رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بسم الله الرحمن الرحيم توكلتُ على الله الجزء الرابع والخَمسون الفَصل الأول الليْلُ أَتى بهدوءٍ وسَكينة.. التَحَفَت السَّماء بِزُرْقة داكِنة أَحاطَت بالقَمر المُنير كَمَلِكٍ فَريد.. فالنُّجوم من صَفاءِ نوره خَجلَت واخْتَبَأت خَلف تلك الزُرقة.. فكان الليْلُ خادِمًا للقَمر تِلَك الليْلة... وخادمًا لها هي أَيضًا.. نعم هي.. كانت المُنافس الوَحيد للقَمر.. رُبما كانت قَمَرًا آخر.. أو نَجْمة هَرَبت من خَلف رِداء السَّماء.. أو كانت كَوْكَبًا أُنثويًا يَنْبَعث منهُ ضَوءٌ أَلماسي.. يَسْقط على الأَرض المُظْلِمة فَيَرسِم طَريقًا من نُور يَهديه إليها.. ولا يدري هل الوصول لِكَوْكبها أَمان أَم أَنَّهُ سَيُلاقي هُناك فَقْدٌ جَديد للذات؟ كانت في المَطْبخ عندما دَخَلَ الشِّقة.. ظَهرها لَهُ وَوَجْهها يُقابِل حَرارة النار المُنبعثة من الفُرن.. هي قَبْلَ ساعة أو أكثر سَألته إذ هُو سَيأتي للعَشاء أم لا.. وبعد تفكيرٍ دامَ لِدَقيقتَين أَجابَ بنعم.. فرصة ليقضي المَساءَ مَعها في محاولة لترميم ما هَدَمتهُ تلك الليلة العاصِفة. تَوَقَّف عند باب المَطْبخ.. لَم تشعر به.. حركته كانت كالهَمس.. خُطواته خَفيفة وَحَذِرة.. لَيس عن قَصْد.. ولَكنّه اعْتاد على هذه التَّحركات بسبب طَبيعة عَمله... تَأمَّلَ الظَّاهر لهُ منها.. شَعرها البُنّي الداكن مَرْفوع حتى قِمَّة رَأسها.. وبعض الخصلات النّاعمة قَد تَمَرَّدت وغادرت القَيد لتُلامس عُنقها وعلى ما يبدو جانب وَجْهها.. ابْتَسَمَ بِخفّة للون البلوزة التي ترتديها.. كانَ لها لَوْنٌ.. لحظة.. لا يعرف ماذا يُسَمَّى هذا اللون.. لكنّهُ يشبه الزّهري.. الأكمام لا زالت طَويلة.. وسروال أًسود بخطوط عرضية لونها كلون البلوزة قَد سَتَرَ ساقيها.. خُف ناعم تَنتعلهُ قَدماها ولا شيء آخر.. الجزء الأمامي منها لَم يَكن واضِحًا له.. لذلك قَطَعَ تأَمّلاته واسْتدار قَبْلَ أن تَلتَفِت وتَراه. دَلف لغرفته.. خلَعَ ملابسه وأبدلها بأخرى خَفيفة مُريحة.. غَسَلَ وجهه ويَديه، ثُمَّ جَفَّفهما قَبْلَ أن يَخرج ويَلتقي معها.. وَقَفَ في مكانه وهي أيضًا وَقَفت.. يَعتقد أَنَّها كانت قادِمة إلى غرفته.. قالت وهي تُشير للمطبخ مؤكّدة على اعْتقاده: العشا جاهز هَزَّ رأسه وهو يُغلق الباب.. اسْتدارت عائدة للمطبخ وهو لَحِقها.. جَلَسَ في مكانه وهي كانت تُرَتِّب الأَطباق على الطاولة.. كَشَفَ هاتفه عن صَوت رِسالة.. نَظَرَ للشاشة يَقرأ المَكتوب "باجر الساعة سبع ونص الصبح بنلتقي في بيت صالح.. اللحين برسل لك اللوكيشن.. ولا تنسى تشيل قناع باتمان عشان تجي لنا بالمعلومات" زَمَّ شَفتيه وهُو يُعيد قراءة رسالة رائد التي خَتَمها بأيقونة لوجهٍ يُخرِج لِسانه.. لَم يَرق له تَشبيهه المازح.. قِناع باتمان! هو لا يَتَعَمَّد الغموض.. هو اعْتاد على التَّخفي.. المَشي في الظلام أُسلوب حياته الذي انتهجه لأكثر من خَمسةَ عَشَر عامًا.. فهو لا يَستطيع أن يَثِق بأحد بهذه السهولة.. حتى ظِلّه.. لذلك اختار أن يخطو على أَرْضٍ لا تزورها الشَّمس مانِعًا ظِلّه من الانعكاس. قَلَبَ الهاتف على وجهه بالقرب من طبقه عندما اتَّخَذَت مكانها.. غرفت لها في طبقها ثُمَّ بدأت بالأَكل وهي تَعبث بهاتفها.. هو أمسك بملعقته.. غرفَ لهُ أيضًا ثَمَّ تناول لهُ لُقمة مع تَحرّك عَدستاه إليها.. كانت تأكل ببطء وهُدوء وعَيناها مُندمجتان بشاشة هاتفها.. لا يدري هل هي تَتجاهله.. أمَّ أنَّها تُشْغِل نفسها عن هذا الجَو البـارد المُنتصف علاقتهما.. تناولَ لقمة أخرى دون أن يُزيح عينيه عن وَجْهها.. كانت خصلاتها المُتمرّدة تُلامس جوانب وَجْهها مثلما تَصَوَّر.. هذا الوجه المُتَّخِم بالنّعومة.. اسْتَغلَ فرصة انشغالها بالهاتف وبَدأ رحلة تَأمُّل جَديدة.. عَيْنان وَسْنانَتان.. لَهما وِسْعٌ بَسيط وفُتورٌ على الطَّرف يَجُرّكَ لِمُنْحَدَرٍ من سَهوٍ وَتيه.. أَهدابها طويلة ولكنّها لَم تكن كَثيفة.. حاجِبان خَفيفان مَرسومان.. أَنْفٌ طَويل ولكن صَغير، لهُ ارْتفاعٌ يُوحي بالغُرور الذي هي بَعيدة عنهُ تَمامًا، وفي منتصفه قَد بان كَسْرٌ خَفيف مَنَحها لَمحة مُلفِتة بطريقة غَريبة.. لَم تَكن تملك وَجْنتان مُمتلئتان.. فلقد كانَ لها وَجْهٌ نَحيف يَلْتَقي طَرفاه عند ذِقْنٍ دَقيق كان المُكَمِّل للوحة النّعومة الآسِرة... أعادت عَيناه الرحلة للمرة الثانية والثالثة والعاشِرة.. وفي كُل مرة كانَ بَصره يَتَخَطَّى الموضع نفسه.... شَفتيها.. تراوده رَغْبة عَميــقة في تأملهما واكتشافهما.. لكنِّهُ يمنع نَفسه غَصْبًا.. لأنّهُ يَخْشى من أن تُزَعْزِع مَشاعِر غرَيبة ثَبات حَواسه.. فكان في كُل مرة يَقترب من مَصَب شَفتيها يَغض البَصر ويعود ليغرق في بَحر ملامحها السَّمراء.. هذه الملامح المُتَسربلة برِمالٍ ذَهَبِيّة جَذبَت ذاته المُشَوَّهة. تَحَرَّكت عَدستاها عن الشاشة باتّجاه كأسها.. وفي منتصف الطّريق الْتَقَت بِعَينيه.. رَمَشَ بِخفّة مُستوعبًا الوَضع.. وببراعة اسْتطاع أن يُلَملم ارتباكه الذي صَدمته عَينيها.. قالَ سَريعًا مُقاطِعًا أي سؤال أو فِكرة قَد يرتفع صَوتها داخلها: الأكل لذيذ.. تسلم ايدش رَدَّت بهدوء وهي تُخفض الهاتف على الطاولة: الله يسلمك.. بالعافية وهو يَبتسم بخفّة: الله يعافيش "اسْتطَرَد" ترى أنا أعرف أطبخ.. اليوم اللي تبين ترتاحين فيه خبريني وأنا بطبخ لنا ارْتَفَعَ حاجِبَها بتعجّب من كلامه.. وكأنّهُ يُريد أن يسْتهل حديثًا معها.. لذلك تَساءلت مُدَّعيةً الجَهل: ليش تعرف تطبخ؟ نادرًا الرجّال يعرف يطبخ هُو فَهمها.. لكن واصَل معها وأجابها: بسبب دراستي برا سؤال ثانٍ: في وين دارس؟ أَخفضَ الملعقة في الطَّبق ويده لا زالت تمسك بها ولكن بارْتخاء: في ألمانيا... برلين تحديدًا هَزَّت رأسها وهي تُهَمهم قَبْل أن تقول: قالت لي حَنين "رفعت الملعقة لفمها وقبل أن تأكل أردفت ببرود وهي تنظر للأمام" بس هالشي اللي أعرفه عنّك نَظَرَ لها وهي تمضغ اللقمة ببرودٍ كَبرود نبرتها.. تركَ الملعقة وهو يتساءَل بهدوء: شنو اللي تبين تعرفينه عنّي؟ ابْتَلعت ما في فمها.. رَفَعت كأسها وبدأت تشرب وهي لا زالت تُشيح بَصرها عنه.. أَخفضت الكأس وهي تُمَرّر لسانها على شفتيها قَبْلَ أن تنظر لهُ وفي عَيْنيها نَظرة حازِمة وجادَّة: كل شي.. أبي أعرف عنّك كل شي "صَمتت للحظات قَبْل أن تُكْمِل بِحدّة مُتجاهلة خَوفها المُوارب" وأوَّل شي أبي أعرف عنه هو وشمك ارْتفعت يَده لجانب عُنقه مُشيرًا للكتابة الصغيرة نسبيًا: تقصدين هذا؟ تَهَدَّلت ملامحها والصَّدمة قَد أوْسَعت عَينيها.. للتو تنتبه للذي في عُنقه.. رَكَّزت فيه، ليس واضحًا لها المكتوب من مكانها.. لا تتذكر أنها انتبهت لهُ من قبل.. رُبما رأتهُ واعتقدت أَنَّهُ شامة أو أثر أو أي شيء آخر غير الوَشم.. هَمَسَت تُجيبه: أقصد... اللي في ظهرك "وباسْتنكارٍ أردفت والتَّقزز يَطأ وجهها" ليش إنت جَم وشم عندك! قال بنبرته البارِدة المُثيرة أعصابها: ولا واحد.. اللي اهني واللي في ظهري مو وشم بنفاذ صَبر تساءلت: إذا ما كانوا وشم فهم شنو! أَشارَ لطبقها مُفْصِحًا عن كَلِماتٍ أَرْهَبتها: اكلي.. تحتاجين قوة عشان تتحملين اللي بتسمعينه "أمسك بملعقته وعيناه تَنفصلان عن عَينيها" اكلي... عقب العشا بخبرش عن كل شي... مثل ما تبين ,، كانت تخلع قِرطاها أَمام المرآة بابْتسامة جانِبية يغزوها الغُرور والفَخر وهي تَستمع لسؤاله المُتَعَجِّب: من أول لقاء طلب يقابلش على انفراد! شهالســرعة! نَظَرت لهُ عَبرَ المرآة وهي تُجيبه بثقة: طبــعًا.. أنا فاتــن.. ولا نسيت؟ هو الذي كان مُسْتنَد لظهر السرير بنصف اسْتلقاء أجابَ ويده تَفتح أزرار قَميصه: لا ما نسيـت.. وفي نفس الوقت ما نسيت إن هالشخص سلطان.. مو بسهولة ينقص عليه! اسْتدارت إليه مُوَضِّحة بذات الابْتسامة: إنت ما تعرف سلطان مثل ما أعرفه.. الأنثى الجَميلة نقطة ضعفه.. وأنا أعرف شنو يحب وشنو يكره في شكل البنت وفي أسلوبها.. وكل هذا جمعته فيني "أشارت لنفسها وهي تُكْمِل" هذي اللي واقفة قدامك قدرت في دقايق إنها تفر عقله وتخليه يدعوها لمكانه السري نَظَرَ لها بِصَمْت.. لكن العُقْدة التي تَوَسَّطَت حاجِبَيه والضيق الذي أَغشى عَينيه كانا يُفْصِحان عن الكَثير.. لذلك تَساءلت وهي تقترب من السرير: شفيك؟ ليش جذي صار وجهك! أَبْعَدَ عينيه عنها مُجيبًا بِهمس وهو يخلع قَميصه ويُلقيه جانِبًا بحركة غاضِبة: ما فيني شي ارْتَفَع حاجِبَها: ما فيك شي ووجهك انقلب فوق تحت مرة وحدة! قول لي شفيك.. ما أعتقد إنّي قلت شي غلط! بتهكّم: ما قلتِ شي غلط! متأكدة؟ بنرفزة عقَّبَت: رائد شنو هالأسلوب بعد! توك عادي ما فيك شي.. شصار اللحين انقلبت علي! بنبرة غاضِبة ومُرتفعة: لأنش يا مدام مو واعية للي قاعدة تسوينه عَقَدَت حاجِبَيها وباسْتنكار: وأنا شسويت! كل شي متفقة عليه معاك وإنت تدري فيه.. شنو اللي تغيّر اللحين! أَجابَ بحدّة: اللي تغيّر إنِّش بتروحين له الله يعلم وين.. بينفرد فيش.. وحضرتش مستناسة بجمالش وأنوثتش وجاذبيتش اللي خلته يجيش بدون مصاعب عَقَّبَت بعدم فهم: انزيـــن! وين المشكلة؟ من الأساس احنا نبيه يستجيب من بين أسنانه نَطَقَ وهو يشعر بالدماء ترتعد في عروقه: المشكلة إنش بتكونين معاه بروحكم.. في مكان منعزل أكيد.. وإنت طبعًا بتكونين بلبسش الماصخ وحركاتش ومفاتنش قدامه كلماته الواضِحة لسعتها.. لكنّها سألته بحدّة لرُبما كان لهُ مقصدًا آخر: رائد شتقصــد بكلامك هذا؟ أَجابَ وكلماته نيران تُهاجمها: قصـدي واضح.. اثنينكم مع بعض وثالثكم الشيطان.. يعني شنو تتوقعين يصير! هاجت عليه وهي تقف وجسدها يَرتعش من رأسها حتى أخمص قَدميها.. حتى صوتها كان يرتعش من شدّة صدمتها من حَديثه الأرعن: إنت اسْتخفّيـــــت! شهالحجي اللي قاعد تقوله!.. أنا زوجتك يالحقيــــر.. زوجتـــك.... ما تستحي ترمي علي هالكلام! ببرود قَهَر لَهيبها المُسْتَعِر: أنا ما أقصدش إنتِ.. أقصده هو ووجهها يختنق باحْمرار الحَنَق: ولو مثلاً هو حاول تتوقع إنّي بتفاعل معاه! "أشارت لنفسها والدمع يَلتمع وَسَط مُقلتيها وهي تُرْدِف بصوتٍ مَهزوز" أنا صدق مو ملتزمة.. وما أحاسب للبسي وشكلي.. وحتى تصرفاتي.. لكن مو معناته ما أعرف الحرام من الحلال.. شنو تتوقع؟ أخون ربي.. أخون نفسي اللي صنتها طول هالسنين.. تتوقع أخونك؟ "صَرَخت في وجهه" قــول لـــي.. تتوقع أخـــونـــك! "أنحنت لهُ وبَدأت تضرب صَدره بقَبْضتها المُرْتعشة وحواسها قَد هالها عُظْم الذي نَطَقَ به" تحجــى.. قول.. قــوول إنّي بخونك "صَرخَت من قُعْر قَهرها" قـــــــــول اسْتطاع أن يَلتقط ساعديها بيديه القَوّيَتين.. شَدَّ عليهما مُحاولاً السَّيطرة على اضطرابهما وفي داخله قَد صَحى نَدَمٌ مُتأخّر.. هي كانت تُحاول أن تَتَمَلَّص من قَبْضَتيه وصَوت بكاءها قَد عَلا بِقَهَرٍ وحُرْقة.. كانت تَشد جَسدها بعيدًا عنه، تُحَرّك معصميها بَين قَيد كَفّيه.. تَركله بقدميها.. تَبصق في وجهه.. كانت تُريد أن تَبتعد عنه.. أن تَبتعد عن عَينَيه اللتَان قَذفتاها بِسَهمٍ من شَكٍّ وسوء ظَن.. عَدَم الثقة التي رأتها بَين خُطوط ملامحه وسَمِعتها في صوته نَهَبَت الهواء منها.. لِوَهلة شَعرت أنَّهُ غَريبٌ عليها.. لَيس رائد.. لَيس زوجها.. كيف اسْتطاع أن يُفَكِّر بها بهذه الطريقة؟ بل كَيف سَمَح لعقله أن يتخذ هذا الطريق الأعوج الذي أَوصله لهذه الفكرة؟ إذا كان هُو.. زوجها.. حَبيبها.. الظَهر الذي أَسْندها في السنوات الأخيرة يَظِن بها سوء.. فمن لها! فيمن تَثِق وإلى من تَلْتجئ؟ صَدمها.. صَدمها للحَد الذي أَوْجَد في صَدرها فراغًا ثَقيلاً يَخْنق المواضع التي امْتلأت أَمانًا بيديه. بَعدَ دقائق من المُقاومة هَدَأت حَركتها وارْتَخَت عضلاتها باسْتسلامٍ وتَعَب.. انْهارَ جَسَدها كالهلام بَين ذراعيه.. شَدَّ عليها وهُو يُقَرّبها من صَدره.. حاولت أن تَبتعد عنه لكنّها لَم تَسْتطع.. حَديثه كان كالصاعِقة التي شَلَّت أَطرافها.. لكَن رُوحها من الداخل كانت نافِرة.. كانت مُولِية ظَهرها عنه.. لَم تُرِد أن تَمْتَزِج مع رُوحه مثل كُل مرة.. فَبعد الذي قِيل بَدت لَها رُوحه آثِمة، وكان الغُفران صَعْبًا على رُوحها المجروحة... أَغْمَضَت عَيْنيها.. لا تُريد أَن تَرى وجهه.. هَمَست بوَجع وهي تَشعر بيديه تَتشَرَّبان دُموعها: عورتنـ ـي.. عورتني.. بكلامـ ـك ,، وَقَفَت كَمَلسوعة مُتسائِلةً والاضطراب تَعَدَّى نَبَضاتها لِيَطالَ حَواسها.. سَألتهُ بأنفاس لاهِثة: إنت... من وين.... من وين تعرفها! أَجابَ بهدوء على الرغم من استغرابه من وُقوفها المُتَحَفِّز: مثل ما قلت لأبوي.. دكتورة معاي في المستشفى اعْتَرَضت من غير مقدمات: لا.. شيلها من بالك.. هالبنت ما تصلح لك وَقَفَ يُقابلها والاستنكار يُصْبِغ ملامحها: يُمّه ليــش! توقعت إنش تستانسين لي.. وتستانسين إنها بنت صديقتش! اسْتَعَرَت أَنفاسها لذِكر تلك الصَّديقة التي غَيَّبَ التراب ملامحها، ولَم يُغَيِّب الزَّمن ذِكْرها.. هَمَسَت وهي تُعاين اصطدام شَهيقها بزفيرها بشعواء: من غير ليش.. هالبنت تشيلها من بالك... وتطلعها من حياتك قالَ بنبرة هادِئة عَلَّها تَفهم موقفه: يُمّـه... أنا خطبتها من أبوها.. والبنت وافقت "أَرْخَى جِفْنيه مُفْصِحًا بتردّد" وأنا أبيها يُمّـه.. أبيــها ارْتَفَعَ صَوتها: أنا أمّـك وأنا أعْرَف بمصلحتك.. هالبنت مــا تناســبــك.. في غيرها ألف بنت وبنت نَطَقَ وهُو يَشعر بالرَّجفة تَسري بَين أوصاله قاصِدةً قَلْبه المُرْهق: بس أنا أبيها هي.. ما أبي الألف اقْتَرَبت منه لِيُبصر جَلِيًّا القَسْوة وهي تَتَفَرَّع من عَيْنيها مُسْتَحوِذَةً على ملامحها: عبد الله لا تعـانــد.. صدقني ما بتتوفق إذا عاندتني.. شيل هالبنت من راسك اسْتَقَرَّت يداه على خِصره وهو يَهز رأسه بِضحكة ساخِرًا من قَدره الذي يُعاد بذات الأحداث والشخوص والطَّعنات.. نَظَرَ لوالده الذي وَقَفَ مُتسائِلاً بِجِديَّة: إنتِ شايفة شي على البنت؟ استدارت له وبحدّة: لاا.. بس أدري إنها ما تناسبه.. أعرفه وأعرفها اسْتَلَّ شَهيقًا من بَين الضّيق المُخْتَنِق منهُ المَكان وبنبرة كانت أقرب للفَناء وعيناه مُلْتَصِقَتان بالأرض: أعتذر يُمّه.. أنا اللي أحدد إذا كانت تناسبني أو لا.. البنت خلاص خطبتها ووافقت.. كلها أيّام وتصير زوجتي " تراجع للخلف مع ارْتفاع بَصره لها لِيُرْدِف مُنْهِيًا النقاش" وتجنبًا لأي ردة فعل منش في المستقبل... أنا ومروة راح نسكن في بيت بروحنا أَنهى جُملته ثُمَّ رَمقها بنظرة كانت خَناجِر من خِذلان اخْتَرَقت قَلْبها.. ازْدَرَدت ريقها وهي تراه يَبتعد قاصِدًا الطابق العلوي.. حينما غابَ عن مَجال رؤيتها شَعَرَت وكأَنَّ بَصرها سَيعْمى عن وَجْهه إلى الأبَد.. هي ستراه بالطَّبع، رُبما غدًا أو حتى بعد ساعات.. لكنّها لَن ترى وجه ابْنها.. بل سَترى وَجْهًا يَتيمًا منها.. وَجْهًا انْسَلخَت عنهُ كُل ملامح الحُب والرأفة والعَطف.. وَجْهًا مُطْمَسًا من كُل شَيء ما خلا خَيْبة أَمل مُعَنْوَنة بِأمّــي. ، دَخَلَ جَناحه وهو يَخلع سترته.. لَيْته يَسْتَطيع أن يَفصل جلده المُشْتَعِل عن جَسده.. أن يَهدم حُجرات قَلبه، يُفَتتها فَلا يَشعر بارتطام النبضات بها.. لَيته يَنتزع رُوحه من جُذروها حَتى يَقْطَع مَسير قوافل الألَم إليها.. أن يَفقأ عَينيه كَي لا يُبْصِر الحَنان وهو يَتَحَوَّر إلى قَسوة تَنهش ذاته بلا رَحْمة.. حتى أُذنيه، هُو يَتمنى لَو أن يُنقذهما صَمَمٌ من فَحيح كلماتها المَسْمومة.. لماذا أُمّي.. لماذا تُشِنّين حَربًا على ذاتي؟ لمــاذا! الْتَفَت لغيداء التي اتَّخَذت دور المُتَفَرِّج أثناء النقاش.. أَغلقت الباب ثُمَّ اقْتَرَبت منه وهي تقول برجاء: عبد الله لا تضايق نفسك.. أمي بس انقهرت إنّك اخترت البنت وخطبتها من غير لا تعطينا خَبر حَرَّكَ رأسه غير مُقْتنعًا بتَبريرها: لا.. لا.. هي تبيني أمشي على هواها.. آخذ البنت اللي هي تبيها.. أول شي نور.. واللحين مروة وَضَّحت وهي تقف أمامها: من كثر حبها لك عبد الله.. يمكن الشي اللي تسويه غلط بس هي مو قصدها تضرك.. هي تبي لك الزين سَألها بحرقة: ونور شنو كان فيها من شين؟ "أجابَ بنفسه" لأنها كانت تحب خالي... كانت تحب طلال؟ بس هي حبتني.. حبتني من كل قلبها وما خانتني.. شفت الحُب في عيونها وكلامها ولمساتها مالَ رأسها وبتأنيب: عبد الله شفيك! خلاص نور مو نصيبك هَزَّ رأسه: أدري.. أدري.. والحمد لله أنا مو معترض على أمر ربي.. لكن إحساس الراحة اللي كان يغمرني تجاه نور اللحين توجه لمروة.. وإحساسي عمره ما غلط.. كلام أمّي عاري من الصحة والمنطق.. البنت محترمة وعاقلة ومتميزة في شغلها.. ما شفت منها العيبة عَقَّبَت مُحاولةً الظفر بجواب مُقنع: زين يمكن أمي مو قصدها إن فيها شي غلط أو إنها بنت مو زينة.. يمكن قصدها إن شخصيتها ما تناسبك ارْتَخى حاجِباه ومن عَينيه امْتَدَّت يَد تَسْتجدي تَفَهّمًا: بَس أنا أبيها بشخصيتها.. سواء تناسبني أو ما تناسبني.. إنّي أحبها ما يعني إنّي أبيها تَتشَكَّل على مزاجي وعلى اللي يناسبني.. إنّي أحبها يعني أتقبلها بكل حالاتها.. أرضى فيها وأتكيّف مع شخصيتها مهما كانت نَقَلَت عَيْنيها بَين عَيْنيه وبين ملامحه المُتْعَبة.. هَمَسَت مع احْتلال البَسْمة لِشَفتيها: ما كنت أدري إنّك تحبها! توقعته بس إعجاب صَمَتَ لثواني مُعيدًا في ذاكرته كلماته التي نَطَقَ بها.. إذن إنّها المرة الأولى التي يَعترف فيها بحبّه.. كَشَفَ عن تَنهيدة ثُمَّ نَطَقَ وهو يتراجع للخلف ليجلس على الأريكة: ولا أنا كنت أدري.. كنت من كثر ما أتجنبها أظن إنّي أكرهها.. ما كنت أدري إنّي أتجنبها خوفًا على قلبي منها جَلَسَت بجانبه ويَدها المُشَبَّعة بِحَنانٍ أخوي حَطَّت على كَتفه المُنْحَني مُتسائِلة: وبعدك خايف على قلبك منها؟ بِهَمس وهي تُبْصِر في عَيْنيه بَريقًا وَهْنًا يُصارع ريحًا هَوْجاء تُهَدِّد أَمله: لا.. أنا خايف على قلبي من فَقدها.. بغرابة لَقيت نفسي اللي أدوّرها في تناقض شَخصيتها.. ما أدري ليش! بس أحسها المرأة الوحيدة اللي بتعرف ترتب الفوضى اللي داخلي "وبحزم أردف" باخذها.. بتزوجها.. بتزوجها وبتكون لي شَدَّت على كتفه ويدها الأخرى تَحَرَّكت لِتَمد ساعده ببضع دفء: زين شنو بتسوي مع أمي؟ أَجابَ باخْتصار وهو يَنظر للاشيء: بخيّرها.. يا مروة.. يا هجرة ما بعدها رجعة ,، طَرْقٌ على باب غُرفتها.. نِداءٌ للاسْتعداد إلى خَوْض رِحْلة مُبْهَمة المَخاطِر.. كلماته قبل ساعة تُوحي بوجود أَلَمٌ مُتَخفّي بَيْن الأسرار المَكتومة.. ولكنّها تَجْهل شِدّة هذا الألم.. ولا تدري هل هُو أَلَمٌ وَحيد أَم شَعْبٌ من آلام. عادَ الطَّرق من جَديد.. تَنَفَّسَت بارْتباك وهي تَتحرَّك للباب.. فتحتهُ بهدوء وهُو قال ما إن رأى وَجْهها: توقعتش نمتين يوم ما رديتين عَقَّبَت وهي تَنتبه لشيء أحمر في يده: لا ما نمت.. بعده الوقت على النوم حَذَّرها قَبْلَ أن يَدخل: بطوّل في الحجي.. إنت تبين تعرفين كل شي.. والكل شي يبي له وقت ارْتَفَعَ صدرها تَفاعلاً مع النَّفس العَميـق الذي اسْتعانت به.. وبهمسٍ يَتَقَلَّد بالثَّبات: مو مشكلة "أشارت للداخل" تفضّل دَخَلَ وهي لَم تُغلق الباب.. تَركت نِصفهُ مَفتوحًا.. فَقَد تَحتاج إلى هذا المَنفذ بَعد دقائق.. فهي لا تدري إلى ما سيؤول إليه الحَديث أو الاعتراف الذي سَيفصح عنه.. شَبَكت أَصابع يَديها في مُحاولة للسَيطرة على رَجفتها وهي تنظر إليه يَسْتَقِر في وُقوفه عند القوس المُفضي لغرفة التَّبديل.. رَفَع يَده حتى لامسَ بسَبَّابته مُنتصفه حيث يُوجد تَجويف على شَكِل دائرة صَغيرة.. ظَلَّ يُمَرِّر إصبعه حَوْلَ المَوْضِع بِبَصَرٍ شارد أثار اسْتغرابها.. عَقَدَت حاجِبَيها من حَركته التي كانت بالنسبة لها بلا معنى.. بَدل من أن يَبْدأ الحَديث اتَّجه للقَوْس ليَلمس تَجويفًا مُهْمَلاً في مَنتصفه! زَفَرت صَبْرها قَبْل أن تُناديه بِهَمس: محمد! نَظَرَ لها وبالتوالي أخفض يَده عن الدائرة المُجوَّفة، لكنّهُ بَقِيَ يُشير لها وهو يَسأل: تدرين شنو كان في اهني؟ ازْدادت عُقْدة حاجبيها.. هي لا تفهم شي.. لا تفهم شيء! ما هذا الحوار الغامض! أجابت بنبرة تَنم عن عَدم استيعاب وهي تنظر إلى حَيثُ يُشير: لا! وهو يَخْطو إليها: كاميرا "ارْتَفَعَ حاجِبَاها بمُفاجأة من المعلومة الغريبة جدًا.. هُو واصَلَ مُضاعِفًا من تَشابك الخُيوط في عَقلها" كانت موجودة كاميرا مراقبة.. البيت كله فيه كاميرات.. الكراج بعد "أخرجَ هاتفه من جيب سرواله لِيُرْدِف وهو يضغط على أحد التطبيقات" أراقب المكان كله من اهني ارْتَطَمَ قَلْبها بِصَدرها عندما بانتَ لها غُرف المَنزل وهي مُقَسَّمة بوضوح في الشاشة.. تَبَعثرَت أنفاسها وباتت تَشعر بنَبضاتها تقفز إلى حلقها.. هَمَسَت بتَخَبّط وهي تَحْتضن نَفسها بذراعيها، تَحمي ذاتها من مَجْهولٍ تَتماهى لها مَلامحهُ المُخيفة: وو.. واهنـي؟ أَجابَ بصراحة وهُو يُعيد الهاتف لِجيبه: شلت الكاميرا من تَم عقدنا احترامًا لخصوصيتش "وبتوضيحٍ وَسَّع ثَغرة الخَوْف التي تَشخب منها أنفاسها" على الرغم من خطورة بقاء الغرفة من غير مراقبة تَصافَقَت أَهدابها كأنَّها تُنَحِّي غَشاوة عن عَدسَتيها المُضَّطرِبَتَيْن على الأَرض، وبتساؤل كان جافًا من فَهْم: ليـ ـ.. ليـش تراقب! بأجوبته القَصيرة التي تَسْتَفِز صَبرها: عشان أحمي نفسي ارْتَفَعت نَبْرة صَوْتها قَليلاً فانْكَشَفَت غَصَّة الخوف المُتوارية: تحمي نفسك من شنو! إنت شنو مسوي عشان الخطر يهددك لدرجة إنّك تراقب بيتك! شَبَحُ ابْتسامة مَرَّ بالقُرب من شَفتيه وهُو يُفْصِح بِهَمسٍ مُكَفَّن بالجَليد: ما سويت شي غير إنّي كنت أنا فَرَّ سؤالها حامِيًا يُنَبِّش عن الحَقيقة: ومـــن إنت!.... من إنت محمد؟ "خَبى صوتها قَليلاً وهي تُرْجِع رَأسها للخَلف لتُرْدِف بَوجسٍ يَنم عن شَكٍّ وعَدمِ ثِقة" إذا كان هذا فعلاً اسمك! تَقَدَّم منها حتى نَسَف جَميع الخطوات والمسافات.. تَصَلَّبَت هي في مكانها تُصارع الهروب.. ازْدَردت ريقها عندما لامَسَت خَدّها أَنفاسه الساخنة.. كان قَريبًا جدًا، جدًا.. قريبًا للحَد الذي يُصَعِّب عليها النَظَرَ إلى وجهه والتركيز فيه.. لذلك كانت عَدستاها تَتَقَلْقَل على المَكان لِتَتَجَنَّبه، وكانت عدستاه في المُقابل تُلاحقانها.. يُريدها أن تنظر إليه.. أن تُمْعِن النَّظَر في حكايته المَحْفورة بَين طَيَّات مَلامحه.. أن تَقرأ البَوْح الأبْكَم على شفتيه.. أن تَلْتَقِط من عَيْنيه مَشاهد لا زالت تَزوره كوابيس مُرْعبة تُزَعْزِع ثِقة الرَّجَل المَسْجون داخله.. يُريدها أن تُصَيِّر حضنها بَحْرًا يَسْتَقبل دُموعًا طالَ مَوسم جَفافها.. وأن تَتَحَسَّس بِلُطف يَديها آثار قَسوة زَمنٍ نُحِتَت بَين دَمٍ وجِلْد.. يُريدها أن تُعيد صِياغة ذاته لَعَّلهُ يَلقاها بَعد فَقْدٍ طَويل.. يُريدها أن تُعيده لنفسه.. لِمُحَمَّد الذي كان يَقِف قَبَل ستةَ عَشَر عامًا أمام المرآة في المَتجر يُقيس مَلابسًا تَقيه من شتاء بَرلين القارس.. ولَم يَعلم أنَّ شِتاء الزَّمن سَيُكَلِّفه رُوح تُخاط منها أكفانًا تُلَمْلِم بَقايا ذاته المُشَوَّهة. هَمَسَ وعيناه تُهرولان خَلف عَيْنيها: ليش ما تبين تطالعيني؟ خوف.. تقزز.. أو هروب؟ أَطْبَقَت شَفتيها وهي تَضغط بقوَّة كأنَّما تمنع نفسها من أن تُجاوب بـ "كلهم".. أشاحت وجهها عنه أكثر.. هي لا تستطيع أن تنظر إليه بسبب خوفها الذي يُحَذِرها من كُل الذي لا تعلمه.. وبسبب تقززها من شَيطان نُحِتَ على جلده.. وكذلك هُروب.. هُروبٌ من كلماتٍ صامِتة تَنبَجس من عَيْنيه لتغرقها كُلَّما وَقَعَ بَصرها عَليه. اخْتَرَقت حَنجرتها شَهْقة قَصيرة ومَرْعوبة عندما أَحاط مِعصمها بيده القويَّة.. نَظَرت إليه باتّساعٍ مِحْجَرَيْن تَكاد تَخر منهُ حَدَقتيها.. وَقَبْلَ أن تَهتدي لفعلٍ ينقذها من قَبْضته، باغَتَت أوصالها كَهرباء شاطت منها أعصابها وخلاياها.. فهو قَد أْلْصَق يَدها بعنقه، بالتَّحديد فَوق الوَشم الذي أشارَ إليه.. هَمَسَ وهُو يُحَرّك باطِنها على المكتوب: هذا اسمي.. هذي هويتي.. صفر سبعة.. أو زيرو سَفِن.. أو نُلّ زِيبن.. أو نُلْ سِيم.. اختاري.. اختاري الاسم اللي يشبهني أكثر.. الاسم اللي يليق بالدّمار اللي فيني "ارْتَعَشَ جَسدها مع ارتفاع يده الأخرى أمام وجهها كاشِفًا عن صَفحة اسْتطاعت أن تُمَيِّزها من خلف غشاء دَمعها المُهتَز.. كانت صفحة هوية.. صفحة من جواز سَفَر.. إذن هذا الشيء الذي بين يَديه جَواز! واصَل إشعال النيران" شوفيــه.. شوفي هالانسان "قَرَّبَ الجواز من عَينيها بمبالغة" اقري اسمه.. اقريــه.. اسمه ديمتري موريس.. هذا الانسان مرتبط بهالرقم.. علامتين لوجود كائن حي في هالدنيا.. كائن غير اللي قدامش.. محمد موجود بس اهني.. أو عشان أكون صادق أكثر.. محمد منسي اهني.. في هذي الجزيرة الصغيرة.. أما في أي أَرض عداها فهو مسجون بين ديمتري ورقمين "ضَغَطَ بأصابعها الرّاجفة على الرَقم وهو يَبْتسم ابْتسامة كان مَعناها لُغزًا لها وله" هذا مو وشم.. واللي في ظهري بعد مو وشم.. هذا حرق.. مكتوب بالنار.. "ضَغطَ أكثر وهو يَسأل" تحسين بلسعتها؟... أنا للحين أحس فيها.. على الرغم من السنين اللي مرّت.. إلا إنّي للحين أَفز من نومي متوجع من حرارتها حَرَّرَ يَدها وهي بسرعة سحبتها إلى صدرها وبيدها الأخرى احتضنتها تُمَسِّد مفاصلها المَفزوعة وعيْناها المُحَمرَّتان من وَخز الدّمع لَم تبرحان وَجهه المُتعاقِد مع الشتاء.. كانت تشعر بَعينيها مُثقلتين، وكأنَّهما تَحملان صُخورًا لا دُموع.. لَم تُغادر المُقلتان دَمعة واحدة.. وأيضًا لَم تَتراجع إلى الروح دمعة واحِدة.. ظَلَّت العَينان هكذا، جاحِظتان والدَّمعُ مَوْجًا يُعانِد المَد. تَراجعت للخَلف خطوة بتعثِّر.. دُوار يُحاصرها وغَثيان يَجثم على صَدرها.. تَشعر برغبة بالاستفراغ.. بَوحه اتْخَمها على الرغم من أنَّها لَم تَتَجَرَّع غيرَ الجذور.. تَساءَلَ وهُو يَرى كَيف تَقَهقر جَسدها بِوَهن: اللي قلته نبذة.. حتى مو البداية.. قشور بس.. للحين مُصرّة تعرفين كل شي؟ لَم تُجِبه.. اتَّكَأت بباطن يَدها على منضدة التسريحة برأس مُنَكَّس.. أَغْمَضَت لتفصل نفسها قَليلاً عن الواقع الخانِق.. بَدأت تَتنفس بوضوح.. شَهيق عَميق يَتبعهُ زَفيرٌ مُحَمَّل بفُتات أحاسيسها السلبية تجاهه.. انْزَوت لتُرَمِّم ثَباتها وتُعيد خياطة ما فَتقته عاصفته من ثَوب صَبرها.. وبعد نصف دقيقة فَتَحت عَينيها.. هَدأت أنفاسها وانْخَفَضَ رَتم ارْتجافها.. قَصَدت يَدها خصلات شَعرها لِتُزيحها عن وجهها.. مَرَّرَت لسانها على شَفتيها ثُمَّ أَدارت وَجهها إليه وهي على انْحنائها.. بانَ لَها وَجهه المُتَحفِّز.. هَمَسَت تُجيبه صادِمَةً ذاته في الوَقت الذي فارَقت فيه عَيناها دَمْعة مُشْفِقة: ايــه "أَكَملت بِبَحَّة مُثيرةً شَعْب أَملٍ مات انتظارًا في كَهف ذاته" مستعدة أسمع كل شي.. مدام سَماعي بيخلي لمحمد وجود ,، حُمَم تَتصاعد في صَدره مُضاعفةً من حَرارة جَسده، ومُحَفِّزةً مَساماته لإفراز عَرَقٍ لهُ رائحة تَوَتّر.. اسْتكانَ على ظَهره.. زَفَرَ وعَيناه مُتَعَلِّقَتان بالسَّقف، وفِكْره مُعَلِّق بالـ "لا" المَسْمومة التي قَذفها لِسان والدته فَشَلَّت حَرَكة نَبْضه.. انْقَلَبَ على بَطْنه رَفع هاتفه المتروك بجانب رأسه.. نَظَرَ للساعة، تَجاوزت العاشرة مَساءً.. انْقباض مُؤلم في مَعدته ذَكَّره بأنَّه لَم يأكل منذُ الإفطار.. لا يَشتهي شيء.. يَشعر أنَّهُ لو تناول لُقمة سَيَستفرغ مُباشرة.. فالقَلَق قَد اتْخَمه، والضِّيق صَيَّرهُ الوَقت سَلاسل من حَديد تخنق دواخله ساعة بعد ساعة. هُو صَحيح أخْبَر شَقيقته بتخييره لوالدتهما إن صَمَّمَت على الرفض.. لكنّهُ يعرف نفسه جيِّدًا.. حتى ولو هاجرَ وطَلَّق وطنه لَن يَهنأ في عَيشه.. فِكرة أن يَبتعد عنهم لأشهر اسْتساغتها الرُوح وتلاءَم معها صَبره؛ لأنّهُ كان في حاجة ماسَّة للابتعاد.. لكن أن يَبْتر الأبد احْتمالية عَوْدته فهذا ما لا يَقوى عليه.. وإن حاولَ لَن يَسْتطع.. فشخصيته لا تألفَ الوِحدة وذاته تتوحَّش من ظَلام الغُربة.. لذلك لا يعتقد أنَّ تهديده ذا منفعة. إذن ماذا بعد الرفض؟ هل يستسلم لو اسْتَمَرَّ اعتراضها؟ هَل يَتنازل عن المأوى الذي اهْتَدى إليه بَعْدَ زَمَنٍ من الضياع؟ هَل يَبيع الزُّمرد على رَجُلٍ آخر بِثَمَنٍ بَخْس؟ ارْتَجَفَ قَلْبه من قَسْوة هذا السؤال.. جَلَسَ وهو يُحَرِّك رأسه كأنَّما ينفضه من هواجِس تتَجَمَّع كغبارٍ يَمنعهُ من رؤية سَليمة.. لا داعي لِسَجْن نَفسه في هذه المَعْمعة.. إحساسه يَقول له أنَّهُ سَيصل إليها حَتْمًا.. لذا لَن يُشْغِل نَفسه في تَكديس الهَم فَوْق الهَم.. تَرَك السَّرير مُتَّجِهًا لغرفة ملابسه.. الْتَقَط رداء الاستحمام قَبْلَ يترك غرفة نومه ويغادر جناحه بالكامل.. ومُباشرة انتقل من الطابق الثاني إلى الأرْضي دُون أن يَلْتفت لأي من الغُرف.. تَجاوز الباب الداخلي قاصِدًا المَسْبَح.. حَيث هُناك تَحَرَّر من ملابسه مُبْقيًا على سروالٍ مَطاطي قَصير.. تَرَكَ هاتفه على الأرْض بالقُرْب من سَطْح المَسْبح قَبْلَ أن تَتطاير قَطرات الماء بانْدفاعٍ للأعلى من قوَّة قَفزته.. السباحة بالنسبة له الحَل الأَمثل لكُل المُعضلات.. والسلبية التي تَضج داخله لَن يَصمتها سوى وَقع الماء وهُو يرتطم بذراعيه.. اسْتَمَرَّ يَقطع مَسافاتٍ بالسّباحة.. بَين ذهابٍ وإياب يَحرث أَرْض عَقله لِينثر بُذورًا جَديدة تأتيه بأفكارٍ مُثْمِرة.. أَفكار تُطْعمه الهُدوء والسَكينة.. يَسْبح بصدره.. يَستريح على ظَهره.. يَغوص لدقائق يَتَفَقَّد صَبْر رِئَتيه.. يُزيح شَعره الغارق عن عَينيه.. يَزْفر أَنْفاسًا هائِجة اعتراكها داخله أضنى رُوحه.. يَسْبح وَيسْبح حتى أَنَّه كان يَتمنى لو يَتَحَوَّل لِموجة وَحيدة.. تَختلط ببحرٍ أو بمُحيط.. أو حتى بتَيَّار نَهرٍ يُفضي لِشَلّالٍ شاهِق يَفقد أَثناء هُبوطه منه ذاكرة القَلق. بَعد خَمس وأربعون دَقيقة هَدَأت حركته.. فعضلاته قَد أعيتها سِباحته القاسية نوعًا ما.. اتَّكأ بساعديه على حافَّة المَسْبح.. اسْتعلم الوقت من شاشة هاتفه.. الحادية عَشر وعشرون دَقيقة.. أَرجع خصلاته للخلف وبقيت ثابتة على وضعها من ثقل الماء.. وجهه كانت تُغادره قَطرات حَملت معها بعضًا من سَلبيته.. فَتحَ قفل الهاتف، ضَغط على قائمة جهات الاتّصال.. ابْتَسَمَ بشحوب عندما ظَهرَ لهُ الاسم الذي اختارهُ لها قَبْلَ أشهر "مُشكلة"... هَمَسَ لنفسه باسْتياء: وللحين مُشكلة! هو اسْتأذن من والدها لمحادثتها ووافق مُباشرة وأرسل لهُ رقمها المحفوظ عنده سِرًّا.. هل يتصل الآن؟ عادَ ونظر للساعة.. هذا الوقت عامةً يُعتبر مُتأخِّر.. لا يعتقد أنَّه من اللائق أن يتصل بها.. رُبما هي نائمة.. أو مشغولة.. هي حتى قَد تَسْتنكر منه الاتّصال في هذا الوقت وَتُأنّبه.. لكنّه يُريد أن يُحادثها.. يُريد أن يُرَبِّت على خوف فَقدها بصوتها.. وأن يُبَرهن لذاته واقعية ارْتباطه بها.. إذن هل يتّصل؟ تَحَرّكَ إبهامه بتردّد على الشاشة.. حائر بَين الحاجة التي تُحَرّضه على الاسْتماع لنبرة صوتها الناعمة، وبين الحَرج الذي قَد يغمره إذ هي أَنَّبته.. فَكَّرَ وفَكَّرَ وفَكَّر.. وفي النهاية انتصرت الحاجة التي تُخيط الأفعال على قياسها حتى وإن كانت غير لائقة. رَفع الهاتف لأذنه.. الرنين طالَ قَليلاً.. أَغْمَضَ وهو يَعض على شَفته السفلى وفي داخله يشتم نفسه.. أخفضه بتراجع لكن قَبْلَ أن يُنهي الاتّصال ظَهَرت على الشاشة ثواني تَكشف بَدأ المُكالمة.. أَجابت.. أجابت على اتّصاله.. رَفعه مُجَددًّا بَعد أن أَمَر جَميع حَواسه بتوجيه الانتباه لصوتها. : متصل عشان تسكت؟ كانت هذه الجُملة الأولى التي سَمعها منها.. ابْتَسَمَ بخفّة وهو يُجيبها بهمس: كنت بسكره يوم شفت الرنَّة طوَّلت.. قلت يمكن نايمة وَضَّحت بذات الهَمس: مو متعودة أنام هالحزة تَساءَل بضحكة: هذي نتايج المُستشفى أو السهر رفيقش من قبل؟ أَجابت بنبرة بَيَّنت لهُ أنَّها تَبْتَسِم: لا من قبل.. من أيام المدرسة ما كنت أنام قبل الساعة وحدة "هذه المرة هي التي سألت" وإنت متى وقت نومك؟ : ما في وقت معيّن.. متى ما خلصت شغل وأنهيت مهام يومي أنام هَمْهَمت: يعني للحين ما أنهيت مهامك مدامك للحين قاعد.. شنو باقي عليك؟ ابْتَسم وصوته ينخفض أكثر: كان باقي هالاتّصال هي التي كانت على الطَّرف الآخر مُسْندة ظَهرها بالسرير تُدير خصلة حَوْلَ سَبَّابتها، قالت بنبرة اسْتغراب: أبوي قال لي إنّك طلبت رقمي وأرسله لك.. يوم شفت الوقت تأخر قلت ما بتتصل اليوم.. ما توقعتك تتصل هالحزة! دَعَك ما بَين حاجبيه بإحراج قَبْل أن يُجيبها وهو يَسْبح ببطء ناحية السُّلَّم: انشغلت شوي وما انتبهت إلا وهي طافت الإحدعش.. وصراحة تردّدت اتصل.. بس قلت بجرّب عَقَّبَت: أهــا.. فهمت "استطردت وصوت سباحته يَصلها" صوت شنو هذا؟ أَجابَ مع مغادرة جَسده للماء: ماي عَقَدَت حاجبيها: ليش إنت وين؟ وهو يَلبس رداء الاستحمام: في المسبح.. كنت أسبح اسْتنكرت: تسبح هالوقت!.. وبعدين الجو بدا يبرد.. يعني بيتعب صدرك.. خصوصًا إنت فيك ربو.. مو زينة لك السباحة في هالجو ضاقَت عَيْناه مُتسائِلاً وعلى شَفتيه ابْتسامة استغراب: شدراش إنّي فيني ربو! صَمَتَت لثوانٍ مُتفاجأة.. اسْتَرسلت في حَديثها ولَم تَنتبه.. رَشَّحت صَوتها من الارْتباك ثُمَّ هَمَسَت بثقة: ما يبي لها ذكاء.. بين كل كلمتين تاخذ نفس.. وفي آخر نبرتك بحَّة.. يمكن مو واضحة بس المنتبه يقدر يلاحظها جَلَسَ على أَحد المقاعد الخشبية وهو يُعَلِّق بضحكة: التحليل رَكيك لكن بسوي روحي اقتنعت فيه وهي تَدّعي عدم الاهتمام: كيــفك "نادتهُ لِتُغيِّر الحَديث" عبد الله بهدوء: آمري ابْتَسَمت لكلمته المُحْتَرمة: ما يآمر عليك عدو "كَشَفت عن سؤالها" قلت لأهلك؟ صَمَتَ وعَدستاه تَرَّكَزتا على نقطة عَشوائية جَرَّتهُ للأحداث السابقة.. رَمَشَ ببطء ويَده ارْتفعت قابضةً على خصلات شعره.. وبهمسٍ حاولَ أن يَسلخه من اليأس: ايـه.. كلمتهم : وشنو رايهم؟ اسْتعان بإجابة سَخرت ذاته من عُريِّها من الصدق: طبعًا رايهم من رايي.. كلهم فرحوا لي.. كلهم.. واستانسوا أكثر يوم عرفوا أمش الله يرحمها تَمْتَمت وهي تعلم يَقينًا بكذبه: الله يرحمها قال بَعد لحظات من الصَّمت لينجو من أسئلة أخرى قَد تُحاصره: تأخر الوقت.. مابي أطوّل عليش أكثر.. تصبحين على خير هَمَسَت وهي تستوعب انتهاء أوَّل مُكالمة بينهما كَمخطوبَيْن: وإنت من أهل الخير أَخفض الهاتف ببطء وهو يُغمض لِيَمتص بروحه رَحيق هَمْسها الشافي.. لا يَنكر أنَّ الحَديث البَسيط الذي جَمعهما خَفَّفَ من حِمل أكتافه.. لكنّه على الرغم من ذلك لام نَفسه وبشدّة على فعلته.. فهو قَد وَطأَ أَرْضَها باتّصاله والطَريق يبدو أَمامه حافِل بالمُغريات التي يَسيل منها لُعاب ذاته العُطشى.. ماذا لَو رَبَح رَفْض والدته.. كيف سَينزع ذاته من بِطنان أَرْضها الأنثوية؟ ,، ها هي الأَريكة ذاتها تَجْمعهما للمرَّة الثانية.. أماكنهما لَم تَتَغَيَّر.. لا زالت هي تَسْتَقِر على يَمينه.. ولَم تَفْتأ المَسافة أن تَتَوَسَّط جَسَديهما.. اليَدان مُتَشابكتان ومُنزويتان في حضنها.. مُطْرِقَة رَأسها بِجْفِنَين مُرْتَخِيَين.. مُسْتَعِدَّة لِلغَوْص في ذاكرته.. النَّبضات مُسْتَمِرَّة في ضَرْب أبواب قَلْبها المُتَوَرِّم.. وأَنْفاسها المُتَعَرِّجة تُنازع بَقاءً بَيْن أَزِقَّة صَدْرها الضائِق. هُو... كانت يَداه أَيضًا مُتَشابِكَتان، إلا أّنَّ رأسه كان مُوَجَّهًا للأَمام.. وكأنَّهُ يُناظِر أَطْلالَ ماضٍ مُخَلَّد في الذَّاكِرة.. وفخذاه قَد تَنافَرا لِيَتَكئ بمرْفقيه فَوْقهما.. خِلافًا لِفخذيها المُلْتصِقَيْن. اسْتَهَلَّ حَديثه بِهَمْسٍ يُشْبِه الريح التي تَتَجَسَّس على هُدوء الليْل: شـاب.. عمره ما تجاوز الثمنطعش.. روحه متحمسة للخطوة الجديدة.. الخطوة اللي بتعبر به إلى حلمه.. السيارات هوايته.. هوايته بكل ما للكلمة من معنى.. درس واجتهد وتعب لمدة اثنعش سنة.. عشان يظفر بالبعثة اللي يطمح لها.. وفعلاً حَصَّل البعثة.. هندسة ميكانيكية في ألمانيا.. سافر وتشيعه دعوات أمُ ودموع إخت كانت مثل ظله.. على ظهره كان يحمل حلمه وطموحه ومستقبله.. وكان يحمل في قلبه ذكرى عايلة ما درى إنَّ انحناءة مُفاجئة راح تخليه يفقدهم لثلطعش سنة.. مرت أشهر بسيطة.. عادية.. ما بين دراسة وتعوّد على الغربة.. وما بين مُحاولة تكيّف مع البلد الجديد بعاداته وأهله وأكله ولغته... وجوَّه... جا الشتا.. وما كان متوقع إن شتاءهم قاسي بهالطريقة.. ثيابه ما كانوا كافيين.. كان يلبس بالثلاث قطع وبعد ما يحس بالدفا.. فأمه قالت له يروح يشتري ثياب تناسب جوهم.. عشان لا يمرض.. وراح لمحل في واحد من المجمعات.. أخذ له جم قطعة ودخل يقيسهم.. كان جسمه ضعيف.. يتلاءم مع حجم الظروف الصعبة البسيطة اللي واجهته في حياته.. كان مقابل المنظرة مندمج مع الثياب اللي لجأ لها عشان تمنع عنه لسعة البرد.. ما كان يَدري إن بعد ثواني بس راح يسكنه البرد للأبد التَفَتت إليه وبَيْن حاجِبَيها عُقدة.. كيف لمُشْكلة في متجرِ مَلابس أن تَتَسَبَّب بكُل هذا الدَّمار! تَساءَلت بوَجْسٍ مُتَهَيِّب: شصــار؟ أَجاب ببساطة: عملية سَطو "نَظَرَ إليها مُضيفًا كَلِمة" مُسَلَّح اتَّسَعَت عَيْناها بذهول وحَدَقتاها تَنتقلتا بين ملامحه تَبْحث عن آثارٍ للتكذيب أو المُزاح.. سَطو مُسَلَّح! هل أَصابتهُ طَلْقة؟ أو رُبَّما احْتَجزوه كَرَهينة... أو أنَّهُ قَد شَهِد قَتْل أَحدهم؟ أَكْمَلَ هو ليُجيب على تساؤلاتها: ظَل في غرفة الملابس.. خايف.. مرعوب.. يرتجف والعرق غرَّقه من فوقه لتحته.. وهم بعد ما تخلصوا من الكاشير بدأوا يتأكدون من إن المحل فاضي عشان ما يكون في أحد شاهد على جريمتهم.. وكانت مهمة اثنين منهم تفقّد غرف الملابس "تَسارعت أنفاسها مُتفاعِلة مع عَقلها الذي كان يتَصوَّر الحَدث وكأنهُ حقيقي.. أرْدَف" وصلوا للغرفة اللي هو ورا بابها.. كانت ثواني.. ثواني بس فصلت بين فتحهم للباب ولدخول الشرطة هَمَسَت: قبضوا عليهم؟ هَزَّ رأسه: ايــه.. وهو أخذوه للتحقيق.. سألوه بعض الأسئلة وبعدين سمحوا له يطلع.. وكان يعتقد إن بتجاوزه لباب المركز إنّ ليلته العَصيبة انتهت.. وما كانت إلا تجربة خَطيرة يضيفها للذاكرة تساءلت باسْتنكار: ليش شنو صار بعدها! وَضَّحَ: ما كان يدري إن هالعصابة مو بس مكونة من سبعة.. هي أضعاف أضعاف أضعاف هالعدد، وأكثر.. أياديهم طويلة وعيونهم تقدر تشوف المخفي والمستور.. ومنها تسجيل كاميرات المحل اللي ظَهَر فيها وهو داخل لغرفة الملابس بكل وضوح أَكْمَلت هي باسْتيعاب: فقرروا يتخصلون من الشاهد الوحيد عليهم أَكَّدَ: بالضبط وجَسدها يُواجهه بانْتباه: شنو سووا؟ حَرَّكَ يَده وكأنّه يطلق رصاصة من سلاح: استهداف بالسلاح.. كان جنّه تحذير.. لأن الرصاصات بتعمّد ما كانت تصيبه.. هذا تهديدهم الأول.. الثاني كان خطف.. جم بُكْس وكف وجم رفسة سال منهم دمّه.. أما التهديد الثالث.. أو عشان أكون دقيق.. الخطوة النهائية للقضاء عليه كانت توريطه... بالإرهاب ارْتَجَفَت من رَعْدة الصَّدمة حتى أنَّ أصابعها تَنافرت من هَول الذي سَمعته.. قَفَزَ هَمْسُها فَزِعًا: إرْهــــاب! فَصَّل لها: رجَّال شايب ترك عنده شنطة في وحدة من الشركات وادّعى إنّه بيروح وبيرجع.. راح لكن ما رجع.. وبدله حضرت الشرطة وحاصرت المكان وجَرَّته هو مثل المُجرمين ومعاه شنطة فجأة امتلت بالمتفجرات! قَدماها ارْتفعتا للأريكة وَجسدها اقْتَرب منه بلا وعي منها: لبَّسوك التهمة يعني! هَمَسَ: ايـه بانْفعال قالت ويَداها تَشرحان الغوغاء التي أَجَّجها داخلها: زيـن أهلك ليش ما حطوا لك محامي؟ الشهود اللي شافوك مع الشايب.. كاميرات الشركة.. جامعتك والسفارة! بنبرته الباردة: لأن مَحَّد كان يدري... ومَحَّد للحين... يدري ثَغْرة تُسْتَفرغ منها كُل معاني الانشداه والذهول انْتَصَفَت شَفتيها.. لا أحد يَدري إلى الآن.. لا أحد! أَطْبَقَت شَفتيها.. ابْتَلَعت ريقها في مُحاولة لاجتراع حَقيقة خَوْضه غمار تلك العاصِفة وَحيدًا.. اسْتفسرت مُسْتَعِدَّة لصدمة جَديدة: حتى أمك.. وأبوك؟ كَرَّرَ وسَواد عَيْناه القاتِم يَجْذبها لِدَوَّامة الضياع التي كانت تُحيط به في ذلك الوَقت: مَحَّــد مَرَّرَت يَديها على وَجْهها وهي تَزْفر اتّزان فِكْرها المُتَذبذب من صَعقات اعترافاته.. اسْتفسرت مع اسْتقرار يَديها حَوْل عُنقها: من جذي اختفيت ثلطعش سنة؟ لأن انسجنت؟ حَرَّكَ رأسه نافِيًا: لا.. انسجنت لفترة بس "أشارَ لظهره" والرقم اللي شفتينه هذا رقمي الأمني.. يعرّفني كسجين مُتَّهم بالإرهاب "أفْصَحَ" استغربت إنش لاحظتين بس الرقم وما لاحظتين شي غيره "نَظرت لهُ بعدم فهم وهو واصلَ مُوَضِّحًا" ما لاحظتين آثار التَّعذيب قَبَضَت بيَدها فَوْقَ حَنْجَرتها وهي تَزْدرد ريقها مرة بعد مرة.. مُحاولةً تَثْبيط عَزْم الغَصَّة المُهَيِّئة لبُكاءٍ غَزير.. هَمَسَت ببحَّة: عَذَّذ.. ذبوك؟ عَدَّدَ لها بهدوء وكأنَّهُ يُعدِّد النِّعم التي أغرقوه بها: جَلْد.. بالسياط.. بالأسلاك الكهربائية.. حروق بالنار أو بمواد حارقة.. جروح بالسجاجين بعضها احتاج لغرز.. "أشارَ للسقف" بعض الأحيان كانوا يعلقوني لأيام من رجولي أو ايدي.. عـادي جدًا في يوم، واحد منهم يقرر يرميني على الأرض ويمشي فوقي.. أو يقضي حاجته على ثيابي.. ومرتين حجزوني في صندوق يتّسع لطفل عمره عشر سنوات.. أظل في الضيق والظلام لأيام وليالي.. ما أعرف الليل من النهار.. لكــن "خَبَى صَوْته مُرْدِفًا" كل هالتعذيبات في كفّة.. وتعذيب واحد في كفّة بروحه صَمَتَ مع تَدَنّي عَدَستاه لزاوية عَيناه.. وكأنَّه يسْبر أَغوار رُوحه المُعَذَّبة لِيَتَفَقَّد قُبْحَ الذكرى.. هَمَسَت بارْتعاش: شـ ـشــ ... ـنو! نَظَر إليها للحظات ثُمَّ أَشاح عنها لِيُجيب بوَجْسٍ أَيْقَظَ جِرْحها الغافي: السَّجَّان... اعتدى عَلي.. جنسيًا مالَ جَسَدها للخلف بانْهزامٍ من ريح اعترافه الهَوجاء.. النَّفَس عَبَرَ رئتيها بِتَعَرّج صَعَّبَ عليها تَنَشّقها، حَتى أنَّ شَهقاتها اعْتَلَت من صَدْرها بِتكَسِّر ثاقِبة بحدّة الصَّمْت الذي خَيَّم على المَكان بَعد أن بَصَقَ جُمْلته.. ارْتَطَمت دُموعها بَخَدَّيها مُحْدِثَةً ضَجيج أَرْبَكَ حواسها.. بَكَت بِلَوْعة الْتهمت ثَباتها وَصَبْرها الذي ظَنَّت أَنَّهُ قادِرٌ على مُجابهة خَفاياه.. لَم تَكُن تَعْلَم أَنَّهُ يَحْبس في صَدره ظَلامًا من شأنه أن يَبْتلع أَعْظَمَ نُور.. حَتَّى أَجِنَّة النُور المُتعَلِّقة بأرْحامٍ مُشَوَّهة.. تُجْهَض إذ مَسَّها خَيْطُ ظَلامٍ فَرَّ من السواد المأهول في صَدْره. زَمَّ شَفَتيه وهو يُبْصِر لَوْحة البؤس التي رَسَمتها فرشاة ماضيه.. لذلك هُو حَذَّرها من إطلاق سَراح لسانه.. لأنَّه يَعلم أنَّهُ يُسْتَعصى على الإنسان الطَّبيعي احْتمال فاجِعة كهذه.. انْحَرَفَ بنظره بعيدًا عنها لِيُكْمِل حكايته: كان يزورني مُحقّق.. أبو صديقي.. آستور.. أبو هاينز.. كان يزورني ويخيرني ما بين الاستسلام والبقاء ورا القضبان.. وما بين النجاة ببقايا ذاتي.. لكن طبعًا بشرط.. اشترط علي اشتغل معاه بالسر.. "رَفَع الجَواز مُجَدَّدًا" اشتغل كعميل سرّي.. رفضت في البداية.. لكن الاعتداء اضطرني للقبول.. وبمجرد قبولي انشالت عني التهمة وفجأة من غير أي تفاصيل طلع حكمي بالبراءة! آستور تكفَّل فيني.. أعطاني اسم جديد.. هوية جديدة.. هذي اللي تشوفينها.. تغيير بسيط في الشكل.. وتغيير كبير في الروح والشخصية وحتى الجسد.. استمر يدربني لأشهر على السلاح وعلى أساليب هَرب وتجسس خاصة.. ودربني على استعمال أجهزة مراقبة دقيقة جدًا، وشلون أدافع عن نَفسي.. وغيرها من التدريبات اللي صارت جزء من حواسي.. هو كان على دراية بكل شي من البداية، من موقف المحل.. كان يوهمني إن عندي قدرة على التحقيق وكشف الملابسات.. كان يبيني أتفاعل معاه عشان ينقذني، لأنه كان يعرف بحجم الخطر اللي راح أتعرض له.. لكن هاينز الغافل عن كل شي كان خايف عَلي من أبوه.. فكان كل ما يقدر يحاول يبعدني عنه.. فابتعدت.. فكانت هذي النتيجة "أَفْرَغ تَنْهيدة طَويـلة تَذَيَّلت بآثار وَجع ذاته.. ثُمَّ تَطَلَّعَ إليها ليقول بنصف ابْتسامة" حاولت أختصر كثر ما أقدر. حَبَت نَظراتها المُتوَجِّعة.. تَسَلَّقَت السُحب الرَّاسية فَوْق مُقْلَتيها لِتَنظر إليه.. الأَقسى والأَمَرّ على جَواها من ماضيه الناقِع في السُم كان أُسْلوب حَديثه.. صَوْته المُلْتَف بوشاحٍ اسْتَقَرَّت فوقه قَزَع جَليدية.. نَبْرته المُسْتَعيرة من الرّياح هُبوبها المُوحِش.. عَيْناه المُوْصَد باب سَماءهما فَلا يَسْهر قَمر.. ولا تُومض نَجْمة.. ولا يَمُر شَهاب.. وَملامحه اليَتيمة من كُل شُعور.. كان ببساطة غَريب.. غَريبٌ عن نَفسه وعن إنسانيته.. هَشَّموا رُوحه وابْتاعوا له خِرْقة بالية لِيَمْضي بها بَيْن النَاس.. انتهكوا سَلام ذاته وَنَهبوا منها وُجوده.. سَلخوا عنهُ مواضِع الدِّفء التي تَرَكتها يَدُ أُمٍّ ثَكْلى.. سَرقوا الابْتسامة من وَجْهه.. وأَرْغموا فؤاده على ارْتداء سوادٍ خانِق حِدادًا على كُل الذي مات فيه. هي كان يُساورها شَكٌّ تجاهه.. البرود الذي يَحاصره أَوْجَد تساؤلات داخلها كما أَنَّهُ اسْتَفَزَّها.. لَم تَكُن تَعْلَم أنَّهُ تَبَلُّد.. تَبَلُّد من الحَياة ومن كُل شيء يَهْمس لهُ بالعِوَض.. فَهو قَد شَهِدَ على إعدام حُلْمه الذي بالكادَ لامَسَ الشَّمس.. كما أَنَّهُ حَضَرَ مَوْته، مَوْتَ مُحَمَّد.. خَلْف ذلك الباب.. خائفًا.. مَذْعورًا.. غَريبًا.. ووَحيد. هُو الذي كان يُراقِب ثُقْب الذِّكرى الذي يَرْتشف حَلاوة حاضره، شَعَرَ بِحَركة جَسدها.. ظَنَّ أَنَّها سَتقوم.. رُبَّما ستطلب منه مُغادرة الغرفة.. أو أَنَّها هي سَتُغادر.. سَتهرب لِتَحمي رُوحها من وَحْشية ماضيه.. لَكنَّ مَسًّا رَقيقًا تَوْأمًا لِنَسْمة دفء مُداعبة؛ عَطَّلَ حَواسه.. التَفَتَ بآلية مُتَتَبِّعًا ببصره مَصْدَر الرَّبيع الذي أَحاطَ بِه.. نَظَرَ مَبْهوتًا لكِفَّيها الرَّاجِفَيْن وهُما مُتَمَسِّكَتَين بساعدَيه.. وكأنَّهما اليَد التي بَحَثَ عنها وهُو تائهًا بِعَجْز بَيْن تَضميد جِراح جَسده ولَمْلَمة شَتات رُوحه.. رَفَعَ بَصره لِوَجْهها وبَيْن أَهْدابه سؤال.. لكنَّ نَحيبها الذي اعْتلا أَجَّلَ كُل أَسْئِلته.. نَطَقت من بَين بحرها المُتلاطم وهي تنظر إليه من خَلف الغَمام الماطِر: كنت.... بروحك...... في غُربــة! فاقد أهلك..... وناسك..... وما عندك..... ظهر يسندك..... تحملت كل شي... كل شــ ـي.. بروحك! "مالَ رأَسها وعلى جِفْنَيها ناحَ عِتاب" ليــ ــش ما تكلمت؟... ليش ما شكيـ ـت! "تَركت يُسْراها ساعده لتتَشَرَّب دَمعاتها وهي تَسْتَقِر جالِسة فَوْق رُكْبَتيها " أَدري... أدري الجرح اللي داخلـ ـك.. صَعب يبرا.. بـس.. كان بيكفيك حضن أمـ ـك.. كان بيكفيك! ترى.. قلب الأم انخلق.. عشان يتسع لكل اللي تضيــ ــق منه الرُوح. رَمَشَ ببطء مأخوذًا بِحَديثها.. وكأنَّ فِكْرة البَوْح لَم تَطرق بابه يَوْمًا.. فَهْو خَلْفَ قُضْبانَ السّجن اقْتاتَ على الصَّمْت ونِسْيان الشَّكْوى.. لَم يَعْتَد على بَثِّ وَجعه.. أَلِفَهُ بَيْن نَبضه وأَسْفَل تَرسَبات حُزْنه حتى أَنَّه لَم يُفَكِّر في التخلص منه.. حتى عندما كان يتحدث مع هاينز.. كان يَسْخر من قَدره لا أكثر.. لولا رَفْضها لُمساعدته في قضية والدها وَشرطها لَما حَرَّكَ عَجَلة ذاكرته. قابَلَ عَيْنيها بِعَيْنيه.. انْقَبَض نَبْضها من الضياع المُتعاضِد مع الحيرة لِحْشو جِفْنيه فلا يَقدر على إبصار الدواء.. مالت شَفتاه بابْتسامة تَفْتقر للمعنى، وَكتفه ارْتفع وهو يَهْمس: عـــادي حَرَّكَت رأسها بقوَّة تنفي وَصْفه الذي يَسْتصغر أَلمه.. ومن بين غَصَّاتها: مو عادي.. مو عــادي.. محمد... إنت شفت الموت.. ألف مرَّة!... إنت.. إنت انهنـ ـت.. أهانوا إنسانيتك! "نَهته وعيناها تعصران الدَمع" لا تقول عادي.. لا تقــ ـول! كَيفَ يَتوهُ الحَرف ويَتعَثَّر الكَلام؟ كَيفَ تُسْبَل الأيْدي وتُشَل الحَواس؟ وكَيفَ يَتَخَبَّط النَّبض بَين ضِلْعٍ وصَدَر؟ هذه الأسْئِلة التي مَرَّت أَمام وَعْيه في اللحظة التي حَثَّتها فيها عاطِفتها الأُنثوية لِتُعانقه.. نعم عانقته.. مَــلاك عانقته.. ها هي ذراعيها تُحيطان بِجَسده المُتَصَلِّب.. ذراع حَوْل عُنُقه.. وذراع مُلْتَصِقة بِظهره تَشَد عَليه.. باغَتتهُ قَشْعَريرة عندما اسْتَشعرَ حَرارة جَسدها وهي تَنتقِل إلى دواخله.. ازْدَرَد ريقه وَعدستاه تَتقلقلان بحيرة.. يَداه بجانبه.. لا تعرفان أي الطُّرق تُسْلَك عند مُعانقة الأَنثى.. لكنَّ الحاجة الشائبة في ذاته ألْهمتهُ.. أَخْفَضَ رَأسه دون أَن يَعلم أنَّ تَقبيل الأنفاس لِعُنْق امْرأة يُساوي الحَياة.. وكأنَّهُ بعد رِحْلة غَرق طَويلة ها هُو للتو يَسْتَنشق أَوَّل نَفَسِ نَجاة.. بِقَدر ما ينحني جَسَدَ الرَّجُل عند عِناقها، بِقَدر ما تَعْلو رُوحه وتَحيا.. أغْمَضَ عَيْنيه مُسْتَسلمًا لِعَذبِ رائحتها التي بَدأت بِتَطَهير أَنفاسه وتَعطيرها.. وكأنَّها تُعيد تَرتيب بَعثرتها لِتَقودها إلى فؤادٍ أَهْرَمهُ الاختناق. قالتَ لهُ بِهَمْسٍ مَذْبوح: آســـ ـفة عَقَدَ حاجِبَيه وهَمَسَ مُسْتَنكِرًا: ليش تعتذرين! أَجابتهُ بِلَحْنِ أَسى وَحسْرة: نيابة عن الدّنيـــا ,، أَوْصَلَت ابْنتها للصَّف مثل كُل يوم.. وكالعادة قابَلها نادِر بابْتسامة وهو يتعامل مع الموضوع كَصُدْفة.. كُل صَباح! إلا أَنَّهُ حَقيقةً ينتظر قدومها من نافِذة مَكتب زَميله.. وفور نُزولها من السَّيارة.. يخرج للممر الواسع يَتَصَنَّع الانْشغال مع الطَّلاب إلى أن تَدخل.. فَيَقابِلها بنظرة الشَّخص المُتفاجئ.. ثُمَّ يَبتسم بِسَعة ويقول بهدوء: صَباح الخير وتَسْتَمِر فَقرة تأَمّله إلى أن تعود لمركبتها وتُغادر.. لكن اليوم لَم تُغادر.. فهي رَكبت لأقل من دَقيقة ثُمَّ عادت وغادرتها.. تَقَدَّم للخارج أَكثر وهو يُدَقِّق في أفعالها.. فهي دارت حَوْل المَرْكِبة لِتَسْتقر عند باب الرّاكِب.. نَظرت للأسفَل وهي تَضع كَفَّها على جَبينها.. ثُمَّ تقف بها عند خصرها.. تَهز رأسها.. ثُمَّ مُجَدَّدًا تَمس جَبينها وهي تَتَلَفَّت.. استوعبَ أخيرًا بعد أن ابْتعدت للطرف الآخر.. كان إطار السيارة الأمامي مُفَرَّغ من الهواء بشكل واضِح.. تَحرَّكَ سَريعًا ناحيتها.. كانت تقف خَلف باب السائق المفتوح وهي تَضع هاتفها على إذنها.. ناداها: أم جَنى التَفتَت إليه لتقول بِحَرج شاركَ الشَّمس صَبْغ وَجْنَتيها: نعم أستاذ أشارَ للسيارة وبابْتسامة: الواضح عندش مُشكلة هَزَّت رأسها وهي تخفض الهاتف: ايــه.. بس ما عليه.. بتصل لأخوي يجي مالَ رأسه وبمُعاتبة: أفـا أم جنى.. أنا موجود.. ما يحتاج تتصلين لأحد اعْتَرَضَت سَريعًا وهي تَشعر باحْتراق وَجْهها: لا لا أستاذ.. مشكور.. بكلّم أخوي من صدق.. لا تتعب نفسك وَضَّحَ: أخوش أكيد مشغول.. واللحين الشوارع زحمة.. بيضيع وقتش ووقته لين ما يوصل وهي تُرْجِع ذراعها خَلْف ظَهرها: ما عليه بشوف أخوي الثاني.. عنده كراج.. إذا يقدر يدز لي أحد كَرَّرَ: ما يحتاج أم جنى.. بسيطة.. أنا اللحين أحل المشكلة "تساءَلَ وهو يَفْتح زِر كُمّه" عندش تاير سبير صَح؟ أَجابت وهي تَدعك جَبينها والحَرج اسْتَوطن ملامحها بوضوح: ايـه في الصندوق "كَرَّرت بمحاولة أخرى" أستاذ بشوف أخواني أشارَ للصندوق: فتحي الصندوق "وبمزاح" شنو بتقول جَنى إذا عرفت إنّي ما ساعدت أمها؟ ابْتَسَمت قَبْلَ أن تُوَضِّح وهي تضغط على زِر فَتْح الصندوق: يوم أطلع من البيت كان مهفّت شوي.. كلش شوي.. ما توقعت يصير جذي في الطريق! عَلَّق وهو يحمل الإطار الاحتياطي: لأن شوارعنا حلوة "أَضافَ بعد أن استخرج العِدّة المُخَصَّصة" أم جَنى تَفضلي داخل المدرسة.. إذا خَلَّصت بناديش حَرَّكت رأسها: لا عادي.. بنتظر اهني اعْترَضَ: لا شنو تنتظرين اهني في الشمس.. ما يصير "أشارَ للمبنى وهو يُقرفص على الأرَض" تفضلي استريحي داخل.. ما بطوّل إن شاء الله هَمَسَت وفي داخلها تَشْتَم نَفْسها: أوكي.. مشكور ابْتَسَمَ وهو ينظر إليها من خلف نُور الشَّمس: حاضرين أَغلقَت الباب ثُمَّ خَطَت للمدرسة وهي تَكاد تذوي من شِدَّة حَرجها.. اتَّصَلت مُباشرة لندى وهي تَقِف عند بداية المَمر.. جاءَها صوت نَدى المُتسائِل: إنتِ وينش؟ عادةً أشوفش عند إشارة الهاي واي هَمَسَت بنبرة تَتَقد من الحرارة التي تُخالجها: نــدى الْحقــي تفاجأت: شصــار! قالت تلوم نفسها: أنا حمــ... أنا حمــ.. ليش طلعت يوم شفت التاير جذي! تَعَجَّبَت: جِنان شصايــر؟ "بخشية تساءلت" فيكم شي؟ ترى خوفتيني نَفَت: لا ما فينا شي.. بس سيارتي بنجرت : انزيـــن؟ وهي تغمض ويدها تُغطّي جانب وَجْهها: وشافني أستاذ نادر وأصر يساعدني.. وحاليًا أنا داخل المدرسة أنتظره ينتهي من تركيب التاير عَلَّقَت: أوووف... جنتل مان أستاذ نادر "وبنبرة ذات معنى أضافت" المسكين رضى يبهذل نفسه من الصبح ويخيس من الشمس والعرق عشان بس يساعدش.. شهالتضحية أُم جَنــى! تَساءَلت بشك: نَدى شتقصدين؟ وَصَلتها ضِحكتها المُسَتفِزّة وهي تَقول: إنتِ احمدي ربّش فيصل مسافر وما شاف مشهد التضحية والشهامة.. لو كان موجود.. أتوقع دَم نادر يصبغون به المدرسة للعظة والعبرة قَبَضت يدها وبحنق انْعَقَدت منهُ ملامحها: ندووي يالـ.... جَب يلا جب "هَدَّدتها" آخر مرة تقولين هالحجي وهي تدّعي البراءة: وأنا شنو قلت؟ بس أبديت رايي بالمشهد الرومانسي.. أوه أوه.. أقصد البطولي نَطَقَت من بين أَسْنانها: انقلعــي اعْتَلت ضحكتها المُشاكِسة: أكيد بنقلع.. بلحق على البصمة أُم جَنــى أَغْلَقت الخط بعصبية سَرَت بَيْن أوْصالها.. لِمَ ظَن السوء هذا؟ هو قَدَّم المُساعدة فقط.. أي رَجُل غيره سيفعل الشيء نفسه.. هو يُعاملها بلطف من أجل جَنى.. لَم تَسْتنبط خَبَثًا أو نيّة سَيئة من خلال حَديثه أو حتى ابْتسامته الدائمة على وجهه.. أَيُعْقَل أَنَّ فيصل ونَدى يَرون شيء هي لا تراه؟ هَزَّت رأسها بسرعة تنفضه من أي فكرة.. لا لا.. مُستحيل.. هو لَم يَعْرفها إلا مُنذ شهرَين فقط.. الأمر غير منطقي حتى لو فَكَّرت فيه.. زَفَرت وهي تَجلس على أحد المقاعد هامِسةً بقهر: كله من ندوي النحيسة ,، أَغْلَقَ باب سَيَّارته بَعْدَ أَن أَوْقَفها بالقُرب من مَنْزل صالح.. انْتَقَلَ بَصره على ما خَلَّفهُ الزَّمَن.. كانت آثار الإهْمال جَلِيَّة على هَيْكله الخارجي.. الجُدْران مُتَصَدِّعة، وكأنَّما رَعْدٌ يَخْتَرِقها.. اصْفرارٌ كَئيب بُصِقَ عليه والعَديد من البُقَع المَنسِية قد طالت جَميع طَوابقه.. نتائج الشَمس والمَطر وأشياءٌ أُخرى.. راودهُ فُضول عن الشكل الداخلي للمنزل.. تُرى كَيف هُو؟ وبأي حال تركهُ أَحِبّائه؟ فَبِحَسَبِ ما قالهُ رائد، فإنّهم لَم يُحَرِّكوا أي شيء من غُرفة المَكتب.. حَيْثُ وَقَعَت الجَريمة.. على الرغم من أَنَّ أهل البيت هَجَرُوه وطَلَّقوا دفئه بَعد أكثر من ثلاثة أعوام، إلا أَنَّهم أَبْقوا على مُحتويات المَكتب كما هي.. دون تغيير أي شيء... رَفَع رأسه للأعلى وهو يُخفض نَظَّارته قليلاً عن عَيْنيه.. نَقَلَ بَصره بَيْن الغُرف.. أيُّ واحدة هي غُرفتها؟ التَفَتَ لِصَوت السيارة التي توَقَّفت خلف خاصَّته وَمَنعته من العَوْدة لأحداث الليْلة الماضية.. كان رائد.. ومن خلفه توقَّفت مُباشرة مَرْكبة عَزيز.. تَرَجَّل الاثنان وتَقَدَّما منه.. أَزاحَ النَّظارة وهو يُسَلِّم عليهم.. تَساءَل رائد بأسلوبه المُشاكس: ها باتمان.. جبت لنا معلومات؟ أَضافَ عَزيز: عاد نَبيها دَسْمة ضاقَت عَيْناه مع تَحَرّك عَدستاه يُمنة ويسارًا وكأَنَّهُ للتو يَتَذَكَّر.. نَطَقَ رائد بشك وهو يَرى كيف تَغَيَّرت ملامح مُحَمَّد: شفيـــك؟... لا تقــوول! عَضَّ شَفته قَبْلَ أن يَقول مُحاولاً التبرير: أعتذر.. باجر إن شاء الله.. أو حتى إذا تبون اليوم.. المغرب عَقَدَ حاجِبَيه عَزيز وبِتَبَرُّم: ياخي شنبي فيهم باجر! " تَذَمَّرَ وهو يمشي للدَّاخل" جيَّتنا نصها بتصير على الفاضي.. والله حــالة كَرَّر اعتذاره بعفوية: آســف.. بس صدق.. ما مداني تَوَقَّفَ عَزيز فجأة واسْتدار له بالتوالي مع اسْتدارة رائد.. نَظَرَ الاثنان لبعض.. ثُمَّ وبلا مُقَدِّمات اعْتَلَت ضِحكتهما الرّجولية لِتُثير اسْتغرابه.. عَلَّقَ رائِد من بَين قَهْقهته: تعجبني الصراحة.. يعترف إن ما مداه.. قــووي بو جاســم غَمَزَ لهُ عَزيز وضحكته تتَقَلَّص لابْتسامة خَبيثة: لا خلاص سامحتك "رَفَع إصْبعه وكأنّه يُحَذِّره" بس عاد مو تعيدها.. بس هالمرة سَماح أَكْمَل عنهُ رائد: المرة الثانية أَجّلها لوقت غيـــر ضَحِكا مرَّة أخرى وهما يَتَّجِهان لداخل المَنزل وهو لا زال يَقِف في مكانه وكأنَّ على رأسه الطَّيْر.. ارْتَفَع حاجِبه اسْتنكارًا وهو يَسْترجع جُمْلته في عَقْله باحِثًا عن الشيء المُثير للضحك والسخرية.. لَم يَجِد شيء.. جُملته عادية جدًّا.. هَمَسَ وهو ينظر لأثرهما: شفيهم ذلين! في الدَّاخل، قَصَدَ الرَّجُلان المَكتب مُباشرة.. سَيَتم تَفْتيش باقي الغُرَف.. ولكن الأهم الآن هي غرفة المَكتب.. دَخَل مُحَمَّد بَعدهما بثواني.. ومُباشرة بَعْدَ أَن اسْتَنْشَقَ رائِحة المَكان عَلَّقَ: الغبار أقل من المتوقع نَظَرَ لهُ عَزيز الذي لاحظَ الشيء ذاته.. مَسَّ سَطْح المَكتب الخشبي القديم والذي لَم يَسْكن الغُبار بَعض مواضعه.. أَيَّدهُ بكلماته: وكأنَّ في زوَّار تطرده اسْتَفَسَر رائد: قصدكم في أحد يجي اهني "حَرَّكَ رَأسه عَزيز بالإيجاب لذا اسْتَنكر" زين ليش! شنو يبون بعد عشرين سنة؟ خَطَى مُحَمَّد لِيَبدأ باكْتشاف المَكان وهو يُجيبه: مُمكن أَثَر لهم أَضافَ عَزيز: أو دَليل يشير لهم بسهولة تَوَقَّفَ عند المَكتب.. مَرَّرَ يده على الأوراق المُتناثِرة بعشوائية.. قَلَم حِبْر عاري الغطاء.. ساعة معصم.. هاتف أرضي أَكَلَ عليه الدَّهر وشَرِب.. مَلفَّات بَهتت ألوانها.. كأسٌ زُجاجي ساقِط وَقد سُكِبَ ما كان فيه لِيَترك أَثَرًا على أَطراف بعض الأوراق المُصْفَرَّة.. وبجانبه كانت عِلْبة دواء.. أدارها بإصْبعه لِيَقرأ المكتوب.. دواء ضغط.. تَحَرَّكَت عَيْناه مُتَجاوِزَةً أشِعَّة الشَّمْس العابِرة النَّافِذة، تَوَقَّفتا عند إطار صورة مُلقى على وَجْهه.. رَفعه لِيُقابله طِفْلٌ صَغير.. تَعَرَّفَ عليه.. إنَّهُ يُوسف.. بخصلات شعره الناعمة المُنْسَدِلة على جَبينه.. وابْتسامته المُفْصِحة عن فراغٍ بَيْن أَسْنانه.. كان يُوسف قَبْلَ أن تُغتال براءته.. أعادها كَما هي لِيُواصِل رحْلته.. وهُناك على يَمين المَكْتب.. بالقُرب من حامِل الأَقْلام اتَّكأ وَجْهُها.. اسْتَجاب نَبْضه تلقائِيًا لملامحها.. البراءة امْتَزَجَت بالنّعومة لِتُكَوّنان سِحْرًا يِفْتن العُيون.. وتَسْتلذ منه القُلوب.. والرُّوح كُلَّما ارْتَشَفت منه نادت بالمَزيد.. رَفَعَ الصّورة لِيُقَرِّبها منه.. عَيْنٌ أضاقها وِسْع الابْتسامة المائِلة.. خَدَّان لا يَحْشوهما امْتلاء.. أَنْفٌ صَغير وشَفَتان زَهريتان.. ابْتَسَم لنفسه وهو يَمس شَفتيها.. هو جريءٌ وشُجاع أَمام الصورة.. لكن في الحقيقة.. هو حتى لا ينـ : محَمَّــــد رَفَع رأسه بانْتباه.. كان رائد يصرخ باسْمه.. والذي قالَ بحَنَق: صار لي ساعة أَناديــك.. مفهّي في شنو! أَرادَ أن يُعيد الصّورة لمكانها لكن يَد عَزيز على الطرف الآخر كانت أسرع فالْتَقطتها بفضول.. قالَ يُحادث رائد بذات ابْتسامته السَّابقة بَعْدَ أن اسْتوعب: مفهّي في الحَبيبة.. الظاهر باتمان رايح فيها عَلَّقَ بسخرية قاصِدًا اسْتفزاز مُحَمَّد: والله شكله آستور أبلشنا.. جايب لنا معرس جديد.. باله كله ويا المراة شَزره مُحَمَّد بجليد عَيْنيه وهو يَخْطو للناحية الأخرى مُسْتَكملاً تَفَقده.. مَسَّ ساعة الحائط التي شُلَّت عَقارِبها عند الساعة الخامسة وبضع دقائق.. لا يَعلم سوى الله أي خامسة هذه.. خامسة الصباح أم المساء.. في ليلة شتوية.. أم أحد أيَّام الصيف المُلْتَهِبة.. لا أحد يَعلم... كانَ حجمها متوسط.. ليست بالكبيرة ولا الصغيرة.. لونها أَسْود تَتَخَلَّلهُ خُطوط تفاوت لونها بين البُني الفاتح والداكن.. أَمْسَك بطرفها من الأسْفَل وهو يَرْفعها قَليلاً لينظر خلفها.. ثوانٍ وأخْفضها وفي عَقله سَطَع سؤال لَم يَسْمح لهُ حَديث رائد في التَّفكّر في جوابه...: شوف محمد.. "وهو يُشير للأرض ثُمَّ للملف الذي يحمله بيده" اهني كان جَسَد الضَّحِية، في هالبقعة اللي أنا واقف فيها بالضبط "أشار للجهة المُقابلة بالتَّحديد على بضع خطوات بسيطة من الساعة" واهني كان يوسف.. المسكين سواها على نفسه من الرعب اسْتَفسَر: جم مرة تحققوا من الغرفة؟ أَجاب عَزيز: المفروض أكثر من مرة.. بس ولا مرة شافوا شي غريب! وهذا بالنسبة لي جدًّا غريب.. لازم المجرم ينسى وراه أثر له.. أو الضحية يترك شي يدل على المجرم "اتَّجه للمكتبة الكَبيرة نسبيًا والواقعة على الطَرف الأيسر من الغرفة" أعتقد بحثهم كان سطحي جدًّا.. بحث بطرف عيونهم ورؤوس أصابعهم "أشار للكتب الكَثيــرة المَصْفوفة على رُفوفها مُرْدِفًا بابْتسامة طَغت عليها المُتْعة" لكن احنا اهني بدا دورنا عَقَّبَ رائد بضيق وهو يَفهم ما يرمي إليه: عَزيــز الكتب واجـــد.. متى بنخلص! بعدم اهتمام: لو نقعد للفجر.. ما بطلع من اهني إلا ومعاي طرف خيط واحد على الأقل أنهى جُملته وهو يَسحب لهُ كتاب عشوائي ثُمَّ جَلَسَ على الأرض وظهره يَستند للمكتب.. تأفَّف رائد وخطى لينتزع كتاب بِقَهر.. تَبِعه مُحَمَّد الذي اخْتار أوَّل كتاب ثُمَّ اسْتكان على مقعد المكتب.. فَتحه وهو يَستمع لعَزيز: الكتب ثقال.. ما بنقدر نحمل ويانا حتى لو واحد.. فبنشتغل عليهم اهني.. لكن الأوراق اللي على المكتب بناخذهم "رَفَع رأسه لمحمَّد يُحادثه" خذهم إنت.. فصفصهم "وبثقة" أعتقد متعوَّد على هالنوع من البحث والتحليل هَمَسَ بتهكّم مع انخفاض عَيْنه لصفحات الكتاب: طبعًا.. ما قَصَّر آستور ,، فَتَحَ عَيْنَيه بملامح مُقَطّبة انْزعاجًا من ضَوْء الشَّمس المُشاكس اسْتغراقه.. بالكاد اسْتطاعَ أن يَنامَ بعد صلاة الفَجر.. فهو ظَلَّ يَتَقَلَّب على أَسْياخ هَواجسه حتى بَعْد أن لَجَأ للسباحة، وكأنَّ تخديرها كان لحظي.. غادَرَ عضلاته بمُجَرَّد أن تَرَك الماء.. أَو رُبَّما صَوْتها النّاعم أَجَّجَ في نِفسه خَوْفًا.. خَوْف من فَقْدها.. زَفَرَ بإرْهاق من براثن القَلق الناهِشة هُدوءه.. لَم يَكن هكذا أَبَدًا.. أبدًا.. شخصيته تَميلُ للتفاؤل، وحواسه تَخْتار أَن تَنْعَم في السّكون إلى نهاية الطريق.. بَدلاً من تَضييع الوَقت في الإنصات لِوَسوسة أَفْكار لا تسمن ولا تُغني راحته.. ما الذي غَيَّره! مَسَّ خصلات شَعره من الأمام وهو يَرْفع الهاتف مُسْتَعلِمًا الوَقت؛ هَرَبًا من التَّفكير في الجَواب... كانت العاشرة وخمسون دَقيقة صَباحًا.. لَم يَنم كِفايته.. لكن هو اسْتَيَقظ وانتهى الأمر.. لَن يَسْتطع النَوم مُجَدَّدًا. أَبْعَدَ الغطاء عَن جَسده وهو يَنقلب على ظهره مُتثائبًا بِعَيْنين مُغْمَضَتَيْن.. جَلَسَ مادًّا ذراعيه للأعلى مُنَشِّطًا عَضلاته.. وأَثْناء تَحَرّك ذراعه اليسرى العشوائي اصْطَدَمت بشيء أَفْزعه.. فَتَحَ عَيْنَيه سَريعًا وهو يَنطق مع استدارته: بسـم الله!.. "عَقَدَ حاجِبَيه بتعجِّب كَبيــر عندما أَبْصَرَ والدته تجلس على مَقْعَدٍ بالقرب من السَّرير.. هَمَسَ وعلامات سؤال تَطل من عَيْنيه" يُمّــه؟ خَرَجَ هَمْسُها مَهْزوزًا.. مُخْتَنِقًا ومُنْكَسِرًا: آخــ ـر شي... كنت أتوقعه.. إنّك.. تظن إنّي.. أَكْرهـ ـك! تَنَشَّقَت وبيدها المُرْتعشة مَسَحت دَمعًا ثَمينًا لا تسرفه العَيْن إلا لِعَزيز.. وهو نَطَقَ برجاءٍ أَحْنى مَلامحه: يُمّــه لا تقوليــ قاطَعتهُ لِتسْتَل من قَلْبه نَبْضًا خَلَّفَ وَجَعًا لا يُطاق: لا تنكر.. لا تجذب علي وتنكر.. شفـ ـت.. شفت سؤالك في عيونك.. إنت ولدي.. لا تظن إنّي ما أفهمك مَسَحَ على وَجْهه براحتيه وهو يَجْبر تَنهيدة على الصَّبْر في صَدْره.. ثُمَّ قال وبَصره للأَسْفَل: يُمّـه.. أنا آسف إذا وَجَّهت لش نظرة تضايقش من غير قَصد.. بس.. "رَنا بحيرة جانِبًا بِصَمْت وشَفَتَيْن مُطْبَقَتين.. قَبْلَ أن يُواصل وعَيْناه تُعاتِبانها بلُطْف" أنا مستغرب رفضش.. يعني أول شي.. نور.. واللحين.. مروة.. ليش.. بس ليــش! أَجابَت بنبرة بها شيء من غُلْظة من بين غَصَّتها: نور انتهى أمرها.. ما أعتقد له داعي نتداول موضوعها بعد "وَجَّهَت لهُ نظرة حادَّة مُرْدِفَةً" صارت مراة خالك هَمَسَ: ومروة.. فاضَت من صَدْرها تَنْهيدة مأهولة بِتَعَبٍ وقَلَق تُكابِد لإخفائه مُجيبةً: ما فيها شي "واصَلت بثقة وهي تَرى كَيف حاصَرَ التَّعَجُّب مَلامحه" جميلة ومؤدبة وبنت ناس.. ما فيها عيب اسْتَنْكر وهو يَعْتَدل في جُلوسه: زين ليش رفضتينها في البداية وقلتين ما تصلح لي! بَرَّرَت: ضايقني.. واجد ضايقني تجاهلك لنا ولراينا.. وخصوصًا أنا.. أمّك.. رحت خطبت وكملت شغلك وبعدين عطيتنا خبر! لدرجة إنّي ظنّيت إنّك سويت كل هذا عناد فيني.. عشان اللي صار مالَ رَأسه وبزعل: يُمّه يعني أنا بعاندش! ولا عمري سويتها وَضَّحَت وهي تشبك أصابع يَدَيها: أدري.. فهمتني غيداء كل شي.. وقالت لي إنّك مكلمها عنها من شهور.. وقالت لي إنّك تحبها مَسَّ زاوية فَمه بلسانه وهو يُشيح عنها بِحَرج: يعني يُمّه مو حُب حُب.. بس يعني.. دَخَلَت قلبي رَشَّحَت صَوْتها تَتخلَّص من آخر أَثَر لِضعفها الذي تَكْره لِتَقول: على العموم أهم شي إنت مرتاح لها وتبيها "حَرَّكَ رأسه بالإيجاب بحماس وهي واصلت بابْتسامة جانِبية" اليوم بكلّم إختها الكَبيرة اتفق معاها.. عشان أنا وإختك وخالاتك وعمتك نروح نشوفها ونتفق على كل شي.. حجي النسوان يعني "رَفَعت سَبَّابتها بتنبيه" لكن بشرط انْكَمَشَت ملامحه: شنو؟ أَجابت بجديّة: تعيش عندي في البيت.. وإذا تبي تستقل على قولتك عندك ورا البيت.. المساحة يسرح فيها الخيل.. ابنِ فيها على راحتك هَمَسَ وعلى أَهْدابه اتَّكأ التَّرَدّد: بس يُمّـه ارْتَفَع حاجِبها: هذا شرطي.. يا أي يا لا.. قرّر زَمَّ شَفتيه قَبْلَ أن يَضحك باسْتسلام: زيــن.. مثل ما تبي بلقيس.. على أمرش أم عبد الله ابْتَسَمت بمَيلانٍ واثِق: تَمــام زَحَفَ على رُكْبتيه لِيُقَبّل رأسها وهو ينطق بفرحة رَفْرَفت من عَيْنيه: مَشكــوورة يُمّه.. مشكوورة شَدَّت على يَده بِمَلَق ثُمَّ وقفت: حاضرين لك حَبيبي "أضافت تَنصحه" عقب ما تصلي الظهر ريّح شوي.. أدري فيك ما نمت إلا بعد الفجر قَبَّل يَدها مُجيبًا بطاعة: إن شاء الله مَسَّت ذقنه بِحَنو ثُمَّ استدارت مُغادِرةً غُرفته لِيرمي هو بظهره على السَّرير بقوَّة.. تَخَلَّلت أصابعه خصلاته قَبْلَ أن تَسْتقر يَداه على مُقَدِّمة رأسه.. تَأمَّل السَّقف ومن قَلْبه كان يبصر السَّماء تَلْتمع لأجله وهو يَزْفر كُل أَشْجانه.. في ومضة انْقلبَ حاله.. يا الله! يَجب أن يُصَلِّي رَكعتين شُكْرًا لله.. هَمَسَ والابْتسامة تَغمر وجهه: الحمد لله يا رب.. الحمد لله ,، بالكاد انتهى اللقاء الذي ظَنَّت لوَهلة أنَّهُ يُحْمَل على ظَهْر سُلْحفاة من شِدّة بطئه.. خَرَجت من المَنزل بخطوات واسِعة وسَريعة وصوت كَعبها يَضِج مُشاكسًا هُدوء الليْل.. حَشَرَت جَسَدها في مَرْكَبتها ومُباشرة ضغطت زِر التَّشغيل ثُمَّ فَتحت المُكَيِّف رافِعةً برودته لأقصاها.. كانت تَرْتَعش.. تَرْتعش بجنون كَمَحْمومة.. فَرَكَت ذراعيها بقوَّة وهمجية حتى أَنَّها جَرَحت اليُسرى منهما بسوارها.. كانت وكأَنَّها تَنفر عنها نَجاسة تَتَقَزَّز منها رُوحها قَبْلَ جَسَدها.. ارْتَفَع نَحيبها ودُموعها تهاطلت بغزارة على خَدَّيها المُحْمَرَّيَن.. ضَغَطَت على الوقود لِتَبْتعد بالمركبة إلى خارج الفيلا.. مَدَّت يدها لحقيبتها على المقعد الجانبي تَبحث عن هاتفها وبكاؤها يعْلو بلا سَيْطرة منها.. الدَّمع شَكَّل غِشاء ضَبابي مَنَع عَيْناها من رؤية سَليمة.. وأَنفاسها الغاصَّة بسُم الماضي كانت تَجْرح صَدْرها كُلَّما غادرته بتعرّج.. أَخيرًا أَمسكت بالهاتف.. كتبت رقمه بأصابع مُرْتجفة.. رَفعته لأذنها ليصلها الجواب سريعًا: فاتــن نَادتهُ من بَين شَهقاتها: رائــ ـد هَتَفَ باسْمها والقَلَق قَد أحْكَم قَبْضته على حواسه: فاتــن.. شنو صــار؟ "بغضَبٍ عارِم" سوى فيش شي الــ.... هَزَّت رأسها: لا.. لا.. ما قَدر.. ما سـ ـوَّى شي سأَلَ وهو يُجاهد أنفاسه المُشْتَعِلة: زيــن ليش تصيحين؟ قولي لي فاتن إذا سوى شي.. والله بــ قاطعته: ما سوى شي.. صدقنـ ـي "ازْدَردت ريقها لِتُرْدِف ببحَّة وهي تُزيح الغشاوة عن عينيها" اسمع.. لا تجيني الشقة.. ولا تقرب منها.. أتوقع يخلي واحد من كلابه يراقبني "نَظَرَت للمرآة بَعْد أن وَصَلت للشارع العام تَبْحث من بَين السَّيارات وهي تُكْمِل" خل نتقابل في أي مكان غير.. ضروري أشوفك بتفهّم وأنفاسه بدأت تهدأ بعد أن اطْمَأن على سلامتها: ما عليه ما عليه.. أنا بدبّرها.. بعطيش خبر مني لباجر هَمَسَت: أوكي أَغْلَفت الهاتف ثُمَّ أَخْفَضته في حضنها والأحداث السابقة لا تفتأ أن تبرح عقلها.. أَطْبَقت شَفتيها ضاغِطةً بقوة تُحاول كَبْحَ صَرْختها المجروحة.. باغتَتها قَشْعريرة بارِدة وهي تَشْعر بَيده القَذِرةعلى جلدها.. شَدَّت على المقوْد وفي داخلها تَمَنَّت لو أنَّها بَصَقت في وجهه الدَّميم.. آه متى سيأتي ذلك اليوم.. متى! ,، أَبْصَرَت الدُّنيا من عَيْني صُبْحٍ باهِت.. فالخَريفُ قَد حَلَّ ضَيْفًا بالكاد يُرى وَيُحَس به.. فهو مُكَبَّل من قِبَلِ صَيْفٍ يَرفض النّزوح وشِتاء يأبى الاستسلام.. كان الجَو المُتَذَبْذِب يُشْبِه حَياتهما المُهْمَلة فَوْقَ حَبْلٍ رَهيف.. خُيوطه تُنازع انْقطاعٍ حَتمي قَد يُلْقي تلك الحياة في مُنْحَدَرٍ تَسْكنهُ صُخورٌ مُسَنَّنة، الله وحده يعلم عُمق الجِراح التي قَد تُسَبّبها. للتو دَخلا شِقتهما القابِعة في حَيٍ حَديثٍ وراقي.. شَهر العَسل لَم يَكن شَهرًا بل كان خَمَسَة عَشَر يَومًا فَقط.. فهو قَد تَحَجَّجَ بالمَصْرِف وبضغط العَمل وبابْنته أيضًا.. وإنما في الحَقيقة هو قَلَّص أيَّام انْفرادهما لِيَنجو بنفسه من نفسه.. من ذاته.. من تَخَبّطه ومن شجاعته المُكَبَّلة.. نعم هُو جَبان.. قَلْبهُ أجوف من كُل شيء عَداها تلك.. أُنثى عُمره. تَرَكَ الحقائِب في غُرفة الملابس.. نَظَرَ لساعة رِسغه وهو يُدَلِّك صِدْغه بِأصابعه.. صُداع يَكاد يُفَجِّر رَأسه.. وكأنَّما اسْمَنت قَد صُبَّ داخله والآن قَد تَصَلَّبَ مُهَدِّدًا بِاختراق جُمْجمته.. كانت الساعة تُشير للخامسة وخَمسَة وأربعون دَقيقة صَباحًا.. عليه أن يَذهب، يَخشى أن يَفته لِقائها.. خَرج من غُرفة المَلابس إلى غُرفة النّوم.. حَيثُ كانت ياسَمين تَسْتَقِر على السَّرير بِسكونٍ غَريب.. حجابها بجانبها.. يَد قابِضة عليه ويَد وَسَط حضنها.. شَعرها مُسترسل على كَتفيها وَظهرها.. وَعيناها مُتَرَكِّزتان على نقطة مُعينة.. نقطة هو يَعلمها ولكنّه يُكَذِّب على نفسه ويَنكر معرفته بأساسها.. تَنَحْنَح وهو يَقترب منها.. رَمَشَت ببطء نِصفهُ برود دُون أن تَلتفت إليه.. وَقَفَ أَمامها شاهِدًا على بدايات انْكسار هُو فاعله.. تَنَهَّدَ بلا صَوت وَقَلبه قَد أَثَقلهُ الشحوب المُشاغب نُعومتها.. هَمَسَ ناطِقًا باسْمها: ياسميـن رَفَعَت بَصَرها إليه وبابْتسامة مُطْفَأة: نعم كَشَفَ هذه المَرَّة عن تَنهيدته وهو يُمْسِك بذراعها لِيَشدها بملق حتى تَقِف وتُقابله.. احْتَضَنَ وَجْهها بَكَفِّيه وعَيناه تُقابلان عَينيها بنظرة مُعتذرة: استمتعت واجد في السفرة معاش.. كانت من أحلى السفرات.. والله هَمَسَت وهي تُقاوِم الغَصَّة: وأنـا بعد.. استانست معاك داعبَ خَدَّيها بإبهاميه: إن شاء الله نعيدها في المُستقبل صَمَتت للحظات قَبْل أن تُعَقِّب بنبرة عارية من اليَقين: إن شاء الله أَحْنى رأسه وبخفّة قَبَّلَ جَبينها.. نَقَل بَصره بَين عَينيها ومَلامحها ثُمَّ قَرَّبَ وَجْهه أكثر حَتى مَسَّ أنفه طَرف أَنفها.. أشاحت وَجهها عنه خَوْفًا على قَلبها.. لا تُريد إحراج جَديد.. لا تَقوى على الاسْتماع لِدَوي انْكسار مِصَباح أمَلٍ آخر.. هَمَسَت برجاء والغَصَّة قَد ابْتَلعت صَوتها: فيصـــل تَجاهَل نِداءها.. فيُمْناه تَركت وَجْنتها قاصِدةً خِصرها.. شَدَّها إليه لِيُقرِّبها وكذلك اقترب هُو.. ارْتَعَشَت وهي تَرى نَفسها مُحاصَرة به بالكامل.. وَقَبَل أن تُفَكِّر في فَكاك نَفسها سَبَقتها شَفتيه وأَحَيَت فيها أَضعاف ارْتعاشها.. لِوَهلة ظَنَّت أَنَّها في حُلم.. حُلم كان قَبلَ لَحظات مُحال الوُصول إليه.. لكنَّ خطوات أصابعه عَلى خَدَّيها وعُنقها.. أَنفاسه المُتَطَيِّبة بعطره.. ومَلمس شَفتيه الأَشبه بِتَقبيل المَطر.. كُل ذلك أَكَّد لها من أنَّها تَعيش الحُلم واقِعًا. ولكن الأحلامُ لا بُد أن تنتهي.. انتهت القُبْلة لا تدري بعد كَم.. فالحِساب فاتَها وهي بَين يَديه.. ابْتَعَدَ عنها قَليلاً، لكن القُرب ما زال شَديد.. فَتَحَت عَيْنيها وهي تَزدرد ريقها بصعوبة.. نَظَرَت إليه والسَّكْرة لا زالت تُغَيِّب بعض حواسها.. هُو هَمَسَ ببصرٍ مُنخفض: ياسمين أنـا.. "أَطْبَقَ شَفتيه للحظة ثُمَّ أكمل" أنا أبدًا مو قاصد جرحش.. أدري.. ما بتفهميني.. بس.. .. بس أرجو منش.. إنش تتفهميني.. شوي الوضع صعب عَلي.. أحتاج منش صَبر.. إنت عارفة بالماضي.. وعارفة عني كل شي.. بس أبي منش شوية صبر.. شوي بس نَظَرَ لها.. كان وجهها أَحْمَر.. أحمر جدًا.. ابْتَسَم بخفة قَبْلَ أن يقول وإبْهامه يُداعب شَفتها السُفلية: حلو عليش الخجل.. لايق عليش... "صَمَت لوهلة قَبْل أن يُناجي عَيْنيها وبسؤال راج" تقدرين تصبرين؟ تَنَفَّسَت بعمق.. ازْدردت ريقها مرة أخرى.. شَبَكت بَصرها الخَجول ببصره المُنتظِر.. ويَدها ارْتفعت لِتَحْتَضِن برقَّة جانب وجهه.. وبهمسٍ مُبْتَسِم: إن شاء الله الْتَوى قَلبها بِعَطف للامتنان الذي غَمَر عَينيه.. قَرَّبَ يَدها لِفمه وَقَبَّل باطنها ثُمَّ قال بِصدق: ما بنسى هالشي منش.. أبدًا "تركها ثُمَّ تراجع للخلف مُسْتَطرِدًا وهو ينظر لساعته" أنا اللحين بروح عشان ألحق على جنى "نظر لها" ما بتأخر.. إنتِ نامي وارتاحي "هَزَّت رأسها بالإيجاب فرفع يده مُلوّحًا بابْتسامة" أشوفش خَرَج هو وتهاوت هي على السَّرير باستسلامٍ تام لفوضى المشاعر الزاعقة داخلها.. أَغمضت وهي تستلقي على بطنها وتدفن وَجهها في الوسادة.. أنفاسها سَريعة وعالية.. جَسدها أصَبَح مَنبعًا للحَرارة والعَرَق قَد بَلَّلها من رأسها حتى أخمص قَدميها.. كُلَّما اسْترَجعت قُبلته في ذاكرتها ارْتَعَشت وكأنَّها تعيشها من جَديد.. بَزَغت من بَين جَميع التباساتها ابْتسامة صَغيرة تَجرَّعها قماش الوسادة.. وهي على هذه الوضعية سَرَقَ وَعيها النَّوم وَقلبها لا زال طَير الحُب يُغَرِّد بَين حُجراته بِنَشوة. ، ما إن اسْتَقَرَّ في مَرْكَبته حتى فَرَّت من صَدْرهِ آه عَميـــقة، شَعَرَ وهو يُفْرِغها من رُوحه بأن قَلْبه يَخزه.. كأَنَّما يَلومه على خِيانته.. أَغْمَضَ وملامحه تَتَصَدَّع بمُعاناة.. زَمَّ شَفَتيه والقُبْلة تُعاد في عَقله مُضاعِفَةً غَصَّته.. يَشعر بالانْهزام، وكأنَّه قَد اسْتَسلَم بَعد عَدْوٍ ماراثوني اسْتَمَرَّ لِستة أعوام.. تَعبه.. صَبره.. غيرته.. وحبّه المُجنون.. كُل ذلك أَصبح هباءً مَنثورًا.. لا جَدوى من كُل الذي كان.. لا جَدوى.. لَم تَعد جِنان أُنثى رُجولته الوَحيدة.. ها هي تَتَنَحَّى عن عَرشها الذي صَمَدت فَوْقه لأكثر من رُبعِ قَرن! فَتَحَ عَينيه، نَظَرَ للحَياة أَمامه.. السَّماء رَمادية، أَحقًا هي رَمادية أم أَنَّ حَواسه قَد اسْتفرغت أساها فَصَبغتها؟ بَحَثَ عن الشَمس.. ليست هُنا.. لَم يَرَها تَتباهى مثل كُل صَباح.. هُو يَحتاجها اليَوم.. يُريد عنايتها الدافئة وشُعاعها الهادي.. يُريد أن تَتعاقد مع الوُجود لِتَصنع لهُ ظِلًّا يُطَبْطِب على خَسارته.. خَسَرتَ كُل شيء فيصل.. هي كُل شيء لذلك خَسرتها.. خَسَرتَ جِنان... مُجدَّدًا. احْتراق لاسع في عَيْنيه تَبعَتهُ رُطوبة على خَدّه الأيمن.. رَفَعَ يَده بِنَبْضٍ مُتَوَجِّس، مَسَحَ ما بِخَدّه ثُمَّ نَظَرَ لأصابعه.. ذُعْرٌ صَفَقَ جَناحيه داخله.. كانت دَمْعة... دَمْعة!... قَبَضَ يَده يَدَفنها سِرًّا بَين عَيْنه وخُطوط كَفّه.. تَأوَّهَ من جَديد وهُو يَشد خصلات شَعره.. يا الله هذا الوَجعُ ثَقيــل.. كُل الأوجاع الوالِدة من رَحْمِ الجِنان ثَقيلة.. كُلّها يَنخر القَلب ويُعَكِّر ما بَقي من صَفاء في الرُوح.. أَوجاعها نَقيضًا لِجَنَّتها.. أَوجاعها جَحيمٌ مُسْتَمِر.. تُخَلَّد فيه الذات إلى يَوم يُبعثون.. هذه الدمعة التي هَرَبت من عَيْنه كانت صَرْخة في وَجه خيانته.. هُو بِقُبْلته قَد خانَ ذاته.. خانَ رُجولته.. خانَ حُبّه.. وخانَ الطِّفل الذي احْتَفَظت شَجرة بآثار قَدميه اللتان تسَلّقتا جِذعها؛ لِيَقطف التُوت قَبْلَ أن يَموت على شَفتيها. تَحَرَّكت المركبة بَعد دقائق طويلة تَلَوَّى فيها من جَلْد ذاته.. نَظَرَ للساعة وهو يَمسح خدّه بقسوة.. كانت تَقترب من السادسة وخمس دقائق.. رَفعَ عَيْنيه للمرآة.. ازْدَرَدَ ريقه عندما أَبْصَر عُروق حَمْراء تُزَعْزِع بَياض مُقَلتيه.. تَحَسَّس جَيبي بنطاله الأماميين ثُمَّ التفتَ للمقعد بجانبه قَبْلَ أن يَزم شَفتيه بضيق.. نَسِيَ نَظَّارته في الشقة.. لا يُريدها أن تَرى الضعف وهو يَغزوه بسيطرة.. يَرجو أن تُشْفى ملامحه إلى حين لقائها. كان الطَّريق سالِكًا.. فهو قَد وَصَل للمدرسة خلال ربع ساعة أو أقل.. تَوَقَّفَ بالقُرب من الباب حتى يَتسنى لهُ رؤيتهما حين الدخول... مَدَّ يده للشاشة... اختار له إذاعة القرآن الكَريم.. ثوانٍ وانتشر الصَوْت في أرجاء السيارة.. كان يُصغي للقارئ بانْتباهٍ شَديد وهُو يَمْسح على صَدره، فَوْقَ قلبه المُتَضَخِم من تَكَدّس الوَجع.. يُريد أَمانًا يَرشده للصَلاح.. يُريد أن يَحيا براحة بعينَين تُبصران للأَمام فَقط.. عَيْنَين تَتسامح مَعهما السَّماء وتُهديهما مَطرًا يُوسفيا يُعيد إليهما إبصار اللون وَرَغدَ الحَياة. في حدود السادسة وَأربعون دَقيقة تَوَقَّفَت على بُعد بِضع خطوات من مَركبته مَرَكبتها.. تَفاعَل نَبْضه مُباشرة مع المَشْهد أَمامه.. كانت الضحكة تَشع من وَجهيهما، وحَديثٌ شَيّق يَتِّضح أَنَّهُما تَتشارَكانه بانْدماج.. فهما حتى بَعد أن غادرتا السيارة لَم تَقطعانه.. أَوقف المحرّك بسرعة ثُمَّ تَرَّجَل من سيارته.. مَشى بخطوات واسِعة تجاههما.. نادى جَنى بصوت مَسْموع عندما أَصْبَح أقرب.. احتاج أن يُناديها مَرَّتين لتَنتبه إليه.. وما إن عانَقَت عَيْناها البريئتان وجهه حَتى شَهَقت بمفاجأة وَسعادة.. نَطَقَت بعلو مُتَحمّس وهي تترك يَد والدتها وتجري إليه: بـــابــــا إنت جيـــت انْحَنى قَليلاً لِيَلتقط جَسَدها النَحيل بيَديه وَيَضمها إلى صدره بقوَّة.. هي بدورها أَحاطَت عُنقه بكَفَّيها الصَغيرَتَيْن بقوَّتها البَسيطة.. ضَحَكَ بانْشراح لكلماتها المُعاتِبة: بـــابا وااجد سافرت... تو ويكندز طافوا وأنا ما شفتك! قَبَّل خَدَّيها بشوق ثُمَّ قالَ باعْتذار: حَبيبتي آسـف.. آخر مرة أسافر عنش سَألت لتتأكَّد: مرة ثانية تاخذني معاك؟ بثقة: أَكيــد باخذش حَبيبتي رَفَعت قَبْضتها الصغيرة بانْتصار: يَـــس ضَحَك وهو يُداعب أَنفها الصغير بأنفه: بعد قلبي إنتِ : الحمد لله على السلامة التَفَتَ البَصَرُ إليها فالْتَقَت العَين بالعَين.. تَقَلَّصَت ابْتسامته ببطء والطَّيف الرَّمادي عادَ يُشاغب ملامحه.. كانت تَبْتسم.. ابْتسامة عادية.. ابْتسامة مُجاملة بتعبيرٍ آخر، كَما يعتقد.. لكنَّها في الحَقيقة كانت تُقابله بابْتسامة حَلَّقت من جَواها إلى شَفتيها.. فهي اشْتاقت إليه.. لا تَستطيع أن تنكر ذلك.. فهي اعْتادت أن تُقابله كُل صَباح عند المَدرسة.. حتى اللقاءات العابرة في منزل خالها أو جدّها افْتَقدتها.. ما كان يُبْقي شَوْقَها على قَيد الثَّبات صَوْته المُنبعث من هاتفها وهو يُحادث صَغيرتهما. تأمَّلته بدقّة.. بنطال من الجينز لهُ لون سَماوي وبلوزة بأكمام قَصيرة.. سَوداء بالطَّبع... خَصلات شعره كانت مُبَعثرة قَليلاً بطريقة أَضفت إليه جاذبية خاصَّة.. أما ملامحه فَقد أثارت تساؤلاتها إلى حَدٍّ ما.. ذابلة بطريقة غَريبة.. حتى جَسده بدا لها أَنحف من السابق.. أو أنَّهُ تأثير اللون الأسود؟ أَنزلَ ابْنته دُون أن يترك يَدها.. أَجابها بنبرة نَشَرت وِحْشة داخلها: الله يسلمش أَخْفَضَ رَأسه لِجَنى التي تَساءلت: بابا عقب وين بتروح؟ أَجابَ بنصف ابْتسامة: البيت اسْتَفسرت: بيت بابا ناصر؟ : لا حبيبتي.. بيتنا.. أنا وخالو ياسمين تَقَوَّسَت شَفَتيها بزعل: يعني ما بشوفك؟ شَدَّ على كَفّها: بلى بابا بتشوفيني.. أنا بس بروح أتسبح وأنام شوي وعقب بجي آخذش من المدرسة عشان تتغدين معاي في بيت بابا ناصر مَسَّت شَفتَيها بِسَبَّابتها بتردّد والسؤال يُشاكس أهدابها الطَّويلة.. حَثَّها على الحَديث: بابا قولي اللي في خاطرش مالَ رأسها وبِخَجلٍ لَذيذ تساءلت: يصير اليوم أنام معاك؟ سَبَقتهُ جِنان وجاوبتها باعْتراض: لا حبيبتي جَنى.. ما يصير نَظَرَ لها بعُقدة خَفيفة: وليش ما يصير! أَشاحت ببصرها عنه وهي تَمس أَنفها بظاهر سَبَّابتها وتُجيبه بخفوت: لا بس يعني.. عشان تاخذون راحتكم أخفى ابْتسامة السخرية بداخله.. لَو أَنَّكِ تَعلمين! عَقَّبَ بثقة: عـادي.. البيت بيتها تجي في أي وقت "وجَّه الحَديث لابنته" حبيبتي جِناني يصير تنامين معاي اليوم وأي يوم تَعلَّقَت بذراعه وهي تقول بفرح عارم: ثانكيــوو بابا حَبيبي هي زَفَرَت بضيق جَلي أَرْفَعَ حاجِبَيه اسْتنكارًا.. تجاهلته واسْتدارت تخطو لداخل المَدرسة مُتَجَنِّبَةً أي هُجوم قَد يَصدر منه.. هما تَبِعاها بمسافة بَسيطة وأسئلة جَنى تقود حَديثهما الحَميمي.. الْتَقَت بأستاذ نادر على مقربة من صَف ابْنتها.. والذي قال سَريعًا بابْتسامة واسِعة: كنت انتظرش تَعَجَّبت: تنتظرني! ليـش؟ قالَ بضحكة: أول شي صَباح الخير بابتسامة: صَباح الخير "تساءلت" ليش تنتظرني؟ أَجابَ على سؤالها بحماس: كلمتني أمس المعلمة الأولى بعد نهاية الدوام.. كانت حاضرة لصف جَنى في حصة الرياضيات.. لَفتتها مُشاركة جَنى وسرعتها في حل الأسئلة وثقتها.. واطَّلعت على نتائجها في الاختبارات والأنشطة اللي قدَّمتها.. وقالت لي أسجلها في مسابقة الحَلَقة الأولى عَقَدَت حاجِبَيها: بس جَنى توها كَي جي! هَزَّ رأسه: قلت لها.. بس من رايها واللي أوافقها عليه إن مخ جَنى أكبر من عمرها.. فبتقدم نتائج ممتازة في المسابقة اسْتَفسرت: ومتى المُسابقة؟ فَتَحَ فَمه لِيُجيبها ولكن يَدٌ رُجولية قاطَعته بلا مُقَدِّمات وامْتَدَّت إليه وصَوتٌ ببحَّة حادَّة يَدْعمها: مــا تشَرَّفنــا! نَظَرَ إلى وَجْهه بمفاجأة... ثوانٍ وتَعَرَّف عليه.. هذا والد جَنى.. ابْتسامة مائِلة كانت على شَفتيه.. حَقيقةً كانت سَيْفًا مَسْلولاً مُطَعَّمًا بالغرُور.. صافَحهُ وهو يُقيس المَسافة بَيْنه وبَين جِنان.. سنتيميتر واحد أو رُبَّما أقَل يَفصل بين كتفها الأيمن وصَدره.. نَطَقَ بهدوء وهو يَشعر بضغط يَد فيصل المُبالغ فيه الذي لو اشْتَدَّ أكثر لَتَسَبَّبَ في كَسر أصابعه: أستاذ نادر الــ... مُدرّس رياضيات عَقَدَ حاجِبَيه يَدَّعي الاستغراب: إنت تدرّس بنــتــنــا! على حسب علمي اللي تدرّسها أغلب المواد ومنها الرياضيات مُدرّسة! أَجابه بِبَعثرة وهو يُلاحظ كَيْفَ الْتَصَقَ صدره بكتف جِنان المُكْتَسي وَجْهها احْمرار: أنــا.. أدرّسها... أقصد.. يعني مو مدرسها الأساسي.. يعني.. هي في نادي الرياضيات.. وأنا المسؤول عن النادي أَدْخلَ يَديه في جَيْبي بنطاله وهو يُعلّق بعينين ضائقتين: الواضح إنك كنت تخبّر أم جنى شي جدًّا مهم وَضَّح: لا بس بغيت أخبّرها عن مُسابقة للريـ قاطعه بحاجب ارْتفع لقمّة الثقة المُسْتَفِزَّة: أعتقد إن في دفتر مُراسلات بين المعلمين وأولياء الأمور يُذكر فيه كل شي يخص الطالب.. ما يحتاج تأخّر شغلك يا أستاذ وتلتقي مع كل ولي أمر بهدوء وهو يتأمَّل التحذير المُؤطّر عَيني فَيصل: صَحيح "تَراجع للخلف وهو يومئ برأسه" أعتذر على الإزعاج فور ابتعاده اسْتدارت جِنان لفيصل بحدّة لتهمس لهُ بملامح عَقَدها الغَضَب ويدها تَرْتفع بارْتجاف لكتفها بَعد أن تركت بينهما مَسافة مَقبولة: إنت شفيــك نسيت نفسك! تَجاهلها وَقرْفَصَ أمام ابْنته.. قَبَّلَ جَبينها ثُمَّ قال بابْتسامة حَنونة: بابا أنا اللحين بمشي "غَمَزَ لها" انتظريني في الهدّة أوكي؟ : أووكــي وَقَفَ.. شَزَرَها لثانية ثُمَّ اسْتدارَ خارِجًا من المَبنى ليتركها من خلفه نار تَشْتعل بألف شُعور وشُعور. ,، انْقَضى الشَّهر الفاصِل بَين ضِفَّة الأمان ومُنْحَدَرِ الخَطَر.. الحَقيقة كانت واحِدة ومُرْعِبة بالنسبة لها.. المَشيمة لا تُؤدّي وَظيفتها بشكلٍ جَيِّد.. هذه الحَقيقة فَجَّرَت داخلها شُعورًا بالذَّنب، وكأنَّ لها يَدًا في قُصور هذا العضو المَسؤول عن بَقاء جَنينها سَليمًا ومُعافى. ها هي تُنازع أحد مواقف الدّنيا العَصيبة فَوْقَ سَريرٍ أَبيَض يصرخ بِقُرب المَوت أَكثر مما أَنَّه يُنادي للحَياة.. جَسَدها الواقع رَهْن ارْتعاشٍ شَديد قَد أُلْبِس الرداء الخَفيف الخاص بالعمليات.. وفي كُل مرة يَصطدم بجلدها الهواء البارد تَقشعر وترتجف وتَزْداد أعضائها الوَجِلة تَجَمُّدًا.. وكأنَّ جَبَلًا جَليديًا يَمتد داخلها ثانية بعد أخرى. انتبهت للخطوات القادمة من خلف الستارة.. ازْدَردت ريقها المُتَحَجِّر مُنتظرةً ظُهور وَجه الطَّبيبة.. لكنَّ وَجْهه المُتَسَرْبِل بابْتسامة سُكون خالف اعتقادها.. تَقَدَّمَ منها تحت نظراتها المُبَلَّلة.. شَبَك أَصابعه بأصابعها الذاوية وهو يَشد على يَدها لِيَمِدَّها بِصَبْرٍ وَقُوَّة.. انْحَنى وَقَبَّلَ جَبينها ثُمَّ هَمَسَ بحُب وهو يَمسح على شَعرها: طلبت من الممرضة أشوفش قبل لا تدخلين غرفة العمليات تَسارعت نَبضاته بتفاعل مع دُموعها التي انهارت فَوْقَ خَدَّيها.. ضَغطَ على يَدها أَكثر وبكفّه الأخرى مَسَح عَن وَجهها خوفها المُنْهَمِر: اششش.. حبيبتي لا تصيحين.. لا ترهقين نفسش بالدموع تَكَسَّرت شهقتها حتى جَرَحت حَلْقها: خــ ـ .. ــايفة.. خايـفة.. أمـ ـوت "غَطَّت عينها بيدها وهي تُكْمِل ببكاء" بعدين... ولـ ـدي.. من له! أَبعدَ يَدها عن عَيْنها بِمَلق وهو يُطَمئنها بكلماته الهادئة: بعد قلبي إنت اسم الله عليش.. إن شاء الله بتقومين لنا بالسلامة إنتِ وولدنا هَزَّت رأسها تنفي نَجاتها.. قَرَّبت يَده من صَدرها وهي تَرْجوه بلسانٍ أَثْقَله النَّحيب: بَســ ـ ـام.. بسـ ـام.. ولدي... أمانة... عنـ ـدك.. سمّه على أغلى إنسـ ـان في حياتي.. سمّـ ـه على... أبـــووي عَقَدَ حاجِبَيه وكلماتها بَدأت تَحوم داخله مُثيرةً ذعره.. لكنّه حاولَ أن يتَجَلَّد لِيُقوِّيها ويُنقذ الباقي من صَبْره: حَنين استغفري ربش.. ما بيصير إلا ربي كاتبه.. إن شاء الله بتولدين وبتقومين بالسلامة وإنت اللي بتسمين الوَلد أَغْمَضَت وهي تَجْتَرِع غَصَّاتها.. الإعياء يُسَيْطر على أطرافها.. طاقتها نَفَذت والوَهن بَدأ بتَكبيل عضلاتها.. تَشعر بوعيها يَتأرجح مانِعًا إياها من التركيز.. لوهلة ظَنَّت أنَّها بَين مَخالب كابوس مُعَرَّى من لون.. تُريد أن تَسْتيقظ لترى نَفسها فوق سَرير غُرفتها تنتظر شَهرها التاسع لتلد.. فَتَحت عينيها.. دارت عَدستاها وَسط المُقلَتَيْن بِتِيه بَحْثًا عن بابٍ يُفْضي للواقع.. رَمَشَت ببطء، وكأنَّما رِياح المَوْت تُحرِّك أهدابها.. يَد باردة حَطَّت فَوْق جَبينها.. إنها يَد زوجها.. هَمسهُ المُرَتِّل آية الكُرسي نَفَذَ بعذوبة إلى رُوحها.. أغمضت من جَديد.. ابْتَسَمت بغِياب لِرَكلات جَنينها.. تَحَرَّكَت يَدها إلى بَطْنها تُمَرَّرها فَوْقه بِحَنو.. هُل أنت مُتَحمِّس للحياة صَغيري؟ أنا من فَرْط شَوقي إليك أكاد أُجَن.. أخشى فَقدك.. أرجو أن نَلتقي.. فعَيناي مُتَلَهِّفتان لِصُبْح وَجهك.. ورُوحي تائقة لاسْتنشاق رائحة البراءة من جَسدك الضَّئيل.. صَغيري.. أعتذر نيابةً عن رَحْمي المُقَصِّر.. وأنا أعدكَ أن تَرْبى في حُضْنٍ يَتَّسع لكَ عُمْرًا مأهولاً بالخير والبَركة.. رُبَّما لا يُليق بي ثَوْبَ الأمومة.. ولكنّني سأحبّك كما لَم تُحِب أمٍ طفلها من قبل.. ثِق بي يا صغيري. هَدأت أنفاسها بوضوح.. تَوَقَّفت حَركة يَدها فَوْق بَطنها.. أَمَّا اليَد النائمة وَسط كَف بسّام العَريضة فَقد ارْتَخت باسْتسلامٍ لِهُروب رُوحٍ قَلِقة. انتهى |
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
بصراحة استفزني كلام رائد وفاتن مدري يعني مفهوم الخيانة عند بعض شخصيات القصة غريب الخيانة فقط هي الزنا وكل ماعداه مهما كان كبير يعتبر عادي والمفروض الرجل مايستنكر يعني تلبس لبس خليع وتتغنج قدامه وهي قاصدة تغريه ولما زوجها عصب بس شوية سوت دراما كوين وانهيار ومسوية انها العفيفة الشريفة طيب واللي تسوينه ايش هو عموما الاثنين هذولا غريبين وزاوجهم غريب وغير مفهوم ..
فيصل باختصار حقير مادام قلبك معلق بطليقتك ليه تضيع بنت الناس معاك حقيقة نوعيات فيصل كثير وقصصهم من واقع الحياة اللي نشوفها يطلق ويتزوج وحدة ثانية عشان تنسيه طليقته ولما يكتشف انه قلبه وعقله لازال مع طليقته يرجع لها ويطلق الثانية بكل سهولة ولايهمه انه حطم قلب تحت رجله المهم هي راحته النفسية فقط بوح محمد مؤلم جدا وتصرف ملاك ماخذلني ابدا في حبي لهذي الشخصية الجميلة استمتعت جدا سيمبلنس بهذا الجزء سلمت يداك |
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يسلمو ايديك سوسو الفصل جميييييل وفيه نقلة كبيرة في بعض النواحي ملك ومحمد (وأخيرا جاءت اللحظة التي هرمنا من أجلها) الاكيد الموضوع مو سهل على محمد وهو اللي اتعلم واتخذ من الصمت رفيق مخلص له ملك الحنونة ما اتحملت كمية الحزن والبؤس والحرمان اللي وصفها محمد لها كانت بتشوف محمد الشاب الصغير المغترب البعيد عن أحضان وطنه واهله لما حضنته وطبطبت عليه و حاولت انه تطيب جروحه . هل بترجع العلاقة بينهم للمربع الاول ولا ملك ممكن تتقدم معه وخاصة أنه في عامل مشترك بينهم وانه بعاني من مصاب جسيم متلها؟! حلوين عزيز ورائد وهم بعلقوا عليه لووول عبدالله وجاك يا مهنى ما كنت تتمنى ... الله يستر من بلبيس شو بتخطط لهم !! فيصل مافيه طب كل ماله عم بغطس حاله بالوحل وبكابر وما بعرف ش آخرتها معه. ما حبيت ردة فعل نادر وانسحابه اتمنيت يواجهه مو ينسل هربان منه. عاد ما بلومه وهو بشوف فيصل من الثور الهايج <<< تشبيه بليغ مع الاعتذار للأغنية اقصد الك سوسو لووول نجي لفاتن اللي الانتقام اعمى عيونها وخلى ميزان الاخلاق والدين عندها يختل الله اكبر كانت راح تاكل الزلمة بقشوره لما اتضايق من روحتها لعنده لحالها وهي بكامل زينتها وفتنتها شي محزن والله أنه الدين يكون غريب عند بعض الناس اللهم ردنا اليك ردا جميلاً سلمت يداكِ سوسو استمتعت بالبارت كتير كلي شوق للقادم لك ودي |
رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي
سمبلنيس ..
هل سبق وأن أخبرتكِ أن جمال تعبيركِ يسوقني إلى مكان آخر ، إلى عالم بهيّ، مبهج الألوان. أتذوق معكِ إبداع الخالق جلّ عُلاه في صنع السماء والقمر والنجوم، حتى الليل الذي ينشر الظلمة والخوف معاً ، تصويركِ جعل منه لوحةً جميلة أخّاذة ( تبارك الله ) محمد .. ( الحمدلله إنك رجعت غرفتك بعد رحلة التأمل ، وللا چان انصرعت البنت وقطعت خلفتها 😄 ) أظن أن السكون والصمت له ضجيج يصمّ الآذان ،، هذا ما شعرت به وأنا أراقب محمد وملاك وهما يتناولان العشاء ..😣 يا أخي ما أجمل طاولة الطعام وهي تضجّ بالأحاديث التي ليس لها أول ولا آخر ..😂 بس فرصة يا محمد علشان تقزقز بشريكة حياتك ..😄 تصريفة حلوة يا محمد ..إلاّ... أكلچ لذيذ أم قصدك كم أنتِ لذيذة ؟؟ 😂 جلسة المصارحة وتعرّي الذات ،، (اختاري الاسم اللي يشبهني أكثر.. الاسم اللي يليق بالدّمار اللي فيني)،، مؤلم ، مؤلم جداً يا سمبلنيس هذا البوح.😓 ملاك .. منذ بداية القصة وتلك المعلمة الحنون ، احتوت طالباتها بقلبها الكبير ، لن تعجز عن لملمة شتات زوجها الذي عصفت به الابتلاءات وأوجعته ،، ولن تبخل عليه بحضن دافئ، وتعيد الحياة لروحه الباردة. أجمل اعتذار : آسفة نيابة عن الدنيا .❤ فاتن .. كان الأجدر برائد أن يمنع فاتن من لقاء سلطان منذ البداية ، 😡 لِم غضبتِ من رائد حين أصاب كبد الحقيقة؟ نعم سلطان وحش مفترس ،لا يُؤتمن أبداً فكيف تذهب وتُلقي بنفسها طُعماً لذيذاً بين فكيّه !! ألم تُفكر للحظة أنه لو حاول الخبيث أن يتحرش بها، كيف ستستطيع أن تردّه وتمنعه؟ ( خبلة هالمرة ) 😡 (( أَغْلَفت الهاتف ثُمَّ أَخْفَضته في حضنها والأحداث السابقة لا تفتأ أن تبرح عقلها.. أَطْبَقت شَفتيها ضاغِطةً بقوة تُحاول كَبْحَ صَرْختها المجروحة.. باغتَتها قَشْعريرة بارِدة وهي تَشْعر بَيده القَذِرةعلى جلدها.. شَدَّت على المقوْد وفي داخلها تَمَنَّت لو أنَّها بَصَقت في وجهه الدَّميم)) ها .. هذا اللي خفنا عليچ منه وصار😡 يا ترى هل شك سلطان في هويتها ؟؟ عبدالله .. الله يكون بعونك على هالأم العاقة .😡 رغبتها في سكن عبدالله معهم حتى تكون مروة تحت المجهر 🔬🔎 ومن ثَمّ السيطرة على الوضع 😁 الثلاثي عزيز ، رائد، محمد .. بخبرتهم وفراستهم ،، ادركوا أن الضحية قدترك شيئاً بين طيّات الكُتب ؟ 🤔 ( الغبار أقل من المتوقع ) هذا يعني أن المجرم يحوم حول مكان الجريمة ويزور المكتب مرارا. ..يبحث عن شئ سقط منه .. ( قد تكون القلادة التي احتفظت بها أم يوسف و ملاك ) ؟؟🤔 استنكرت أن الجميع لا يرتدي قفازات ، أليس من اساسيات فحص مكان الجريمة لبسها ؟؟ بشتغل عندكم كونان 😁 🔎 حنين .. كان الله في عونكِ ،، وعون كل أمّ تنتظر وليدها .. أشفقتُ جداً عليها ،، وعلى بسام . إن شاءالله تقوم بالسلامة،، وتربي ولدها سمبلنيس مانبي أحد يموت رجاء ،، نبي الأخبار المفرحة 😍🍃 كل الشكر والتقدير لكِ سمبلنس .. ننتظرك ..وبكل بشوق 🍃🌸🍃 |
اقتباس:
مفهوم الخيانة نسبي ليس فقط عند شخصيات القصة بل وفي حياتنا الواقعية أيضًا.. يعني رائد ما كان عنده مانع إن زوجته تقابل سلطان وتقعد معاه وتسولف والوضع جدًا طبيعي.. في حين فيصل اعتبر مقابلة جنان لأحمد خيانة.. وفي حياتنا نفسها في أشخاص مثل رائد وفي أشخاص مثل فيصل وفي أشخاص الخيانة عندهم مرتبطة بأشياء أخرى.. البعض حَديث زوجته في العَمل مع مُديرها أو زميلها مُمكن توقظ داخله شك وغيرة تؤدي إلى الاعتقاد بالخيانة.. هذا غير الاختلاف في الجانب الأخلاقي والديني، ليس الجَميع سواسية. لا نستعجل الآن.. ما بنقول فيصل ما يهمه أو ما راح يهمه.. فيصل قَد لا يكون أناني في قادم الأحداث. مَلاك ورغم حُطامها إلا إنها قادرة على لَمْلمة ما بَقي من محمد. حَبيبتي شُكرًا لتواجدش.. وشُكرًا لتقديرش.. أسعدتيني. اقتباس:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته الله يسلمش حَبيبتي ميمي عيونش الجَميلة ^_^ بما أننا اقتربنا من النهاية.. ما في شي بيرجع.. بيكون في تقدّم.. قَد لا يكون التقدّم اللي في بالكم بس راح تتطور الأحداث سواء بين ملاك ومحمد أو بين باقي الشخصيات. هههههه رائد وعزيز جننوا محمد المسكين. الله يستر من بلبيس ومن مروة.. ونقول الله يعين عبّـود فيصل بيغلط بعد.. ونادر.. ما انسحب.. ولكن... ما بقول لكم.. كل شي بتعرفونه من الأحداث =) فاتن أساسًا من الناحية الدينية وضعها جدًا سيء.. وهي مو قاعدة تحاول تحسّن هالشي فبالنسبة لي تصرفاتها غير صادمة. اقتباس:
والله أعجز عن الرد أمام هذه الكلمات الرائــعة والتي أعتقد أنَّها كَبيرة علي.. شُكرًا للطفكِ ولتقديركِ وتشجيعكِ هذا أكثر مما أستحق.. شُكرًا من القَلب. ههههههههه والله صدقتين.. محمد مُستسلم كُليًا لنعومة ملاك سواء من ناحية الملامح أو من ناحية رُوحها وتصرفاتها.. وأعتقد كان يقصد الثانية.. ما كان يقصد الأكل >_< فعلاً بوح محمد مؤلم.. وأرهقني جدًا.. لدرجة كنت بعد كل اعتراف أترك الكتابة لساعات.. أحاول أستعيد طاقتي اللي بذلها بوحه. صَحيح.. موقف ملاك مع طالبتها ممكن البعض اعتقد أنّه رئيسي في الرواية وقَد يُفضي بنا لأحداث مهمة لكن كان فقط من أجل تعريفكم على شخصيتها. وأسعدني جدًا ربطش للمواقف.. حسّيت إنّي ما كتبت شي عبث =) ياختي رائد وفاتن اثنينهم مجانين واثنينهم تصرفاتهم خاطئة ومتهورة.. وسلطان ذكي وعنده رِجال في كُل مكان يعني مو بعيدة إنّه يكشفها. عبّود المسكين راح يتلقى صَدَمات مُوجعة =( أبها خليتيني ابْتسم بفخر من تحليلش.. شُكـــرًا لأنش ما نسيتين القلادة.. إنتِ الوَحيدة اللي ذكرتينها =)) أعجبتني المُلاحظة.. دَقيقة جدًا.. هذا دليل إنش تقرأين بدقة.. على العموم ما بتفلسف.. بس حَسب خبرتي البسيطة القفازات مو في كل الأحوال من أساسيات التحقيق.. خصوصًا إن الجريمة مر عليها عشرين سنة.. وقد تم التحقيق والتفتيش مُسْبقًا كما ذكرت. أعترف لكم محد بيموت.. مع إن كان عندي شخصية بتسبب في موتها.. شخصية من الرجال.. وقد يظن البعض أنها محمد.. لكن لا مو محمد.. بس تراجعت عن قراري، لأني مابي أكره نفسي وأكره الرواية.. مجرد تصور الموقف أبكاني.. كيف إذا كتبته وأنهيت الرواية؟ بس حَنين.. راح أضرها شوي.. لمصلحتها. يعطيش العافية أبها على التعليق الرائع جدًا.. استمتعت بتحليلاتش المُصيبة.. واستانست إنش تقرأين الجزء بذمة وضمير.. جدًا سعيدة. مُمتنة لتواجدش ودعمش.. شُكرًا جزيلاً.. كوني بخير. |
الساعة الآن 01:34 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية