.. مَسحت دموعها وأنفها بقوّة حتى شَعرت باحتراقٍ في جلدها.. ازْدَردت غَصّاتها الشائبة والفتية.. فرُوحها كانت تحتفظ بغصّات لها عُمر كعمر الفَقد. نَظرت لملاك بملامحها المتورمة، ومن خلف أهدابها الرّطبة قالت ببحّة ويَديها المُسْبَلتين وَسط حجرها تَشرحان خَلاء وفاضها: أنا ما عندي دليل قوي إنها بنتي.. عندي صورة بس.. يمكن تقولين إني مجنونة.. أو حتى غبية.. بس ما بقى لي من الأمل إلا آخــ ـره.. فإذا تقدرين تساعديني بكون مدينة لش طول حياتي مَرّرت مَلاك كَفّيها بأصابعها المُرتعشة على وجهها الذي خَسفَ ملامحه انفجار فاتن.. زَفرت التباساتها والحيرة تحوم حَوْل رأسها.. نَطقت بتلعثم: صدمــة!.. يا الله.. ما أدري.. يعني حُــور! "حَرّكت رأسها وهي تغمض للحظات" أقصد.. مُمكن "التقت عَيناها بعيني فاتن المُحْمَرّتين" إنتِ مو مجنونة.. ولا غبية "وبتنهيدة" وما أستبعد إن اللي شاكة فيه يطلع حقيقة "وَضّحت وهي تُبصر الاستنكار بين عيني فاتن" كل شي أتوقعه من سلطان.. كـــل شي "اسْتَطردت مُسْتَفسِرة بعد أن رَشّحت صَوْتها من الصدمة" شنو قصة الصورة؟ رَنت فاتن لنور باستنجاد فأجابت: صورة لفاتن صغيرة في واحد من أعياد ميلاد حَنين.. شافها طلال بالصدفة.. لوهلة ظن إنها فاتن صغيرة من كثر الشبه.. وكأنهم شخصية وحدة على حد قوله.. بس انتبه للفترة الزمنية.. وبعد فاتن يوم شافتها أكدت إنهم يملكون نفس الملامح في هالسن أكملت عنها فاتن وهتاف الأُمنية يَطل من بين حروفها: هي في عمر بنتي.. وهي بنت سلطان.. الفرق إن بنتي اسمها حنان.. وهي اسمها حُور هَمْهمت بتفهّم ثُمّ ابتسمت نصف ابتسامة أَبهتها الخَبر وهي تقول بصراحة: أنا راح أحاول أساعدش كثر ما أقدر.. بس مو اللحين.. ما أبي أسبب شكوك لحور خصوصًا في هالفترة الصعبة بالنسبة لها سَألت وقَلْبها فَرّ من مكانه: شنـو.. شنو فيها؟ بتحفّظ: ظروف خاصة بأخوي استفسرت بلهفة العَطاشى: يعني متى بتبدين تبحثين في الموضوع؟ : أَفضّل بعد سفرتي "اعتذرت" آسفة بس فعلًا ما أقدر أخوض في الموضوع اللحين تَبَسّمت بشحوبٍ وبلحنٍ يَتكئ على الأمل: ما عليه.. اللي خلاني أصبر سبعة وعشرين سنة.. بيخليني أصبر جم أسبوع ,، أَشْعَلَ سيجارة.. اسْتَنشقَ منها ثُمّ نَفَثَ الدُّخان لِيَتشعب بين ذرات الهواء الباردة.. أَمْسَك بطرف إحْدى الأوراق وقال: أَذكر هالقصة.. كنت فأول ثانوي.. وكيل وزارة الـ*** حصلوه مَيّت في مزرعته عقب أربعة وثلاثين ساعة من البحث أَضافَ رائد: كاتبين إن سبب الوفاة سكتة قلبية.. لأن حتى تحليل الجثة ما أَدى إلى نتيجة قَلَبَ مُحَمّد الوَرقة ليُشير للتي خَلْفها: وهذا السبب الحقيقي.. عقار من صنع صالح.. يُصْعب بل ويُستحال التوصل له حتى بعد تحليل الجثة.. في برلين كان يُسْتَخدم عَزيز وهُو يَتفحص باقي الأوراق: وللحين يُستخدم.. الواضح إن تركيبته محفوظة عندهم "اسْتَطردَ وعلى وَجْهه تُقَرْفص الصّدمة" أنا للحين مو مصدق اللي أشوفه.. الخلية الموجودة اهني أغلب اللي فيها أساميهم أشهر من نار على علم في البلد.. وجهاء وأصحاب مناصب! رائد وهو ينظر للتي بين يديه: لكن في بعضهم مُعْدَمين.. يدورون الفلوس وما تهمهم الطريقة اللي يكسبونه من خلالها.. أهم شي ينشحن جيبهم ويسدون جوع أهاليهم.. لكن بعد في ضحايا واجد انلزقت فيهم تُهم زور "ضَرَب بإصْبعه على الورقة مُرْدِفًا" شوف هذا.. فَرّاش في بنك *** ... اتّهموه باختلاس مئتين ألف دولار "ضَحكَ مُتَهَكّمًا" هذا يمكن قراءة ما يعرف يقرأ.. شلون صدقوا إنّه اختلس بوجود نظام سري مُعَقّد! "انتقلَ للورقة الأخرى مُواصِلًا" والصدق إن مُدير البنك وأمين الخزنة هُم المختلسين "هَزّ رأسه بأسف" المسكين حكموه عشر سنين زائدًا التعويض.. أتوقع هو اللي مات بسكتة قلبية وذلاك الاثنينه متنعمين برا الديرة.. شهالعدالة الزفتة! تَمْتَمَ عَزيز بَعْدَ أن ألقى الورقة على كومة الأوراق المُتوسّطة أرضية مكتب صالح: يبدو إن القاضي حسابه في بنك ثاني وما تضرر من الاختلاس أكملَ مُحَمّد ساخِرًا: بنكه سووا له مُفاجأة وأودعوا له في حسابه جم ألف هدية عَلّق رائد: وأنا كنت أظن سلطان الراس العود الوحيد في هالخلية.. طلع وياه روس زيادة وبعضهم حتى أكبر منه! عَزيز بحقدٍ دَفين يَنمو لحظة بعد لحظة: بس هو أحقرهم وأخسهم.. ذلاك كل واحد فيهم ارتبط بجريمة.. واحد قتل.. واحد اختلاس.. واحد تزوير.. واحد متاجرة بالأعضاء وغيره.. هو الوحيد اللي جمع كل الجرايم أَرْجعَ رائد ظَهره للخلف وهو يتنهد باسْترخاء: والله صالح يستاهل بوسة على راسه "التَفتَ لمُحمّد" بوس لنا راس يوسف نيابةً قال يُذَكّره: مو أنا كفّلتك إياه؟ إذا قابلته بوس راسه بنفسك هَزّ رأسه: يستاهل يستاهل "ضَربَ على صَدره بثقة" ومن اللحين أقول لك.. ما يحتاج تحاتي ولا المدام تحاتي.. يوسف وأم يوسف وزوجة يوسف في حمايتي ابْتَسَمَ بخفّة: بنشــووف اسْتَفسَرَ عَزيز: أي كثر بتقعد في برلين؟ أطفأ السيجارة التي لَم يستنشق منها سوى نَفَسٌ واحد: مادري والله.. هاينز قال لي إن آستور ما عنده علم جم المدة.. بس يعني ما راح تكون أقل من شهر : وما قال لك من الرئيس؟ بعُقْدة خَفيفة: لا.. أنا أصلًا ما فهمت عدل.. هل هو اكتشف الرئيس.. أو شاك في أحد ويبيني أنا أتأكد بطريقتي.. أو يبيني معاه نبحث عنه.. ما فهمت لهاينز "وبضحكة" المسكين كان شوي ويغمى عليه من ارتباكه ابتسم: خايف عليك حَرّك كَتفه وشَفتاه تميلان بابتسامة: دايمًا يتوقع السوء ضَيّق عَيْناه: وإنت جاك من ورا آستور شي غير السوء؟ رَنا لهُ للحظات وسؤاله يَنفذ لقلبه.. استجابت نَبضاته للوجه الذائبة فيه نعومة شَهية والذي حاصره بعد أن تَردّد السؤال بين حجراته.. أَرْخى رأسه وبسبّابته دَعكَ أنفه وهو يُحاول أن يَصطد لاتّساع ابْتسامته.. اعْتَلت ضِحْكة رائد المُستريح للوراء.. حادثَ عَزيز: شفيك بو محمد.. نسيت آستور شنو قَدّم لباتمان من خيـــــر؟ الْتمَعَ شيء وَسط عَين عَزيز وهو يقول بنبرة حَوْت حَسْرة مُواربة: هنيالك محمد.. صدق هنيالك عَقَد مُحَمّد حاجبيه وهو الذي فَهمَ مقصده: ليش تقولها جذي؟ بعدها الحياة قدامك.. شوف أنا وين كنت ووين صرت مالَ رأسه وهو يُحَرّك بالرفض: لا.. بس خلاص.. الحياة صارت وراي.. جربت حظي ثلاث مرات.. ما أقدر بعد أظلم مراة رابعة.. ولا أقدر أتحمل يجيني طفل وأظلمه معاي.. تعرفني.. عســر عَلّقَ رائد وهو ينقل بصره بين الاثنين: والله شكلها برلين عطت كل واحد منكم درس غير عن الثاني صَحّحَ لهُ مُحَمّد: سَــم وإنت الصادق ,، هذا الليْلُ الواقفُ على أعتابِ فَجْرٍ طَويـل مَوْلودٌ من رَحْمِ كَمَدِها.. داخلها مُظْلم.. يَحْمومٌ لا يَشْرق فيه بَياضٌ ولا ألوان.. قَلْبها يَنبض بكآبة تُثير فيها الرّغبة في الموت.. مُفْتَرق الطّريق الذي لطالما وَقفت فيه، ها هي لا تزال لَم تَبْرحه.. آثار قَدميها غارت في تُراب أرضه، بَل أَمست جُزْءًا من تَكوينه. سابِقًا وقَبْلَ أن تُلْقي رُوحها إلى التهلكة.. كان في وسعها أن تَتراجع للخَلف.. أن تَنتعل الاستسلام وتعود للوراء.. للضّفة الآمنة.. لكن الآن.. وبَعْدَ أن تَحَوّرت حَياتها إلى عُقْدة لا تنفرج؛ أَصْبح من الصّعب التراجع.. كما من الصّعب المَضي قَدَمًا.. فهي في كلتا الحالتين سَتُقَوّض جُدران قَلْبٍ واحد.. قَلْب زَوْجها.. عبد الله.. صاحب الابتسامة السّمحة. جَسدها يَسْتقر على المقعد.. على خلاف رُوحها المُضطربة.. جذعها مائل ناحية النافذة حَيثُ أَسْندت جانب رأسها.. تُشاهد الطريق الشبه فارغ بعينين يَسْكنهما الشتاء.. كان ديسمبر يُوَدّع السّنة من شُرْفة عَينيها البائستين. على يَسارها.. كان صاحب الابتسامة السّمحة يَقود المَرْكبة.. نَظْرةٌ للطريق.. ونَظرتين لها. لَم تنبس ببنت شفة مُذ رَكِبَت.. وهُو لَم يُحاول أن يَستهل معها حَديثًا.. فالإرهاق بادٍ على ملامحها الرقيقة.. لذلك لا يُريد أن يُضاعف من انزعاجها. لكن وعلى الرغم من ذلك.. هُو لَمَح في جُمود حَدقَتيها وتَهَدّل أَطراف وَجْهها شَيئًا غَريبًا.. شَيئًا يُشْبه الضّياع.. وعلى شَفتيها المُطْبَقتين اسْتطاع أن يَلْتَقِط حُروفًا مَبْتورة.. لن يَجزم.. ولكن هُو يعتقد لحدٍّ ما أن شَيئًا غير الإرهاق كان يُحيط بها. وَصلا للمنزل.. أَرْكن السيارة ثُمّ غادراها بفقر الحَديث ذاته.. تَوَجّها لشقتهما مُباشرة.. فالساعة قَد اقتربت من الواحدة بعد مُنتصف الليل. هي فَوْرَ دُخولها للغرفة رَمت حَقيبتها على الأرض، ثُمّ خَلعت حجابها وهي تُلْقي بنفسها على السرير.. اسْتَلقت على جانبها الأيسر دُون أن تَخلع عَباءتها.. طَوت ساقيها وحَشَرت يَديها بين فَخْذيها مُواصِلةً صَوْمها عن الكلام. تَرَكَ هاتفه ومفاتيحه على المنضدة ثُمّ خَطى إليها بثيابه الزّرقاء الخاصة بعمله.. اسْتَقَرّ برُكبتيه على الأرض الخَشبية، وبيده المُنبعث منها دِفء رُوحه احْتَضن وَجْنتها.. هَمسَ وإبْهامه يَمسح فَوْق خَدّها: يعطيش العافية حَبيبتي "لَم ينتظر منها تعقيب.. هُو أكمل مُباشرة بنظرة يبزغ منها الحَنان لَيْلًا ونهارا" أدري الأيام صايرة مُملة.. روتين يجيب الكآبة.. غير إن الشغل يكسّر العافية "ابْتَسَم بحُب وأصابعه تُزيح عن عيْنها خصلات غرّتها" لكن وعد مني مع بداية السنة الجديدة راح أخطط لسفرة تعوضش عن كل هالتعب "غَمَزَ لها" شَهر عَسل متأخر "قَبّلَ جَبهتها بخفّة ثُمّ تساءَل" تبيني أساعدش تشيلين العباية وتبدلين؟ انتظر منها جَواب.. إيماءة.. أو حتى اصطفاق هُدْب.. ولكن لا شيء.. لا شيء سِوى غَرَقٌ يُهَدّد زُمرّدتيها.. عُقْدة خَفيفة قَرّبت حاجبيه.. هَمَسَ مُسْتَغربًا: مَـروة! وكأنّما تلفظه باسْمها كانَ الصافرة التي أعلنت انهيار تماسكها الهَش.. تَصَلّب للحظات وهُو يراها تدفن وَجْهها في الوسادة وصوت بُكاؤها يعلو بانتشار.. لا لا.. لَم تكن تَبكي.. كانت تنتحب.. تَنتحب وكأنّها تَجُر بنحيبها أَسمالًا من الأحزان المُتشعبة في صَدرها.. رَمَشَ باسْتيعاب وبسرعة جَلسَ على السرير بجانبها ليرفع جَسدها الوَهن.. نَطَقَ مُسْتنكرًا والذُّعر يَشد رحله إليه: بسم الله.. مروة! حبيبتي ليش تصيــ رَفَعَ حاجِبيه بتعجّب عندما وَضَعت يَدها على فَمه.. نَظَر لِعينيها.. كان يَهمس وَسطهما رجاءٌ هَزيل.. لذلك اسْتجابَ إليها وَاجتذبها بصمتٍ إلى صَدره.. أحاطت كتفيه بذراع والأخرى مَرّرتها أسفل ذراعه لتلتقي يَداها عند كَتفه الأيسر.. وَجْهها مُلْتصق بِعُنقه.. تَشُمُّ طِيبه لَعلّ العَلقم النابت في أرْض ذاتها يَنفني.. تبكي بعينين مُغْمَضتين.. تَرفضان أن تبصران الدّنيا وهي ترسم لها طريق الانتقام.. مُغْمضة لألا تَرى في مرآة مُقلتيه انعكاس شُرورها.. كانت تتَمنى لَو أن هذا الإغماض يَفصلها عن الوُجود.. أن يَدمجها به.. بعبد الله.. لتتشارك مع الرّوح.. ليكونا جَسدان بروح واحدة.. سَتذبح رُوحها.. سَتنهب منها الحَياة وسَتدفنها بلا رَجعة وسَتكتفي بروحه.. سَتنهل من عَذْبها وسَتُحاكي طُهْرها.. لَيتها.. لَيتها فَرْعٌ وهُو أَصْلها.. تَرْجع إليه إذا باغتتها الدّنيا ومَحَنتها. مَرّت دقائق وهُما على الوضع ذاته.. هُو مُسْتند بظهره للسرير.. ساق بركبة مَرْفوعة.. والأخرى بنصف امْتداد.. وهي بينهما مُنطوية في حُضنه وذراعيه درعها الحصينة.. وشَهقاتها تخترق ثَوْب الفَجر بين الفينة والأخرى.. هَمَسَ بصوتٍ جُفّ ريقه من فَرط خَوْفه: مَرْوة واللي يرحم والديش قولي لي شنو فيش.. لا تخليني أحاتيش! ظَنّها أَنّها لن تُجيبه.. لكن بعد لحظات شَعرَ بحركة شفتيها على عُنقه.. هَمست بصوت مَكْتوم وبحشرجة حَزيــنة التوى منها عِرْقٌ في قَلْبه: أبي أمـــي ,، عَبّرت وهي تَطْوي إحدى السُّتر وتَضعها بترتيب في حَقيبة السّفر: صدمتني! لثواني ما عرفت شنو أرد عليها.. شنو أقول! مراة أشوفها لأول مرة في حياتي تقول لي إنها شاكة إن حُور بنتها! المُشكلة ظنونها مبنية على صورة.. صورة لحُور وهي صغيرة.. وإنها بنت سلطان.. يعني شلون بنتها! وخالو أم حُور؟ شنو وضعها؟ أصلًا حتى شكلها ما يناسبه إن تكون عندها بنت في عمري "سَكتت للحظات ثُمّ أَردفت بنبرة مُنخفضة" هي الصراحة قالت لي.. أو نُور قالت.. إنها تزوجت صغيرة.. أقل من خمستعش سنة.. فعادي تكون بنتها في هالعمر "أَصدرت من فمها صوت مُعترض وهي تَمس صدغها بحيرة" بس شلــوون! الشي ما يدخل العقل.. وهي مو متأكدة.. يعني حتى لو بحاول أبحث بضطر أكلم حُور أو أمها أو حتى أمي.. لكن ليش أزعزعهم والموضوع بس شك! "التقطتْ قَميصًا وأخذت تَطويه وهي تُواصل" يعني هم يا الله استقر وضعهم.. حُور ويوسف.. تفاهموا مع بعض ويوسف ياخذ علاجه الصح عند الدكتور الصح.. ليش بعد خبر مثل هذا يهدم عليهم كل شي! ولا.. بعد يمكن يطلع مو صدق! "أخفضت القميص في الحقيبة وَظَلّت تنظر لها وحَدقتاها تدوران وَسط مُقلتيها كأنّما تُنَبّش عن جواب يُهدّئ الهلَع الذي أصابها" أنـا يعني.. ما أستبعد يكون شكها في محله.. وإن حُـ ـور تكون بنتها.. لأن هذا سلطان.. سطلــان.. مو غريبة إنّه يرتكب حقارة من هالنوع خَلّلت أصابع يَديها في شَعرها وأَرجعت خصلاتها للوراء وهي تَزفر بغيظ من المَوقف ومن الضياع الذي سَبّبه بين أفكارها.. أَخْفضَت يَديها وبالتوالي ارْتخت خصلاتها النّاعمة وعادت لتُؤطّر وَجْهها.. رَفعت عَينيها إليه.. للتّو تنتبه أَنّها هي الوحيدة التي كانت تتحدث.. لَم يُشاركها ولا بكلمة.. استنكرت بملامح مُتغضنة: محمد ليش ساكت؟ من قلت لك ما نطقت بكلمة.. ولا حتى انصدمت من الخبر! بَلّل شَفتيه قَبْلَ أن يُوَضّح بهدوء: أنتظرش تخلصين عَقَدَت ذراعيها على صَدرها: خلّصت.. شنو تعليقك؟ "وَقَفَ مُتّجهًا إليها.. وما إن وَقفَ قُبالتها حتى قالت بنبرة شَك" إنت تدري بهذا الشي من قبل؟ "ضَيّق عَينيه وزَمّ شَفتيه فهتفت هي بعدم تَصديق بعينين مُتّسعتين" تَــدري.. كنــت تدري!! ليش ما قلت؟ ليش ساكت طول هالوقت؟ إنت تدري إن حـ قاطعها ويداه ترتفعان أمام وَجْهها يَدعوها للتروي: أُش أُش ملاك.. اهدي.. اخذي نفس واهدي "أَطاعته واسْتَنشقت نَفَسًا مُخْتَلِجًا آلم أضلاعها قَليلًا.. ازْدَردت ريقها وبلا إرادة منها نَبعَ من أَرْض عَيْنيها ماءً أُجاجًا.. مالَ رأسه مُعاتِبًا" اللحين ليش الدموع ملاك.. ما له داعي! نَطَقت بغصّة: شلون ما له داعي! محمد إنت تدري.. يعني اللي قالته فاتن صدق.. يعني حُور بنتهـ ـا.. تخيل يعني.. بعد كل هالسنين تكتشف إن أمها ما هي أمها! شلون بتتحمل الصدمة؟ "تَصَدّعت ملامحها والفيض غادر المُقلتين ليتدفّق على بَشرتها الباهتة.. وبعَطْفٍ مَحْزون أكملت" كفاية اللي فيها.. كفاية اللي شافته.. ما بتقدر تتحمل هالصدمة.. لين متى بتظل حياتها جذي! كل مرة يطلع لها شي جديد وجعه أعظم من اللي قبله.. حـــرام.. والله حرام! أحاطَ كَتفيها بذراعه وقَرّبها منه مُعَقِّبًا: ملاك لا تستبقين الأحداث.. إنتِ حتى ما سمعتين جوابي.. جاوبتين على نفسش بنفسش وسويتيها مناحة! "نَظَرت له من خَلف أهدابها الماطرة باسْتفسار فأكمل شارحًا" أنا ما كنت أدري إن حور بنتها.. بس أعرف فاتن.. وأدري إنها كانت متزوجة سلطان وجابت منه بنت وأخذها منها تساءلت وهي التي لَم تفهم: شدرااك؟ ويده تُحَرّر وجنتيها من البلل: رائد المحقق اللي أشتغل معاه.. يصير زوجها.. زوج فاتن.. في البداية ما كنت أدري.. بس مؤخرًا علّمني قصتها "وبشفقة" سلطان عذّبها واجد.. زين إنها ما استخفت من اللي سواه فيها! أخفت وجهها بكفّيها والزفرات تَشق طَريق صَدرها: يا ربي شهالتعقيــد! "تراجعت للخلف قَليلًا ويَديها انخفضتا لتتحركا في الهواء باضطراب تُسانِدانها على ترجمة دواخلها" زين ليش توها تدوّرها؟ يعني بعد كل هالسنين توها تفكر فيها؟ الموضوع واجد معقد.. يعني ليش أخذها منها؟... ليش ما دوّرتها حزّتها أو اشتكت عليه؟... وحتى اسمها.. تقول بنتها اسمها حنان.. بس هذي حور.. وما عندها حتى شهادة ميلاد لها لأن سلطان وقتها ما سجّلها "استقرت يَدها على جبينها وبهمسٍ تائه" يا الله.. أحس راسي بينفجر أَفْصَح عن المعلومات التي يَملكها: أنا اللي أعرفه إنها توها من جم سنة راجعة اهني.. السنوات اللي طافت كانت عايشتها في لندن وشوي في برلين.. بس أسئلتش ما عندي لها جواب أكيد جَلَسَت على السرير بتعب وكَتفين مُنَحَنيين وهي تهمس: المشكلة اللحين ما في وقت أشتغل على الموضوع.. ما باقي شي على السفرة قالَ سَريعًا مُسْتَغلًا حيرتها: إذا ما تبين تجين عادي ما بنخـ ابتلع الباقي من كلماته عندما رَنت له بحدّة: محمد قلت لك ما في شي بيخليني أغير رايي.. بسافر معاك سواء رضيت لو ما رضيت نطقَ بنبرة تَسْتجدي الرّأفة: مَلاك ترى وجودش معاي بيضاعف من تعبي "وبصراحة مُتَعَمّدة" بتكونين حِمل واجد ثقيل ارْتَفَعَ حاجِبها وببحّة: يعني تحسب بيضايقني كلامك وبس بزعل وما بسافر؟ "بتصميم لا رَجعة فيه" راح أروح معاك.. بسافر معاك برلين.. وإذا على تعبك المضاعف على قولتك.. لا تحاتي "أمالت شَفتيها الابْتسامة التي احترفت اللهو بقلبه؛ وبهمسٍ مُلاطف" أعرف شلون أخلصك منه حَرّك رَأسه بقلّة حيلة: ما في فايدة.. عَنيـــدة! ,، يتبع |
الساعة الآن 05:36 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية