منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f498/)
-   -   ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي (https://www.liilas.com/vb3/t200312.html)

ضَّيْم 20-05-19 02:31 AM

رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
 
الله يسعدكِ، من زمان جدًا عن مثل هالروايات الجميلة.
وقفت من قبل البارت الأخير يوم دريت إنك بتوقفين فترة رمضان..
الحين ماعاد أتحمل أصبر :e412:
فراح أنتظرك مرة وحدة لين تكملينها وكلي شغف والله :V5N05075:

simpleness 23-05-19 03:26 PM

رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
 
السلام عليكم ورَحمة الله وبركاته

الفصل إن شاء الله راح ينزل ليلة العيد، بما أن هذا رأي الأغلبية
نلتقي على خير إن شاء الله.

simpleness 04-06-19 03:32 AM

رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
 
بسم الله الرحمن الرحيم
توكلتُ على الله

الجزء الرَّابع والخَمسون
الفَصل الثاني


قَبْلَ شَهرَيْن

يُمَرِّر يَدهُ على مَلامح وَجْهه المُقَطِّبة.. يُخَلِّل أَصابعه بَيْن خصلات شَعره.. يَزْفر مَرَّة واثنتان وثَلاث.. يُمَشِّط غُرفة الجُلوس جيئةً وَذَهابًا.. يَتَّكئ بِكَفَّيه على خِصْره.. تَشْتَد عُقْدَة حاجِبَيه مع تَخَبُّط عَدَستاه على المَكان بِتَوَتّرٍ جَلِي.. عَلَّقَت وهي تَجْلس باسْترخاء على الأريكة برأسٍ مائِل يُلامس باطن كَفَّها: حسستني اللي بتجي أخطر امرأة في الدّنيا.. ليش جذي حالتك!
وَضَّحَ دون أن ينظر لها وهو يَطْبع خطواته على الأرضية الرّخامية: ما أرتاح لها.. أنا شفتها مرة.. مرة بس.. في مكتبه في المركز.. هي ما شافتني.. بس أنا شفتها "غَضَّن الاشْمئزاز ملامحه" لبسها وطريقة كلامها وصوتها اللي ما تحاسب لنبرته.. كل هالأمور ما خلتني ارتاح لها
اسْتَنكَرت بحاجِبَيْن مُرْتَفِعَيْن: من مرة وحدة قدرت تحكم عليها!
نَظَرَ لها لِيُدَعِّم رأيه: حتى قصّتها تخليني ما أرتاح لها.. طول عمرها عايشة برا.. لا أم لا أبو ولا أهل.. عمرها طاف الأربعين وعايشة عيشة بنت العشرين وأصغر بعد
ضَيَّقَت عَيْنَيْها وبابْتسامة قالت لِتُنَبِّهه: عاد هالخصلة ما لك حق تنتقدها فيها
تَوَقَّفَت خُطواته وهو يَسْحَب نَفَسًا عَميقًا قَبْلَ أن يُعَقِّب: أدري.. أدري إنّي كنت عايش عمر مو عمري "بَرَّرَ" بس أنا رَيَّــال
بنبرة ذات معنى: الغلط غلط طَلال.. سواء كان مرتكبه رَجَّال لو امرأة
أَبْعَدَ بَصره عنها بضيق ثُمَّ عادَ واسْتَكمل سَعْيه وهو يُكَرّر: ما أرتاح لها.. فجأة التقوا في ألمانيا وفجأة تزوجوا وفجأة صارت تشتغل معاه على قضية صار لها سنيــن! حتى اسمها غيَّرته.. قصّتها ما تدخل العقل.. كلش ما تدخله
اعْتَدَلت في جُلوسها لتقول بلُطْف: ما عليه حَبيبي.. في النهاية هي زوجته وهو صديق عمرك اللي وقف معاك في أقسى ظروف حياتك.. وهو طلب منّك هالخدمة البسيطة.. ما فيها شي إذا ساعدته.. اعتبرها رَد جَميل
أَفْصَحَ: أَنا أصلاً وافقت عشانه هو.. حسّيت روحي بصير قليل أدب لو ردّيته بعد كل اللي سواه لي.. كفاية الشقة حقه.. يعني لو رفضت جني أطرده من بيته
مع إنهائه لِجُملته ارْتَفَع رَنين الجَرس.. رَتَّبَت حِجابها على رأسها قَبْلَ أَن تَقف لتتأكَّد من إغلاق أَزرار عَباءتها.. تَحَرَّكَ هُو إلى الباب.. أَمْسَكَ بالمقبض ثُمَّ نَظَرَ لها فابْتَسَمَت إليه تُشَجِّعه.. أَطلَقَ آخر زَفْرة وَطَرَدَ الضّيق عن مَلامحه.. رَسَمَ ابْتسامة خَفيفة على مُحَيَّاه ثُمَّ فَتَحَ الباب.. قابَلَهُ وَجْه رائِد المُحْمَر والذي قالَ سَريعًا بِحَرَج شاغَبَ عَيْنيه: سامحني طلال.. بس ما عندي غيرك.. حتــ
قاطعه وهو يشرع الباب: أقول ادخل ادخل بلا دلع
وضَّحَ وهو يَتَقَدَّم للداخل: لو ما عزيز يحقّق معاي جان رحت بيته.. بس كنت أبغي شخص بعيد عن المركز والتحقيقات عشان لا يشكّون فينا "اسْتَطَرَدَ وحَرجه يَتضاعف عندما قابَلَ نُور الواقفة بابْتسامة" السلام عليكم
رَدَّت بمودَّة: وعليكم السلام
قالَ وهو يَحك خَدّه: سامحينا حَرم أخونا.. بس ما عندنا غيركم
ضَحَكَت بخفّة: عـادي عـادي.. أخذوا راحتكم.. البيت بيتكم
اسْتَفَسْرَ طَلال بنبرة ثابتة: وين زوجتك؟
أَجابَ وهو يَنظر لساعة هاتفه: دقايق وبتوصل
أَشارَ لإحدى الغُرَف: رتَّبنا لكم المَيْلس.. اخذوا راحتكم
وَضَّحَ وهو يَتَّجه مع طَلال للمجلس: ما بنتأخَّر.. بس باخذ منها جم معلومة تخص القضية وبنطلع
كَرَّرَ جُمْلَة نُور قَبْلَ أن يَعود لغرفة الجلوس: البيت بيتك رائد
وفعلاً.. بعدَ دَقائق بَسيطة رَنين الجَرس كَشَفَ عن وُصول فاتن.. نَظَرَت نُور لِزوجها الذي نَطَقَ بنبرة مُنْخَفِضة وهُو يَتَوَجَّه للمَطْبخ: أنا عطشان.. بروح أشرب ماي
كَتَمَت ضِحْكتها وهي تَتَحَرَّكَ بِعَجَل إلى الباب.. هو يَتَحَجَّج بالعَطش حتى لا يُقابل هذه المرأة التي هي مُتَحَمِّسة لرؤيتها.. فَعَدَم تَقَبُّل زَوْجها لها أَثارَ فُضولها تجاه شَخصيتها.. فمن هي تلك التي استطاعت أن تُوقِظ اشْمئزاز طَلال؟ فَتَحَت الباب وعلى شَفَتيها الصَّغيرَتَيْن ابْتسامة ناعِمة اتَّسَعَت عندما أَبْصَرت وَجْه فاتن المُشدود من القَلَق... قالت بِنَبْرة مُطَمْئِنة: رائد وصل من خمس دقايق.. ينتظرش "أشارت للداخل وهي تُفْسِح لها المَجال" تفضلي
تَساءَلت بتردّد دُون أن تَتَحَرَّكَ وهي تَشْد على حَقيبتها: إنتِ، زوجة صَديقه؟ ...طَلال؟
هَزَّت رأسها بالإيجاب: ايــه.. أنا نُور "كَرَّرت" تفضلي البيت بيتش
تَقَدَّمت وهي تَرد بِهَمْسٍ خَجُول: شُكـرًا "تَلَفَّتَت وبتساؤل" وين رائد؟
أَشارت للمجلس وهي تخطو تجاهه: اهني في المجلس.. تفضلي
قالت بحرج وهي تُمسك بقبضة الباب: اعذرونا على الإزعاج
بِلُطف: وَلو إخت فاتن.. البيت بيتكم
أَوْمأت لها برأسها وهي تَبْتسم بامْتنان اتَّضَح في عَيْنيها الحُرَّتَين من عَدسَتيْن مُلوَّنَتَيْن.. دَخلت للمجلس وأغْلَقَت الباب خَلْفها بَعْدَ أن شَكَرت مُجَدَّدًا نُور التي قَصَدَت المَطْبَخ حَيْثُ زَوْجها.. هَمَسَت بمُشاكسة: البُعْبع وصلت.. دخلت لزوجها
عَقَدَ حاجِبَيه وبنبرة تَحْذيرية قالَ وهُو يُشيح وجْهه عنها: ترى أنا وايد معصّب
وقَفَت أَمامه، رفَعَت يَديها لوجهه وبتسلية قَرَصَت خَدَّيه: عُمْـــري المعصبين
نَظَرَ لها مُتسائِلاً: شفتينها؟ شفتين شلون لبسها؟
دَارت عَدسَتاها وَسَطَ البَياض بتفكير وهي تَسْتَرجع مَظهرها: كانت لابسة جينز وقميص، وشعرها مربوط ذيل حصان، ووجهها ما فيه ولا نقطة مكياج "حَرَّكَت كَتفيها" ما حسّيت فيها شي غلط
هَمَسَ: ما أرتاح لها.. لو تشــ
قاطَعته: طَلال بس خـلاااص.. مو مجبور ترتاح لها! هي زوجة صديقك.. زوجة صديقك وبــس
أَفْصَحَ بِصدق: اي زوجة صديقي.. زوجة أخوي.. وأنا أتمنى لأخوي الأفضل.. أتمنى له زوجة غير هالزوجة اللي ما ندري شنو وراها
لانَت ملامحها مُعَقِّبة بِعَطْف: بعد قلبي إنت.. أَدري حَبيبي إنّك تبي الزين لرفيقك.. بس هذا اختياره وهو راضي فيه ومرتاح.. هو في نظره هي الأفضل له.. مدام تقول يحبها.. فخلاص.. الله يهنيه معاها "رَفَعت نَفْسَها حتى اسْتَقَرَّت على أطراف أصابع قَدَميها وبخفَّة قَبَّلت ذقنه ثُمَّ هَمَسَت بحُب" بس إنت حَبيبي لا تضايق نفسك.. إنت تقول نصحته.. وقلبك وضميرك يتمنى له الخير فلازم تكون متطمن من هالناحية.. لأن اللي عليك سويته.. وهو أدرى بمصلحته

،

مَضَت ثَمانُ دَقائق والصَّمْتُ ثالثهما.. هي تُراقب الخَلاء المَسْفوك على راحَتيها.. وهو يُراقبها.. كان جالِسًا على يَمينها وأَمامهما قَد اسْتَقَرَّت طاولة مُتَوَسِّطة الحَجَم.. جُمِعَ فَوْقها كأسان عَصير.. طَبق من الكَعك.. وجرَّة مياه قَد تَكَدَّسَت على سَطْحها الخارجي بِضْعُ قَطَرات.. وكأسان إضافيان فارغان. الهدوء يَحْشو المَجْلِس وباتَ يَلْتَف حَوْلَ عُنُقِ رائِد ويُخْنقه.. إلى متى سَتَصمت؟ ما بها؟ لِمَ هي هكذا؟ ألهذه الدرجة أَضْعفها لِقاؤها به! ماذا حَصَل في ذلك المنزل، وأيُّ الأحاديث التي تَبادلاها؟ هل اقْتَرَبَ منها؟ أو حاولَ رُبَّما.. هل عَرفها؟ لا لا يعتقد.. لَو عَرفها لَما تَركها تَفْلت من قَبْضَتيه.. إذن ماذا حَصَل؟ نَطَقَ بنفاذ صَبْر: فاتن اشربي ماي "اسْتَدارت إليه بنظرة عَدَم فهم وهُو أَكْمَل" شكله ريقش ناشف.. اشربي ماي بعدين تكلمي
حَرَّكت رأسها وبهمس: لا مابي.. ما يحتاج
اسْتَفَسَرَ: زين ليش ساكتة؟ ما أبي نطوّل اهني عشان لا أنحرج مع زوجة طلال
هَزَّت رأسها بتفَهّم ثُمَّ نَطَقت بتَوضيح: كنت أفكّر من وين أبدأ
بتَوَجُّسٍ حَفَّزَ نَبَضاته: فاتن.. إنتِ قلتين لي ما صار شي.. ما قدر يسوي شي.. ما ضرّش.. بس اللحين بحركاتش خليتيني أخاف!
شَبَكَت أَصابعها وكلماتها تَرْتَدي الهُدوء: ما يحتاج تخاف لأن ما صار شي يخوّف.. بس.. "مَرَّرت لِسانها على شَفتيها ثُمَّ أضافت بنبرة خافتة" حَضنّي
نَظَرت إليه من خَلْف أَهْدابها بِحَذَر بَعدَ أن أَلْقَت عليه القُنْبلة.. زَمَّت شَفَتيها بضيق عندما رأت كَيف تَجَهَّمَت مَلامحه وتَجَمَّدت.. وذاك العِرْق النّافر في صِدْغه هَدَّدها بقدوم الخَطَر.. وفعلاً، في لحظة طارَ أَحَدِ الكؤوس في الهواء لِيَهْوي على الأَرْض بحدّة خَلَّفت صَوْتًا كالزَّمجرة المُفْزِعة؛ وبِضع زُجاجاتٍ مَكْسورة تناثَرت بعشوائية على الرّخام. صَوْت انْكسار الكأس أَرْجفها واضطَّرها لإفلات شَهْقة مُتفاجئة.. حَتى الجالسان في الخارج.. نُور المُندمجة في قراءة أحَد الكُتب، وطَلال الغائب كُلَّيًّا عن المُباراة المَعْروضة في التلفاز؛ وَصَلهما الصَّوْت وأَرْفَعَ حواجبهما اسْتغرابًا.
هَمَسَت بتأنيب ونَبْرَتها جُفَّت من الخَوْف: رائد شسويــت!
تَجاهَلَ ما أَشارت إليه.. قَبَضَ يَده التي أَصْبَغها احْمرار غَضَبهِ المَكْتوم.. اسْتَفَرَغت مَساماته عَرَقًا ولَّدتهُ النار المُتَوَقِّدة داخله.. اسْتَلَّ الكَلِمات من بَيْن أَسْنانه لِيَهْمس بِفَحيح وعَيْناه تَنْحرفان عن وَجْهها المُسْتَفِز بالنسبة إليه في هذه اللحظة: بســرعة انطقــي وقولي لي شنــو صار بالضَّبــط
مَسَّت جَبينها بِيَدٍ تَقَفَّزت بالارتباك، قَبْلَ أن تَزْدَرِد ريقها بصعوبة مُسْتَعِدَّةً لِسَرْد أحداث الليلة الماضِية.

،

العُنوان الذي أَرْسَلهُ إليها كان واضِحًا.. لَم يَصْعُب عَليها العُثور على المَنزل الذي كان يَتَوَسَّط إحْدى المَناطق المَعْروفة بشموخٍ وخَيلاء.. مَنزلٌ واســعٌ جِدًّا مَبني على الطراز الحَديث.. من الخارج لا يُوحي بشيء مُريب ولا يثير الشَك.. اسْمٌ تَعْتَقِد أَنَّهُ وَهْمي مَكْتوبٌ على لَوْحة مُعَلَّقة فَوْقَ الجَرَس.. اسْم مالكه بالطَّبع. هي دَخَلت بالسَّيارة إلى باحته الخَضراء.. أَشارَ لها الحارس في أَيْن تَركنها ثُمَّ فَتَح لها الباب بلباقة وابْتسامة غَبِيَّة رَدَّتها لهُ بحاجِب مَرْفوع.. تَقَدَّمت ناحية الباب الداخلي لكن صَوْتٌ أُنثوي أَوْقَفها..: لحظة يا آنسة
اسْتدارت تَبْحَث عن الصَّوت.. كان آتٍ من خَلْفها.. عُقْدة خَفَيفة تَوَسَّطَت حاجِبَيها.. إنّها تَتَحَدَّث الألمانية.. امْرأة شَقراء بطولٍ مُلْفِت.. فُسْتان أَسْود قَصير.. أَحْمَر شِفاه داكن.. وابْتسامة.. كَريهة! مَسَّت أَنْفها بظاهر سَبَّابتها وهي تَتَقَدَّم منها.. نَطَقَت بالإنجليزية مُدَّعِيةً عَدَم الفهم: عفوًا؟ أنا لا أفهمكِ
أَعادت بالإنجليزية وبلكنة رَكيكة: تفضلي معي من هُنا "وهي تُشير بيدها لباب خَشَبي يَبْعد عنهما مَسافة السَّبعة أمتار" السَّيد ينتظركِ هُناك
تَساءَلت بِحَذَر ويَداها تَشُدَّان على الحقيبة: أين هُناك؟
بابْتسامة مائِلة لا تدري لِمَ لَمَحت فيها خَبَاثة مُواربة: سَترَيْن
زَفَرَت قَبْلَ أن تَخْطو إليها بَعْدَ أن جَمَّلَت شَفَتيها بابْتسامة مُطَعَّمة بالغُرور والثِّقة.. تجاوزتها بذِقْن مَرْفوع وتلك الألمانية تَبِعتها وصَوْت كَعْبَيهما يَتصادم لِيُحْدث جَلَبة مُزْعِجة عَكَّرَت صَفْو المَساء.. تَوَقَّفَت عند الباب وقَبْلَ أن تَفْتحه امْتَدَّت يَدُ الألمانية من خَلْفها ودَفعته.. شَكرتها دُون أَن تنظر إليها وهي تَتجاوز الباب.. المَنْظَر الذي أَمامها أَرْفَع حاجِبَيها وقَوَّسَ شَفَتيها بتقييم بدا من نَظراتها المُعْجَبة أَنَّهُ عالٍ.. كانت باحة أخرى تُقارب مساحتها الباحة التي تَركتها.. إلا أَنَّها أَكْثَر انْتعاشًا بسبب بركة السِّباحة الكَبيـــرة المُتَوَسِّطة المَكان.. الزَّرَع بذات الخضرة ولكنّه قَد تَسَرْبَل بزهورٍ بألوانٍ مُتَنَوِّعة ومُغَذِّية للعَيْن.. تَحَرَّكَت قَدَماها بخطواتٍ رَتيبة وهادِئة وهي مُنْتَبِهة لحافَّة المَسْبَح الخَطِرة.. تَوَقَّفَت عند إحْدى الأزْهار المُتَدَلِّية من شَجَرة مُتَوَسِّطة الحَجم.. زَهْرة بلون برتقالي فاقع وحَيوي.. أَمْسَكت بها بنعومة ثُمَّ قَرَّبتها من أَنْفها.. أَغْمَضَت واسْتَنْشَقَتها بِعُمق في اللحظة التي أَحاطت فيه ذراعه خِصْرها.. جَحظت عَيْناها برُعب وشَهْقة مَبْحوحة، قَصيرة وسَريعة فَرَّت من صَدْرها.. تنافَرت أَصابعها فَتَدَلَّت الزَّهرة في الهواء بَعد أن تَركتها يَدها بفجأة.. ابْتَلَعت ريقها المُتُخَثِّر من الخَوْف وهي مُنْتَبِهة بُكل حواسها لِيده التي أَزاحت خصلاتها عن جانب وَجْهها.. شَدَّت أَجْفانها وهي تُحاول أن تُسَيْطِر على الرَّجفة التي أَوْجَدها اسْتنشاقه لِعُنقها بَين أَوْصالها.. اهْتَزَّ ذِقْنها وصوته القَبيح هَمَسَ عند أذنها: تتوقعين من فينا فاز باسْتنشاق أحلى ريحة؟ أنا ولا إنتِ؟
ثَغْرة صَغيرة انْتَصَفَت شَفَتيها لِتَسْمح بِمُرور زَفير يُساعدها على الثَّبات وتَثْبيط عَزْم انْهيارها.. فَتَحَت عَيْنيها وبهدوء أَبْعَدَت جَسَدها عن جَسده النَّجِس.. لَم يُحاول أن يَمنعها أو أَن يَصُر على التَّمسك بها.. فكان سَهْلاً عَليها الابْتعاد.. ولكن إلى مَتى سَتَمْتَلِك حَصانة هذه السّهولة؟ طَرَدَت مَلامح الفَزع وخُطوط الارْتباك عن مَلامحها.. تَوَشَّحت عَيْنَاها بنَظْرة المَكْر والكَيْد.. لَوَّنَت شَفَتيها بابْتسامة الثِّقة والغُرور ثُمَّ اسْتدارت إليه لِتُقابل وَجْهه الذي مُجَرَّد النَّظِرِ إليه يُعيدها إلى دَوَّامة كابوس كانت تَعْتَقد أَنَّهُ أَبَدي.. هَمَسَت بِنَبرة يَلْويها اللَّعِب: تقدر تفوز بأكثر وأكثر.. بس في الوَقت المُناسب طَبعًا
ارْتَفَعَ حاجِبه وعَلا سؤاله: ومتى إن شاء الله الوَقت المُناسب؟
أَجابت وهي تَبْتَعد عنه إلى ناحِية الأزهار الصَّفراء المُشِعَّة خَلْفه: أنا اللي أَحدّده
وهو يخطو إليها: على مزاجش يعني!
بثقة: تقريبًا.. بس تقدر إنت تخلي الوقت أَقرب
ويَده تَسْكن جَيْب ثَوْبه: وشلون؟
حَرَّكت خَصلاتها بأناملها بحركة اتَّسَمَت بالدَّلع: بكَسب رضاي
هذه المَرَّة شاركَ حاجبه الآخر أَخاه في الارتفاع لينطق بتعجّب: والله! وشنو اللي يرضيش.. آنِسة وَعد؟
دارت عَدستاها في السّماء مُعَبِّرَةً بلسانها: أشياء كَثيـــرة
هو الذي فَهَمها: أوَّلها؟
صَمَتت لثواني.. خَبَت ابْتسامتها قَليلاً.. ارْتَدى صَوْتها نَبْرة مُسْتَقيمة تَدفعها ريحٌ باردة..: إنّي أكون شَريكتك

,

وهي تُكْمِل بأنفاس مَقْطوعة ونَفْسٍ طَغَى عليها الغَثَيان: قَبَل بسرعة.. توقعته يطلب وقت يفكّر.. بس الواضح إنّه للحين عَبْد للمرأة الجَميلة.. كان المفروض مثل ما اتفقنا.. أقعد معاه عشان نتفاهم على كل شي وأكشف له عن شغلي "والتَّقَزُّز يُصَدِّع ملامحها العارية" بس ما كنت قادرة أَتحَمَّل إنّي أَقعد معاه في مكان بروحنا.. وجهه وصوته وحركاته وضحكته الكريهة.. كنت شوي وأستفرغ عليه.. عشان جذي طلعت بسرعة بعد ما أعطاني الموافقة
عَقَّبَ بتأنيب غاضِب: قلت لش.. قلت لـش بيصير شي.. بس ما صدقتيني وقلبتينها مناحة
ارْتَخَت حواجبها وبرجاء: رائد الله يخليك لا تبدي لوم ونصايح.. خلاص.. الحمد لله ما صار شي هالمرة
وَقَفَ باصِقًا سؤاله: والمرة الثانية؟ والثالثة والعاشرة؟ كل مرة يعني بتنفذين منه! لا ما أعتقد
وهي تقف لتواجهه: إن شاء الله ما راح يكون في مرة عاشرة.. شغلي معاه بينتهي بأسرع وقت
تَهَكَّم وهو يُوليها ظهره: شنو بينتهي بأسرع وقت! تجذبين على من فاتن! إنتِ ما عندش دليل إنّه قتل مربيتش وزوجها وبنتها.. ما عندش ولا دليل واحد.. ولا تدرين إنتِ رايحة له عشان تدورين على شنو.. إنتِ عندش خطة بس ما في طريق معروف تمشين له.. يعني إنتِ قاعدة تمشين على عماش مثل ما نقول
تَنَفَّسَت بعمق مُحاولةً تَرْميم صَبْرها وبنبرة هادئة: رائد أنا صدق ما أدري شلون بوصل لهدفي.. بس متأكدة إنّي بوصل.. مدام اتَّخذت خطوتي الأولى فبوصل.. صدقني بوصل
التَفَتَ لها وبهمس: أتمنى
قَبَضَت يَدها وبرَجْفة قَهَر: رائــد أرجــوك.. قلت لك أبي منّك بس ثقة.. أرجوك لا تحبّطني
أشاحَ عنها ببرود اسْتَفَزَّها لكنَّها اَجْبَرَت ذاتها على التَّمسك بفُتات الهُدوء.. لا تُريد أن تُحْدِث مُشْكِلة في شقة رَفيقه.. لا داعي لذلك.. هُو غاضب لذلك يَتَصَرَّف هكذا.. ولا يُلام.. فالأفْضَل أن تَكتم انْفجارها لوقتٍ آخر أو إلى أن يَسْتَسلم البُرْكان وتَذوي حممه. تَساءَلت: كل مرة إذا نبي نشوف بعض بنلتقي اهني؟ أحسها مو حلوة
أَجابَ وهو ينظر لها بعينيه الحادَّتَيْن: اللحين ما عندي غير شقة طلال.. وطبعًا ما نقدر نتكلم في التيلفون.. احتمال كبير إنّه يراقب مُكالماتش.. على الأقل لو راقبش وإنتِ تجين اهني.. تقدرين تقولين إنش صديقة نور
هَزَّت رأسها بتفهم: تمام
تَقَدَّمها للباب وهي تَبعته.. بانت فَتحة بَسيطة قَبْلَ أن يرتفع صَوْته البادي عليه الحَرج: يا الله

: حَيَّاك رائد

هذا صوت صَديقه.. طَلال.. لَم تُقابله عند دُخولها.. بل لَم تُقابله البتة.. لا تَذكر أَنَّها الْتقته من قَبْل.. تَسمع اسمه في أحاديث رائد فقط والتي لا تخلو منهُ غالبًا.. طَلال صَديق البَحْر.. تَبَسَّمَت بِخفّة وهي تَخْطو خَلْف رائد للخارج.. هذه الجُملة غَمَرتها بذكريات قَليلة ولكنّها عَميقة ودافئة.. فذاك الصَّغير الذي فارقته كان يَعشق البَحر والقوارب.. وكان اسْمه طَلال أيضًا.. هل كُل طَلال للبحر في قلبه مَكانة خاصَّة؟
قاطَعَ أفكارها صوت رائد: حَبيبي مشكور.. وسامحنا على الإزعاج
أجابَ طَلال الذي اغْتَصَب الابْتسامة وهو يَرْنو بَطرف عينه لتلك الواقفة بجانب رَفيقه بسرحان: أفا عليك.. تحت أمرك
وهو يُوَجّه حَديثه لنُور: إنتِ بعد مشكورة دكتورة "وبحرجٍ بالغ" واعذرينا.. انكسر كاس بالغلط
نور التي لَم تُفارقها الابْتسامة: عادي حصل خير.. وحاضرين لكم.. حيَّاكم أي وقت
أَدارَ رأسه لفاتن المُلْتَزِمة الصَّمْت.. رَفَعت رأسها إليه باسْتفسار.. أشار بعينيه بحدّة لجهة طَلال والدكتورة.. نُور.. كما عَرَّفت بنفسها عند الباب.. فَهَمَت ما يَرْمي إليه.. يُريدها أن تَشْكرهما.. حَسنًا.. لا مُشكلة.. يَسْتحقان الشُّكر.. رَفَعت عَيْنيها لنُور بَعدَ أن اسْتعانت بابْتسامة ناعمة: شُكرًا نُور على المساعدة
أَوْمأت برأسها: ولو فاتن.. المكان مكانكم
اتَّسَعت ابْتسامتها اسْتجابةً للطف نُور النَّقي.. حَرَّكَت عَيْنيها لطلال.. ويا للعَجب.. تَناثَر خَجَلٌ بالكاد يُرى فوْقَ ابْتسامتها.. نَطَقَت في الوَقت الذي تَصادمت فيه عَيْنيها بِرَماد عَيْنيه: مَشــــ ـــكــ...
تَعَثَّرَت كَلِمَتها في حَلْقها وانْشَلَّ لِسانها.. عِرْقٌ واعٍ الْتَوى في قَلْبها والنَّبَضات تَسارعَت بطريقة أَجَّجَت دماءها حتى غَزَت وَجْهَها.. رائد الذي اسْتَنكر انقطاع كلمتها وتكالب الاحمرار على مَلامحها؛ وَجَّه بَصره لطلال.. كان عاقِدًا حاجِبَيه ولَمْحة غَضَب تَطوف عَيْنيه.. نَطَقَ بمُزاح: طَلال خوَّفت زوجتي.. جم مرة قايل لك لا تخزر وتخوّف الأوادم يا القطو؟
نُور التي لَم تَفتها نَظْرة زوجها المَشْحونة، تداركت بارْتباكٍ وَحَرج: معصب من المباراة" أشارت للتلفاز" فريقه خسران ومعصّب
عَقَّب مُواصِلاً مُزاحه ويده تُعانق يَد فاتن الجامِدة: زين ما بنعصبك أكثر.. أشوفك على خير.. مع السلامة
رافقتهما نُور إلى الباب وَوَدَّعتهما بَعد أن طَلبت منهما عدم الانقطاع وإعادة الزّيارة.. أقفلت الباب ثُمَّ عادت لزوجها بخطوات سريعة وغاضبة.. قالت بِحَنق وهي تُزيح حجابها عن رأسها: كلــش كلــش حركتك ما كانت حلوة.. فشلتنا ويا البنية.. مسكينة تبي تشكرك وتبلعمت من خزرتك.. أشوى رائد ما حس "أكملت وهي تخلع عباءتها وتبتعد عنه إلى الأريكة" كلش ما له داعي اللي تسويه.. كلـــش

: ارْتَبَكتْ

اسْتدارت إليه والاستغراب يُشارك الغَضَب عَقْدَ حاجِبَيها: شنــو!
كَرَّرَ وبَصره لا زال مُعَلَّقًا بمكان وقوف فاتن: ارْتَبَكَتْ.. ارْتَبَكتْ يوم شافتني
جَلَست على الأريكة مُعَقِّبةً وهي التي لَم تَفْهَمه: ايــه.. المسكينة انفجعت من نظراتك
حَرَّك عَدَسَتيه لها وبنبرة أقرب للهمس: لا.. ارْتَبَكتْ.. ما خافت.. جَمَدت يوم شافتني.... مادري ليش!



الوَقت الحالي

خَلْفَ مَقْعَد الرَّاكِب كان جُلوسها.. أَي خَلْفَ مَقْعَد والدتها التي رافقتهما إلى المَشْفى من أجل اسْتلام صَغيريهما؛ الذي قَضى شَهْريْن في قسم الرّعاية المُرَكَّزة لِحَديثي الولادة.. طوال مُدَّة إقامته هُناك في قسم الخِدّج كانت تزوره مع بَسَّام وأًحيانًا يرافقانهما والداها أو والد بَسَّام.. واليوم ها هُو الصَّغير يَخْرج معهم بَعْدَ أن اسْتَقَرَّت حالته الصِّحية وَوَصَل للوَزْن المَرْجو. أَخْفَضَت رَأسها لِتَنظر لِوَجْهه المُتَسَرْبِل ببراءة لَذيذة.. تَبَسَّمت وهي تَرى استغراقه في النّوم وَسط حضنها.. في الأسابيع الأخيرة أزالوا عنه الأجهزة وصار من المُمكن أن يَتم إخراجه من سَريره الخاص لِتَتَمَكَّن من حَضنه وإرضاعه بشكل طَبيعي.. في المرَّة الأولى رَفَضَت بِشِدَّة بَل وبَكَت.. فجَسده كان صَغيرًا جدًّا.. وفكرة أَنَّها تحمله بِيَديها المُرْتَجفتين أَرْعبتها وخُيِّلَ لها أَنَّهُ سيَنزلق منهما فَيَسقط فَيَتَضرَّر.. إلا أَنَّ بَسَّام الذي لَم يُفارقها ولَم يَكُل من مُساندتها مُذ انهارت وغابت عن الوَعي قَبْلَ عَملية ولادتها؛ شَجَّعها بَل وَحَمَّسها لعناق طفلها الجَميل.. فهو قَد أَحاطَ جَسده الضَّئيل بذراعيه الرّجولِيَّتَيْن وقَرَّبه من صَدْره بِحَنانٍ أَجْرى داخلها شَلَّالاً من رَغْبة عَميــقة لتَجْربة هذا الشعور المُمَيَّز.. وبعد مُحاولاتٍ لِطَرْد الارْتجاف عن أَطْرافها وتَجاهل خَوْفها احْتَضَنته، احْتَضَنتهُ كَما لَو أَنَّها تَحْتَضِن عالمًا اخْتُزِلَ في جَسَدٍ صَغير.. احْتَضَنته فوُلِدَ في رُوحها حُبًّا جَديدًا تَتَعَرَّف عليه للمرة الأولى.. صَحيح أَنَّ مَشاعر شَتَّى حَديثة عليها وُجِدَت مُذ وَقَعت عَيْناها على ابْنها.. لكن عندما أَراحته على صَدْرها نَمَت جَنَّة داخلها مَحْفوفة بكل الحُب والعَطَف والحَنان والحَرْص.. سُبْحان من خَلَق هذا الشُّعور.. عَذْبٌ هُو ورواء. تَوَقَّفَت المَرْكبة أَمام مَنزل والدها.. غادرت والدتها ثُمَّ فَتَحت بابها وهي تقول: نزلي شوي شوي
حَرَّكت رأسها سريعًا: لا لا ماما.. إنتِ أو بسام احملوه
شَجَّعتها: لا حبيبتي إنتِ حمليه.. عادي هذا هو طول الطريق في حضنش
شَرَحت: كنّا قاعدين وفي السيارة.. مو اللحين بحمله وبمشي معاه لين غرفتي!
وَقَفَ بَسَّام بالقرب من والدتها وبنبرته الهادئة: حَنين ما راح يصير شي.. قوّي نفسش
أَصَرَّت وضيقٌ بَدأ يُشاكسها من إلحاحهما: بسام الله يخليكم لا تغصبوني.. خلوني أتعود شوي شوي.. شوفوه شلون صَغيــر.. أكيد بخاف أمشي فيه لمسافة.. وبعدين أنا لابسة عباية.. فرضًا عرقلتني؟
هَزَّ رأسه بتأنيب وهو يَنحني إليها لِحَمل الصَّغير.. وبهمس: إنتِ لو بس تتركين عنش هالفرضيات والاحتمالات جان كل شي بيصير عادي
بَرَّرَت وهي تنزل: الأم تخاف على ولدها.. وهالولد كنت بفقده لولا رحمة الله.. أكيد بيكون خوفي عليه أكثر وأكثر
قالت والدتها بنبرة حانِية وهم يمشون للدّاخل: حَبيبتي خافي عليه.. هذا من حقش.. بس لازم بعد تشجعين نفسش.. بيجي يوم وبتحتاجين تحملينه وتمشين معاه لمسافة أطول من جذي بعد.. ومو في كل وقت بيكون معاش أحد يساعدش
كانت تَعْمَل جاهِدة على دَحْض نصائحهم وإضعاف حججهم من أَجْل إرْضاء خَوْفها.. حَديث نَفْسها يَنْتهي بنتيجة واحدة دومًا؛ صِحّة أفعالها وفرضياتها وتغليطهم.. هي أَعلم بنفسها منهم.. تَعْلم أَنَّها إلى الآن غير جاهزة لمثل هذه الأمور.. حَمْله والمشي به.. تَحْميمه.. تطهيره من النجاسة أو حتى تغيير ملابسه.. فالمشاكل الذي واجهته أثناء الحَمل والولادة وكذلك حجمه الصَّغير جدًا.. كُل ذلك يَجْبرها على الخَوْف.. يكفيها أنَّها تُحيطه بذراعيها وتُرْضعه.. تُقَبِّله وتَسْتنشق رائحته النّاعمة.. تُهَدْهد جَسده لِيَنام فيَرْتَشف قَلْبها الحُب بالنَّظرِ إليه. خَلَعت حجابها وعَباءتها قَبْلَ أن تَسْتَقِر فَوْقَ سَرير غُرفتها اسْتعدادًا لِعناق الصَّغير.. تَقَدَّم منها بَسَّام وهُو يَقول بابْتسامة وعَيْناه عليه: قَعد
ابْتَسَمت بحماس وهي تُحَرِّك يَدها ليأتي: عطني عطني إياه
بخفّة وعِناية أَراحه في حضنها.. قابَلها وَجْهه الغَض وابْتسامتها تَتَسَّع حتى أَنَّها طالت اَطْراف رُوحها وقَلْبها وأَنْعَشتهما.. هَمَسَت بنبرة حَوْت حَنانًا رَقيقًا وهي تتَأَمَّل ملامحه: حَبيبي.. حسين.. قعدت ماما؟
بَسَّام الذي جَلَس مُقابلهما أَشارَ لِيَد الصَّغير الذي كان يَتَحَرَّك: شوفي يبي يطلّع ايده
ضَحَكت عندما بانَت لها قَبْضته بحجمها اللطَيف.. داعبتها بِسَبَّابتها وهي تُحادثه بنبرة طفولية: صَباح الخير حَبيبي.. طلعنا من المستشفى خلاص.. اللحين احنا في غرفة ماما حَنين.. في بيت بابا عود "حَرَّك رَأسه بخفّة يُمْنة وشَمالا وهو يُصْدِر أَصواتًا تُنذِر بالبُكاء.. لذلك وَضَعت إصْبعها بالقُرب من فمه.. أَرْدَفَت بِعَطْف وهي ترى اسْتجابته" بعد عمري جوعان
مَسَح بَسَّام على رأسه: أكيد صار له أكثر من ساعة من شَرب
وهي تَعْتَدل في جلوسها وتَقرّبه لها أَكثر: ولا يهمه.. اللحين بيشرب وبيشبع أحلى شَبعة
ضَحَكَ مُعَلِّقًا: أحلى شَبعة! شلون يعني؟
أَجابت بحُب وهي تفتح أَزرار قَميصها عند الصَّدر: لأنه في بيته وفي مكانه.. بيشرب وهو مكيّف ومرتاح.. فبيشبع أحلى شَبعة
انْحَنى وقَبَّل رَأسه ثُمَّ قال: حَبيبي عليه بألف عافية "رَفع رأسه مُرْدِفًا" أنا ماشي
تَساءلت: وين؟
: البيت.. بروح أشوف أبوي وبتغدا معاه وبريّح شوي.. بجيكم العَصر إن شاء الله "قَبَّل جَبينها ثُمَّ وَقَف" تحملي في نفسش وفيه.. وتغدي عدل
هَزَّت رأسها بطاعة وابْتسامة: على أمرك
بادلها الابتسامة وهو يرفع يَده: في أمان الله
غادرَ الغُرفة وعند السُلَّم قابَل والديها.. تَساءلَ والدها بحماسٍ وفَرْح مُشِعَّيْن: وين حَفيدي؟
أَجابَ بضحكة: في الغرفة مع أمه.. قاعد يتغدا
وهو يخطو لغرفة حَنين: أوه المسكين بخرّب عليه الغوزي ماله
تَساءلت أم حَنين: يُمّه بَسّام وين رايح؟
: برجع بيتنا عمّتي
بحنيّة: اقعد يُمّه تغدا معانا وريّح.. البيت بيتك
ابْتَسَمَ لها: أدري عمتي ما تقصرون.. بس بشوف أبوي ما شفته اليوم.. راجع لكم العصر
: على راحتك بو حسين.. في حفظ الله
ابْتَسَم بسعة من كُنيته.. تَتراقص نَبضاته كُلَّما نُودي بها.. فَهو أَصْبَح أبا حُسَيْن.. أَبًا للطفل الذي وَلدته حَبيبته.. حَنين وطفل.. عائلته الصَّغيرة والنّعمة الكَبيرة.. وُجودهما في حياته أَشْبه بامتلاكه لكُل النِّعم.. مُكتفٍ هُو بهما وراضٍ وسَعيد حَد الثَّمالة.. فلكَ الحَمد والشُّكر يا رب على فَضائلك التي لا تُعَد ولا تُحْصى.
تَجاوز باب المنزل الداخلي وقَبْلَ أن يُواصل طَريقه للخارج أتاهُ نِداء من الخَلف.. اسْتدار مُسْتَجيبًا.. ضَحَكَ بخفّة وهُو يَراها تَقترب منه وعَيْناها تَتلفّتان بِحذر.. قالت عندما وَقفت أمامه: سَيّد بسام.. أنا سعيدة جدًا لكما وللطفل الصغير
أَوْمَأ لها بامْتنان: شُكرًا لكِ جيني "وبضحكة" أنتِ أحد أسباب لَم هذا الشَمل.. لن أنسى مُساعدتكِ
ضحَكَت: أووه لا داعي للشُكر سيّدي.. كان واجبًا علي أَن أساعدك.. لأنّك أهلٌ للثقة
شَكرها من جَديد: شُكرًا لكِ
قالت بِتَرَدّد وخَجل: سيّدي.. هل لي أن أسألك سؤال؟
حَرّك رأسه بالإيجاب: بالطّبع تفضلي
باهْتمام وَضَح في عَيْنيها ونبرة سؤالها: كيف كانت ردة فعل السيّدة حَنين عندما أخبرتها بأنك صاحب الرسائل والهدايا؟
ضَيّق عَيناه وهو يُجيب بابتسامة وصَوت هامِس: في الحقيقة لَم أخبرها " أَكْمل سَريعًا وهو يَرى استنكارها" لدي أسبابي الخاصة.. وأرجو منك ألا تذكرين الأمر أمامها
بخيبة: لماذا سيّدي؟ هذا الأمر رائــع جدًا وسَيسعدها
ابْتسم بخفّة: أحتاج لبعض الوقت
حَرَّكت رأسها بتفهّم: كما تشاء
لَوّح لها وهو يستعد للخروج: إلى اللقاء
بادلته التلويح: إلى اللقاء



رَفَعت رَأسها بانْتباه لدخوله البادية عليه علامات القَهَر.. تَأفف وهو يُلْقي جَسده بِمَلل على الأريكة بحاجِبَين مُقَطَّبَيْن.. مال رأسها ويدها المُمسِكة بالقَلَم اتَّكأت على ذِقنها.. تَساءَلت بابْتسامة تُخَبِّئ الضِّحكة: شفيــه المعرس؟ ليش جذي عافس وجهه؟
نَظرَ لها بِطَرف عينه وهو يُعَقِّب بملامة: تسوين روحش ما تدرين وإنتِ تساعدينها على اللي تسويه
وهي تَتَصَنَّع البَراءة وضِحْكتها على وَشَك الهروب: أنا شلي دخل؟ ما سويت شي
سَخَرَ: والله؟ ما سويتي شي؟ "ارْتَفَعَ حاجبه وبحدّة" أمس طالعة متغدية مع من؟ مو معاها؟
تَنَحنَحَت: بعد البنية عازمتني على الغدا وتبيني أشوف فستان العرس.. أردها يعني؟ عيــب
وَقَفَ وهو يقترب من مكتبها: لا، لا تردينها.. بس جان قلتين لي عشان على الأقل أجيكم المطعم أو حتى المَحل عشان أشوفها "اسْتَنكَرَ" هذي حالة يعني؟ من ليلة الملجة للحين ما شفتها.. حتى قبل لا أملج عليها كنت أشوفها أكثر!
بَرَّرَت بمُشاكسة: البنت عندها سبب
أشاحَ بَصره عنها وبهمسٍ حانِق: الله والسبب عاد.. هي تبي تعاندني وبس "تَهَكَّم" والله حسيت روحي في ابتدائي من هالهوشة البايخة "اعْتَلَت ضِحْكتها بَعدَ أن خارت قواها وهو نَظَر لها بقهر" اي اضحكي اضحكي.. من حقش تضحكين لأنها لاعبة عَلي
عَلَّقَت بعدَ أن سَيْطَرت على ضِحكتها: والله فيلم انتوا اثنينكم.. أتَطَلَّع للأفلام الجاية
بوَعيد وهو يَتَأَمَّل إحْدى لوحاتها المُعَلَّقة: خلها بس تصير في بيتي.. باخذ حقي منها وبخليها تندم على حركاتها
ارْتَفَعَ حاجِباها وباسْتنكار: عبّود من صدقك! في النهاية السالفة مزح.. لا تسوي شي تندم عليه
التَفَتَ لها وهُو يُضّيِّق عَيْنَيه: إنتِ وين راح بالش؟ ما بستخف وبذبحها
وهي تَتَرك القَلم فَوق الوَرقة التي ترسم فيها: شدراني فيك.. قاعد تقول بتندم ومدري شنو
بابْتسامة جانِبية: اي بتندم "وَضَّح وهو يغمز لها" بس بخليها تندم بطريقتي الخاصة
ضَحَكت بِحَرج عندما اسْتوعبت مقصده وبشفقة: حرام عليك.. لا تزودها على البنية.. بتخليها تغص من حياها
عَقَّبَ بلؤم: خلها.. عشان تتأدب وتحرم تعيدها
ارْتَفَعَ حاجِبَها وهي تخزه بكلماتها: محد قالك تجذب عليها وتقول لها تحب مارتينا وبتخطبها.. لا وبعد تعزمها على الملجة!
حَرَّكَ كَتِفَيه وبتَبرير: كنت أمزح.. وهي عادي بعد الخطبة ما جابت طاري كلش.. ما توقعتها حاطتها في بالها وبتردها لي بهالطريقة
أَخْفَضَت رأسها والْتَقَطَت القَلَم لِتَستأنف رَسمها: بــس.. تحمل نتائج مزحتك
اقترب منها مُتسائلاً: شفتين الفستان؟
ابْتَسَمت وهي تُحَرِّك يدها باحتراف على الوَرق: اي شفته.. شفته عليها بعد
اسْتَجابَت نَبضاته بتَوْق: حلو عليها؟
رَفَعت عَينيها وبابْتسامة واسعة: يَجنن.. إذا شفتها فيه بتنسى نفسك وتهديدك بعد
عَضَّ شَفته بتَلَهُّف قَبَل أن يَهْمس وعَيْناه تَنحتان مَلامحها فَوْق عَدَسَتيه: لا والله ما بنساه.. هذي مروة.. كل رَغْبة قدامها تتضاعف ما تنسى



تَنظر لوالدتها من خَلْفِ جِفْنَيَن هَدَّلَهما الخَبَر الصَّادِم.. صَوْتها وكأَنَّهُ يَنفذ إلى الماء ثُمَّ يَصِل إلى مَسْمَعيها مُثْقَلاً بالرُّطوبة فبالكاد تُترجم مَعانيه أَعْصابها.. تارةَّ تنظر للفراغ أَمامها لِتَحْرث الوَقت وتعود بالزَّمن إلى المواقف التي جَمعتها به.. وتارَّةً تُسْهِب النَّظر في الابْتسامة المُتَزيِّنة بها شَفتي والدتها السَّعيــدة.. نَعم كانت سَعيدة وهي تنثر عليها زُهور الخَبر.. رَفعت بَصرها لِعَيْنيها.. بَريـقٌ يعكس الكَثير والكَثير.. وَقَبْلَ أن تَمْتَص بعضَ وَميضه قالت بنبرة جادَّة مُغَلَّفة بالحَرْصِ والحَنان وهي تَحتضن كَفَّها بيدها الحانية: حَبيبتي جِنان إخذي وقتش في التفكير.. بس يُمّه لا تنسين إن هالفرصة مستحيل تتكرر.. خلي هالشي في بالش
هَزَّت رَأسها بنصف وَعي ثُمَّ وَقَفَت لتتحَرَّك بآلية ناحية السُلَّم قاصِدةً غُرفتها دُون أَن تنبس ببنت شفة.. كانت خطواتها قَصيرة وبطيئة.. وكأنَّها تَمشي على أَرْضٍ غير واقعية.. أرض تُشْبِه تلك التي تُؤسِّس أحلامنا.. أو بالأحرى.. كوابيسنا.. وكأنَّها بخطواتها الحَذِرة تَتوخَّى الوقوع في مُنْحَدَرٍ خَطير الخَفايا. وَصَلت للغرفة.. دَخلت دون أن تغلق الباب.. جَلَسَت على السَّرير وبصرها شاخص للأمام.. عقلها يُعيد الجُملة التي انتصفت حَديث أُمِّها بعد المُقدِّمة الطَّويلة نسبيًا.. الجُملة تُعاد مرة بعد مرة.. وفي كُل مرة كان الصَّوت أَعلى وأَرْهَب.. رَمَشَت بِخفَّة ثُمَّ تَحَرَّكت عَدَستاها يَسارًا.. مَدَّت يدها لهاتفها.. تناولته ومُباشرة اختارت اسْمًا دائمًا ما يَعْلو قائمة مُكالماتها.. رفعته لأذنها، وكالعادة ثواني وأتاها الرَّد: جاهزة لاستقبال الشكوى وحَديث الشوق لبنتش
جَرَّت صَوْتها من قُعْر الحُفرة التي كَوَّنتها صَخْرة الصَّدْمة.. وبهمسٍ لاهِث: نـ ــدى.. أستاذ.. .. أستاذ نادر.. خطبنـــي!
ارْتَجَفَت من رأسها حتى أخمص قَدميها، حتى دواخلها ارْتَجَفَت من شَهْقة نَدى التي قَذَفت بوَعْيها للواقع الذي هاجَمها بِوَجْهٍ يُستحال أن يُغادرها.. وَجهٌ لطالما حَذَّرتها عَيْناه من تَجاوز خَطٍّ أَحْمَر لا تُحْمَد عُقْباه.



جالِسة أَمام اللَّوْحة المَأهولة بالسِّحرِ والجَمال.. لَوْحة سافَرَت على سَحَابة حَمَلتها من بَيْن صَفَحات القصص الخرافية التي كانت تَقصَّها عليها والدتها.. سندريلا.. الجَميلة والوَحش.. سنووايت وأخريات كان عقلها البريء يُسْهِب في خياله لِرَسْم فَساتينهن البرَّاقة والبارعة الجَمال.. وها هي اليَوم تَتَأَمَّل فُسْتانًا يُشْبه تلك الفَساتين في الرَّوعة والتَّفاصيل الأميرية. ابْتَسَمَت وهي تُمَرِّر أنامِلها على قِماشه الفاخِر.. التَّطريز النّاعِم.. الدَّانتيل الأنثوي والتَّفاصيل الراقية التي اعْتَنَت بها بدِقِّة.. هي لا تَعْتَقِد.. بل هي واثقة أَنَّهُ أَجْمَل فُستان زَواج رَأتهُ عَيْناها.. أَنيق وباذِخ وفي الوَقت نَفْسه بَسيط ومُريح للعَيْن.. وهي بتسريحة الشَّعر ومَساحيق التَّجميل سَتكون مَلِكة هذا الفُستان أو هذه اللوحة كَمَا سَمَّتها. تَرَكت مَكانها واتَّجَهت إلى مرآتها.. تَوَّقَفَت أَمامها تُطيل النَّظَر في مَلامحها.. هي لا تُشْبِه والدتها تَمامًا.. على عَكس شَقيقتها الكُبرى.. مَلامحها امْتَزَج فيها وَجْه والدتها ووالدها وشَقيقتَيها أيضًا.. كانت تُشْبِههم جَميعًا.. ولا تُشْبِههم في الوَقت نَفسه.. فهي الوَحيدة التي امْتَلَكت شَعر أَشْقَر وعَيْنان خَضراوان.. لا تَعْتَقِد أَنَّ وَجْهها سَيُجْلِب لتلك الخَبيثة المَتاعب.. رُبَّما وُجودها في حياتها في البداية سَيُعَكِّر عليها أَيَّامِها وسَتُذَكِّرها بالماضي.. ولكنّها تَعْتَقِد أَنَّها سَتَعتاد عليها في النّهاية.. وهي تُريد ذلك.. بَل وتَطْمَح لِكَسب ثِقَتها ومَحَّبتها حتى يَكون الكَسْر أَكثر وَجعًا.. والصَّدمة أَقْوى وأَعْنَف.. مالت شَفَتاها بابْتسامة ساخِرة ويداها تَرْتفعان لِتَلمسان خَدَّيها.. حَيث تَركت قُبْلتان.. واحدة على الخَد الأيمن.. وأُخرى على الخَد الأيسر.. وهَمَست بنبرة غَصَّت بمَوَدَّة مُلَوَّثة: ألف مبروك.. الله يتمم على خير
كان ذلك في اللقاء الأول.. عندما أَتَت مع شَقيقاتها وحَماتها وابنتها لإتمام تَقاليد الخِطبة.. أَمَّا ليلة عَقد القَران فكان القَلَق مُغرِقًا عَيْنيها ومُسَيْطِرًا على نَظراتها التي وَجَّهتها لها ولِعبد الله بشكلٍ أَكْبَر.. وكأنَّ إحساس أُمومتها الرَّث يُحَذِّرها من الخَطَر المُقَترِب منه.. هي حتى عندما باركت لها وأَعادت تَقبيلها، بَقَت لثواني تَنظر لها بابْتسامة مُتَرَدِّدة بل وراجِفة.. عَدَستاها تَنتقلان على وَجْهها بسرعة حائِرة.. وكأَنَّها تَبْحَث عن جَواب يُؤكِّد على قَلَقِها.. وهذه المرة هَمَسَت بنبرة سَمَعت فيها رَجاء: تحملّي بولدي.. تراه أَمانة عندش.. عبد الله يملك أَطيب قَلب في الدّنيا.. مبروك عليش هالقلب.. الله يهنيكم
اسْتَدارت عن المرآة بالتَّوالي مع تَقَلًّص ابْتسامتها.. خَطَت للسَّرير وهي تَعْبَث بأطراف خصلاتها وفِكْرها سارِح في جُملة بَلقيس.. اسْتَلَقت على ظَهْرها وَسَطَه.. رَفَعت يَدها اليُمْنى أَمام وَجْهها.. ابْتسامة حُب حَديث الولادة حَطَّت على شَفَتيها عندما سَلَّمَت عليها الزُّمردة.. تَحَسَّستها بأصابعها وهي تَسْتَرْجِع اللحظة التي قَبَّل فيها باطِن كَفّها بكُل رِقّة.. قُبْلته أَحْيَت فيها رَعْشة جَديدة ومُخْتَلِفة.. هي لا تَنكر أَنَّها تُحِبّه منذ زَمن.. إلا أَنَّ حُبّها كان نابِعًا من شعورها بالجاذبية تجاه ملامحه الوَسيمة.. مُراقبته من نافذة غُرفتها حينما يأتي لاصطحاب والدته.. حَديث والدتها عنه والقراءة عنه في مُذَكَّراتها.. ببساطة حُبّها كان حُب غير مؤسَّس.. لكَن الآن هُو زوجها.. والسَّاعتان اللتان قَضتهما معه بَعد عَقد القران زَرَعتهُ في رُوحها شُعورًا طاهِرًا وعَفيفًا. زَفرة طَويلة غادرت صَدْرها وهي تَغمِض وتَسْتَقِر بِكَفَّيها فَوْقَ صَدْرها.. لَن تُساعدها شَخصية عَبد الله.. سَتُعيقها رُجولته.. ابْتسامته.. طيبته.. نَظراته.. لَمساته وَأحاديثه.. هَمَسَت ومَلامحها تَتَصَدَّع من تَوَجُّسٍ وأَلمٍ خَفي: لا تَصَعّبها عَلَي عَبد الله.. لا تَصَعّبها عَلَي



تَساءَلت بَعدَما طالت فَتْرة الصَّمْت التي أَعْقَبَت سَرْدها للمَوقف: انزين إنتِ.. شنو رايش؟
أَدارت رَأسها عن النّافِذة لِتُجِيبَها بِعُقْدة حاجِبَين مُسْتَنْكِرة: مو موافقة أكيـد
انْتَقَت نَبْرة هادِئة ولَطيفة لإبداء رَأيها: بس من حقش تفكرين جِنان.. من حقش تبدأين حياة جَديدة.. أمش معاها حَق.. هذي فرصة.. أستاذ نادر شاب من عمرش وما سَبق له الزّواج.. ويبين إنّه مهتم فيش
أَشاحت عنها لِتُواصل تَأَمّلها العَبثي وهي تُعَقِّب بَملل: ترى لاعت جبدي وانتوا تقولون فرصة وفرصة.. بكلامكم تحسسوني إن فيني عيب، أو إني أكون مطلقة وعندي بنت فهذا عيب
وَضَّحَت وهي تقف لِتَقترب منها: جِنان احنا ما قلنا إن وضعش عيب.. احنا نتكلم ونفكّر بمنطقية.. لا نجذب على أنفسنا وخل نكون صادقين من هالناحية.. فعلاً شي نادر إن المرأة اللي تكون في وضعش يخطبها رجَّال مو مُنفصل ولا أَرْمَل.. ما بقول إنّي متأكدة.. بس أتوقع إنّه واجه صعوبة عشان يقنع أمه تخطبش له
نَظَرَت لها والمَلَل قَد أَرْخَى جِفْنيها: نَدى اللحين إنتِ شتبين؟ لوين تبين توصلين بحجيش؟
أَجابت بصراحة ونُصْح: أبيش تفكرين.. ما أبيش تغلقين كل الأبواب قدامش.. تستاهلين الحياة
ارْتَفَع حاجِبَها وباعْتراض: والحياة ما تتحقق إلا بزواجي! الحمد لله أقدر أعيش الحياة اللي أبيها من غير زواج ورجَّال
أَفْرَغت تَنْهيدة صَبر: ما قصدت جذي.. إنتِ فاهمة قَصدي جِنان.. وأنا فاهمتش.. أدري تبين توجهين حياتش ووقتش واهتمامش كله لبنتش.. لكن بيجي يوم وجَنى بتكبر وبتتزوج وبتصير لها حياة.. وقتها بتحسين بفراغ.. بتفتقدين الحِس اللي يتمازج مع حسّش.. كل من بيكون ملتفت لحياته وعايلته.. إنتِ ما بيكون لش غير نفسش
حَرَّكَت كَتفها بِعَدم اهْتمام وشَفتيها تُمَيّلهما السُّخرية: عــادي.. طول عمري ما لي غير نفسي.. كل مرة أَظن إنّي لقيت اللي بيحتويني انصدم برمية إهمال على وجهي.. كأنها تصحّيني من أحلامي السخيفة "شَخَرت بتَهَكُّم" ما وَفى معاي غير أحمد المسكين
بجدِّية أَضافت: جِنان.. اعطي نفسش فرصة التفكير.. بس فكري.. شيلي من بالش كل تهديد من فيصل.. ترى صَدقيني ما يقدر يسوي شي.. ولو سوّى الكل بيكون معاش.. حتى أمه وأبوه.. ترى هو ما عنده غير التهديد.. يبي يخوفش بس عشان ما ترتبطين بأحد.. ما يقدر يحرمش من بنتش
هَمَسَت ولَحْنُ الأَسَى يُعَرِّج كَلِماتها: زين أنا شسوي بقلبي؟ أتزوج وأظلم الرجَّال معاي! أتزوج وأنا كل فكري عند رَجَّال غيره! حتى لو فيصل ما حرمني من بنتي.. أنا.. شلون أحرم نفسي منه؟ على الأقل اللحين لو فكرت فيه.. لو حبيته.. لو اشتقت له ما بكون خاينة.. بس لو تزوجت.. كل هذا بيكون خيانة.. كل هذا بيكون ظلم لنادر "حَرَّكَت رَأسها تُؤكِّد رَفضها للفكرة وهي تعود للنافذة" ما أقدر.. ما أقدر أَتحمل ذنوب أكثر.. زواجي ما راح يصير.. كفاية اللي صار مع أحمد
: ارتباطش من أحمد كلش غير.. ظروفه غير وأسبابه غير.. كنتِ عالقة في صدمة فقدش لبنتش وفيصل في الوقت نفسه.. كنتِ مكسورة من تركه لش وإخلافه للوَعد.. كنتِ تبين أي شي وأي شخص ينتشلش من هالدوامة السودا.. وما كان في غير أحمد اللي سَبق واحتواش أيام مراهقتش.. سلمتين نفسش للوَهم وساعدش غياب فيصل.. غَرقتين في عالم أحمد غصب.. وطَمستين على حُب فيصل بوَهم حُبش لأحمد.. ما بنقول ما كان حبش لأحمد حَقيقي.. بس ما كان حُب الزوج لزوجها.. كان حُب الطفلة المجروحة المسجونة داخلش لأبوها أو أخوها أو حتى صَديقها
وَجَّهَت لها نَظْرة يُشاغبها الدَّمع وتَكسرها الخَيبة: نـدى.. ترى إنتِ بحجيش هذا تأكدين على إنّي عالقة بحب فيصل وصعب أنساه.. شلون تبيني أفكر في ارتباطي بغيره!
أَمْسَكت كَتِفها بَحنو وهي تُجيب بِمَلَق: أبي تعطين نفسش فرصة.. ما بنكر وبقول إنّ سهل نسيان فيصل.. بس مو مستحيل.. فكري.. لا تحرمين نفسش من الحق في التفكير.. تقدرين تطلبين إنّش تكلمين نادر.. تعرّفي عليه أكثر.. تفاهمي معاه.. اكتشفي شخصيته.. اسمحي لنفسش إنها تتفحصه وتكتشفه وتقرر إذا هو مناسب لها أو لا
ابْتَعَدت عنها إلى السَّرير ابْتعادًا مُسَيَّر بالهُروب وهي تَمْسح وَجْهَها براحتيها وتقول: مادري ندى.. مادري
جَلَست في الوَقت الذي وَقفت فيه نَدى أَمامها.. اسْتَقَرَّت على الأَرْض الخَشبية برُكبتيها وهي تَحْتَضن يَدها بعناية وتهمس: حَبيبتي إنتِ.. أدري شكثر ضايعة وحايرة وخايفة.. صلي ركعتين وادعي من الله يمسح على قلبش ويهديش للصَّلاح.. صَفّي عقلش وقلبش.. ارتاحي اللحين وبعدين فكري وقَرّري
بخفوت وبَصَرٍ مُنْخَفِض: أوكـي "وَقَفَت ندى وهي تُرَتِّب حجابها.. تَناولت حَقيبتها فَتساءَلت هي" بتمشين؟
: اي حَبيبتي
اقترحت: قعدي تعشي معانا بعدين امشي
ابْتَسَمت لها: الله يغنيكم.. بس منصور والعيال ينتظروني في البيت
بادَلتها الابْتسامة بأخرى باهِتة: على راحتش
انْحَنَت لِتَترك قُبلة أخويّة على خَدّها ثُمَّ قالت وهي تُهديها نَظْرة مُشَجّعة: كل شي راح يكون بخير.. بس إنتِ تحملي بنفسش ولا تضغطين عليها.. تمام؟
هَزَّت رأسها: تَمام
لَوَّحت لها وهي تَبْتعد للباب: مع السلامة
رَفعت يدها: في حفظ الله
ما إن خَرَجت نَدى حتى وَقَفت هي لِتَتّجه لغرفة ملابسها.. التَقطَت ثَوب اسْتحمامها ثُمَّ دَلفت لدورة المياه.. كعادتها تَسْتِحم عندما يُحاصرها لَهيب فَيْصل.. تَقِف تَحْت الماء لِتَتَخَيَّل أَنَّ مَطَرًا يَنهمر عَليها لِيُطْفئ نيرانها.. نادر.. نــــادر.. لَم تتوقَّع.. لَم تَتَوقَّع ولا لِلحظة أَن يَخْطبها! أسْئلة كَثيـــرة تَجول في خاطرها.. وتعلم أَنَّها لَن تَجِد أجوبتها عند غيره.. لذلك فِكرة الحَديث مَعه التي اقترحتها نَدى قَد تَسْتَعين بها إذا تَضاعفت العُقَد داخلها.



تَجْلَس على الأَريكة بجانب والدتها، وأمامها كانت تَجْلس حُور على يَمين أُمِّها.. للتو انتَهَيْنَ من طعام العشاء الذي أعَّدته حُور بمُساعدتها البَسيطة.. مُنذ فَترة لَم تأتِ أُم حُور لزيارتها بسبب المَرض.. كانت حُور التي تزورها مع يُوسف وأحيانًا مع والدتها.. أما يُوسف فالليلة هُو مع مُحَمَّد الذي قَرَّرَ أن يَدعوه للعشاء في أَحد المَطاعم ليتَجاذبا أَطْراف حَديثٍ خُطِّطَ له.. فَمُحَمَّد الذي لَم يَعْثُر هُو ورَفيقَيه على نِصْف خَيْط في كُتب وأوراق والدها.. قَرَّرَ أن يُحَقِّق مع يُوسف بطريقته الخاصَّة كما قال.
حُور وهي تَحْتَضِن يَد والدتها وبإبهامها تَمْسَح على تَجاعيدٍ ما هي إلا تَهَدُّلاً من ثقْلِ أَسْرارٍ ماضية عَظيمة: يُمّه.. شرايش تظلين معانا في البيت؟ المكان شكبره.. يشيلنا ويشل عشرة بعد.. أحسن من قعدتش بروحش هناك
اسْتَنكَرت بحاجَبين مُرْتَفعين: هَوْ يُمّه حُور شلون أترك بيتي! ما يصير حبيبتي
دَعَمَت اقْتراحها: أبوي أكثر وقته مسافر.. وإذا ما سافر كله في الشركة وينسى نفسه مع شغله
ابْتَسَمت لها وبرِضا: ما عليه يُمّه.. أنا تعودت من سنين.. حتى لو أبوش أكثر أيَّام السنة مسافر.. ما يصير في اليومين اللي يرجع فيهم ما أكون في استقباله
قالت بعد تفكير: زين أنا بكلمه.. أنا بقول له اقتراحي.. ما أتوقع يرفض
نَهَتها بِمَلق وهي تُداعب خَدّها: حُور يا عمري ما يحتاج تكلمين أبوش.. أنا من نفسي مابي أترك بيتي.. أدري لو إنّي قلت لأبوش عادي بيوافق.. بس أنا مابي
مالت شَفتيها وبنبرة زَعَل: يعني يُمّه ما تبين تقعدين معاي؟ بيتي مو قد المقام؟
ضَحَكت: بعد عمري والله فوق المَقام.. وما في أم ترفض إنها تكون قريبة من بنتها.. بس حَبيبتي مو حلوة في حق أبوش
أُم يُوسف بِلُطف: ما عليه حُور.. خلي أمش على راحتها
هَمَسَت والضيق يُصَدّع ملامحها وهي تُرْجِع ظَهْرها للخَلف: على راحتش
نَظَرت لها مَلاك من مَوْضعها.. هي تعلم جَيَّدًا ما تعْنيه حُور بطلبها.. هي تَخْشى على والدتها من الوحْدة.. تَخْشى عليها من براثنها التي تَنْهَش الرُّوح عندما يَجْثم الليل على الصُّدور.. هي وَحيدة وليست وَحيدة في الوقت نفسه.. فهي لها ثلاث أخوات وأخان ولكن من أبٍ آخر.. جَدة حُور توَفَّت مُنذُ زَمَن.. فبَقيت والدتها مع جدها الذي كان من أَشهر تُجَّار الذَّهب.. وكانت هي وَريثته الوحيدة.. وَرَثَت أموالاً طائلة وأمْلاكًا تُبْهِر الضَّمائِر ويسيل لها لُعاب النّفوس.. لكنّها لَم تَكُن تَهْتم لكُل ذلك.. فهي كانت تَفْتقد للعائلة.. تَفْتَقِد لَيَد الأُم بدفئها وطَبْطَبتها... جدتها التي ضاقت من افْتقار حَياتها للبَشَر قَرَّرت أن تترك جدها وتتزوج من ابن خالها الذي كان يحبّها سِرًّا.. لكنَّها تَوَّفَّت بعد ولادتها لآخر أبناءها بفترة قصيرة.. وبقيت والدتها وَحيدة في منزلٍ يَضج بالصَّمت.. لا تنكر أن أخواتها وأخاها يزورونها.. ولكن في المُناسبات فَقط.. فكُلٍّ مِشغول بحياته.. لذلك حُور تُريدها أن تعيش معها.. لعلمها بانْشغال والدها الدّائم.. أو حَقيقةً بإهْماله.. حُور لا تشتكي.. والدليل ما كان يجري بينها وبين يوسف.. ولكنَّها قَد شَهِدَت في الطفولة على بعض المواقف العَصيبة التي كانت تَجمع والديها.. هي ملاك، في نظرها سُلطان رَجُلٌ طَيِّب.. قَد يَكون قاسيًا مع أُسرته وكثيرٌ من الرّجال هكذا.. لكنّه كان الظَّهر الوَحيد الذي أسْنَدهم بعد مَقْتَل والدها.. لكن بَعْد أن تَكاشَفت هي ومُحَمَّد.. بَدأت أَحاسيسها نَحْوه تَسلك مَجرىً آخر. انْتَبَهت من غمرة أفكارها لحُور التي ذهبت لارْتداء حِجابها.. نَظَرَت للمدَّخل لترى يُوسف ومُحَمَّد يَتَقَدَّمان وَبقايا ضِحْكة قَد تَعَلَّقَت بأطْراف وَجْهيهما.. ارْتَسَمَت على شَفتيها ابْتسامة غَصْبًا وهي تَرى الانشراح يَملأ الاثنيْن.. يَبْدو أن العشاء كان هَنيئًا مَريئًا. مُحَمَّد الذي ظَلَّ واقِفًا تساءَلَ بَعْدَ أن سَلَّم: بتمشين؟
نَظرت للساعة.. كانت قَد تَجاوزت الحادية عَشَر.. أَجابت وهي تقف: ايــه.. بس بلبس عبايتي
اتَّجَهت إلى حَيثُ عُلِّقَت عَباءتها.. تَقابلت مع حُور العائِدة والتي تساءلت: بتروحين؟
: ايــه "ثُمَّ اسْتَطردت وهي تَضع يَدها على كَتِفها وبرِقّة" حوري حبيبتي لا تتضايقين.. أمش مراة قايمة ببيتها وزوجها.. وتدري عيب عليها لو تركتهم وجت تعيش اهني
كَشَفَت عَن تَنهيدة ومن عَيْنيها لاحَ قَلَقٌ مُوارب: أدري مَلاك.. بس هالفترة صايرة كله تمرض.. وهي كبرت.. تبي من يشيلها ويهتم فيها.. ما يصير الخدامات متحملين فيها وأنا بنتها بعيدة عنها
شَدَّت على كتفها: حُور أنتِ انشغلتين مع مرض يوسف.. وأساسًا إنتِ مو مقصرة.. كل يوم تروحين لها وتزورينها.. أدري ما يوفّي حقها.. بس إنتِ مو هاملتها
هَمَسَت وعيناها يُشاغبهما الدَّمع: بس خايفة عليها.. أخاف تتعب ومحَّد عندها
ابْتَسَمت لها برأفة: حبيبتي لا تحاتين.. أَمْنيها واسْتودعيها الله
هَزَّت رأسها: ونعم بالله

،

كان مُنْتَبِهًا لِتَشَبُّث عَيْنيها به.. لا يدري إلى ماذا تنظر بالتَّحديد.. ولكن بَصَرها المُوَجَّه إليه دَوْمًا في الآونة الأخيرة؛ باتَ يُشْعِره وكأنّه الرَّجُل الأَهم في هذا الكَوْن.. التَفَتَ لها لثانِية ثُمَّ أعادَ بَصره للطَّريق وابْتسامتها قَد انْعَكَسَت على شَفَتيه.. ضَحَكَت وهو اتَّسَعَت ابْتسامته والتَّعَجُّب قَد أَرْفَعَ حاجِبَيه: شنـو!
حَرَّكَت كَتِفَها وهي تُجيب: بــس... مستانسة
هُو الذي فَهَم ما تعَنيه من جَوابها أَفْصَح: ترى ما فاتحته بموضوع القضية "وَضَّحَ سَريعًا قَبَل أن تستنكر" كان مرتاح واجد.. ونفسيته منشرحة ومندمج معاي في السوالف.. ما حبّيت أَبعثر كل هذا وأغصبه على تذكّر الماضي.. فقلت أخليها لوقت ثاني
قابَلَتهُ عَيْناها بامْتنان وهي تهمس: مَشكور "نَظَرت للساعة ثُمَّ اسْتَفسرت" محمد تعبان؟
نَظَر لها: لا عادي مو تعبان.. ليش؟
مالَ رأسها بتردّد وبابْتسامتها الجانِبية المُميزة: قلت نغيّر جو
وافقَ سَريعًا: اي مو مُشكلة.. وين تبين تروحين؟
أَفْصَحت: خاطري في البحر
هَزَّ رأسه: البحر البحر "أشار للأمام" نواصل قدّام "ثُمَّ أشارَ للخلف" لو نرجع ورا.. اختاري؟
أَجابت بعد تفكير قصير: لا خلنا نواصل قدّام.. هناك البحر أحلى
ابْتَسم: على أمرش
بَعدَ دقائق كَانا يَرْسمان خطواتهما على الرِّمال السَّاكِنة.. الهواء كان أَقَرب للبرودة.. نسائمهُ هادِئة وناعِمة.. تَنفذ إلى صَدرك برِقَّة تُشْبِه الاحتضان.. فَتُنْعِش رُوحك وتَطرد عنها الكَلَل. كانا الوَحيدان اللذان يَزوران البَحر في هذا الليْل.. اليوم هُو يَوْم دَوام رَسْمي وغدًا أَيَضًا، فَالأَغلب قَد قَصَد مَنزله.. خاصَّةً وأنَّ الوَقت قَد اقْتَرب من مُنتصف الليْل. تساءَلَ وبَصرَهُ مَعْقود برَقْصة اسْتقبال الفَجْر التي يُمارسها المَوْج اجْتذابًا للنّفوس: ليش كنتِ تبين تضريني؟
رَنَت إليه بِطَرْفها قَبْلَ أن تُصَحِّح لهُ بِثقة: قصدك ليش كنت أبي أقتلك
ابْتَسَم بخفّة وهو يَهْمس مُتَعَجِّبًا: من وين هالثقة الكبيــرة اللي عندش! واثقة إنّش تقدرين تقتليني!
رَفَعت رأسها وبذات الثّقة: كل واحد عنده نقطة ضعف.. وكنت مؤمنة إنها مُمكن تظهر نقطة ضعفك قدامي وأقتلك
عَقَدَ حاجِبَيه وباسْتغراب: زين ليش! ما أذكر إنّي ضَرّيتش.. يعني المواقف اللي جمعتنا ما حَوَت أمور مُمكن إنها تزرع داخلش حقد تجاهي يدفعش للتفكير بل لمحاولة قَتلي!
وَضَّحَت بكلمة وعَيْناها تَسْتَرْجِعان مأساةٍ مَضَت ساعاتها ولَم يَمْضِ أَثَرها الجاثِم فَوْق القَلب والرُّوح: البنــك
اسْتَنكر: البنك! أنا أنقذتش من حريق.. المفروض تشكريني.. مو تقتليني!
نَظَرَت إليه: إنت خذيت أوراق من هناك صح؟
صَمَتَ وبدأت حَرَكة قَدماه تَتَباطأ شيئًا فَشيء.. تَوَقَّفَ وهو يَشِعر كَأَنَّما صَخْرة هَوَت فَوْقَ رأسه.. تَوَقَّفَت هي ونَظرت إليه من مكانها.. امْتَصَّت الصَّدمة من عَيْنيه المُتضاعف غَبَشهما.. وقَرَأت على صَفْحة ملامحه أَسَفِه الحائِر.. هَمَسَت لهُ ومَيَلان ابْتسامتها قَد تَعَرَّجَ من ثِقل الأَلَم: إنت مو السبب.. كل شي مقدَّر ومكتوب "أَرْخَت جِفْنيها وهي تُكْمِل بتوضيح" أنا كنت في وضع ما يعلمه إلا رَب العالمين.. الصَدمة ابتلعتني بالكامل.. فقدت الإحساس بكل شي.. حتى عقلي وتفكيري.. وما كنت أقدر أنتقم منهم.. وأَشفي غليلي وأطفّي النار اللي فيني منهم.. وَسط كل هالضياع رَبطت اللي صار فيني فيك.. لو ما إنت خذيت الأوراق اللي كانوا يبحثون عنها عندي.. جان ما صار اللي صار "رَفَعت بصرها مع اقترابه منها" كانت وساوس من إبليس ومن الحالة النفسية الصعبة اللي كنت أعيشها "قَفَزَت من حنجرتها ضِحكة مَبْحوحة ووَسَط عَيْنيها قَد فاضَ دَمْعٌ لاسِع" لكن إنت ما شاء الله عليك ما واجهتني إلا بنقاط قوّتك.. نفذت من القَتل بذكــاء
هَبَطَت دَمْعة على خَدَّها في الوَقت الذي هَمَسَ فيه: آسـف
هَزَّت رأسها تَنهاه وهي تَمسحها بظاهر كَفَّها: لا تتأسّف محمد.. إنت فعلاً مو سَبب اللي صار
: بَس أنا كنت متخفّي.. عارف خطواتي وتحركاتي.. لكن إنتِ.. كنتِ واضحة لهم.. واضحة من غير تَعقيد.. وأنا فاتني هالشي
عَقَّبَت بتسليم: سواء كنت متخفية أو ما كنت.. اللي صار كان بيصير في كل الأحوال مدام ربّي مقدره لي "رَشَّحَت ابْتسامتها من تَرَسّبات كَمَدٍ خانِق وبعفوية عانقت ذراعه بذراعها مُسْتَعَدِّةً لمُواصَلة المَشي.. اسْتَفَسَرت باهْتمام" شنو فيهم الأوراق؟ "اسْتَدرَكت سَريعًا" يعني إذا يصير أعرف
أَجابَ وهُو يُحاول أن يَتجاهل إحساس ذراعها وهي تُلامس ذراعه: بلى يَصير
وعيناها ترنو لجانب وَجْهه بتركيز: شنــو؟
وهو يُولي بَصره شَطر البَحَر: أَسْماء وهمية للمُساهمين في البنك والمُستثمرين فيه.. وكل المعلومات عن كل الحسابات المفتوحة فيه والقروض المُسَجَّلة وكل المبالغ المُودَعة والمَسحوبة.. وتفاصيل عن الخزنة والأرقام السرية وغيرها من أمور.. يعني ببساطة الأوراق فَضيحة
هَمَسَت بصدمة: يعني البنك وهمي! مو موجود!
حَرَّك رأسه: لا.. فلوس الناس صارت في يد أصحاب اللعبة.. تصوري اللحين عدد الأُسَر اللي تَدَمَّرت وحالات الإفلاس والخساير اللي صارت.. هذا غير الصدمة اللي ممكن عَرَّضت البعض لأمراض جسدية أو نفسية
تَساءَلَت بعدم تصديق: يعني اخذوا كل الفلوس؟ كلــها؟
أَكَّدَ: كلها.. وحَرقوا البنك عشان تختفي كل الوثائق، سواء كانت ورقية أو إلكترونية.. بس هالأوراق كان لازم تظل.. لازم تنجو من الحَريق.. عشان جذي هي محفوظة في خزنة تعتبر من أكثر الخزنات سريَّة وأصعبها للفتح.. من ضمن هالأوراق موجودة حسبة تقسيم ربحهم.. كل هالأسماء الوهمية من خلفها توجد أسماء حَقيقية.. وكل اسم له نسبة من الفلوس.. فضياع هالأوراق مُصيبة بالنسبة لهم.
نَطَقَت ببطء تربط الخيوط: واللحين الأوراق عندك.. وهم يدورون عليها.. بس ما يدرون إنّك إنت اللي أخذتها
ضَيَّقَ عَيْنه وبَصره يعود لها: تقريبًا "أرْدَفَ يُذَكِّرها" ذيك الليلة اللي التقينا فيها في البنك.. بعد الحريق.. كان في هناك شخص
اتَّسَعَت عَيْناها وبخوف: شافــك؟
: لا كان ظلام.. ما مداه يشوفني
زَفَرَت بنصف راحة: الحمد لله "عادت وأَفْصَحَت عن سؤال" وكلش كلش ما شفتون شي غريب في كُتب أبوي وأوراقه؟
: للأسف ولا شي.. وأنا جدًا مستغرب إنّه ما ترك أثر أو دليل يوصّلنا للمجرم! كان يمديه.. لأنّه أكيد كان متوقع إنّه بينقتل عاجلاً أو آجلاً
هَمَسَت بِحَشرجة: يمكن لأنّه خايف علينا.. خايف لو ترك شي وراه المُشار إليه يضرنا.. أصلاً.. كل العذاب اللي تعذبه بسبب خوفه علينا.. أمي تقول كان رافض يخبّر الشرطة عن اللي يصير فيه عشان لا يعرضنا للخطر "وبحسرة" بس لو كان مشتكي عليهم
وَضَّحَ وهُو يُخفض عينيه لها، يَتأَمَّل تَصافق أهدابها المُجاهِدة جَيْش الدُّموع: مَلاك قلت لش قبل.. العصابة عددها كبير ومو معروف.. وأياديهم طويلة.. عندهم أعضاء متواجدين في كل مكان.. عادي محقق أو شرطي أو قاضي يكون تبع لهم.. وأبوش يعرف هالمعلومة.. عشان جذي كان يحذر إن يوصل أي شي للشرطة
هَمَسَت وَجَسدها يَنْكَمِش باقْترابٍ إليه: حَبيبي أبوي... الله يرحمه
تَمْتَم: الله يرحمه
واصلا رِحَلتهما لنصف ساعة أو أَكثر والصَّمت حاديهما.. فلا صَوْت يَعْلو على صَوْت البَحر.. قَطعا المَسافة ذَهابًا، ثُمَّ أقفلا رَاجِعَيْن دُون أن يَنطق أحدهما بِكَلمة.. عَيناها تارَّة على السَّماء تُناجي فَقيد رُوحها.. وتارَّة على البَحر.. تَنْهل بالنَّظَرِ إليه راحة وسَكون.. أما هُو فَعَيْنيه تُناظِران الأَمام ولا غيره.. كَبَّلَ بَصره قِسْرًا حتى لا يَنْحرف إلى وَجْهها.. لوَهْلة وجَسَدها مُلْتَصِق بِجَسده.. ورائِحتها تَتَغَلْغَل إلى صَدره بعذوبة.. وذراعها تَغْفو حَوْلَ ذراعه؛ أَرادَ أَن يُقَبِّلها.. وما أَرْوَعها من قُبْلة لَو أَنَّها تَحَقَّقَت.. لكن هذا الأمَر صَعْب.. صَعْبٌ عَليه وعليها.. هُو لا يُجيد هذا الدور.. دَور الزّوج المُحِب.. يَخشى أن تكون أفعاله خاطِئة.. وهي.. آه منها هي.. لا زالت تَعتبره أخ.. أو صَديق.. كَما اتَّفقا.. حتى بعد ذلك الاحتْضان الرَّبيعي.. وبالطَّبع لَن يُقْدِم أَخاها أو صَديقها على هذه الفِعْلة!
في حدود الساعة الواحدة اسْتراح جَسَديهما على مَقْعَدي السَّيارة.. نَطَقَ باسْمها قَبْلَ أن يُشَغِّل المُحَرِّك: مــلاك
التَفَتَت إليه وهي تَرْتدي حِزام الأمان: نعم
أَفْصَحَ عن سؤاله: الساعة.. اللي معلّقة في مكتب أبوش.. تحسين فيها شي غريب؟
عَقَدَت حاجِبَيها بعدم فهم: يعني شنو؟
حاولَ أن يَشْرَح: يعني.. في شكلها.. أو حجمها
بِصدق: ما أدري والله.. ما أذكرها أصلاً "اسْتَفسَرت باهْتمام" إنت لاحظت شي يعني؟ شاك في شي؟
وهو يضغط زِر التَّشغيل: لا.. بس "صَمَت لِلحظة ثُمَّ أَكْمَل مع تَحَرّك السَّيارة" بس حسيتها ثقيلة أكثر من اللازم
هَمَسَت بعد تفكير قصير: ما أدري.. تعتقد فيها شي داخل خلاها هالكثر ثقيلة؟
حَرّك كتفه: يمكن.. احنا افترضنا إن الشخص المتردد على المكتب يدوّر على السلسلة اللي راويتيني إياها.. بس لو كان داخل الساعة شي.. فهو بالتأكيد يدوّر عليه.. لأنّه مخفي.. خلافًا للساعة اللي كانت ظاهرة وتجاهلتها الشرطة والفاعل نفسه
عَقَّبَت: زين فتشوها.. افتحوها شوفوها
: أكيد بنفتحها.. بس قبل لازم أكلّم يوسف





يتبع

simpleness 04-06-19 04:28 AM

رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
 


ساهِرَةٌ أَمام الذِّكْرى الوَحيدة التي احْتَفَظَ بها الزَّمن.. ذِكْرى مَلْموسة.. بطول سَبْعةَ عَشَر سَنتيميتر.. مَصْنوعة من خَشَبٍ بُنّي داكن.. لها شِراعٌ كانَ أَبْيَضًا قَبْلَ أَكْثَر من ثَلاثينَ سَنة.. واليَوم قَد صَبَغتهُ صُفْرة تَحْكي عن فَقْدٍ أَمْسَت منهُ الرُّوح وَحيدة. بَيْنَ يَديها تَحْملُ القارِبَ الذي أَهداها إيّاه أَخاها.. طَلال الصَّغير.. الشيء الوَحيد الذي انتقَلَ معها من شِقّتها السابقة.. حتى هذه اللحظة تَتَذَكَّر آخر لِقاء جَمعها به.. وبوالدتهما.. تَتَذَكَّر طُوله الذي فاقها على الرَّغم من أَنَّها تَكْبَرهُ بِعامَيْن.. تَتَذَكَّرَ صَوْته الطفولي.. كلماته البَريئة.. وعَيْناه المُلَوَّنتان.. مِثْلَ عَيْنَي ذاكَ الطَّلال.. صَديقُ البَحْر. تَنَهَّدَت بِثِقِل ورَأسها يَميل باسْتنادٍ للأريكة.. الاسم ذاته.. والعَيْنُ ذاتها.. خَضراء تًخالطها رَماديّة باهِتة.. وكذلك.. الحَبيبُ ذاته.. البَحْر. أَيُعْقَل.. أَيُعْقَل أَنَّهما الشَّخص ذاته.. أَيُعْقَل! قَضَت الشَّهرين الماضِيين مَشْغولة الفِكْر.. تَغرس الأسْئِلة في عَقلها دُون أن تَمنحها جَواب.. فَتَظَل عالِقة في رَأسها مُسَبِّبَةً أَلَمًا وكَوابيس لا تنفك أن تُعَكِّر نَوْمها وصَحْوها.. لَم تَجْرؤ على سؤال رائِد.. هي أَساسًا لا تَستطيع أن تَسأله لِعَدم مَقدرتها على رؤيته أو مُحادثته.. وكذلك لأنّها خائفة.. خائفة من أن تُصَم مَسامعها من صَوْت ارْتطام أَحلامها بأرض الواقع، بَعيدًا عن خيالها الخارق. تَأفَّفت وهي تَترك القارب في حِضْنها ومن ثُمَّ تَعْقِد ذراعيها على صَدْرها، وعَيْناها تَغيبان في رِحْلة أَفْكار جَديدة.. هي رُبَّما تَساءَلت لِمَرَّتين أو ثلاث عن أخيها طوال حياتها.. تَساءَلت في داخلها بالطَّبع.. لكنّها لَم تُفَكِّر في البَحْث عنه.. بَل لَم تُفَكِّر بحاله الآن.. كَيف كانت الدُّنيا معه؟ هل رَحمته أم أَنَّهُ أذاقته بَعضًا من سُمومها؟ ماذا يَعْمل وفي أين؟ مُتزوج أم أعزب يهرب من الالتزام؟ هُو هُنا أم بَين أمواج بَحْرِ بَلْدةٍ أُخرى؟ بصحّة جَيّدة أم أَنَّ المَرض نالَ منه؟ والأَهم من ذلك.. هَل رُوحه بَقت سَليمة لَم تَشبها شائبة ولَم يَعْبَث في تَكوينها الزَّمن؟ غادرَت رُوحها آه تَحِنُّ كَطَيْرٍ مَكْسور اشْتاق أَن يُحَلِّق للغصنِ وَعُشِّه.. فَقَدت العائِلة مُنذُ سَنوات.. ظَنَّت أَنَّها سَتأَلف هذا الفَقد.. سَيلتئِم الجرح مع مُرور الزَّمن.. فأنت لَو فُتِحَ جِرْح في يَدك أو وَجْهك او حتى رأسك.. سيؤلمك في البداية ولكنّكَ سَتألف الألم بعد فترة.. بَل وسَتنساه.. لكن أَلَمُ الفَقْدِ لا يُنْسى.. حتى لَو تَظاهرت بنسيانه طَوالَ ساعات يومك.. فإنّك في تلك اللحظة التي يَرتاح فيها رَأسك فَوْقَ وسادته.. عندما يَصْبح العالمُ أَبْكَم.. وتَرْتَدي السَّماءَ ثَوْبَ الليْل ويُبْصِر القَمَر؛ سَتنامُ كُل العُيون وسَيَصْحو جِرْح فَقدك ويَسْهَر. حينها سَتَتأَلَّم.. سَتصرخ بِصَمت وسَتَضج دُموعك فَوْقَ خَدَّيْك.. سَتَحن وتَشْتاق ولكنّ الواقع سَيصْدمك بدارٍ تَخْلو من أَحِبّاء.. بَعضهم صافَحهم المَوت.. وبَعضهم صَفعتهم الدّنيا بغيابٍ تَجْهَل الرُّوح ساعة انْقضائه. أَخْفضَت بَصرها للقارب.. مَرَّرَت أصابعها عَليه.. لاحَ لها وَجْهان.. وَجْهُ طَلال الصَّغير.. وَوَجْه طَلال الكَبير.. هَمَسَت وهي تَعلق من جَديد بَين الاثْنَين: معقولة إنت طَلال يا طَلال؟



اسْتَيَقَظَت صَباحًا بَعْد مُعاناةٍ مع النَّوْم.. طَوال ساعات الفَجْر كانت تَتَقَلَّب على.. لَن نَقول جَمْر.. سنقول بِتلَّات التَّرَقُب.. فالذي شَغَلَ فِكْرها وطَرَدَ النُّعاس من عَيْنيها لا يَمكن إلا أن يَكون شَيئًا كالوَرد أو المَطر أو أي شيء آخر يَغمر الرُّوح ويَمنحها رَعْشة حَماسٍ لَذيذة. تَرَكَت السَّرير بحذر حتى لا تُزْعِج نَوْم زَوْجها الذي ضاقَ كَثيرًا من تَحُرّكها أثناء نومه.. فهي أقلقته حتى ظَنَّ بأنَّها تَتوَجَّع من شيء.. لولا ضِحكتها العالية التي فَلَتت منها من الموقف الغَبي بنظرها.. لحَملها للمُستشفى لِيَطمئن.. لكنّها أقنعته أخيرًا أنَّ النّوم غابَ عنها لذلك هي مُسْتيقظة تَبحث عنه من بين تقَلُّباتها. دَلَفت لدورة المياه.. أَبْعَدَت خصلاتها عن وَجْهها ثُمَّ غَسَلت يَديها.. زَفَرَت وبَصَرُها مُعَلَّق بالعلبة المَرْكونة على أَحَدِ الأرْفَف.. تناولتها بارْتجافٍ قَد نالَ من جَسدها.. ازْدَردت ريقها وهي تَسْتخرج ما بداخلها.. طَبَّقت الخطوات التي حَفِظتها خلال الأشهر الماضية ثُمَّ وَضَعت الجهاز على سَطْح المَغْسلة مُنْتَظِرَةً النَّتيجة بنَبْضٍ مَجْنون.. مُنذ أَكثر من أُسْبوع راودها الشَّك.. حاولت أن تَتجاهل الأَمر وألا تستعجل مثل كُل مرة ثُمَّ تنصدم بسلبية النتيجة.. لكن الإشارات أَبَت أن تجعلها تَصْمد أكثر.. لذلك قَصَدت الصَّيدلية البارحة لتشتري جهاز جديد.. وها هي الآن تَعد الثواني انتظارًا للنتيجة. انتهى الوَقت.. نَظَرت لوجْهها في المرآة.. ابْتَسمت برعشة وهي تَرى مَلامحها المَشْدودة.. أَغْمَضت وصَدْرُها يَرْتفع بشهيقٍ هادئ.. ثُمَّ يَنخفض بِزَفيرٍ ساخِن أَفْرَغت مَعهُ مَسامَات جَسَدها بِضعُ عَرَق.. فَتَحت عَيْنيها وهَي تَشْبك أَصابعها عند ذِقْنها.. انْحَنَت بخفّة وقلْبها كأَنَّه سيطفر من حَلْقها.. ثوانٍ وارْتَخَى جَسَدها كما لَو أَنَّ كُل التَّوتر المُتَكَدِّس داخلها قَد ذاب وتَحَلَّل.. اسْتقامت في وقوفها وهي تَشْعر برُوحها خَفيفة، كَحَمامة تَرسم سَعادتها على ثَوْب السَّماء.. هَمَسَت وبُكاء الفَرَح يُشاكِس عَينيها وصَوْتها: الحمد لله.. الحمد لله رَب العالمين
تَركت دَورة المياه بَعد أن طَهَّرت يَديها جَيِّدًا.. ابْتسامة واسِعة شَمَلت الفَرح والحُب والحَنان لاطَفَت شَفتيها عندما وَقَعَ بَصَرُها عليه.. تَقَدَّمَت إليه حتى جَلَسَت على السَّرير بِجانبه.. تَأَمَّلت مَلامحه الحَبيبة وهي مُسْتَغِرقة في النّوم.. نَظَرَت للساعة.. السابعة والنصف.. ضَحَكَت في سِرّها.. سَيَغضب كَثيرًا إذ هي أَيْقَظته.. لكنّها لا تستطيع الانتظار حتى يَسْتيقظ.. البهجة التي داخلها لا تَسعها.. تُريد أن تَبث إليه بَعضًا منها.. وهي واثقة أَنَّهُ سَيغفر لها إزعاجها إذ هي بَشَّرته.. لذلك تَحَرَّكت يَدها دُون تَرَدّد إلى شعره، داعبت خصلاته بأناملها وهي تَنحني إليه.. قَبَّلَت صِدْغه بخفّة ثُمَّ هَمَسَت: حَبيبي "مَرَّرت أصابعها بين خصلاته وهي تُناديه برقّة" طَـلال.. حَبيبي قوم
اتَّسَعت ابْتسامتها وهي تَرى كَيف عَقَد حاجِبَيه بضيق.. قَبَّلت العُقْدة ثُمَّ مَسَحت فَوْقها بإبهامها وهي لا زالت تُناديه: طلال عاد قوم.. يله حَبيبي
تَأفف وهو يَتَحَرَّك وعلامات الغَضَب تَتَضّح على ملامحه.. فَتَحَ عَيْنيه بصعوبة.. نَظَر للنافَذة بجفْنَيْن ضائَقَين قَبْلَ أن يَتناول هاتفه ليَستعلم الوقت.. أَلْقاه وهو ينظر لها وبقهر نَطَقَ من بَيْن أَسْنانه: نــور حتى ثمان ما صارت.. ليش مقعدتني!
هَمَسَت: أبي أَقول لك شي
اسْتدار عنها يَمينًا وبرجاء: واللي يرحم والديش أجلي اللي تبين تقولينه وخليني أنام.. اليوم اجازتي.. أبي أرتاح شوي
ضَرَبت كتفه وهي تقول بلحن زَعَل: يا الله طَلال.. تمووت في النّوم.. يعني بعدين إذا أنا اضطريت أداوم أيام الإجازات من بيقابل البيبي؟ يعني بتتركه وبتنام؟
هَمَسَ بثقل: يصير خير.. بعدين.. إذا صار عندنا بيبي
زَمَّت شَفتيها وذراعاها تنعقدان على صَدْرها بملل من هذا الرَّجُل الكَسول.. ارْتَفَعَ حاجِبَها عندما اسْتدار إليها ببطء والعُقْدة لَم تُفارق حاجِبَيه.. وكأنَّه يُحاول أن يستوعب.. هَمَسَ: جَذَّابة
اسْتَقَرَّت يَدها على خصرها: يعني بخرّب نومتك عشان جذبة!
طَلَبَ كَطِفْلٍ يَخْشى أن ينتشي بفرحه فَتصفعه يَدُ كَذِب لا تهدي الحلوى: قولي والله
ضَحَكَت: والله طَلال.. والله.. أنا حــامل
الْتَقَط نَفَس عَميـــق.. كان بِعُمق المَسافة التي تَسَلَّقها طَوال عُمْره حتى مَسَّت ذاته عَنان السَّماء.. اسْتَلقى على ظَهره وهو يُغَطّي وَجْهه بكَفَّيه الرَّاجفين وهَمسه المأهول بالمشاعر يَلِجُ إلى قلبها: يا الله.... يا الله.. الحمد لله.. الحمد لله يا رب
أَبْعَدَ عنهُ الغِطاء ثُمَّ جَلَسَ ليزحف إليها برُكْبتيه ونَظره مُسْتَقِرًّا على مَوْضع واحد لا غير.. قَرَّبَ يَديه من بَطْنها.. مَسَّه بِحَذَر وهي تُراقب حَركاته التي بَعثرت نَبْضها وأَرْبَكَت أَنْفاسها.. ضَغَطَ عَليْه بِحُنوٍ أَخَّاذ اقْشَعرت منهُ حواسها.. وكأنَّما يَسْتَشعر بخطوط كَفِّيه الرُّوح التي أَحْياها الله من صُلْبه داخلها.. رَفعَ عَينيه إليها.. أَرْخى عَطْفٌ أُنثوي مَلامحها عندما لاحَ لها الدَّمع وهو تائه بَين أَجْفانه.. احْتَضَنت خَدّه بيدٍ والأخرى اسْتراحت فوق كَفَّيه وهي تَهمس بِمَلق: حَبيـبي
هَمَسَ والدّمعُ قَد كَوَّن غِشاءً ضبابيًّا فَوْق اخْضرار عَدَستيه: يعني اللحين.. داخلش.. اهني.. في بطنش.. نتفة مثلش؟
ضَحَكَت وهي تُجيبه ببحَّة: ايــه بعد عمري.. داخلي نتفة ينتظر يطلع للدنيا.. عشان يقول لك بابا
تَساءَلَ بتَرَدُّد: تحسّين... أصلح أكون... أبو؟
شَدَّت عَلى يَديه وبِثقة أَجابته: صَدّقني.. بتكون أَحَنْ أبو في الدّنيا



لا زال وَفِيًّا لِعادته.. يَقِف عِنْد نافِذة مَكتب زَميله لِيُراقبها بتأَمّلٍ يَسأل رُوحه أَثْنائه: لماذا هي؟ لِمَ جَذَبَتهُ عَيْناها في ثوانٍ أَصْبَحتْ عُمْرًا داخله يَنتظر أن يُبْدَأ بها؟ هُو لَم يَلْتَفِت لامْرأة قَط.. رُبما وَجَّهَ نَظْرة أولى لِتلك وتلك.. ولكنّهُ لَم يُسْهِب في التَّعلق بامْرأة بهذا الشَّكل من قَبْل.. هي الوَحيدة التي اسْتطاعت أَن تَجُرّه لِمُعْتَرك أُنوثتها.. لا يدري ما الذي يُقَيِّدهُ بها أَكثر.. عَيْناها.. ابْتسامتها.. أَم أُمومتها؟ لا يدري.. وهذا الجَهْل الذي يُغْشي عَقله تجاهها أَفْضَل ما حَصَل له.. فهو يَجْعلهُ مَهْووسًا بها أَكثر.. مَهْووسًا بالغَرق فيها لاكتشافها.. بالتَّقرب منها.. بالتَّفكير بها وهو ساهِرٌ على جِنْح الليْل.. وبالقِتال من أَجْلِ الظَّفر بها. هُو لَم يَتَقَدَّم لِخطبتها بسهولة.. فلقد احْتاج لأسابيع لإقناع والدته التي كانت رافِضة بِشِدّة.. فكيف لابْنها الشَّاب النّاجح والذي لَم يَسْتهلك ولا نِصْف صَفْحة من كِتاب الحياة الزَّوجية أن يَرْتبط بِمُطَلَّقة! هُو كان رَجُلاً واعيًا.. مُتَفِهِّم وذا فِكْر راقي.. ما الضَّيْر من أن يَتزوج من امْرأة سَبَقَ لها الزَّواج؟ وما الضَّيْر من أن تَتَزوج الفَتاة من رَجُل سَبَق لهُ الزَّواج؟ ليس في ذلك إنقاص لكلا الطَّرفين.. ما دام الاثنان مُتفاهِمَان ومُقْتَنِعان بأحدهما الآخر والوِد يَجْمعهما فهَنيئًا لهما. ابْتسامة يَغْمرها الحُبور بانَت على شَفَتيه عندما لاحَ لهُ وَجْهها.. هل سيُقال لنا هِنيئًا لكما جِنان؟ هذه المَرَّة لَم يُغادر المَكتب.. بِقِيَ في مكانه.. بالطَّبع تَمَّ إخبارها بالخِطْبة.. فلا يُريد أن يُسَبِّب لها حَرَج أو ارْتباك.. على الرَّغم من أَنَّهُ مُتَشَوِّق لاسْتقبال رَدَّة فِعلها.. يُريد أَن يَسْتَشِف من عَينيها جَوابها الحَقيقي.. نَعم الحَقيقي.. فَقد يَنْطق لِسانها بِما يُناقض رَغْبَتها.. وَعْيناها سَتكونان الخَيْط الفاصِل بَين الرَّغْبةِ ونَقيضها. غادَرَت عَيْناه مَلامحها لِوَجْه ذاك الذي يَمْشي بخيلاء على يَمينها.. لا يَنْكر أَنَّ تَرَدُّدًا ناتِج من شَخصية هذا الرَّجُل عَرْقَله في البداية قَبْل أَن يُفاتح والدته في المَوْضوع.. غُروه المُغْرِق ملامحه.. عَيْناه المُدَجَّجَتان بالحِدّة والسُّخرية في آن واحد.. كلماته التي صَدَمهُ بها في أوَّل وآخر تَصادم بَينهما.. والأهم من ذلك.. نَظراته التي تُحَلِّق برتمٍ خاص بها.. خاص بجِنان.. لِوَهْلة ظَنَّ أَنَّهُ لا زال يُحِبّها.. وإلى الآن لَم يُصافح الظَّن اليَقين ولَم يُلْغِه الإنكار.. فهو كما تَبَيَّن له مُتَزَوِّج.. معلوماته الشخصية في الأوراق الرّسمية الخاصة بِجَنى، وكذلك خاتم الزّواج المُحيط ببنصر يُسْراه يؤكّدان على ذلك.. لكن القوافل التي تَهْتدي من عَيْنيه لِجنان تَدحض كُل الحَقائق.. وكأنَّه مُرْتَبِط بأخرى بالاسم فقط.. أَمَّا واقعًا فهو مُقَيَّد بِجنان بكُل حواسه. هُو يَتمنى.. يَتمنى أَن ظُنونه كُلها واهِية.. يَتمنى.



يُراقبها بِصَمْتٍ تَقَلَّدَ به مُنذ ساعات الصَّباح.. فَهو قَبْلَ أن يَخْرج لِعَمله لاحَظَ شُرود عَيْنيها وهُما يَجْلسان على الفَطور.. قِطعة الخُبز لَم تُفارق يَدها ولَم تَعْبِر فَمَها.. ظَلَّت مَسْجونة بَيْن أَصابعها تَنتظر الفَرَج.. إما عَن طَريق مَضَغة.. أو عن طَريق إطلاق سَراحها لتعود إلى سَلَّة الخُبز المَرْكونة جانبًا. لَم يَكُن الوَقت مُناسِبًا للحَديث لذلك لَم يَسْألها عن شَيء.. وبَعد الغداء اسْتَأذنت منه لِزيارة والدتها.. وها هي الآن بَعد عَوْدتها مَشْغولة الفِكْر والبال. اَخْفَضَ الكتاب الذي يَقْرأه على فَخْذيه دون أن تَتركه يَده.. اسْتَفْسَر بِنَبرة هادئة: حُور فيش شي؟
لَم تُجِبه.. صَوته من الأَساس لَم يَنفذ إليها.. وكأنَّ فقاعة مأهولة بالأفكار تُحيط بحواسها.. تَرَكَ الكتاب جانِبًا وزَحَفَ قَليلاً حتى اقَتَرَبَ منها.. أَزاحَ خصلتها عن وَجْهها وهُو يُناديها: حُــور "رَمَشَت لِمَرَّتَيْن مُتَتاليَتَيْن ثُمَّ اسْتدارت إليه.. أعادَ سؤاله وهو يُعَلِّق عَيْنَيه بِعَيْنيها" فيش شي؟
أَرْخَت بَصرها هامِسةً بصوتٍ خَفيض: لا.. بس....
باهْتمام: شنــو؟ قولي لي
بَلَّلَت شَفَتيها ثُمَّ رَفعت رأسها تنظر إليه وفي مُقْلَتيها لَمَعت دَمْعة حائِرة: أحــاتي أمــي.. الفترة الأخيرة صايرة واجد تتعب.. وبروحها في البيت.. أبوي وقته كله للشغل.. ونادرًا أصلاً يبيّت في البيت.. وهي تظل بروحها.. محّد وياها غير الخّدامات
قالَ ببساطة: خلها تجي اهني.. بيتها هذا
عَقَّبَت بإحباط: قلت لها.. بس ما رضت.. تقول ما تعرف تترك أبوي والبيت.. وإن عيب
هَزَّ رَأسه بتفهّم: حجيها صح بعد
سَألت بقلِّة حيلة: زين شسوي؟
أَجاب: خلها على راحتها.. كلامها صَح.. ما يصير تترك بيتها وزوجها حتى لو لبيت بنتها
بتَرَدّد وغَصَّةٌ عَجوز ما هي إلا تَراكماتٍ لسَنواتٍ خَلَت تَحَجَّرَت في حلقها؛ وهي تقول: بــس.. يوسف.. أبوي وأمي.. يعني أقصد.. علاقتهم.. من زمان.. من يوم كنت صغيرة.. هُم مو أوكـي
عُقْدة خَفيفة بَيْنَ حاجِبَيه: ما فهمت.. شفيهم يعني؟
مَسَّت أَنفها بظاهر سَبّابتها وهي تُشيح عنه لِتُكْمِل بكلماتٍ مُنتقاة بعناية: أبوي شوي عَصبي.. يعني بعض الأحيان ما يحاسب لتصرفاته وكلامه.. وأمي مريضة.. أخاف يعني يقول كلمة وتتضايق ويصـ
قاطعها: حُور ليش هالوسواس! أمش عايشة عمر مع أبوش.. يعني خلاص حفظته وحفظت أطابعه.. وتعودوا على بعض.. وقت عصبيته ما بتاخذ كلامه على محمل الجَد.. بتعذره
حَرّكت رأسها وضيقٌ عارِم يَحشو مَلامحها ونَظَراتها: مــو جــذي يوسف.. أَقصد يعني "أَغمضت بتَشَتّت" ما بتفهم ما بتفهم
اقْتَرَبَ منها أَكثر ويَدهُ بمُسانَدة حَنونة احْتَضَنَت كَفّيها، وبهمسٍ مُشَجِّع: قولي لي.. يمكن أفهم
أَطْبَقَت شَفَتيها لثواني وجِرْحها المَخْفي مَشْدوه للاحْتواء الذي انْبَجَس من مُقْلَتيه.. ازْدَرَدَت ريقها وعلى باب عَيْنها اليُسْرى هَتَفَت دَمْعة حَنَّطتها الطفولة في كَهْف الوِحْدة.. هَمَسَت بحشرجة: أبوي قاســ ـي يوسف.. للحين إذا أَحط راسي على المخدة أَدوّر النوم.. أول شي يزروني الماضي.. طفولتي وضعف أمي وقسوة أبوي
عَقَّب باسْتنكارٍ كَبير: عمّـي سلطــان!
حَرَّكَت كَتفها وابْتسامة أَسى تَنوح فَوْق شَفتيها: ايــه.. أبوي سلطان "أَفْصَحَت" تدري إنّي من زمــاان مستغربة معاملته معاكم؟ حنيته وخوفه وحرصه واهتمامه الغريـب
وَضَّحَ: عَشان أبوي الله يرحمه.. كان صَديق عمره
أَفْرَغت تَنهيدة مُرْتَعِشة ولسانها يُوَجِّه وَعي يوسف لمنطقة حُظِرَت عليه قسْرًا: ما أعتقد القسوة اللي في قلب أبوي ممكن إنها تتنازل وتحِن مهما كان السبب.. ما أعتقد



أَحاطت رِسْغها بساعة فضية اللون تَتناسق مع لون ثَوْبها الرَّقيق.. تناولت زجاجة العِطْر الخاصَّة بالمُناسَبات لِتَتمازج رائحته القَويّة برائحتها الطَّبيعية.. رَتَّبَت خصلاتها على كَتفيها وعند جَبينها وهي تَتَفَحَّص زِينة وَجْهها.. لَمسات بَسيطة وناعِمة تُبرِز مَلامحها دُون أَن تُغَيِّرها أو تُبَشّعها.. ابْتَسَمت برِضا عن نَفْسها.. زينة أُنثوية بلا مُبالغة. تَرَكَت غرفتها بَعد أَن ارْتَدَت حذاء بكعبٍ قَصير.. تَوَقَّفَت بالقُرب من غُرفة مُحَمَّد ذات الباب المُوارب.. طَلَّت وهي تَشعر بِحَركة في الدَّاخل.. إذن عاد. تحركت لها.. طَرَقَت الباب وهي تَراه مُنشغلاً بإغلاق أزْرار قَميصه الأَبيض.. ابْتَسَمت عندما حَرَّكَ بَصره إليها وهي تقول دُون أن تَنتبه لتغَيّر مَلامحه: تأخرت.. توقعتك تروح العرس من المكان اللي إنت فيه وما ترجع الشقة
تَنَحْنحَ وهو يُجاهِد لِتَبديل مَسار عَيْنيه بَعيدًا عنها.. فَنَهْرُها الزَّهري ها هُو يُبَلِّله.. وإن اسْتَمَرَّ مُسْتَسْلِمًا لإسهاب نَظَراته سَيُغْرقه حَتمًا.. تَقَدَّمت منه وتَمَوّجات شَعرها تَتراقص على كَتفيها، وجَسدها الفاتن يَميل بعفوية على نَغْم مَشيها الهادئ. وضَّحَ وهي تقف أَمامه على بُعْد مَسافة بَسيطة: كنت في الكراج أَصلاً.. وأكيد كنت برجع عشان أسبح وألبس ملابسي.
حَرَّكت رأسها بتفهّم: أووكــي.. ما كنت أدري إنّك في الكراج "لاحقَ عَيْنيها وهُما تَمُرّان عليه من رَأسه حتى أَخْمصِ قَدميه قَبْلَ أن تُعَلِّق" حلو القَميص الأَبيض "رَفَعت عَيْنيها إليه مُضيفةً بابْتسامتها المائلة" تصدق.. ما أذكر إنّي شفت عليك الأبيض من قبل
يَدهُ التي جَمَّدَ دُخولها العَذب حَرَكَتها عند أحد الأزْرار اسْتأنَفت عَملها أخيرًا وهو يُعَقِّب بنصف ابْتسامة: لأني تعوّدت على الألوان القاتمة
ارْتَفَعَ حاجِبها وابْتسامتها تَتسّع مُسْتَفْسِرة: يعني اختيارك للون الأبيض يُعْتَبَر خطوة منك لمخالفة المُعتاد الكَئيب؟
أَنْكَرَ بعفوية وهو يلتقط رَبطة العُنق الأرجوانية: لا.. لأن أنسب ويا النيك تاي
ضَحَكت وهي تُسْنِد جذعها لطرف التَسريحة ثُمَّ تَساءلت: يعني ما في أَمل تتمرَّد على الكآبة ولو من جانب بسيط؟
وَهو يُوَجّه نَظَراته للمرآة هارِبًا من فَيْض عَينيها الوامِض فيه اهْتمام: ما أحس الكآبة لها دخل في موضوع اللبس.. أحب الأسود والألوان الغامقة
وَضَّحت وجهة نظرها: الأسود لون حلو وفخم.. أعتقد أغلب الناس يعشقونه.. بس بعد حلو إن الواحد يلبس ألوان مُريحة للعَين وفيها حيوية.. حتى النّفسية تتبدّل
ابْتَسَمَ مُعَلِّقًا: إذا جذي.. يعني أحتاج أتخلص من كل مَلابسي
ضَحَكَت بخفّة: لا ما يحتاج تتخلص منهم.. بس ضيف عليهم ألوان جَديدة "غَمَزت له" وإذا تبي مُساعدة أنا جاهزة أخوي العَزيز
انتقلت عَدستاه إليها بِحَركة سَريعة بَعد أن نَطَقت بآخر كَلِمَتَيْن.. نَظَرَ لها مُطَوَّلاً وفي حَنجرته تَزاحمت كلمات تَعْترض وأخرى تَسْتجدي.. لا.. أنا لستُ بأخيك.. لَم ولن أكن.. فالمَشاعر والرَّغبات المُضِجّة داخلي يُسْتحال أَن تَتَّصِف بالأخوَّة.. فَأنا الآن في هذه اللحظة وأنتِ أَمامي نَهْرٌ عَصي؛ أحاول أَن أسْتَشعر إحساسي وأَنفي يَرْتَشِف رائحتكِ عن قُرب، هُناك عند السَّفحِ الطَّويل لِعُنُقِكِ الصافي.. أُتساءَل أَمِنَ المُمكن أَن تُصَيَّر هذه الخصلات المُلتوية بنعومة غِطاءً يَسْتَريحُ على صَدري؟ وكَم أَحْسد هذا الزَّهْر الذائب على شَفَتيكِ مِثْلَ قَطْرة نَدى تَغْفو على بِتِلّة.. أَنا مَفتونٌ بكِ.. مَسْحور.. مأخوذ.. تائقٌ ومُتَلَهِّف.. أنا باختصار مسكين.. مسكينٌ للتو يَتَعَرَّفُ على الحَياة بوجهها المُسالِم.. بوجهها الباذِخ النّعومة.. بوجهها الغافي بَين طَيَّاته حَنانٌ شَهي.. كيف سَأصبر وأنا المَحْروم.. بل إلى متى سَأصبر؟ لَكِن كَعادته.. تَوَشَّحَ بالصَّمْت وتَرَك كَلماته تَغص في حَلْقه.. مَرَّرَ لِسانه على شَفَتيه قَبْلَ أن يُجيب بخفوت وهُو يُبْعِد عَيْناه قِسْرًا عنها إلى المرآة: أوكـي
اسْتَنكَرَت بانْتباه لِحَرَكة يَديه العَبَثية: محمد شفيك؟ صار لك ساعة تربط النيك تاي! "وقَبْلَ أن يُعَقِّب اعْتَدلَت في وُقوفها ثُمَّ اقْتَرَبت منهُ أكثر وأبعدت يَديه برِقّة عن رَبطة العُنق وهي تُرْدِف" خلني أَنا بربطها لك
باغتَتهُ رعْشَة عندما مَسَّت أطراف يَديها أعلى صَدره.. هذه المَرَّة بَدلاً من أن يَحْبس كلماته اضطَّرَ لِحَبس أَنفاسه.. فهو عانى لِيُبْقيها داخله بجُنونها واضطرابها.. وحتى يَمْنع لقاءها مع رائحتها التي أَصْبَحَت أَقْرَب بشكلٍ مُوْجِع.. هُو يحاول أن يَبتعد عنها.. لكنّهُ في النهاية يَجد نَفسه يَهْتَدي إليها.. وكأنّ هذه الأُنثى الواقِف رأسها عند حُدود كَتفه تَمتلك قُوة جَذب قادرة على هَزْم فُتات رُجولته.. أَخْفَضَ بَصره.. أَهداب طَويلة تَرمش بهدوء سامحةً لِلعَيْنَيْن بالتَّركيز.. أَنفٌ يَفْصِل بَين وَجْنَتين مَصْقولتَيْن.. وَشَفتــ.. اَغْمَضَ للحظة وهو يُشيح عن هذا المَوْضع الخَطِر.. اصْطَدَمت عَيْناه بكتفها.. شامة صَغيرة ولكن واضِحة اتَّكأت كَنَجمة ما بين عظمة التَّرقوة والكَتِف.. هَرَب من هُناك أيضًا ولكنّهُ كُلَّما ظَنَّ أَنَّهُ يَنجو بنفسه بعيدًا عنها.. كُلَّما يَغرق فيها أَكثر وأَكثر.. فَقَد تَعَلَّقت عَدستاه بالعقد الألماسي النّاعم جدًا المُتَدَلّي على نَحْرها.. ازْدَرَد ريقه وبصعوبة كَسَر نَظرته وأَجْبرها على الالتصاق بالسَّقف إلى حين الفَرَج. ابْتَسَمت برضا ويَداها تَبتعدان لِتَرحمان احْتياج صَدره: خلّصــت
هَبَطَت عَيْناه في الوقت الذي ارْتَفَعت فيه عَيْنيها فَصارَ اللقاء.. ثواني بَطيئة أَتْخمها الصَّمت تلك التي مَرَّت والعَيْن تَقرأ العَيْن.. تَقَلَّصَت ابْتسامتها شَيئًا فَشيء وهي تُبْصِر حَديثًا مَكتومًا وحائِرًا وَسط مُقْلَتيه.. فَتَحَت فَمها لِتَسْتَفسر لكنّهُ تَراجعَ للخَلف لِيَقول دون أن ينظر لها: شُكرًا " تناول معطف البَذلة الأَسود وهو يستطرد" روحي البسي عبايتش عشان نمشي
تابعتهُ وأناملها تَعْبَث بساعتها بشرود وبِضع ارْتباك.. لَقد شَعَرت.. لَقَد شَعرت عندما التقت عَيْناهما بلحظة غريبة.. لحظة مُختلفة.. ذلك القُرب.. ونظراته المأهولة بالكلمات.. ملامحه الرّجولية.. زينتها وأَناقته.. هو زوجها.. أو مثلما اتَّفقا.. أخوهــ
ناداها: ملاك
رَمَشَت بانتباه وهي تُحَرِّك رأسها هامِسةً: إن شاء الله
تَرَكت الغُرفة وهي لا زالت تَعبث بالسّاعة وتُعيد ترجمة الموقف.. تَوَقَّفَت في طَريقها.. تَساءلت داخلها.. هل تمادت؟ هي تَصَرَّفت بعفوية بناءً على الاتّفاق.. كما تتصرف مع أخيها.. لكن رُبَّما هو لا يرتاح لهذا القُرب.. أو أَنَّ القُرب كان غير أخوي.. فالذي قَرأته في عَيْنيه للحظة أَيقَظها.. كانت تُريد أن تسأله ما بك.. لكنّه لَم يَسْمح لها وابْتعد.. بل وأمرها بالذّهاب لغرفتها مُتَحَجِّجًا بالعباءة.. وإنّما هُو حَقيقةً ضائقٌ منها.. أهذا صَحيح؟ أَم أنّه.. رُبّما شَعَرَ.. بشيء.. مثلا! ازْدَرَدت ريقها وهي تَتَذَكَّر المسافة البسيطة جدًّا التي كانت تفصلهما.. هي حتى لاحظت بِضع خصلات شائبة في لحيته.. وو.. وعيناه.. أكانت عَيناه جَذَّابتان هكذا من قَبْل؟ أم أنَّ سُرعة الثَّواني مَنحتهما سِحْرًا خاصًّا؟ لحظة مَلاك.. هَزَّت رأسها وكأنَّها تُأنِّب أَفكارها.. رُبَّما فعلاً هي تَمادت.. يَجب أن تَحتاط في المرة القادمة.. فهو قَد يَضيق منها.. وهي.. قَد تَنجرف بِغَفْلة لِمُنْحَدَرٍ مَمنوعٍ. تَحرَّكت بعد أن عَزَمت داخلها أَن تَحْذَر من تَجاوز أيّ خَطٍّ أحمر، سواء بأفعالها أو حتى أفكارها.



: يصير أخطبش لولدي ولاّ محجوزة لأحدهم؟

اسْتَدارت سَريعًا لِتقابلها نَدى بابْتسامة وغَمْزة.. هَمَسَت بتَنْبيه عندما جَلَسَت بجانبها: أُششش.. لا يسمعش أحد ويشك
أَفْصَحَت وهي تُناظرها بإعجابٍ نَطَقَت بهِ عَيْناها قَبْل لِسانها: جِنانو طالعة قَمـــر! الأحمر من بعيــد ينادي ويقول تأملوا هالقَمر "قَبَّلَت خَدَّيها" ما شاء الله، الله يحفظش أم جَنــى
رَنَت لها بطرف عَيْنها مُعَلِّقةً على آخر كَلمة: يعني لازم تخربينها؟
ضَحَكَت مُسْتوعبة: والله مو قصدي.. تعوّد لساني على أم جنى.. ما قصدت "وهي تُكْمِل بهمسٍ تَفوح منهُ الخَباثة" أستاذ نـــادر
بحدّة: جَــب
بمُتْعة وهي تَضحك: تصيرين أحــلى وإنت متنرفزة
تَجاهلت مُشاكستها وتَقَدَّمت من الطَّاولة لِتَّتكئ عليها بمرفقها.. اسْتَقَرَّت بذقنها فَوْقَ كَفِّها وأَخَذِت تُطالع القاعة بنظرات مُتَفَحِّصة، وكَأنَّها تَبْحث عن إحْداهن. ظَلَّت تُوَزِّع نَظراتها لبِضع دَقائق قَبْلَ أن تَتَعَثَّر عَيناها بسوادٍ اسْتجابت لهُ نَبضات قَلْبها بغيرة.. رَكَّزَت في زينتها.. فستان أَسْود طَويل ومَنْفوش قَليلاً، فخامة قِماشه يُمكن مُلاحظتها عن بُعْد.. شَعرها بتموّجات فَرنسية تَتدلى على كَتِفَيها وَظهرها.. ماكياج بدرجات الوَردي الناعمة.. وطَقم من الألماس بَريقه يُبْصِر منهُ الأعمى.. لَقَد تَزَيَّنت بدقّة واحتراف.. جَميلة وأَنيقة وَجَذَّابة وناعِمة في وَقتٍ واحد.. هَمَسَت وهي مُسْهِبة في تَفَحِّصها: لابسة أسود
تَساءَلت نَدى والتي لَم تَسْمعها بسبب صَوت الموسيقى: شنو تقولين؟
كَرَّرَت: لابسة أسود.. ياسمين.. لابسة أسود "صَمتت لثواني ثُمَّ أَرْدَفَت بسؤالٍ شَقَّ قَلْبها لِيَخْرج" تتوقعين.. هو مختار لها الفستان؟
أَجابت بهدوء وعيناها تتحرّكان لياسمين التي كانت تُرافق أم فيصل للسَّلام على بعض المعارف: ما أدري.. وما يحتاج إنتِ تَدرين.. وما لنا دخل أصلاً ندري.. زوج وزوجته.. احنا شنو يدخلنا!
نَطَقَت بِصدق: طالعة حلوة
شاركتها: هي حلوة من الأساس.. والواضح إنها تعرف لنفسها صَح
نَطَقَ جِرْحٌ غائر في أُنوثتها: أحلى مني.. مثل ما قال
عَقَدت حاجِبَيها وباسْتنكار: لا مو أحلى منش! ولا إنتِ أحلى منها.. كل وحدة لها جمالها الخاص اللي يميّزها "اسْتَطرَدت باشْمئزاز" وبعدين إنتِ شعليش من فيصلوه؟ ترى ما عنده إلا الحجي يتفنن فيه ويرميه عليش بس عشان يجرحش.. يولــي هو وحجيه الغبي
واصَلت كلامها وكأنَّها لم تَسْمعها: ما سمعت إنها حامل.. صار لهم جم شهر متزوجين وما حَملت
تَأففت: جِنان وبعدين؟ اتركيهم عنش.. والله ما بتستفيدين شي من هالهواجس.. بس بتحرقين نفسش "انتبهت لاقتراب جُود فَحَذَّرتها" أقول سكتي.. جود شكلها جاية لنا.. لا تسمعش
فعلاً كانت جود آتية لهما.. سَلَّمت على نَدى التي باركت لها ثُمَّ اسْتَفسَرت من جِنان: وين بنت أخوي؟
أَجابتَ ببرود وهي تَرجع للخلف لإسناد ظَهرها: مع بيان
تَلَفَّتَتَ: وين راحت معاها؟ أبي أرقص مع بنت أخوي
عَقَدَت ذراعيها على صَدرها وهي تُشير برأسها إلى النَّاحِية الأخرى والسّخرية أَرْخَت جِفْنَيها: هذي هي على الكوجات اللي عند المسرح.. شوفيها.. مكتوب على جبينها بنت فيصل أخو جود
ابْتَسَمت بحاجِب مُرْتفع.. فلقد فَهِمتها.. أَومأت برأسها: شُكرًا بنت عمتي
زَفَرَت وَطَلْعٌ من تَوَتّر بانَ على مَلامحها.. هَمَست بعد ابْتعاد جُود: شكلها تدري بالخطبة.. أكيد علي قال لها
بعدم اهتمام قالت: خل تدري.. شنو بتسوي يعني؟
نَظَرَت لها والضيق يُشاغب أهدابها: شنو بعد يا ندى؟ طَبعًا بتقول لفيصل
جاءَت لتُعَقِّب لكن قاطعها قُدوم مَلاك.. سَلَّمت على الاثنتَيْن ثُمَّ اتَّخَذَت لها مَكانًا على يَمين جِنان التي قالت بإعجاب: إذا أنا قمر.. ملاك شنو يُطلق عليها! شهالجمال تبارك الله
ضَحَكَت بخجل وهي تُرَتِّب خَصلاتها: عــادي جِنان.. إنت اللي ما شاء الله تجننين
نَدى باسْتنكار: كل هذا وعادي! "بِمَكْر وهي تُقَرِّب رأسها منها هامِسة" والله مجنون محمد يوم قَبل يخليش تجين العرس.. كان لازم يخليش له بروحه الليلة
تَلَّقَفَت أَطْراف وَجْهها حُمْرة خَجَل واضِحة من جُملة نَدى ومن ضِحكة جِنان التي أضافت: المسكين أخوي أكيد إنّه اسْتَخف عليها بس ما عرف يعبّر فاستسلم وتركها تجي
تَجَمَّدَت يدها على خصلاتها واتّساعٌ واضِح تَمَكَّنَ من عَيْنيها.. نَظَرت لهما بملامح باهِتة وثَغْرة انْشداه تَتَوَسَّط شَفَتيها.. مَرَّ وَجْهه أَمام ذاكرتها.. هي للتَّو اسْتَطاعت أَن تُتَرْجِم حَديث عَيْنَيه الذي عَجَزَ عنهُ لِسانه الفَقير.. أَيُعْقَل! رَمَشَت بانْتباه لِضحكة جِنان ونَدى.. تَضاعف إحراجها وهي تَعي الحَقيقة المؤلمة واللذيذة في الآن نفسه.. لَقَد أَعْجَبته.. كانت نَظرات إعْجاب تلك التي حاصرها به! لكنّهُ لا يَعرف كَيف يُعَبِّر مثلما قالت جِنان.. لذلك كانت تلك اللحظة غَريبة فيما بَينهما.. مَسَّت وَجْنَتيها وهي تشعر بحرارة تَكسو جلدها.. تَبَسَّمت بخفّة ونوعٌ من الرّضا دَغْدغَ مَشاعرها.. إذن أَعَجبته.. مَلاك أَعْجَبتْ مُحَمّد!
جِنان بمُزاح قالت لها: أقول قومي لبسي بيزفون عبّود واتركي الخَجل لأخووي



إنَّها المَرَّة الأولى التي تُرافقهُ فيها إلى البَحْر كَزَوْجة.. إذن هي المَرَّة الأولى التي يُعَرّف فيها البَحْر عَليها كَزَوجة.. بَعدَ أَن كانت طِفلة صَديقة.. حَبيبة.. وذات مَفقودة. المَجال من حَولهما هادئ.. المَوْجُ لَطيف الحَركة.. والنَّسيمُ تُمازجه بُرودة حَنونة تَنفذ بسلاسة للرُّوح.. تَمس برقّة وَجْهَيهما.. تُداعب خصلات شَعْره.. وتُشاكِس حجابها المُرْتَخي. اسْتَنشَقت نَفَسًا عَميـقًا ثُمَّ هَمَسَت بِعَيْنَين مُغْمَضَتَيْن وهي تَسْتَشعر الرَّاحة العَذْبة التي تَتَغَلْغَل داخلها على هَيئة هَواء: الجَو عَجيــب
هَمَسَ مُراقبًا بحُب السَّلام وهُو يَسترخي بين مَلامحها: ايـه.. يرد الرُّوح
فَتَحَت عَيْنيها ببطء وعلى شَفتيها اتَّكأت ابْتسامة وبتساؤل: تذكر متى آخر مرة ركبت معاك الطَّراد؟ "أَصْدَرَ صَوْت من بَيْن شَفَتيه دَلالة على عَد علمه فأجابت هي وابْتسامتها تَتَّسَع" عقب ما طلعت نتايج ثالث ثانوي.. قلت لي هذي هديتي.. بس طبعًا لأن ما يصير أركب معاك بروحنا.. البنات كلهم جوا معاي
هَمَسَ وهو يَقترب منها: طَبعًا أَذكر.. بس كنت أبي أشوفش إنتِ تذكرين ولا لا
مالَ رأسها: كان حلو ذاك اليــووم.. استانست واجــد
ابْتَسَمَ مُفْصِحًا: بس أنا ما كنت مستانس
تَساءَلت باستغراب وعُقْدة حاجِبَين خَفيفة: ليش؟
أَجابَ ووجهه يَقترب منها وصَوْته يَنخفض أكثر: كنت أبي نكون بروحنا.. نقعد على راحتنا.. وفي الليل بعد.. مو في ظهر شهر ستة وشمه اللي تحرق
عَلَّقَت بضحكة: كانت أحلامك هبلة مثلك طَلال.. بثقة كنت تبينا نروح البحر بروحنا!
هَزَّ رأسه: اي.. كنت واثق إن بيتحقق هالحلم في يوم من الأيام "ارْتَفَعَ حاجِبه وبثقة" وهذا إنتِ قدامي مثل ما كنت أحلم وأكثر بعد.. كنتِ حَبيبة.. وبعدين صرتِ حلم ضايع.. بس اللحين "خَبَت نَبْرته مُكمِلاً ببحّة" إنتِ حَبيبتي.. وزوجتي.. وأم ولدي
تَأَمَّلته وبَريقٌ يَتراقص من عَدَستيها.. وكأَنَّ القَمرَ اعْتَذَر من السماء لِيبَزغ من عَيْنيها.. اقْتَرَبَت منه هي هذه المرَّة.. أَحاطت عُنقه بِرقّة يَديها، وببالغ النّعومة أَهدتهُ قُبْلة اخْتَصَرت فيها كُل شُعور تُذْبِلَهُ الكَلمات.. هذا الحُب الذي يَعْبر ذاته لِيغمرها يُحْييها من جَديد.. يَزرع زَهْرًا بَين تَصَدّعات الرُّوح.. يُطَهِّر الدّماء من سواد الكوابيس.. ويُعيد تَوْجيه النَّبضات إلى أَبواب حَياة مَليئة بالدفء والرّاحة. ابْتَعَدت عنه دُون أن تَنظر إليه.. تأمَّلت المَوْج الذي يَتمايل برشاقة.. مَدَّت يَدها وحَرَّكت الماء بخفّة.. هُو نَطَقَ بَعْد أن تَجاوزَ قَليلاً عُذوبة فَيْضها المُفاجئ: عشان أكون صادق.. ترى الحلم ما كان يتضمن هالمشهد
عَلَّقت: أشـــك والله
ضَحَكَ: أفــا.. ما تثقين بأدبي؟
ارْتفعت عينيها إليه وبصراحة: ذيك الفترة.. لا ما كنت أثق "ضَيَّقت عَيْنيها مُرْدِفةً" بس اللحين شوي صرت عاقل
وهُو يُمثِّل الجديّة: بعد بصير أبو.. لازم أصير عاقل
تَمْتَمَت بابْتسامة: إن شاء الله "اسْتعلمت الوقت من ساعتها وهي تَسْتطرد" الساعة اثنعش "ناظرته بحَرج" وإنت من زمان تركت العرس وجيت تقعد معاي.. فشلة.. ما خليتك تستانس
طَمأنها: عـــادي.. أهم شي باركت لعبّود وباقي الأهل.. وصورت معاهم
تَساءَلت وهي تُسْنِد رأسها بيدها: مساتنس عبد الله؟
حَرّك رأسه: حـــدّه "وبضحكة" وَيهه شوي وينشق من الابتسامة
ابْتَسَمت بسعادة: الحمد لله.. الله يهنيهم يارب "أَفْصَحت" شكله كان يحبها
اسْتَفسرَ وهو يتناول قنينة ماء: شدراش؟
وَضَّحت: شفته جم مرة معاها.. وعيونه كانت تسولف وهو يطالعها
ضَيّق عيْناه وبابْتسامة مائلة: وحضرتش تعرفين تقرين عيونه؟
ارْتَفَع حاجِباها: طَبعًا
قَرَّب وجهه منها مُتسائِلاً بمُشاكسة: وأنا ما تعرفين تقرين عيوني؟
ابْتَسَمت: أحاول.. بس كل ما جيت أبدأ أنسى نفسي وأضيع فيها
ارْتَشَفَ من القِنّينة وهُو يَرمش بغرور مُصْطَنَع أَضحكها.. تراجعَ للخلف إلى حيث اسْتَقَرَّت حافظات الطّعام.. تَساءَل وهو يفتح واحدة: يوعانة؟
أَجابت وهي تَسْترخي في جلوسها: لا.. بس عطشانة "مَدَّ لها قنينته فتناولتها منه.. ارْتَشَفَت رَشْفتين.. تَأمَّلته لثواني وهو يقضم من إحدى الشّطائر.. ثُمَّ نادتهُ بهدوء" طَلال "هَمْهَمَ بجواب فتساءلت بحذر" كلّمت رائد؟
ابْتَلَع اللقمة وملامحه اكْتساها جُمود لَم تَسْتَنكره.. مَرَّرَ لسانه على شَفتيه قَبْلَ أن يُجيب بحدّة وهو يُقَرِّب الشَطيرة من فمه: لا
سؤال آخر: ليش؟
عُقْدة تُهَدِّد بالغضَب تَوَسّطت حاجبيه وبأمر: نور سدّي السالفة
تجاهلته وهي تَتَقَدّم للأمام لِتقول: طَلال، كل اللي لاحظناه يشير إلى إنها أختك.. اسمها وعمرها وقصتها.. هذا غير النظرة اللي وجهتها لك واللي وصلتنا لهذي النتيجة
نَطَقَ بحدّة وعَيْناه تُهاجمانها: مو إختـي.. هذي مو إختــي.. لا تقولين إختي.. ما أتشرف تكون إختي بهالشخصية
عَقّبت بتأنيب: طلال ما يصير تلومها وإنت ما تعرف شنو ماضيها.. إنت ما تدري البنية شنو واجهت في حياتها.. ما تدري شنو كانت ظروفها.. وأصلاً ما يصير تحكم على الشخص من شكله.. غلـط
أَفْصَح: لا والله مو بس على شكلها.. حتى تصرفاتها وطريقة عيشتها.. عَيل في وحدة عاقلة تتزوج بالسر! لا وتبي تغير اسمها وتبي تنتقم "تهكّم" تظن إنها عايشة في فيلم حضرتها
كَرّرت بحدة: قـلـت لك إنت ما تدري شنو ماضيها.. التمس لها العذر
حَرّك يده بمَلل والاشمئزاز يَطأ ملامحه: أقول فكّيـنا من سيرتها.. خلاص سكري الموضوع ولا تييبين طاريه مرة ثانية
الْتَزَمَت الصَّمت وهو أيضًا.. السُّكون يَلف المَكان ما خلا نَغم الموج المُتلاطم بخفّة وهَمس نَسيم المَساء.. القارَب يَتهادى على الماء كالمهد الذي تُحَرِّكه الأُم لِتَقَر نَفْس صَغيرها.. عَيناها مُتَعلقتان بالقنينة التي في يدها.. وهو سارحٌ في البَحر.. حَرَّكت بَصرها إليه وبهدوءٍ نَطَقت مُزَعزِعةً ضَميره: ترى عندك أمل كَبير إنّك تلتقي بآخر ذكرى بَقت لك من أمّك



سَأَل بَعْدَ أن تَحَرَّكَت المَرْكبة: شخبـار العرس؟
أَجابت جَميلة بابْتسامة: مـا شاء الله شي جَميـل ومرتّب.. واضح متعوب عليه.. والمعاريس يجننون
أَضافت فَرَح بنبرة ذات معنى وهي تحشر نفسها بين المَقعدَيْن: وإخت المعرس بعد تجــنن
رَفَع عَينيه للمرآة وبتساؤل: أم عبد الله؟
جَميلة وهي تَتَبادل النظَرات مع فَرح وبابتسامة جانبية: اي.. أم عَبد الله
عَقَّبَ ببساطة ونبرة عادية: زيـن.. عسى أيامهم كلها أفراح
أَدارت جَميلة جَسدها بالكامل لتُفْصِح عن سؤال: عزوز من صدق كلش ما تفكر تطاوع أمي وتخطبها؟
عَقَدَ حاجِبَيه: أخطب من؟
فَرح بحَماس: خالوو غيداء.. أم عبّود الصغير
ارْتَفَعَ حاجبه وبسخرية: ومن قال لكم إن أمي تبيني أخطبها؟ إذا تذكرون هي غيّرت رايها بعد كلام غيداء عن عمّار
جَميلة بتنبيه: بس ترى ما شالت الفكرة كلها من راسها.. عندها أمل إن غيداء مُمكن تغيّر رايها وإنت بعد
قالَ لِيصدمهما: أنا غيّرت رايي.. خصوصًا يوم شفتكم متقبلينها وحابينها.. بس غيداء مُستحيل تغير رايها و احترم هذا الشي.. وفاءها لزوجها المرحوم شي عظيم ومن حقها ما تتنازل عنه
عَقَّبَت فَرح بقهر طَفيف: يعني يوم إنّك وافقت صارت العقبة هي البنت؟ شي يقهر صراحة
ضَحَك وهو يُقول ليُداعبها: بابا فرح ما لاعت جبدكم من سالفة زواجي؟ خصوصًا إنتِ وحمّود.. كنتوا شاهدين على كل الزواجات.. وبعد اللحين تبيني أتزوج!
أَكَّدَت: اي يبه.. أبيك تتزوج.. خــاطري.. والله خاطري أشوفك مستقر مع زوجة "وبخجلٍ أضافت" خاطري أشوفك تحب
اعْتَلت ضحكته: يا عمري يا فرح.. هالكثر تعبانة من قَحطي العاطفي؟
حَرّكت كَتفها وهي تُخفض رأسها وفي داخلها تشتم نفسها التي تَجَرَّأت: لا يُبه.. بس يعني أقصد.. أبي أشوفك مع وحدة تحبها وتحبك وتهتم فيك.. مو بس مشغول معانا وناسي نفسك
قالَ بحُب وعَيناه تَنتشي بمشاعر الأبوّة: بعد عمري والله لو أظل طول العمر أقابلكم وأداريكم وأهتم فيكم بعيش مرتاح ومستانس
ابْتَسَمت لهُ جَميلة بوِد: عيش مرتاح ومستانس ومعاك زوجتك
مَرَّرَ لسانه على شَفتيه وهو يَشد على المقود.. التَفَتَ لها لثواني ثُمَّ أَرْجع بَصره للطَّريق هامِسًا: إذا الله كاتب لي الزواج مرة ثانية والاستقرار.. فالحمد لله على تدبيره.. بس غيداء "صَمت للحظات ثُمَّ أَكْمَل بخفوت" شلتها من بالي بنفس السرعة اللي حطّيتها فيه.



شَدَّت رَبْطة رداء النَّوم جَيِّدًا حوْل خِصْرها.. تَحَرَّرَت من ثِقْل الفُستان وها هي تُعَلِّقه بترتيب وعناية في زاوية خاصة في إحْدى الخزانات.. نَظَرَت لانْعكاس وَجْهها في المرآة.. مَسَحَت كُل المَساحيق عنه.. لِوَهلة شَعَرت وكأنَّ عُلْبة من أَلوان صَبَغت وَجْهها.. لَطالما أَحَبَّت أَن تَتَزيَّن بطريقة ناعِمة تُبْرِز الملامح لا تَطمسها ولا تُكَدِّس فَوقها عشرات الطَّبقات التي تَخنقها وتَضَرّها.. لكن شَقيقتَيها أَصَرَّتا أَن يكون المَاكياج أَثْقَل من المُعتاد.... فهي "عَروس"! جَفَّفَت شَعرها بالمنشفة بخفّة ثُمَّ تَركتهُ يَسْتريح على ظَهرها بما تَبَقَّى فيه من بَلل؛ فَلَقَد شُدَّت خصلاته للأَعلى لساعتٍ طَويلة.. أَلْقت آخر نَظرة على نفسها، ثُمَّ غادرَت عُرفة المَلابس إلى غُرفة النّوم.. في الوَقت الذي فُتِحَ فيهِ الباب كاشِفًا عن دُخوله.. تَبَاطَأت خطواتها حتى تَوَقَّفَت.. ابْتَسَمَ لها وهُو يُغْلِق الباب.. مَشَى إليها والعَيْنان غارِقَتان في حوارٍ صامِت.. اسْتَقَرَّ أَمامها تارِكًا خطوة.. يُمناه سَكَنت جَيْب سرواله مُسْهِبًا في التَّأمّل.. هي الأخرى تَأمَّلته.. كان شَعرهُ مُبَلَّل أَيضًا.. يبدو أَنَّه اسْتَحم في إحدى دورات المياه الخارجية.. مَلابس نوم قطنية.. عِطر رِجالي خَفيف.. مَلامح وَسيمة نَظيفة.. عَيْنان تُغازِلانها بالنَّظَر.. وابْتسامة مُلْفِتة. شَطَبَ الخطوة.. هُنا ارْتَبَكت أَهْدابها.. فَقَد انْعَدَمَ الأَمان وأَصْبَح الخَطَر أَمْرٌ حَتمي.. ارْتَجَفَ جَسَدُها عندما شَعَرت بمَلمس ذراعه حَوْل خِصْرها وبحركة سَريعة تَراجعت خطوة للخَلف.. ارْتَفَعَ حاجبه وابْتسامته اتَّسَعت.. عادَ ومَحى الخطوة، ولكنّها عادت وحَشَرتها بينهما.. ضَحَكَ مُسْتَنكِرًا: لا والله! قاعدين نلعب؟
رَفَعت يَدها قَليلاً وبَسَطتها أَمامه وهي تَطلب بخفوت: خل بيننا مسافة
ضَيَّقَ عَيْناه هامِسًا وابْتسامته تَتكئ على مُنْحَدَرِ الخَبَث: ما أعتقد المسافة بتساعد هذا الليل على تَحقيق المُراد منه
تَخَصَّرت وهي تُقَلِّده قائلة: لا والله؟
تَقَدَّمَ ببطء شَديد وهو يَستعين بحَديثٍ طَويل يُشْغلها به: اي والله.. يعني تبين تكسرين بخاطر هالليل وتخلين المسافة حاجز فيما بيننا؟ كفاية الشهرين اللي طافوا واحنا واحد شرق والثاني غرب.. مو معقولة نَخيِّب القَمر وهو سهران ومتْعَنّي واقف عند دريشتنا! اعطي الليل والقَمر مُبتغاهم وحنّي عليهم شوي.
أَنهى جُملته وبالتَّوالي أَحاطَ خصرها شادًّا عليه بكلتا ذراعيه.. تَجَمَّدَت ملامحها وفي ثواني غالتها حُمْرة جَلِيَّة أَضحكته.. هَمَسَت بِحَنق: لا تضحك "بَرَّرَت لنفسها" ترى أنا أُنثى واستحي
عَقَّبَ بهمس وهو يُطارد زُمُرّدتيها بتَوق: أدري إنّش أنثى.. وأدري إنّش تسحتين.. بل حاليًا بتذوبين بين ايدي من الحَيا.. بس تكابريـــن
رَكَّزَت عَيْنيها في عَيْنيه مُحاولةً إثبات عَكس ما قاله... ارْتَدَت قناعٌ من الضِّيق... وبنبرة تَدَّعي فيها المَلَل تَساءَلت: اللحين إنت شتبــي؟
حَرَّكَ رَأسه يُمنة وشِمالا وهو يُخفي ضحكته.. لا فائدة منها.. يُستحال أن تُبيِّن هَشاشتها.. تَأبى أن تَخلع عَباءة الكِبرياء والغُرور مهما حَصَل.. لكن سَنرى. تَحَرَّكت يُمناه قاصِدةً وَجْهها.. وبِظاهِر سَبّابته مَسَّ شَفتيها بلَهْوٍ ومُشاكَسة.. تَكَهَرَبت بوضوح مما تَسَبَّبَ في امْتعاضها.. رَفَع بَصره إليها واسْتخفافٌ يُحاوط جِفْنَيه.. كَزَّت على أَسنانها بغيظ من خَجلها المُتزاحم داخلها وعلى وَجْهها وَبين أَوصالها.. وكذلك من نَظراته وَأفعاله المُسْتَفِزّة.. حَسنًا عبد الله.. تُريد أن نَلعب؟ تُريد أن تُنافسني لِتُسقطني أَرْضًا مُضَرَّجة بِخَجلي؟ أَتُريد ذلك فعلاً؟ حسنًا.. سَنتنافس وسَنرى من الفائز. طَرَدَت فُتات الغضَب وتوابعه عنها.. وبشبه جُرأة أَحاطت عُنقه بذراعيها وجَسدها يَلتصق به.. هَمَسَت وهي تُكَحِّل عَيْنيها بسِحْرٍ جَذَّاب: تَمــام.. خلنا نسْعد الليل والقَمر
تَقَوَّسَت شَفتاه بتقييم لردَّة فلعها قَبْلَ أن يهمس بسؤال ويده تُبعد خصلاتها عن جانب وَجهها: لأي مَدى نسعدهم؟
اسْتَنشقَت نَفَسًا عَميقًا.. داعَبت بأناملها خصلات شَعره الغافية فَوْق عُنقه من الخَلف.. أَجابت بخفوت وهي تَشعر برُوحها تُنار من أَلَق عَيْنيه وهُما تَتَأمَّلانهِا: للمَدى اللي يخلينا نوصل لهم.. للسما اللي تحتضنهم.



مُسْتَلْقٍ على جانبه باتِّكاءٍ على مرْفقه.. وهي قبالته مُتّخذة الوَضعية نَفسها.. وَوَسَطهما تَقْبَع ثَمَرة الحُب الذي غَرَسَ بذورها بَسّام واعْتَنى بها لأعوامٍ وأعوام حَتى ظَفَر بها. هَمَسَت بضحكة: ترانا مَجانين.. صار لنا أكثر من ساعة نطالعه
وهو يهمس مثلها حتى لا يُزعجان نَوْم الصَّغير: آية من آيات الله.. خل نتأملها ونتفكَّر فيها
قالت وهي تُنْقِل بَصرها بَيْنه وبَيْن الصَّغير: اللحين بعد ما توضَّحت ملامحه بَيَّن إنّه يشبهك أكثر
أَصْدَرَ صوت مُعارِض من بين شَفتيه ثُمَّ قالَ وهو يُشير لذقن ابْنه: يشبهنا اثنينا بنفس المستوى.. شوفي ذقنه.. بالضبط نفس رسمة ذقنش "انتقلَ إصْبعه إلى ما بَين حاجِبَيه" واهني بعد مثلش بالضّبط.. حتى إذا يصيح ويكشّر يشبهش أكثر "وأضافَ أخيرًا" ورسمة وجهه نسخة من رسمة وجهش
ابْتَسَمت مُعَلِّقةً والحُب يَسْبح وَسط مُقلتيها: تمـووت على التَّدقيق.. يعني هالأشياء يمكن محّد ينتبه لها
بثقة: بس أَنا انتبه لها
أَكَّدَت: اي.. من يوم احنا صغار
تساءَل بعد تَردّد دامَ لثواني: تذكرين طفولتنا؟
عَقَّبَت بصراحة: أذكر إنّك كنت لَزْقـــة
اتَّسَعت عَيْناه مُتفاجِئًا من كلمتها التي لَم يتَوَّقَعها، كَرَّرَ باسْتنكار: لَزقة!
وَضَعت يدها على فمها تُخفي ضحكة ثُمَّ قالت بتوضيح: كنت أكبر مننا.. بس غصب تبي تلعب معانا.. وما ترضى ألعب مع باقي الصبيان.. يعني مسوي روحك مثل أخوي
هو الذي لَم يَتجاوز وَقع الكلمة الذي ضايقته بطريقةٍ ما: لزقة عاد! يعني كنت شخص مُزعج وكريه بالنسبة لحَنين الصَّغيرة؟
عَضَّت على شَفتها السفلية قَبْلَ أن تُجيب بِحَرج: آسفة.. بس اي.. ما كنت أتقبّلك
هَمْهَم وهو يُبْعِد بَصره عنها.. شيءٌ انْكَسَر داخله.. يعلم أَنَّهُ يُبالغ.. فهي كانت طِفلة وقَد مَرَّت سَنوات طَويــلة على تلك المواقف والمَشاعر أَيضًا.. لكن على الرغم من ذلك كلمتها آلمته وَوَخزته.. هو لَطالما تَرَدَّدَ في الإفصاح عن هَوِيّته وعن سِر حُبّه.. ولطالما لامَ ذاته على جُبْنها.. لكن الآن شَكَرَ رَبّه سِرًّا.. فهو في تلك الفترة لو صارحها بما يختلج في قلبه من مشاعر عَميقة واندفاعية.. لَرُبَّما أَصْبحَ الوَخز حينها طَعنة لا عِلاج لها. انْتبه لصوتها.. رَفَع عَينيه إليها بصمت وهي تَساءَلت بأَسَف: بَسّام ضايقتك؟
ابْتَسَم بخفّة: لا.. بس ما توقعت.. أنا كنت أدري ما تتقبليني.. بس ما كنت أدري إن هذا السبب.. آسف إذا كنت أضايقش باهتمامي
مَدَّت يدها ولامست خَدّه برقّة ومَلَق وهي تهمس: حَبيبي ما يحتاج تتأسف.. كنا صغار وبعدها مراهقين.. مشاعرنا ما كانت مستقرة.. يكفي اللحين إنّي ما أقوى على فراقك
اتَّسَعت ابْتسامته.. قَرَّبَ يَدها من فَمه.. طَبَع قُبْلة في باطنها.. ولَم يُضِف كَلمة واحِدة.. لا زال مُتَرَدّدًا.. ولا زال حُبّه غير مَرئي.




يتبع


simpleness 04-06-19 05:13 AM

رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
 


أُغْلِقَ المَخْبَز في وَقت مُتأخِّر.. فالليلة إجازة نهاية الأسبوع والرّواد كانوا كَثيرون.. وهُم مِنَ الأَساس قَد ازداد عَدَدهم في الفَترة الأَخيرة.. وكأنَّ أَحَدهم قَد أَعْلَنَ للمَخبز! هي كعادتها في الإجازات تُمَدِّد ساعات العَمَل إلى منتصف الليْل.. لذلك تَصِل إلى الشِّقة والساعة في بعض الأحيان تكون قَد اقْتَرَبَت من الواحدة. تَوَقَّفَت أَمام الباب.. أَخرجت مفتاحها.. حَشرته في القفل.. أَدارته ولكنّه لَم يَسْتَجِب لها.. وكأنَّها عالِق! أَخرجته ثُمَّ أَعادت الكَرَّة ولا نتيجة.. هَمَسَت باسْتغراب وهي تُقَلِّب المفتاح وَسط كَفِّها: شفيـه!
تَناولت هاتفها من الحقيبة.. اختارت رَقْم حارس العِمارة.. انْقَطَعَ الرَّنين ولا مُجيب.. هَمَسَت لنفسها: أكيد نايم هالحزّة "زَفَرت ويَدها تَسْتَقِر على جَبينها بحيرة" اللحين شسوي؟!
أَدَخَلت المفتاح من جَديد.. حاولت وحاولت ولكن بلا فائدة.. سَحبته مُتأفِّفة بعصَبية: شهالحالة بعد!
أَصْدَرَت صوت ضائق من بَيْن شَفَتيها ثُمَّ اسْتَدارت.. تَحَرَّكت خطوة.. وقَبْلَ أن تُلْحقها بالثانية اسْتدارت سَريعًا والصَّدمة تُصَلِّب أَطْرافها.. أَحدهم يفتح الباب من الدّاخل! اقْتَرَبَت ببطءٍ شَديد يُغَلِّفه الخَوْف.. تَحَفَّزَت نَبَضاتها وعَيْناها مُعَلّقتان بالمقبض الذي انْخَفَض.. ازْدَرَدت ريقها بترَقّب وطبولٌ تَزْعق داخلها.. ثانيَتان ونعيق غِرْبان عَطَّلَ جَميع حواسها.. فَوَجْهه الشُّؤم قَد جَثَمَ على بَصَرها المُسْتَنكِر. قالَ بملل وهو يُراقب جُحوظ عَيْنيها الفَزِعَتَيْن: صار لي ثلاث ساعات انتظرش.. ما صارت مخبز!
هَمَسَت بصوْتٍ ضائع: إنـ ـت.. شلون.. دَخلت!
حَرَّك كَتفه وببساطة أَجاب: عطيت الحارس جم فلس وغيّر لي القفل "رَمى عليها مفتاح وهو يُرْدِف" هذي نسختش
الْتقطته بَيَدَين مُرْتَجِفَتَين ثُمَّ نَظَرت إليه من غير تَركيز.. فعقلها إلى الآن لَم يَسْتوعب صَدْمة وجوده في شِقّتها.. ولثلاث ساعــات! رَفَعت عَيْنيها إليه عندما تَساءَل: بتظلين واقفة برا؟
اسْتَفْسَرت وهي تُجاهِد لِترشيح ملامحها من أي علامة تُثير شُكوكه: ليش جاي؟ شنو تبي؟
أَشارَ للدّاخل بِصَمْت.. تَرَدَّدت ولكنّها في النهاية اسْتجابت وتَحَرَّكَت وهي مُذَيَّلة بِخِرْقَة شَجاعتها.. قابَلتهُ عندما أَغْلَقَ الباب وأَقفله.. تَقَدَّم منها وهي تَتَفَحَّصه بنظراتها التي كما لو أَنَّها في سباق ماراثوني.. ثَوْبه به بعض الطّيات دَلالة على اسْترخائه في الجلوس ولفترة ليست بالقَصيرة.. الأزرار عند الرَقبة كانت مَفتوحة.. شعره المَطموس سَواده بالشَّيْب كان مُبْعَثرًا قَليلاً.. فهي قَد الْتَقَطَت بِعَيْنيها عند دخولها غترته مُلقاة على إحْدى الأرائك.. يبدو أَنَّهُ قَضَى الثلاث ساعات وكأنّه في منزله! وَقَفَ أَمامها ونظراته تَسْلخانها بجموح.. كان وكأنَهُ يَلْمَسها بِعَيْنيه القَذِرَتَيْن.. رَفَع يَده على غَفْلة منها ومَسَّ وَجْنتها.. حاولت أن تَبْتعد عنه وبصعوبة اسْتطاعت دُون أَن تُبَيِّن حَقيقة نفورها.. وَضَّح وهو يراها تُخْفِض حَقيبتها على الأريكة: قلت أجي أشوفش وأتطمن عليش.. صار لش شهرين حاقرتني.. حتى اتصالاتي ما تردين عليها
قالت وهي تجلس: كنت مشغولة
وهو يَجلس أَمامها مُعَقِّبًا بنبرة مُسْتَنكِرة: مشغولة لدرجة إنّش ما تكتبين لي هالكلمة اللي ما تاخذ خمس ثواني! لو كتبتينها لي كنت بفهم وبتركش على راحتش
بجديّة: كنت تقدر تفهم هالشي من عَدَم ردّي وغيابي
حَرَّكَ رأسه ينفي: لا للأسف ما فهمتها جذي.. فهمت إنّش تهربين مني
ارْتَفَعَ حاجِباها: أهرب منّك! وليــش إن شاء الله!
بابْتسامة غُرور وثقة تُثير الغَثيان: يمكن اكتشفتين إنّش ما تقدرين تجابهيني فقررتين تنسحبين وتفضّين الشراكة قبل بدايتها
مالت شَفتاها بسخرية عَظيـمة وهي تُعَقِّب ضاربةً على وَتَره الحَسّاس: للحين ما عرفتني يا سلطان.. أنا أقدر أجابه اللي أكبر منّك
ارْتَجَفَ عِرْق كبرياؤه وامْتعاضٌ بَسيط شاكَسَ ملامحه.. رَفَعَ صدَره بحركة طَبيعية اعْتاد عليها: وهل في أكبر منّي!
أَرجعت ظَهرها للخَلف باسْتناد.. أَرْخَت ساق على الأخرى.. بَطَّنَت نَظراتها بكَيْدٍ خَطير وهي تُجيب بكلمة واحدة.. أو باسْمٍ واحد: فِرْناندو
ذهول ساحِق أَوْسَعَ عَيْنَيه وشَدَّ مَلامحه: نَعــم!
كَرَّرَت وهي تنطق الأحرف ببرود: فِـــرْنــــانــــدو.. مانويل فِرْناندو
قالَ بِتَأتأة والاسْم قَد صَعِقَه: بــس... بس.. فرناندو مــات!
وشَفتاها تَتَعَلَّقان بِمَشْذب المَكْر: ومن تعتقد بعد موته فاز بنصف ثروته؟
وَقَفَ والصَّدمة حاديه.. فاغِرٌ فاهه وشارِعٌ باب عَيْنيه.. وملامح الكِبرياء والعَظمة قَد انْخَسَفت على وَجْهه.. هَمَسَ بلا تَصديق: مُسْتحيل... مُسْتحيـــل!
بَصَقَت عليه سؤال أَشَلَّ لسانه بنبرة حَوَت معانٍ كَثيرة: للحين تعتقد إنّي وبمخبزي المتواضع ما أقدر أجابهك؟



صَباحٌ مُتَسَرْبِل بالبَياض وزَهْرَ الخَجل المُقَبِّل خَدَّيها القُطْنِيَّين.. لحظة.. إنَّهُ مَساء.. فالسَّاعة قَد تَجاوزت الثانية عَشر والنصف ظُهرًا.. هي اسْتَيقظت على صَوْت المآذن.. كانت وَحيدة على السَّرير، بَحثت عنهُ في الغُرفة ولَم تَجِده.. لذلك أَسْرَعت إلى دَورة المياه قَبْلَ أن يَظهر لها من العَدَم.. اسْتَحَمَّت وصَلَّت ثُمَّ أَرْخَت على جَسَدها ثَوبًا أَبيض تَفيض منهُ الرِّقة.. تَزَيَّنت بزينة ناعــمة.. رَتَّبَت شَعْرها بتموجاته الطَّبيعية على كَتفها.. وأخيرًا تَطَيَّبت بعطرٍ من الوَرد. نَظَرت للباب والتَّرَدّد أَتخَمَ عَيْنيها.. شَدَّت على كَفَّيها حتى احْمَرَّتا وبالتوالي اصْطَبَغ وَجْهها باحْمرارٍ باهِت وذاكرتها تعود لساعاتٍ كانت كحُلمٍ سَماوي.. حَلَّقَت فيه رُوحها بكل خِفّة وراحة وحُب. ارْتَجَفت بمُفاجأة من صَوت طَرق الباب.. ازْدَرَدت ريقها بصعوبة عندما وَصَلها صَوته: مروة ليش الباب مقفول؟
حاولت أن تُجيبه لكن صَوتها لَم يُعِنها.. ازْدَرَدت ريقها من جَديد.. يا إلهي منذ متى وأنتِ تَخجلين هكذا مروة! نَظرت لوجهها في المرآة.. الأحمر الباهت أصْبَح قانٍ.. لا يُليق بكِ مروة أَبدًا.. لا يُليق بكِ الانهزام! شَدَّت جذعها مُحاولةً رَكلَ انْحناءة الخَجَل عن كَتِفَيها.. مَرَّرَت لِسانها على شَفتيها المَطلِيَّتَين بلون صَباحي مُريح للنَّظر.. ثُمَّ نَطَقت بنبرة بالكاد يَسمعها من هُو معها في الغرفة: كنت.. أبدّل
لَم يَصلهُ صَوْتها لذلك أعاد الطَّرق مُناديًا: مروة! إنتِ تسمعيني؟
تَأففت بضيق وهي تَتَحَرَّك للباب.. تَكره هذه المواقف.. تَكره هذا الإحساس الأَشْبه بالرَّفرفة الناعِمة في صَدرها.. تكره صوته.. كلماته الهامسة.. وقُبلاته.. أَغمَضَت وهي تَتَحَرَّر من تَنهيدة طَويــلة.. ثَبَّتَت خصلاتها خَلْف أذنها قَبْلَ أن تُمْسِك المِقبض بِيَد.. والمفتاح باليَد الأخرى.. فَتحَت القفل.. ثُمَّ شَرَعت الباب فَتقابَلا.. ابْتَسَمَ بخفّة وهو يَبدأ بِمُمارسة هِوايته الجَديدة.. التَّأمل.. تأملها.. تأمل زَوجته وَحليلته.. زاهِية هي بالأَبيض وناعِمة كَغيمة. اقْتَرَبَ منها.. حَبَسَت أَنفاسها وأَرْخَت جِفْنَيها أَكثر حتى تَتَفادى أَي اصْطدام مع عَيْنيه.. حَياة جَديدة بُثَّت داخلها من قُبْلته التي لاطَفت جَبينها.. سَألت ذاتها بِصَمت.. هل أَنتِ فعلاً تكرهين قُبلاته؟ ابْتَعَدَ قَليلاً لِيَهمس وهو يُراقب ارْتباك أَهدابها: صَباح الخير ومَساء الخير
تَنَحنَحت قَبْلَ أَن تهمس: أرد على أي وحدة؟
اتَّسَعت ابْتسامته: اللي تبين
رَدَّت وبَصرها مُتَشَبِّث بقميصه: صَباح النور
قالَ وهو يُشْبِك يَده بيدها: سويت لنا ريّوق متأخر "خَطى وهي تَبعته" أبيش تاكلين عدل.. البارحة مو متعشية وأتوقع بعد ما كنتِ متغدية
لَم تُعَقِّب على كلامه.. هي فعلاً جائعة.. تتمنى أنَّ الطعام قابل للأَكل! بلباقة جَرَّ المَقعد لِتَجلس.. شَكرته بهمس وهي تَتَفَحَّص الطاولة.. اسْتَنَكرت: من بياكل كل هذا!
وَضَّحَ: ما أدري شنو تحبين بالضبط.. وكنتِ نايمة.. ما بغيت أزعجش "أشارَ للأطباق" اكلي اكلي.. واللي يبقى بنتصرف فيه
سَمَّت بالله ثُمَّ بَدأت تَأكل تَحت نَظراته.. كان يُدَقِّق في وجهها وهي تَمضغ اللقمة.. يُريد أن يَستنبط من ملامحها رَأيها في المذاق.. لكن مَلامحها كانت ثابتة.. لَم يَلتقط رَدَّة فعل واحدة.. لذلك تَساءَل: هـا شنو رايش في طبخي؟ "انتقلت عَيناها للأطباق ونظرة اسْتصغار تَكسوهما.. تَعَجَّب" ليش جذي تطالعين!
أَجابَت: عـادي يعني.. إلا ريـووق!
ابتسم: أَدري.. بس تعبان عليه "أشارَ لأحد الأطباق" هذا الأومليت سويته بطريقتي الخاصة والسّريّة
هَمَسَت: حلو.. تسلم ايدك
رَدَّ بمُشاكسة: مع أن الجواب ما أرضاني.. بس بسامحش اليوم "واصَلت أكلها ولم تُعَقِّب بكلمة.. هي حتى لَم تنظر إليه.. مال قَليلاً لِيُطِل في وجهها" مروة "لوَّحَ أَمام عَينيها وبحركة عفوية أَشاحت وجهها عنه وهي تَضع يَدها حاجِزًا بينه وبين وَجْهه القَريب.. اعْتَلَت ضحكته مُعَلِّقًا" أوف أوف.. كل هذا حيا! " لَم تجبه وَشعب الاحمرار عاد لِيَسكن وَجْنتيها.. اسْتَفسرَ بمُزاح" زين متى مقررة ترفعين عيونش وتطالعيني؟
أَجابت مُباشرة وبجديّة: عقب أربع شهور
انْفَجَرَ ضاحِكًا بعلو اسْتَفَزَّها.. يَسخر منها.. يَسخر منها بعد الذي فعله.. هُو سَبَب هذا الخَجل البَغيض المُقَيِّد شَخصيتها الحَقيقية.. ومع هذا هُو يَضحك! قالَ وهو يُحاول أَن يُسَيطر على قَهقهته: واااجد أربع شهور.. خفضيهم لشهر على الأقل
احْتَدَّ صوتها: تتطنز؟
أَجابَ: ايـــه.. مثل ما إنتِ تتطنزين
أَكَّدَت: ترى ما أتطنز.. من صدق قاعدة أتكلم
والضحكة تعود لتُشاغبه: أرجوش مروة.. ما أقدر أضحك أكثر "تَجاهلته واسْتَأنفت تناول طَعامها.. هُو الذي لَم يَأكل حَرَّكَ يَده وبرقّة مَرَّرَ ظاهر أصابعه على خَدّها.. وبهمس ذا مَعنى" اهني يبيَن شكثر فترة الخطوبة مُهمة.. عشان الخجل يكون معتدل.. وعشان العيون ما تحرمنا من زمردها "تلقائيًا اسْتجابَت لكلماته ورَفعَت عَيْنيها إليه.. ابْتَسمَ بسِعةٍ ورِضا وهو يَهمس بوَله" حَــيّ الله.. الأربع شهور مرّوا في ثواني.. اللحين صار لنهارنا لـون
داعَبَ طَرف رِمشها بخفّة.. ثُمَّ أبعد يده وبدأ بالأَكل.. مَرَّت دقائق صَمت بَينهما.. هي سارحة في طَبقها.. تَسْبَحَ في بَحْرٍ من أَفكار شَديد المُلوحة اتَّخَذَت عَهدًا على نَفسها أن تُسْقيه منه.. وأن تَفتح في ذاته جُروحًا تَنثر عليها أملاح ذلك البحر.. فَقط لِتَطعن بَلقيس. التَفَتَت إليه.. انتبه لها.. ابْتَسَم.. ابْتسامته السَّمْحة.. حاولت أن تَبْتلع ريقها لكنّها لَم تَسْتَطِع.. فَلَقد عارضتها غَصَّة تَحَجَّرَت في حَلْقها.. كُن قَاسيًا عبد الله ولا تَكُن رَحيمًا.. ابْصق عَليّ الشَّتائِم فَشَفَتاي لَم تَعتادان عَلى أَن تُصْمتهما قُبْلة.. اجْلدني بنظرات عَيْنيك.. تَجاهلني واصْنع مني كائنًا لا يُرى بالعَين العَطوفة.. اكرهني فلا تَقوى رُوحي على غَيث حُبِّك.. يَكفيها ما أَبَلَّها من دُموع الفَقد والنَّوح على أُمٍّ مَظلومة.. لا أُريد أَن اسْتسلم عبد الله.. لا أُريد أن ارْفع مِنديلاً أَبيض ولا أَن أُصافح سَلام عَيْنَيك.. ساعدني لأكرهك.. ساعدني لأنتقم.
أَشارَ للطعام وبأمرٍ حَنون: اكلي.. أبي أشوف كل الصحون فاضية
رَمَشَت.. ارْتَعَشَت شَفَتاها من شَبَحِ ابْتسامة.. ثُمَّ هَمَست: إن شاء الله



السُرعة تجاوزت المئة والأَرْبعون، يَنتقل من الجانب الأيسر إلى الأوسط ومن ثُمَّ إلى الأيَمن.. وأَخيرًا يَعود إلى الأيسَر وبذلك يَكون قَد تَجاوزَ جَميع المَرْكبَات التي تُعارض سُرعته. عندما اقْتَرَبَ من الدّخول إلى الحَي المَقْصود تَناولَ هاتفه.. اخْتارَ الأَرْقام بأصابعه المُرْتَجِفة، عَيْنٌ على الشّاشة والأخرى على الطَّريق.. تَجاهلَ الإشارة التي احْمَرَّت وزاد من سُرعته حتى تجاوزها قَبْلَ أن تَنطلق السَّيارات على الجانب الآخر.. وَضَع الهاتف على أُذنه والرَّنين بالكاد يُنافس نَبَضاته.. جاءَهُ الرَّدُ بَعْدَ ثوانٍ لِتنالَ منهُ رَعْشة أَشْعَلت الحَطَب الذي قَذَفهُ الخَبَر داخله.
: هلا فيصل
قالَ بلا مُقَدِّمات ونَبْرته المُرْهِبة تَشي بأمورٍ وأمور: خَمس دقايق وأنا عند بيتكم.. اطلعي برا
ارْتَفَعَ حاجِبَاها على الطّرف الآخر بِتَعَجُّب: ليــش! مو المفروض اليوم جَنى تنام معاك؟
وَضَّحَ لها: جَنى مو مَعاي.. أنا جاي بروحي
تَساءَلت وخَوْفٌ بَدأ يَتَسَلَّلَ إليها من صَوْته: فيصل شصاير؟ بنتي فيها شي؟
أَجابَ بحدّة: لا.. بس الموضوع يخصها
كَرَّرَت والتَّوجس أرْفَع صَوتها: شصايــر!
هَمَسَ من بَيْن أسنانه بنفاذ صَبْر: جِنان أنا قريب من البيت.. اطلعي وبتعرفين كل شي "حَذَّرَ" ويُفَضَّل مَحّد يَدري إنّي جاي
أَنهى الاتّصال بَعد أن اسْتجَابت لأمره بهمسٍ مفزوع.. أَلقى الهاتف على مقعد الرّاكب وهو يَشَد يَده على المقود.. لا يَدري ما هي ردة فعله إذ هُو رأى وَجْهها.. لا يَدري كَيف سَيَتَصَرَّف.. لا يدري بأي الكلمات سَوف يَسْتَعين.. الخَبَر صَفَعَهُ بِصَدْمة.. بَعْثَرَ دواخله.. قَلَبهُ رأسًا على عَقب.. كَشَّرَ أَنيابه في وَجْه سَهوْه.. كَيف غَفَلَ عن موضوعها مع ذلك الأستاذ.. كَيف نَسِي نَظراته.. ابْتسامته وحَماسه الصارخ من ملامحه.. كَيْـــف؟!
أَوْقَفَ مَرْكبته أَمام مَنزل عَمَّته.. يَعلم اَنَّهمُ اليَوم يَجْتمعون على العَشاء.. جُود بَعد المَغرب غادرت منزلهم لتأتي إلى هُنا من أجل العَشاء.. جَميعهم إذن في الدَّاخل.. غادرَ المَرْكبة وأَنفاسه تَسْعر وصَدْره بارْتفاعه وانْخفاضه تَكاد عَضلاته أَن تَنفصل عنه بانْهيار.. كان الباب الخارجي مَفتوح.. دَخلَ فاصْطَدَمَ بَصره بِوَجْهها.. اشْتَدَّت قَبْضته وزلزالٌ من غَضَب نَزَل عليه في تلك اللحظة ومَلامحها التي أَفنت رُجولته أَعادتهُ بقسوة لساعاتٍ مَضَت.

،

مُتَحَلِّقون حَوْلَ طاولة طَعام الغَداء.. أَصواتهم وهُم يَتجاذَبون أَطْراف الحَديث تَعْلو على أصوات المَلاعق وهي تَصْطَدِم بالأَطباق.. الحَديث كان مُنَصَّب على الحَدَث الأهم لليلة الماضِية.. زَواج عَبد الله.. جُود كانت مُنْدَمِجة بِشَرح تَفصيلي عن القاعة وديكورها الفَخم.. المَسْرَح وخَلفيته.. الطاولات والمقاعد.. الزّهور ورائحة البَخور.. التنظيم والترتيب.. البوفيه والكَعكة والتذكارات.. وأخيرًا.. أَهم عُنصر في ذلك الحَفل المَلكي.. مَرْوة.
: حـــلوة ما شاء الله.. تجنن.. أختها الكَبيرة أجمل.. بس هي مُلفِتة "ضَيَّقَت عَيْنَيها وهي تُرْدِف بابْتسامة مائلة" وواضح إنها مغرورة
ضَحَكَت بَعد أن ارْتَشَفت من الحَساء: وشلون إن شاء الله عرفتين؟
شَرَحت: مَشيتها في الزّفة.. نَظراتها وابْتسامتها.. حتى يوم رحنا نبارك لها
نَهرتها والدتها: جُود عيـب.. هذي ثاني مرة تشوفين البنية.. مداش تحكمين عليها! السالفة مو سالفة غرور.. أكيد إنها مستحية
أَكَّدَت بثقة: بلى مغرورة.. صدقيني يُمّه "وبضحكة" نسخة ثانية من حَنينو
أَفْصَحت نُور: سارة بعد كانت تقول إنها مَغرورة.. أنا ما تعاملت معاها
بنبرة شَيْطانية: أتوقع بتكسر راس بلقيـس
هذه المَرّة فيصل هُو الذي قَرَّعها: إنتِ ما تستحين! حتى لو ما تحبينها تبقى مرأة عودة في عمر أمش.. ما يصير تتكلمين عنها بهالطريقة
تَوَسَّعت عَيناها بخوف مُصْطَنَع وهي تَشْهق: اسم الله على أمي.. شلون تشبّه أمي بهالأشكال!
زَجَرها والدها: جُــــود.. ابْلعي لسانش واكلي وإنتِ ساكتة
أَصْدَرت صوت ضائق من فَمها وهي تُتَمْتِم بهمس: الواحد ما يقدر يعبّر عن رايه براحة في هالبيت!
اسْتَمَرَّت تَتناول طَعامها بِصَمْت وهي تَسْتَمع لِحَديثهم المُمل بالنسبة لها.. فما المُثير في هذه الأَحاديث؟ مَكتب والدها.. مَصرف فيصل.. طَبيبة نُور الخاصة بالحمل والولادة.. تغيّرات الحَمل التي بَدأت تظهر عليها.. السؤال عن أحوال طَلال وتكيّفه مع العَمَل.. الاطْمئنان على ياسمين وحـ.. ارْتَفَع رأسها فَجأة وكأَنَّها تَذَكَّرت للتّو.. يا لكِ من بَلهــاء يا جُود.. كَيف تَنسيْن مثل هذا الخَبر العَظيـــم جدًا جدًا؟ هذا الخَبر لا يُنسى أَبدًا! ابْتَلعَت ما في فَمها سَريعًا ثُمَّ مَرَّرت لِسانها عَلى شَفتيها لِتَنطق بعدَ أن تَأكَّدت من غِياب جَنى التي ذَهبت لِتَلعب: أَتوقع قَريب بعد بيصير عندنا عرس ثاني
دارت عَيناها عَليهم جَميعًا.. علامات السؤال وعَدم الفَهم كَسَت مَلامحهم.. ما عدا مَلامح شَخص واحد، والدها.. والذي اسْتَنبط من نَبْرتها الماكِرة ونَظرتها المُتَرَكِّزة على فَيْصل ما سَتُفَجِّره.. شَزرها بِعَيْنيه ولكنّها ادَّعت أَنَّها لَم تَره وعادت وعَلَّقَت نَظَراتها بوجه فيصل الذي طَرَقَ التَّوجس بابَ قَلبه.
تَساءَلت نُور: عرس من؟ ما سمعنا أحد خَطَب أو وحدة انخطبت.. أصلاً ما في أحد! اللي بقوا كلهم يا في المدارس أو الجامعة
هَزَّت رَأسها وهي تنظر لها: امبلى في.. شنو نسيتين بنت عمتش! "وهي تَعود لِفَيْصَل حتى تَشْهَد على صَدْمته" شلون تنسين جِنــان؟
الأَنظار كُلّها تَعَلَّقت بفيصل الذي كان يُعاين الغَوغاء التي زَعقت داخله من الجُملة التي فَجَّرتها.. ارْتَبَكت يَده المُمسكة بالملعقة.. حاولَ أن يُخْفي هذه الرَّجفة التي باغتَته لكن والدته الْتَقَطتها بِعَين أُمومتها المُتَفَحِّصة.. عَقَّبَت نُور من بَينهم: إنتِ أَكيد غلطانة.. جِنان وعرس؟ مُستحيــل!
أَشارت برأسها لوالدها: أسألي أبوي.. المفروض يدري "وَجَّهت لهُ سؤال" بابا عمّتي كلمتك، صح؟
أَجابَ بِنَبرة مُقتضبة وهو يَدْفن غَضبه عَليها لِيَنتزعه في وَقت آخر: قالت لي إن اتصلوا يخطبونها.. بس للحين جِنان ما وافقت.. طَلبت إنها تفكّر
اسْتَفسرت نُور: من اللي خَطبها بابا.. نعرفه؟
تَحَرَّكت عَيناه لابْنه.. كان مُنَكِّسًا رأسه بِجذعٍ مُتَقَدِّم.. عُقْدة خَفيفة بَيْن حاجِبَيه ويَده الوَاهنة لا زالت مُتَشَبِّثة بالملعقة.. أَجابَ وهُو يُوزِّع نَظره عليهم: أستاذ في مدرسة جَنى.. اسمه ناد
دَوى صَوْت ارْتطام الملعقة بالطَّبق مُقاطِعًا حَديث ناصِر.. ثُمَّ أَتبعهُ صَوْت احْتكاك أَقدام الكُرسي بالأرضيّة الرّخامية.. نَظَرَ الجَميع إليه.. واقفٌ والرَّعشة قَد صُبَّت عَليه صَبًّا.. تَحَرَّكَ مُبْتَعِدًا دُون أن يَرْفع عَينيه لأحد.. تَساءَلت والدته وهي تقف والقَلق يُسَوِّر أَطرافها: يُمّه فيصل وين رايح؟
أَجابَ بِنَبْرة خاوِية من كُل شيء وهو يُوليهم ظَهْره: بروح مع جَنى البقّالة
أَنهى جُملته ثُمَّ تابَعَ مَشيه لابنته المُندَمِجة في لَعِبها في غُرفة الجُلوس.. أَمسكَ بيدها فَتساءَلت: شنو بابا؟
وهو يُحاول أن يرسم ابْتسامة: بنروح البقّالة.. بنشتري الحلاوة اللي تبينها
تَبَسَّمت بِرضا: أوكـي
رافقها للخارج وهو في نَيّته أن يُثَبِّط عَزَمَ جُنونه بالهَرولة.. وكأنّه يُريد أن يَخلع مع كُل خطوة خِرقة بالية إن ظَلَّت رُوحه تَرتديها سَتُبليه معها.. لكنّه فَشَلَ.. فَشَلَ فَشَلاً ذَريعًا.. لا الهَرولة.. ولا الساعتان التي قَضاها في النادي الرياضي.. ولا حَتى جَلسة الصّفاء والبراءة مع ابْنته سَدَّت فَوَّهة بُركانه.. وكأَنَّما حُمَمه التي خَمَدت لسنوات آن أوانها لِتَتَجَدَّد وتَنشط وَتَصهر تلك الجِنان الخائنة.

,

اجْتَذَبهُ للواقع صَوْتها المُلْتَحِف بِهَمسٍ بالٍ.. وَعَّاهُ هَذا الهَمس مُؤكِّدًا على وُجودها في هذه اللحظة أَمامه.. تَساءَلت من جَديد وحَشَرجة البُكاء الخائف تُعرقل كلماتها: فيصل.. الله يخليك.. قول لي.. شصايــر! ترى دمّي نشف.. بنتي فيها شي؟
لَم يُجِبْها.. رَفَع رأسه مُتَلَفِّتًا ينظر لما حَوله.. هُما يُعتبران في الخارج.. أي في الطّريق.. والصّوت في المَساء أَسْرع في الانتقال. نَطَقت وهي تَكادُ أن تُجَن من الوساوس التي زَرَعتها تَصرفاته سَرطانًا يَنقسم في نَفسها بلا سَيْطرة: شنو فيها بنتي؟ ويــنها بنتي؟ فيصــ
قاطَعها بِقسوة شَعَرت بها في كَتفها الذي تَمَرَّدت عليه يَده الصَّلبة ودَفعته: بنتي بنتي بنتي.. وكأنّ بنتش تهمّش.. كأنّ سعادتها واستقرارها شغلش الشاغل "وهو يَتَقَدَّم منها بخطوات بطيئة وهي بالمقابل تَتراجع للخلف بخطواتٍ أَبطأ" عمرش.. عمــرش ما اهتميتين لها.. من أول ما كانت نطفة في رحمش ما همّتش.. كل اللي يهمش راحتش ومستقبلش وعلاقاتش التافهة
اصْطَدَم ظَهْرها بالباب الدّاخلي وعَقلها الجاثِمة فَوْقه غَمامة سوداء تُمطِر قَلَقًا لَم يَتَمَكّن من استيعاب مَقصد كلماته.. هَمَسَت بِعَيْنَين أَوسعهما الاسْتنكار: شفيـك! ليش تقول لي هالكلام! بنتي شنو فيها؟ "ارْتَفَعَ صوتها والبُكاء قَد الْتَقَم نِصف نَبرته" شنو فيها بنتي... تحجـــى!
قَرَّب وَجْهه منها ناطِقًا بلسانه النّاقع بالسّم: جَــب.. جَــب يالخاينـــة "ارْتعَدَت فرائصها من وَجْسه اللادغ رُوحها" إنتِ شنو؟ ما تستحين؟ ما عندش حيا؟ إلى هالدرجة إنتِ أَنانية! إلي هالدرجة إنتِ ما تحبين غير نفسش! أهم شي في الدنيا نفسش وبس.. وباقي الناس خلهم تلعب فيهم الريح.. حتى بنتـش ما هي مهمة!
"وبتهكّمٍ حـاد" يا خَطيبة أستاذ نــادر
ارْتَخَت أَجْفانها.. تَحَرَّكَت أَهدابها ببطءٍ شَديد.. انْزاحت الغَمامة عَن لُبّها وانْقَشَع الظَّلامُ عن اسْتيعابها.. اسْتَفرَغَت كُل مَشاعر الخَوْف والقَلق التي تَوَحَّلت منها أَطْرافها.. تَوَضَّحَت لها الصّورة الآن.. ابْنتها بخير.. بخير. هَمَسَت وعَيْناها مُعَلَّقتان بِعَيْنيه الهُجومِيّتَيْن: اطلع برّا
ارْتَفَعَ حاجِبه وباسْتصغارٍ لأمرها: نَعـم مدام نادر؟ عيدي ما سمعت
كَرَّرَت من بين أَسْنانها وهي تَرص على الحُروف بِحَنَق: اطْـــلـــع بـــرّا
عَقَّبَ بلا مُبالاة وهو يَرْفع كَتِفَيه: أوكي بطلع.. بس حَبّيت أذكرش يمكن تكونين ناسية "لَمَعَت في عَيْنَيه نَظْرة لؤم وهو يُرْدِف" أَنا قول وفعل.. والماضي يشهد على هذا الشي.. كل كلمة قلتها في مكتبش بتتطبق بالحرف الواحد "شَخَرَ وهو يُكْمِل بسخرية" عاد بعدين تعالي نوحي عندي وقولي أبي بنتي
نَطَقَت بنَبْرة جَليدية تعاضَدت مع ملامحها الجامِدة لِوَخز ثقته: مــا تقدر تسوي شي
بِفَحَيح ووجهه انْعَكَسَ في عَدَسَتيها عدو لا يَرحم: لا أقدر.. صدقيني أقدر "وهو يَسْتعير بنبرة تَهديده" والله يا جِنان لا أخليش تندمين على خيانتش
وهي تَضمر ابْتسامة أَوْجَعتها قَبْلَ أن تُوجعه: خنتك وانتهيت.. وعاقبتني وانتهيت.. الجرح لليوم غافي على فَخذي.. ما محته سنين ولا داوته دموع.. "اهْتَزَّ صَوتها إلا أَنّها تَعَكَّزَت بالثّبات" وبنتي.. اللي انحرمت منها.. للحين ذاكرتي تصيح على سنواتها اللي مَضَت وما انطبعت صورها على جدرانها.. أنا خنتك مثل ما تقول.. وغلطت مثل ما أنا أقول.. وندمت... وللحين ندمانة على غلطتي.. شتبي أكثر!
هَزَّ رأسه بحَسرة: ما كانت غلطة.. ما كانت غلطة.. كانت خيــانة.. لا تحاولين تطهرين نفسش من نجاسة أفعالش
احْتَدَّت نظراتها وسِهامٌ من تأنيب تراشَقت من عَيْنيها لِتُهاجمه: أنـا مو خاينة.. ما خنتــك.. دمّي ما خالطته الخيانة ولا للحظة.. اي غلطت واعترف.. غلطت غلطة كَبيــرة وغبيّة.. لكنّي ما خنتك.. ما خنتك.. "تَصافقت أهدابها كجَناحَي طَيْر وَطَأت سَماءه سَحابة المَطَر.. أَكْمَلت بكلماتٍ غالتها رَجْفة تَفَجَّرت من كُل جُزيء من تَكوينها" و ووحبّيــ ـتك.. حبّيتك.. وللحيــن "نَفَسٌ عَميق وانسلاخٌ من الكبرياء، ومن ثُمَّ" أحــ ــبّــك.. أَحبّــك.. للحيـــن...... أَحبّــــك.
سَهْمٌ.. لا.. بل خَنجر.. أَو رُبّما سَيْفٌ اخْتَرَقَ يَسار صَدْره لِيَسْتَقِر في قَلْبه.. ارْتَبَكَت أَنفاسه والليْلُ يُصغي لِصَفيرها العَشوائي.. تَصَلَّبَت أَطْرافه وعَيْناه تَدُوران على وَجْهها بِتِيه وسؤال.. تَحَجَّرَ الريق في حَلقه وقَبْلَ أن يَمْتص اسْتيعابه الاعتراف الذي نَطَقَت به.. أَكْمَلت لِتَنسف الأَمَل الصَّغير المَوْلود في ذاته؛ على هَيئة ضَوء نَستهُ الشَّمس هائمًا بين عَرصات لَيْلٍ أَسْود..: لكن بتزوجه.. بتزوجــه وأنا أَحبّـك "مالَ رَأسها وابْتسامة مُسْتَفِزّة خالطَها القَهَر اسْتَحوَذَت على مَلامحها" وإنت خَلّك متعلّق بغرورك مع ياسمينك.. خلّك وأبقى مثل ما إنت.. إنسان بلا ضَمير ولا إحساس.. يستغل بنته عشان يمارس جنونه.
بَصَقَت آخر كَلِمة ثُمَّ قَذفتهُ بِنَظْرة مُشْمئزة لَسَعته؛ قَبل أَن تَسْتَدير عائدة للداخل.. إلا أَنَّهُ لَم يَكْتفِ.. فالذي بَينه وبينها الآنُ حَرب.. رُبَّما نَفَذَت أَسلحتها.. لكنّهُ لا زال يَحتفظ بالكثيــر.. لذلك لحقها إلى المَمر الداخلي للمنزل، ويَده بلا تَرَدُّد انقَضَّت على ذراعها بقوَّة اضطَّرَت شَهْقة أَن تَجرح حَلقها بسببها.. شَدَّها إليه وذراعها الأخرى قُيِّدَت كما أُختها بقبضته.. هَمَسَت واضطرابٌ بَدأ يَعيث داخلها: اتركني فيصل.. اتركنــي
تَجاهلها لِيَغرس شَوْكًا في روحها، وعَيناه احتكرهما جُحوظٌ مُخيــف: والله.. والله يا جِنان إذا وافقتين عليه بتشوفين شي عمــرش ما شفتيه.. الجنون اللي انتحر داخلي في زواجش من أحمـد.. بينفجر وبيحرقش بمجرد موافقتش على نادر.. هذا ما هو تهديد.. هذا واقع بيدمرش لو عاندتيني ووافقتين
لا تدري من أَين جاءت هذه القوة التي تَقَلَّد بها لسانها.. على الرَّغم من أَنَّ جَوْفها يَرْتعد: بوافــق.. كلامك وتهديدك والواقع على قولتك اللي قاعد تخوفني فيه ما بيغيرون رايي.. بوافق وببدأ حياة جديدة مع إنسان يحبني ويقدرني
شَدَّ قَبْضتيه وهي من فرط تعذيبه لذراعيها لَم تَعد تَشْعر بجري الدّماء فيهما: جــربي توافقين.. وبتشوفين شلون خريطة حياتش بتنقلب فوق تحت
هَمَسَت وحنّة بُكاء تَتَكسّر في صدرها بوهن: مــا تقدر.. ما تقدر تسوي شي "تَحَرَّكَ جَسدها بغضَبٍ عارم وضيق نالا منها، وذراعيها تُجاهِدان للتَّملص من قَيَديه" اتركني.. مو من حقــك تلمسني "شَدَّ أَكثر وكأنّهُ يَتَعَمَّد مُضايقتها فَصَرخت من قُعر قَهرها ووَجعها الغائر في رُوحها" اتركنــــي.. مــا لك دخــل فيني ولا في حياتي... خلني في حال سبيلي.. ولو للحظة حــِـسْ واعتقني
رَجاءها حُقِّقَ على يَد ذلك الرَّجُل الذي لَطالما كانت كَفّها الوَحيدة أَمانًا لطفولته.. فهو دَفَعهُ عَنها بعصبية واستنكار حـاد بانَ في كلماته: إنت شفيـــك! بأي حق تمسكها بهالطريقة!
تَراجع للخلف وهُو يُبصر وُقوف عَلي بجانبها عَضيدٌ مُحامي.. هَمَسَ وهو إلى الآن لَم ينتبه لباقي العُيون الشاهدة على الحَرب: بحقوق واجد يا علي.. بحقوق ما تعرفها إنت ولا هي تعرفها
أَدارَ رَأسه بانتباه لعمّته التي زَجرته: ما بينك وبينها أي حق يسمح لك إنّك تمسكها بهالطريقة! ما هي حلال عليك ولا إنت مسؤول عنها بأي شكل
عادَ ونظر لعلي الذي تساءَل وهو يُحيط كَتف شَقيقته بذراعه: أصلاً إنت ليش جاي؟ بنتك مو معاك يعني مو جاي عشانها
أَكَّدَ وصَدره يَرتفع ويَنخفض من لُهاثه: امبلى.. عشانها.. جاي عشان بنتي "رَفعَ يده وإصْبعه يَتحَرّك في الهواء" أنا قلت لها.. محّـد بيهمني.. واللحين أقولها لكم.. بنتي ما تتربى عند رجّال غَريب
اسْتَنكرت عَمّته: نَعـم!
أَعادَ بكلماتٍ أخرى: هذا اللي جاي خاطبها ترفضه.. بنتي ما أرضى إنها تعيش عند رجّال غريب "حَرَّكَ بصره لجِنان ووعيدٌ يَتَّقِد وَسط عَدَسَتيه" ولو وافقت.. تحرم عليها شوفة بنتها لين ما أموت
اسْتَشاطَت غَضبًا ونيرانه المُرْسَلة من قَبائِل تَهديده أَحرقتها فَأَجَّجت هُجومها: أّذبحــك يا فيصل ولا أخليك ولو للحظة تحرمني من بنتي "وصَوتها المَقهور يُمازجهُ عتاب" ما كفتك السنين اللي حرمتني فيهم منها؟ من دون أي إحساس قلت لي إنّي ولدتها ميتــ ــة.. شلون قوى قلبك ونطقت بهالكلمة على بنتك! واللحين بعد جاي تهددني تحرمني منها!
تَهَكَّمَ وهو يُكْسِب وقوفه مَظْهر اللامُبالاة: اللي يسمع حجيش يقول هذي كانت متشفقة على شوفة بنتها.. ما كأنش كنتِ تبين تتخلصين منها وتجهضينها عشان أحمــ ـ
تَعَثَّرَ باسْمه فانْتَبه لِما كان سَينطق به.. لذلك تَدارك الوَضع واقْتَطَعه.. لكنّها فاجَأتهُ وأَكملت الاسْم بشجاعة لَم يَتصور أَنّها في يومٍ كانت سَتَرتديها: أحمــد.. عشان أحمد.. ليش سكت؟ خفت يسمعون؟ خفت على رجولتك لا تنهان مرة ثانية؟ قولها.. كمّلها.. عشان أحمـــد.. تبيهم يعرفون من هو أحمد؟ تبي أقول لهم؟ "عَلا صَوْتها" تبيني أقول من هذا أحمد اللي بهذلك؟ هــا؟ تبيني أقــول لهم؟
جَسَدهُ اسْتقام بتحفّز وحواسه نالتَ منها إنكار للحال الذي آلت إليه.. وكأَنَّ الجُنون مَسَّها.. حَذَّرها بحدّة هامِسة: جِنـــان
لكنّها لَم تَسمعه.. لَم تَكن تسمع.. بل لَم تَكُن تَشعر.. في تلك اللحظة ومَشهد المَعركة الأخيرة يَغتال جَهْلَ عائلتها؛ فَقَدت كُل شُعور.. أَصْبَحت كائن مُجَوَّف من الداخل.. وهُلامي من الخارج.. لَم تَعد تَخزها أشواك تَحذيره التي غَرسها.. تَهديده كلامٌ سَفساف اعتادَ عليه خَوفها فَأَحجم عن مُقاومته.. النار الفاغِرة فاهَ جَحيمها وَسَط عَينيه لا تَستطيع مُجابهة الجَليد الذي بَدأ يَزحف لعالمها المُغتال على يَديه.. في تلك اللحظة.. خَلَعت جِنان عَن ذاتها.. سَلَخت الضَعف المُتَعَفِّن فَوْق قَلبها.. أعادت تَكوين رُوحها وارْتَدت وُجودًا آخر.. ارْتَدَت الأُم التي سَلَبها منها دُون وَجْه حَق.. نَطَقَت مُزيلةً السِّتار عَن كُل الذي خُفي: أنا أقول لهم.. أنا بعرّفهم على أحمد.. على الإنسان اللي لَعب دور ثلاثة بَنيت عليهم أحلامي "أَرْسَلت الرَّصاصة الأولى لوالدها المُتَفَرِّج دومًا" لعب دورك يُبه "الرصاصة الثانية لِمُحَمَّد" ولعب دورك محمد "والثالثة لفيصل" ولعب دورك إنت.. كان لي أبو.. وأخو.. وزوج "واصَلَت ولَم تُثَبطها يَدُ عَلي وهي تَنفر من كَتفها" اي زوج.. تزوجته لأكثر من سنة.. محّد كان يدري.. ولا أحد فكَّر إنّه يدري.. كنت أغيب عن البيت في كل الأوقات.. وفي كل الأوقــ ـات مَحَّد فَــقــدنــي
اسْتَنكَرَ عَلي رافِضًا أن تَكسر الحَقيقة ثقته في شَقيقته الكُبرى: جِنان إنتِ واعية للي قاعدة تقولينه!
نَظَرَت إليه والدَّمعُ الجامِد في مُقلتيها يُشاركها اسْتعادة الماضي: اي واعية.. واعية مثل ما كنت واعية في ليالي الشتا حاضنة خوفي وخوفك من الرعد اللي حرمنا النوم.. ومثل ما كنت واعية للوم اللي ترميه أمي على أبوي.. وأبوي يرميه على أمي.. ومثل ما كنت واعية لحجي الناس السّم عن غيبة محمد.. ومثل ما كنت واعية لوحدتنــ ـا من غير أم وأبو
نَطَق والدها أخيرًا وكأَنَّ سنين البُكْم قَد انْقَضَت: لا إنتِ مو واعية.. ما في وحدة واعية تسوي مثل هالبلوى! تتزوجين بدون علمنا ما كأنَّ وراش والي!
ارْتَفَعَ حاجِباها تَعَجّبًا وضِحكة السخرية تتعلّق بأطراف شَفتيها: ليش منصدم يُبه! هالبلوى ما أخذتها من غريب.. أخذتها منك.. من أبوي اللي جرّب ربع بنات العالم
صَفْــعـة حــارة.. حارِقة.. صادِمة ومُوجِعة.. ها هي تَنبض باشْتعال على خَدِّها الأَيسر.. لكنّها ويا للأسف تَبَلَّدَت.. الأَلم فَشَلَ في إذابة جَليدها.. حتى يَدها لَم تَرْتفع لِاحتواء خَدّها المَلْطوم.. هي خالفت كُل رُدود الفِعل الطَبيعية وضَحَكت.. نَعم ضَحَكت.. ضِحْكة قَصيرة، مَبْحوحة ومُحَطَّمة.. ثُمَّ هَمَسَت بِخَيْبة: الكف متأخــر يُبــه.. واااجـــد متأخر.. كان لازم ينطبع على هالخد من قبل خمستعش سنة.. كان لازم يرسم خط أحمر في طريق جِنان المُراهقة من قبل خمستعش سنة.. كان لازم يحِن عَلي من قبل خمستعش سنة.. صدقني.. وقتها كنت بشوفه حَنان وحرص.. بشوفه حُب وخوف واهتمام.. بيخليني أشوفك أبـو على الرغم من قسوته.
صَمَتت وصَمَتَ الجَميع.. لَم يُعَقِّب أَحد وهي لَم تُضِف حَرْفًا آخرًا.. حَرَّكتَ عَيْنيها عن والدها المَشغول في صَدمته وحيرته وأَسفه المُوارب.. انْتقَلت بها لوالدتها الغارق وَجْهها في بَحرٍ من الدّموع.. ثُمَّ لِعَلي الذي انْهارَ جَبَل الثِّقة الذي بناهُ بأيدٍ صَغيرة.. ثُمَّ لِجود الناطِق النَّدَم من عَينيها.. وكذلك قَصَدت وَجْه مُحَمَّد المُبْهَم كعادته.. ومَلاك التي تَكالبَ عليها الحَرَجُ والفَزَع.. وأخيرًا.. تَوَقَّفت عنده.. عند المُسَبِّب الأوَّل لهذا الانفجار.. يُفترض أنَّ الحَرب انتهت بفوزك.. أليس كَذلك؟ فَهَمَ السؤال لكن لَم يُجِبها.. فلقد كان مثلها... مُعرَّى من كُل شيء.

،

بعد ساعات

نَظَرَت بتَدقيق لصورته الواضحة في شاشة هاتفها.. هو في المَرأب.. البارحة وفي طريقهما لحفل الزواج حَمَّلَ لها التَّطبيق الخاص بآلات التَّصوير للمراقبة.. وقال: تقدرين تراقبين الشقة بالكراج.. عشان مرة ثانية إذا بغيتين تتأكدين أنا اهني ولا برا تجيكين البرنامج.. لأن أحيانًا ما يكون التيلفون حولي أو أنشغل وما أنتبه له.
هي لَم تُعارض اقتراحه بل في قرارة نفسها وافقت عليها.. حتى تكون أَكثر اطْمئنانًا. هي اسْتَحَمَّت وصَلَّت ثُمَّ أَشغلت نَفسها بالهاتف.. وأخيرًا قَبْلَ أن تنام فَتَحَت لها كتاب لتَستأنف قراءته إلى حين قُدوم النّوم. نَظَرت للساعة.. اقتربت من الثانية والنصف صَباحًا.. هو لَم يَعُد وهي لَم يَطْرق النّعاس باب عَيْنيها.. هي تعلم لماذا هو في المَرأب حتى هذه الساعة.. فَبَعد الذي حَصَل في مَنزل والده هي لا تَلمه.. فالمَوقف كان عَظيم ويُثير الرَّهبة.. لكنّها لا تُريده أن يخلو بجرحه.. هي مُتَيَقِّنة أَنَّهُ الآن قَد قَطَّع بَقايا ذاته جَلْدًا.. بالطَّبع هو قَد أَلقى اللوم عليه.. بل بَوْح جِنان بأكمله كان يُوَجِّه إصْبع الاتّهام إليه.. لكنّهم لا يعلمون شَيء.. أَرْواحهم لَم تَشبها المأساة التي حَلَّت عليه.. لَم تُصَم آذانهم من وَحْل ما أَفْصَح عنه.. هُم رُبَّما يَنظرون إليه بنظرة الجاني.. لكنّه كان المَجني عليه الأَكبر.. هو المَظلوم في هذه الحِكاية.. الجِرح جِرحه والفَقدُ فَقده.. إن هُم افْتقدوه وافْتقدوا أحلامًا وآمالاً بَنتها مَشاعرهم عليه.. فهو قَد فَقدَ ذاته.. إنسانيته وجُلَّ مَشاعره. لا تُريده أن يَقسو على نَفسه أَكثر.. حَرامٌ أن يُوَلد جِرحًا جَديدًا في نَفسه.. فَلقد أَهْرمته الجُروح وأَعادت صِياغة وُجوده.. فهو قَد أَمسى جِرْحٌ خالِد.. لا إنسان. عَزَمَت أَمرها وتَرَكَت السَّرير ذاهبةً إليه.. لا داعي للتَّردّد.. تلك الليلة كان مُعْجَبًا بها ورُبَّما خاف اَن يُعَبِّر وتَفهمه بطريقة خاطِئة.. لكنّهما أخان.. وهي من المُحال أن تَترك أَخيها يُعاين جِراحه لِوَحده. اسْتَخدَمت الباب المؤدي للمَرْأب.. هَبَطَت السَّلالم قَبْلَ أن تَقف أَمام الباب المُوْصَد بِرَقم سِرّي عَلَّمها إيّاه مُسْبَقًا.. ضَغَطَت الأَرْقام ومُباشرة فُتِح لِتُبصره وهو مَشْغولاً بإحدى المَركبات. تَقَدَّمت منه والباب من خلفها انْغَلَق.. هَمَسَ دُون أَن يَنظر إليها: مَلاك ارجعي
تَجاهلت أَمره وواصلت اقترابها منه.. أَصْدَرَ صوت ضائق من بَيْن شَفتيه عندما تَوَّقَفت على يساره.. وبهمسٍ جَدّي: أدري إنّك متضايق.. وأدري إنّك مو طايق تشوف أحد ومو طايق نفسك أكثر.. بس ما يصير تظل بروحك.. وأنا ما أقبل أخليك بروحك وإنت بهالحالة
رَدَّ باقْتضاب: عادي.. متعود.. خليني وارجعي نامي
بحدّة خالطت صَوْتها ونَظراتها: مو على كيفك "تَحَرَّكَت يدها وأَمْسَكت بمعصمه.. شَدَّت عليه عندما حاولَ أن يَتَمَلَّص منها وهي تُرْدِف بهمسٍ تغمره مَشاعر شَتَّى" محمد لا تحاول تهرب.. سنين الهَرب والتقوقع على نفسك انتهت.. اللحين أنا زوجتك.. أو أختك مثل ما اتفقنا.. مو معقولة بتنطوي على نفسك وتجلدها وأنا معاك!
كَرَّرَ من بَيْن أَسْنانه والعاصِفة التي داخله على مَقْربة من الانفلات: مَـلاك رووحــي.. اتركيني وروحي
بِعِناد: ما بروح.. حتى إذا ما تبي تتكلم وتقول اللي في خاطرك بظل معاك.. على الأقَل لو بغيت تلتفت تلقى عيون في طريق ضياعك.. خلاص محمد.. زمن الوحدة راح.. أنا اللحين معاك.. أنا ملاك معاك
أَدارَ رَأسه إليها لِتَكتمل أَمام عَيْنيها لَوْحة البؤس برماديتها المُوحشة.. هَمَسَ ونبرة تَحذير تَطل من بين كلماته: مـلاك.. مابي أوجعش
ابْتَسَمت بألم ورَأسها يَميل: يعني شنو يوجع أكثر من اللي قلته قبل؟ خلاص محمد.. وَجعك صار وَجعي.. تشاركناه مع بعض.. إذا بتتوجع أنا لازم أتوجّع معاك.. هذا واقِع لا بد منه
حَرَّكَ رَأسه بأسى: مـلاك
شَدَّت على مِعْصمه بِمَلَقٍ واهْتمام وشَفَتاها تُلَوِّح منهما الابْتسامة: محمد.. احنا النساء انخلقنا مَجبولين على الاستماع.. هالشي من تكويننا.. عندي القدرة على سَمعك واحتواء وجعك بشكل ما ممكن تتخيله
أَلْقى عليها طَوْق النّجاة لآخر مرَّة: ارجعي ملاك.. خليني بروحي
لكنّها وَقَفَت بثبات: ما برجع.. أنا اهني مكاني محمد.. معاك
أَغْمَضَ للحظة وهو يَزْفر من فَمه.. نَظَرَ لها.. وقَبْلَ أن تُفَكِّر في مُحاولاتها التالية لإقناعه.. جَذَبها إليه وفي لَمْح البَصَر أَحْيا أَوَّلَ قُبْلة بينهما.. قُبْلة كانت بعمق المُحيطات الخَمس.. وبانْدفاع الصَّيْف ورِقَّة الرَّبيع.. قُبْلة تَعْتَقِد بأنَّها سَحابة من عَذب أَمطارها.. وتَرْتَشِف منها الرُّوح إكسير الشَّفاء فَتُخيط جِراحًا وتُصْمِت آهات.. قُبْلة بها هُو يُحاول السَّفَر إلى عالمها.. أو التَّحليق إلى كَوْكبها المُضيء.. حَيثُ هُناك يَغتسل من نَهْرها ويَروي ذاته.. وهل يُفَرِّط ُ الظمآن بماءٍ يُعيد ولادته؟ لكــن.. مُحَمَّد.. دَعها تُشاركك الوَجَع فقط.. لا تُضرم داخلها أوَجاعًا أُخرى.. تَناسى ذاتك كما نَسيتها من قَبْل.. دعها تُلَمْلِم فُتاتها والْتَفت لهذه البَريئة... كُن واعيًا لها.. لهشاشتها ومُقاومتها.. لا تَجُرّها لفوَّهة غَرَقِك.. يَكفيها ما أَحَّلَ بها.. لا تَكُن أَنانيًا مُحَمَّد وانْقذها من ضياعك. ابْتَعَدَ عنها برجفة وهو يَلهث.. تَراجع للخلف وعَيْناه تَنَشَطِران من اصْطكاك شَفَتيها الهلِعَتَيْن.. أَغْمَضَ بِنَدَم وهو يُوليها ظَهره ويده تَرتفع لِتَشَد شَعره بغيظٍ وَغَضَب.. هَمَسَ بانْهزام: روحي.. روحـــي ملاك تكفين روحــي
هي.. الكَوْكَب الذي انْقَلَب عالمَه على غَفْلة من احْتواء.. حاولت أَن تَزْدَرِد ريقها لكن حلقها كان صَحْـراء.. تَقَهْقَر جَسَدها المَسْلوب الاتّزان.. فلَقد أَحْكَمت الرَّعشة قَبْضَتها عليه.. وكأنَّ السَّماء اسْتَفرغت كُل رُعودها في جَسَدها النَّحيل.. اسْتَدَارت ببَعثرة وتَخَبّط.. خَطَت بلا وعي فاصْطَدم جَسَدها التائه بطاولة صَغيرة للأدوات.. التَفَتَ بانتباه للصَّوت المُزْعِج الذي ارْتَفع.. انْعَصَر قَلْبه المُنْهِك وهو يُبْصرها بكُل هذه البَعثرة.. هي خَطَت وأَنفاسها تَشخب من رئتيها وبذلك تُعَذِّب عَضلات صَدرها المَشْدودة.. تَوَقَّفَت عند الباب.. بيدٍ فَقَدت الإحساس ضَغَطَت الأَرْقام.. صَوْتٌ مُعْتَرِض يُرافقه ضَوءٌ أَحْمَر ارْتَفَعَ من الجهاز.. كَرَّرَت دُون أَن تَعي أَنَّها تكتب أَرْقَامًا عَشْوائية خاطِئة.. فَرَّت من حلقها شَهْقة كانَت نَصْلاً مَسْمومًا انْغَرَسَت في قَلْبه.. فيَدهُ التي امْتَدَّت لِضَغط الأَرْقام الصَّحيحة فاجَأت هُروبها.. أَتاها الفَرَجُ أَخيرًا.. فُتِح الباب وبسرعة تَرَكت المَكان.. وَفَور انْغلاقه انْهارت بحواسٍ مَشْلولة على الأَرْض.. فقَدمَيها لَم تَسْتطِيعان حَمْلها للأعلى.. ارْتَعَدَت فرائِصها من الصَّوت القَوي القادِم من الدَّاخل.. احْتَضَنت وَجْهها المُخْتَنِق احْمرارًا وهي تَتَنَشَّقَ بوضوح.. الصَّوت لا زالَ مُسْتَمِرًّا.. وكأنَّهُ يَكسر شَيء أَو يَضربه! فَرَّت من عَيْنها الجاحِظة دَمْعة.. لَم تَكُن دَمْعة رُعْب.. أو وَجَع أو غَضَب.. كانت دَمْعة حَرَج.. هي مُحْرَجة إلى حَدِّ تَمَنِّيها أن تَتَبَخَّر وتَخْتفي.. مُحْرَجة من مُقاومتها الكــاذِبة.




انتهى


الساعة الآن 09:28 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية