النقد الثقافي بين قارة التاريخ وقارة النفس والمسكوت عنه:
سبق لنا في كتاب لنا عن طه حسين أن اعتبرناه –وفق لغة خطاب السرديات- البطل الاشكالي للنصف الأول من قرن العرب العشرين، إذا كانت صورة العقل تحضر في ممارسته الكتابية بوصفها "وردة في صليب الحاضر" على حد التعبير المجازي لهيغل إذ يصف العقل في محنته ومسيرة آلامه نحو الحقيقة.
لا أدري لماذا تراءت لي صورة طه حسين الإشكالي وأنا أقارب تخوم التجربة الكتابية للدكتور عبد الله
الغذامي الذي بدا لي أنه البطل الإشكالي للعقدين الأخيرين من الزمن السعودي بله العربي، وذلك عبر محطات ثلاث في سيرته الفكرية منذ كتابه (الخطيئة والتكفير) سنة 1985، إلى (المرأة واللغة) سنة 1996 ليتوج بمنجزه المنهجي المميز في ممارساته النظرية والتحليلية التطبيقية التفكيكية والتشريحية للنصوص محققا في كتابه "النقد الثقافي" سنة 2000.
إشكالية طه حسين مع عقل عصره، أن عصره ذاك لم يكتشف التاريخ كقانون أو كعلم فتبدى عصيانه لزمنه في افتتاحه لقارة التاريخ التي كان اكتشافها منجز القرن التاسع عشر، فأوغل بعيدا في حفره عن جذور تشكل الوعي التاريخي العربي من خلال اتخاذه من ابن خلدون نقطة البدوة الأولى، فكانت أطروحة الدكتوراه عن ابن خلدون لاكتشاف علم قوانين تاريخ العمران، قبل أن يبدأ مساءلاته عن التاريخ التوثيقي للشعر الجاهلي. أي أن طه حسين التقط العلاقة الناظمة بين بنية النص وبنية التاريخ، وإن كان قد اكتفى بالوقوف عند المستوى التداولي والجمالي للنص أي بلغة
الغذامي الجملة النحوية والأدبية بمرجعها الميثاقي التاريخي، ولهذا -ومع ذلك- فقد ثار عليه عصره ونقم عليه وخاشنه بذات شدة الثورة والنقمة والمخاشنة التي ألقى بها في وجه زمانه.
أما إشكالية عبد الله
الغذامي الذي أنقم عليه أهل زمانه فخاشنوه واشتدوا عليه في النقمة والمخاشنة كما كان يمكن للعميد أن يعبر، فهي جمعه اكتشاف قارة تاريخ ماركس مع اكتشاف قارة نفس فرويد، فجمع كلا الاسمين (الاثمين) وفق منظومة وعي أنساق الوهم المحافظ التي ترمي فكر الحداثة بمجموعه بوصفه مؤامرة يهودية، فكيف إذا كان الاثنان (ماركس وفرويد) يهوديين !؟
وعلى هذا فقد كان اكتشاف القارتين (التاريخ والنفس ) بمثابة اكتشاف لتاريخ الوعي وتاريخ اللاوعي ، اي التاريخ وقد تصفى انثربولوجيا في الذات اللاواعية لينتج نسق الوهم الذي هو أشد صلابة ورسوخا وذودا عن النفس من الحقيقة والتاريخ إذ يتولد نسق الوهم من مخيالهما ومثالاتهما ، أي بلغة الفكر السياسي تولد (الايديولوجيا) بوصفها وعيا زائفا للعالم، وعلى هذا فنحن نتمنى أن لا يكون كشفنا عن النسق المضمر(تاريخانية الوعي وتاريخ اللاوعي) المسكوت عنه في منظومة
الغذامي التفكيكية –أو كما يفضل- التشريحية ما يكشف سرا لقوى الوهم (الميث الايديولوجي) فيزداد موقفه حرجا وعنتا على عنت.
أي أن
الغذامي التقط الخيط الناظم الذي يشد حزمة الدلالة المخترقة للدوائر الثلاث: (النص-التاريخ- النفس ) ، ليدك بذلك رؤوس المثلث للثابت المحافظ الرجعي في الدوائر الثلاث، فكان لابد من أبلسته وشيطنته لرجمه، كما رجم من قبل شيخه وشيخنا طه حسين.
إن النزعة الانشقاقية العصيانية على الأنساق (الطبقية- الفحولية- الرجعية الاستبدادية) لدى الشيخ طه والفتى الغذامي، قادت الاثنين لخوض معركة كسر الأنساق على مستوى نسق وعي المجتمع الأهلي كممثل لخزان اللاوعي الثقافي الشعروي (الشعرنة) حيث الأنثوي الشفاهي اللاعقلاني أو الكتابي الفحولي الوهمي الاستبدادي، ليجد المثقف المنحاز إلى قيم الحرية : الاعتراف بالآخر وتقدير المهمش والمؤنث والعدالة والانسانية وهي كلها قيم عليا تقول بها الثقافة" . راجع نقد ثقافي أم نقد أدبي ص3
نقول : ليجد مثقف الحرية نفسه وكأنه في حالة تصالح مع المجتمع السياسي المحافظ (الدولة) التي تبدو وكأنها أكثر انفتاحا وتقبلا للحداثة من المجتمع الأهلي ، بل تتبدى الحداثة في هذا السياق وكأنها تمثل حيز النسق المضمر الثاوي تحت شكل الدولة المحافظة، تلك هي اشكالية
الغذامي واشكالية المثقف العربي عموما منذ طه حسين الذي أطبقت عليه مطرقة طغيان وعي الأغلبية الأهلية، وسندان طغيان الأقلية السلطوية الحاكمة التي كانت تتبدى –مع ذلك وللمفارقة- عن حداثة ذرائعية شكلية أدواتية متقدمة على رفض الأغلبية الأهلية (الشعبوية) لهذه الحداثة بغض النظر إن كانت حداثة الأنظمة السياسية معادية للحداثة العقلية مشدودة للحداثة الحسية : حداثة السلعة والاستهلاك، ولهذا وجد طه حسين نفسه يلتقي مع حزب النخبة "الأحرار الدستوريين" في مواجهة حزب الوفد الشعبوي، قبل أن ينحاز أخيرا لإرادة الأغلبية الشعبية عبر بعض التنازلات التكتيكية أو ما يبدو أنه تنازلات فكرية عندما انصرف إلى الكتابة التراثية، تلك الكتابة التي أرضت المحافظين الذين لم ينتبهوا-من حسن حظ العميد- إلى كشفه عن النسق المضمر في النص التراثي المكتوب والمروي والمؤرخ بوصفه تاريخ بشر يصنعون حيواتهم الأرضية بأيديهم التي توجهها المصالح والارادات البشرية، وليس الإرادات العلوية الماورائية، فعرى التاريخ من ثيابه الكهنوتية، عبر كشفه عن النسق المضمر الأرضي والدنيوي الذي يتحكم بسلوك الكثيرين من السلف، وهي المهمة ذاتها التي يتقصاها
الغذامي في تشريح النسق الفحولي المضمر الذي يذهب به إلى نهاياته المتطرفة شأن كل التجارب المنهجية الجديدة التي تريد أن تحتل لنفسها حيزا وسط هيمنة كاسحة للخطاب الفحولي الذكوري الأبوي التسلطي الاستبدادي.
ولا يسعنا في هذه العجالة أن نتوقف مطولا عند الكثير من الأمثلة التي يمكن أن نتقراها في الممارسة الابداعية الفذة لنقده الثقافي التي تتبدى في أحايين كثيرة عن نوع من التطرف والمغالات في الأحكام أو السكوت عن الوجوه الأخرى للظاهرة ، إذ سنكتفي ببعض الاشارات الاستباقية للتنبيه إلى أن ما يبدو تثميننا وتقريظا من قبلنا للتجربة المتميزة للدكتور
الغذامي ليست من باب الافراط والتكثر في القول ، وعلى هذا فإنا نبادر للحوار حول المختلف قبل من الوقوف عند المتوافق عليه .
إن الكشف التفكيكي والتشريحي –نصيا- عن نسق الثقافة الفحولية المضمرة في التراث تقود د.الغذامي إلى ثنائية حادة بين الفحولة والأنوثة، بين الكتابة (الرجل) والمشافهة (الأنثى)، الرجل عقل والأنثى فرج ، هذه الثنائيات التي تنحدر من تصورعام يحكم الوعي الاجتماعي الانساني حتى اليوم إنما تستند إلى مقولة رجولة الثقافة وأنوثة الطبيعة، على اعتبار أن الثقافة هي فعل في الطبيعة فإن باحثنا يخلص إلى أن اللغة تاريخا وواقعا هي مؤسسة ذكورية، وهي إحدى قلاع الرجل الحصينة. المرأة واللغة ص111.
هذا الإطار النظري سيتهيكل بنماذج عديدة من رجالات التراث، وليكن الجاحظ على سبيل المثال، الذي يقدمه د.الغذامي بوصفه ابرز ممثلي الثقافة الذكورية. المرأة واللغة 102.
إذ يأخذ عليه ذكوريته التي تقلص الجارية إلى جسد شبقي فحشي، وتقلص ثقافتها إلى مجرد (مكاتبة) وليست كتابة، ولذا فهو والأمر كذلك أبرز ممثل للثقافة الذكورية.
إن القارئ إذ يقوده الباحث إلى هذه النتائج عن ذكورية ثقافة الجاحظ –التي هي في المآل ليست سوى النسق الثقافي لعصره- سيضيع على هذا القارئ ذلك المنجم السوسيولوجي الهائل عن صورة العصر التي قدمها الجاحظ للقرن الثالث الهجري، بعين نفاذة وحسن موهوب بالواقع والحياة والتجارب.
فاستبطان النسق المضمر الذكوري في نص الجاحظ لا يشكل صدمة لأفق انتظار القارئ على حد تعبير امبرتو-ايكو عن النص الاشعاعي الذي لا يتوقف عن توليد ذاته وتوالده، وذلك لأن هذا النسق –الجاحظي- ينتج حالة تطابق مع النص ذاته الذي لا يمارس المكر والمراوغة لحجب أنساقه المضمرة ، بل يفضي بها نصيا: تداوليا وأدبيا دون أن يكون هناك بعد نسقي مضمر يستدعي دورا خاصا واستثنائيا للنقد الثقافي أكثر ممايمكن أن يكتشفه النقد الدلالي أوالسوسيو-دلالي لنصوص الجاحظ التي قلما تداور أو تناور أو تداجي عبر التورية لإخفاء النسق المضمر، إذ تتميز كتابة الجاحظ بهذه القدرة التصويرية المدهشة والفائقة في الاطباق على موضوعها في استقراءاتها واستنتاجاتها وحسها الساخر المفعم بالدنيوية العقلانية التي استمدها من الاعتزال حتى ولو كان النص مفعما بالأدبية المجازية الساخرة كما (في رسالة التربيع والتدوير).
وإذا بدى حديث الجاحظ عن الانثى أقرب إلى الحديث عن الكائن البشري (الكينونة) وليس عن صفاته المكتسبة، لكن الدكتور الغزامي يتجاهل أن حديث الجاحظ كان يتناول الجواري ليس ككائنات أنثوية ، بل كشريحة لها خصائص سوسيولوجية وثقافية وبسكيولوجية تميزها كفئة بين النساء وليس النساء بكليتهن ككائن انساني، ولا نظن أن القارئ المعاصر الذي عرف أو تعرف على عالم القيان الماجن المعاصر (البيوت الليلية) في زمننا لن يفاجأ من توصيف الجاحظ لهن في القرن الثالث الهجري ، زمن ذروة توهج العقل الاسلامي العربي وتفتحه الجسدي الايروتيكي.
والامر نفسه سنجده عندما يكشف عن النسق المضمر في شعر (أبي تمام والمتنبي ونزار قباني وأدونيس) إذ يكشف لنا عن "ماتنطوي عليهم نصوصهم من انساق مضمرة تنبئ عن منظومة طبقية/فحولية/رجعية/استبدادية... حتى لنجد تماثلا مخيفا بين الفحل الشعري والطاغية السياسي والاجتماعي ...ولقد آن الأوان لممارستنا النقدية بأن تتحرك باتجاه نقد الخطاب الابداعي ، من بوابة النقد الثقافي لتكشف ما يحمله الابداع، لا من جماليات نسلم بها، ولكن من قبحيات نسقية لم نكن ننتبه لها" نقد ثقافي أو نقد ادبي ص 41-42.
يبدو ان البحث عن النسقية كمنظوكة مغلقة كثيرا ما يهدر التاريخانية كما تفعل البنيوية أو ما بعدها، وذلك لصالح النسق أو البنية التي عليهما المناط في كشف مكونات النص المضمرة والمسكوت عنها، والتضحية بالتاريخانية كثيرا ما تؤدي إلى التضحية بفرادة النصوص وخصوصيته أي هويته حسب كريستوفر كولدويل، إذ أن البحث في النص كنسق أو كبنية مستقلة عن التاريخ، تضيع الحدود الفاصلة بين النصوص، والحدود الفاصلة بين السياقات والمواثيق المرجعية، إذ تتبدى عن فضاء سديمي تضيع فيه الألوان، مما يتيح للنسق المضمر المغلق عن السياق -والأمر كذلك -أن يكون مصدرا لإطلاق حكم واحد على منظومات عصرين متمايزين ومختلفين ، كما في مثال ادراج أزمنة متعددة تحت شكل واحد لتمظهرات حضور الاستبداد والتردي الرجعي منذ العصر العباسي حتى عصرنا الراهن.... فهل واقع الطغيان السياسي والاستبدادي في العصر الوسيط (أبو تمام-المتنبي) هو ذاته في تشكيل انساقه المضمرة الفحولية كما في النص الحديث ولدى مجددين كبيرين كل منهما يمثل خطا في الشعر العربي الحديث(نزار قباني-أدونيس)، لا شك أن ثمة اغراءا جذابا للباحث أن يتوصل إلى أن النسق المضمر في الشعر العربي يشمل تاريخ الشعر العربي ، أي يحتوي جميع الشعراء العرب في العصر الوسيط والحديث، وذلك بغض النظر عن التحولات الجمالية التي طرأت على بنية القصيدة، على اعتبار أن نسق الأعماق المضمر في كل تجارب الشعر العربي هو ذاته النسق الفحولي الذي يضع الجمالي في خدمة الثقافي " أيديولوجيا الذكورة" حيث الجمالي في كلا السياقين الزمنيين (الوسيط والحديث) –بغض النظر عن تطور الأشكال- يعمل على "التعمية الثقافية" لتسويق وتمرير مخبوء النسق المضمر الفحولي من المتنبي إلى نزار قباني ومن أبي تمام لأدونيس، وذلك لأن الثقافة في كل الأزمنة تتوسل الجمالي لتمرير أنساقها وترسيخ هذه الانساق.
لكن هذا الاغراء الجذاب في الكشف عن النسق المضمر المسكوت عنه في النص سرعان ما يمارس الاضمار والسكوت عن التعدد الملازم للدلالة في النصوص المميزة ، حيث سيكون أول ضحاياها هو القضاء على تميزها وخصوصيتها وفرادتها .
كل ذلك سيؤدي إلى أن التركيز على الكشف عن الجملة الثقافية ما بعد النحوية والبلاغية سيؤدي إلى نوع من ختزال التجربة الابداعية إلى مضمونها، والمقصود بالمضمون هنا ما بعد الموضوع، اي الموضوع وحمولاته الدلالية السوسيو-سيكولوجية، مما يقود التحليل الحداثي للنقد الثقافي إلى مايشبه النقد الواقعي أو الواقعي الاشتراكي الذي يراهن على الرسالة ،المضمون، المنظور الفكري أو رؤية العالم كما عبر لوكاش وغولدمان أو الكشف عن شيطانية الواقع أو القيّم تاريخيا في الواقع حسب بريخت ، لكن الفارق الوحيد في هذا السياق سيتبدى من خلال انحيازات الرسالة ووظائفها الفكرية والايديولوجية، حيث المنظومة المفاهيميةالتي يستند إليها النسق الثقافي لدى
الغذامي ذي مفردات ليبرالية تنويرية ديموقراطية: (الحرية- الاعتراف بالآخر- تقدير المهمش والمؤنث والعدالة والانسانية) وهي تشكل استمرارا لمنظومة رائد الفكر التنويريوالليبرالي العربي طه حسين، لكنها المنظومة التي تبني إذ تستأنف، وتراكم وتطور إذ تنتظم في سلسلة عظام التنويريين النهضويين العرب، حيث يتبدى
الغذامي بوصفه من القلة الشجاعة في العالم العربي التي تواصل هذه القيم التنويرية الشجاعة دون لجلجة أو تدوير اللسان في الفم في مواجهة المد الظلامي الرجعي الذي أبكى زكي نجيب محمود على فراش احتضاره إذ يسمع رصاص الارهاب يختطف مصر إلى غير المكان الذي أسس له جيل الرواد، وذلك وفق شهادة فؤاد زكريا إذ يتأسى أسفا على جهود زميل عمره زكي نجيب ، وجهود الأساتذة الذين كان يفترض بهم أنهم أجابوا على أسئلة قد أشبعت بحثا وقتلت دراسة، لنضطر نحن جيل الأحفاد للعودة إلى معاودتها، وكأننا مضطرون للعودة إلى إثبات كروية الأرض.
الشعرية أو الشعرنة بين
الغذامي وطه حسين:
لقد كان العميد سباقا في التأسيس (الابستيمي) للعقل والشعر بمثابتهما نسقين ثقافيين متوازيين متناظرين يفضيان إلى رؤيتين متقابلتين للعالم معرفيا فلسفيا وثقافيا وسياسيا، فالعقل تتشكل دارته من عناصر تكوينية هي من خصائص وظيفته العقلانية، حيث يتنضد في مصفوفتها: "الفلسفة- الحرية-النظم السياسية المتنوعة والمتبدلة:"ملكية-جمهورية-أرستقراطية-ديموقراطي".
بينما الشعر كان يمثل النظرة الطفلية الأولى للعالم في سديميتها ورماديتها وتداخل ظلالها العقلانية والغريزية والعاطفية، وقد سبق العقل "إذ أن الحياة اليونانية التي خضعت للشعر في أول أمرها، ثم خضعت بعد ذلك للعقل، كانت أخصب حياة عرفها الإنسان في العالم القديم" راجع كتاب طه حسين قادة الفكر ص 193.
وعلى هذا فإن دارة الشعر تتشكل من عناصر تكوينية هي من خصائص وظيفته الانفعالية العاطفية الغريزية، حيث يتنضد في مصفوفته: (الكهانة-النبوة- الدين-الملكية المطلقة- الاستبداد) راجع كتابنا عن طه حسين ص 82
وعلى هذا فالعقل الشعري –وفق العميد- هو نظام القناعة في فهم الطبيعة والخضوع لها، وهو المدار الذي يتحرك فيه الوعي الديني والكهنوتي، ولكونه عقل المطلقات الغيبية (الكهانة والنبوة)، فهو ينتح معادله في الحياة الاجتماعية نظام الحكم المطلق والاستبداد.
بينما العقل الفلسفي هو نظام الحرية والتساؤل واخضاع الطبيعة والتسيد عليها وهو ينتج معادله في الحياة الاجتماعية نظام الحرية والديموقراطية.
وعلى هذا فإن طه حسين هو أول من يتنبه إلى النسق الثقافي الشعري وأثره في بنية العقل العربي كما سيبني
الغذامي برهانه لاحقا، والعميد بذلك كان ينتج وعيا مطابقا بخاصية التاريخ الثقافي العربي الاسلامي ولا شعوره المعرفي والثقافي ، أكثر من منظومة الدكتور محمد عابد الجابري الذي أسس لبنية العقل العربي من خلال الثقافة العالمة ، أي الثقافة في مستواها النصي المكتوب وليس في مستوى النسق الثقافي المضمر (الشعر) وفق صياغات د.الغذامي إذ يتقاطع مع العميد . بينما الثقافة العالمة هي التي صنفها د.الجابري إلى : الفلسفة البرهانية أو الغنوصية، علم الكلام والفقه، والنحو والبلاغة والبيان.
داخل هذا النسق الذي يكشف عن الجذور الشعرية لبنية العقل العربي، سيهيكل
الغذامي بنباهة فائقة إطارا مفهوميا تحت صيغة "الشعرنة" حيث هذا المصطلح –وفق الباحث- يشير إلى مجموع السمات التي انتقلت من كونها الجمالي الخالص إلى كون حضاري ثقافي، وهي سمات تصبغ سلوكنا الثقافي وتتحكم في خطاباتنا الأخرى الفني منها والفكري ، وكذا المسلكي... حيث تتحول قيم المجاز (المبالغة-الدلالة المعاكسة للجملة- القول المنفصل عن الفعل- الكذب الجمالي "أعذب الشعر أكذبه"، الانتشاء والطرب للبليغ الكاذب في المديح والهجاء، إلى "قيم ذهنية ومسلكية ... حتى لقد صرنا كائنات مجازية، وتشعرنت نظرتنا إلى أنفسنا وإلى العالم من حولنا، مثلما تشعرنت قيمنا، وتشعرنت ذواتنا "، وذلك استنادا إلى درجة حضور موروث الشعر في ذاكرتنا الثقافية بوصفه ديوان العرب، وباعتباره "علم قوم لم يكن لهم علم سواه"، كل ذلك سيقود إلى نوع من الممأسسة النسقية للمجاز بوصفه تواطؤا على الكذب بين المرسل والمتلقي، الذي يؤسس له فن المديح من خلال ريادة النابغة والأعشى لشعر المديح ليغدو نمطا ثقافيا يحكم علاقة السياسي بالثقافي، حيث سيولد نموذج المثقف (العضروط) وقد تنمط في نسق قيمي على حد وصف المتنبي للبطانةالثقافية المحيطة ببلاط كافور بوصفهم متعيشين صغارا على فتات موائده، والمتنبي بذلك إنما يرصد حالة نمطية لنسق ثقافي اكتمل عمرانه وتنضيده في العصر العباسي، إذ سيتأسس على ثقافة الكذب التي غدت نسقا يحكم علاقة المادح المقرظ للسلطان بالممدوح السلطان الذي يدفع ثمن صفات تقريظية كاذبة يخلعها عليه شاعره المداح، وهي –والأمر كذلك- ليست صفات "شعرية مجازية بلاغية" تستند إلى تواطؤ ثقافي" وإجماع قيمي على الكذب بوصفه قيمة شعرية في ذاته، هذا النسق سيتحول إلى سيرورة من إعادة انتاج لا تتوقف للقيم المجازية بوصفها صفات مفارقة للذات، حتى قيام الإعلام في العصور الحديثة ليرث خصائص (المثقف العضروط) الذي يتكسب من الكذب والنفاق والرياء للحاكم ملكا كان أم رئيسا جمهوريا حديثا جدا.
والمجاز الذي صار نموذجا ذهنيا راح ينتج مفاهيم الفحولة بعد أن انتقلت من النحن القبلية إلى الأنا الفردية المتمركزة على الذات لإنتاج صورة الطاغية اجتماعيا وسياسيا، ليخلص
الغذامي من عرض مفهومه للشعرنه إلى خلاصة تكشف عن النسق المضمر لها في صورة انتاج "فريد من الطغاة وفريد من الفحول، حتى إن مشروع الحداثة العربية الشعرية جاء ليكون مشروعا رجعيا، وإن بدا في ظاهره حداثيا" أنظر النقد الثقافي أم النقد الأدبي ص55
بغض النظر عن هذا الحكم القطعي الذي يذكر بل ويتلاقى مع النقد الواقعي أو بصيغة أدق الواقعي الاشتراكي في تقويم النصوص الأدبية، حيث الكشف عن الرجعية المضمرة في ظاهر النص التقدمي، أو ظاهر النص الحداثي وفق مفردات منظومة الغذامي.
إن ما يبدو لقاء بين المنهج الواقعي الاشتراكي والنقد الثقافي الذي يمارسه كاتبنا، إنما هو لقاء يتحقق على مستوى الوظيفة الإجرائية لقراءة النصوص، حيث يتغيا فعل التغيير في الواقع المنتج نصيا أو المتخيل ابداعيا، ولذلك ربما التقى المنظوران في التعامل مع نصوص الحداثة الشعرية العربية بوصفها مشروعا رجعيا، لكن فعل التغيير الذي تشتغل عليه منظومة النقد الثقافي لدى
الغذامي هي منظومة وعي نهضوي مدني تنويري حداثي مناهض لكل أشكال الطغيان والاستبداد السياسي والثقافي والاجتماعي ،وهي المنظومة التي تجد مرجعيتها في الليبرالية العقلانية والثقافية ، وهو ما يمكن أن يثير سؤالا جديا في مواجهة قراءة الدكتور
الغذامي للنسق المضمر الرجعي واللاعقلاني في مشروع الحداثة العربية الشعرية، وذلك لأن معظم هذه التجارب الحداثية كانت تتثاقف مرجعيا وتناصيا ليس مع تجارب الشعر العربي الحديث فحسب، بل ومنظومات الفكر الغربي الحديث الذي أتاح للتجارب الشعرية الحداثية العربية أن تتوسل منظورات : مابعد الواقعية ، ماقبل المنطق، الحدس، الوحشية، الغريزة، الفانتازيا، الأحلام والكوابيس ، الرعشة الصوفية ... كتعبير لا عقلاني عن أزمة العقلانية الغربية في مجتمعاتها الأوربية ، هذه المنظورات بغض النظر عن سياقات تكونها وتشكلها لابد لعقل عقلاني منطقي يتوخى مقولة التقدم التاريخاني العقلاني النهضوي التنويري أن ينظر إليها بعين الريبة والشك بوصفها تعبيرات رجعية، كما يمكن للتقدمي الاشتراكي الكلاسيكي أن يتعامل معها بوصفها تعبيرا عن أزمة النظام الرأسمالي في مرحلة رأسمالية الدولة الاحتكارية التي انتجت الاستلاب كرد مضاد على عملية التشييء التي وثنت السلعة عبر مزيد من تقزيم الانسان المعاصرومن ثم ضياعه وفق مدرسة لوكاش وغولد مان، حيث وفق هذه القراءة يمكن استقراء البعد الرجعي في النسق المضمر للحداثة الشعرية العربية كما سيخلص الحداثي الألسني
الغذامي ، ولعل هذا اللقاء في القراءة بين أهل الواقعية والغذامي تعود إلى تلك العلاقة التي يثمنها
الغذامي في كتابه "حكاية الحداثة" ، بكونه "يحتفظ لهم بكنز من التقدير والمحبة" ، بل وثمة تواطؤ في التسميات ، إذ يتبنى كاتنبنا الاسم الذي اقترحه علي الدميني ودشنه محي الدين محسب لمجموعة الواقعية بأنها جماعة الانطباعية، إذ "صرنا نسميهم-كاتفاق ضمني- بالانطباعيين". ص250-251
عبد الله
الغذامي ظل يواصل الحفر لبلوغ جذور تشكل النسق الشعري بوصفه نسقا ثقافيا فكريا وسلوكيا في الحياة الثقافية العربية أوقل: إن حركية النسق الثقافي أدرجت الشعر في نسقيتها فأترعت به حد الثمالة ، حتى تغلغلت في شرايينه وأنسجته وخلاياه وجيناته ليس على مستوى الثقافة الفقهية والمكتوبة فحسب بل وعلى مستوى الممارسات السلوكية والاستجابات التواصلية والتداولية.
هكذا يتقاطع التلميذ (الغذامي) مع مشروع استاذه (طه حسين) في تقشير العقل العربي والاسلامي من لحائه الذاتي الرغبوي الغرائزي الانفعالي عندما يكشف عن جذور تكونه الشعرية (الشعرنة)، لكن الحفر مع التلميذ سيكون أكثر ايغالا وأرجع صدى لهدير مياه دلالات النسق المضمر تحت السطح ، وذلك بفضل تسلح التلميذ ليس بوسائل التقنية فحسب بل وعلى مستوى منظور الرؤية النظرية والمعرفية ، فنحن مع نص
الغذامي تجاه حالة تملك وتجاوز –كما كان يدعو العميد- أي : تملك تجربة طه حسين الفكرية والنظرية والمعرفية التنويرية الليبرالية ومن ثم تجاوزها باتجاه المزيد من الغوص في أعماق التأخر العربي وفواته الحضاري وذلك عبر الكشف عن (الشعرنة: ثنائية العقل والشعر واخضاع الثاني للأول) بالتوازي مع (الجنسنة: ثنائية الفحولة والأنوثة ) ، وذلك لهدم نسق العمود الذكوري بعد أن فكك وتد عمود الشعر الذي أسس عليه العقل العربي كل بنى أوهامه .
المرأة / اللغة / ثقافة الوهم :
إن عملية هدم منظومة الفحولة كرؤية للحياة والعالم ، إنما هو هدم لكل الموروث القروسطي الطغياني البطركي للمجتمع الأسيوي الشرقي، حيث الوصول إلى أعماق البريق الأبيض لإنسانية الانسان التي تبدأ من الانثى الأصل، لأنثنة هذا العالم الذكوري أي أنسنته ، فكانت تجربة عبد الله
الغذامي المميزة والفريدة في الكشف عن أنساق سيكولوجيا الأعماق لانتشال نصف المجتمع العربي من الشلل والتهميش والالغاء والاسترقاق للمرأة واختزالها إلى كينونتها الطبيعية الأولى بوصفها جسدا بلا عقل، حيث يقدم
الغذامي إطارا نظريا متكاملا لما بات يدعى في ثقافة عصرنا المهمل والمهمش من خلال وعي حاد بأهمية التأسيس المنهجي والنظري لهذا المشروع ، فكان نتاجه ابداعا نظريا وتحليليا لنسق الفحولة الذكورية بوصفها بنية بطركية يترأرأ تحت حجب اختبائها كل أوهام الوعي الفحولي حول تمركزه القضيبي في رحم العالم، وحيث سيتكشف لكاتبنا عن الرجعي المضمر تحت زركشة السطح الحداثي المبهرج.
يتمثل المشروع النهضوي التنويري للدكتورالغذامي بالكشف عن ثقافة الوهم ، كشف وهم (الشعرنة ) بوصفها منظورا ثقافيا رغبويا (غنائيا : إحلال الذات في الموضوع وكأنها هي هو ، أو هو إياها ) عبر استخام جبروت المجاز الذي يحل الهناك محل الهنا فيدمر الحضور باسم الغياب أو الشاهد باسم الغائب محِّلا عالم الأذهان مطرح عالم الأعيان ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية : الكشف عن وهم (الجنسنة) بوصفها منظورا رغبويا حسيا غرائزيا يختزل الأنثى إلى مستوى موضوع أو جسد خلق أو وجد لإرضاء رغبات الرجل وشهواته ، أي الكشف عن الجبروت الرمزي لهذه (الجنسنة ) بدءا من تشريح وتفكيك ثقافة الرجل عن المرأة في مثال كتاب (الروض العاطر) وهي تتشخصن صورتها في صورة الفرج ، لامتاع (نزهة خاطر) النفزاوي مؤلفه ، بل والكشف عن النسق المضمر في كل كتب الثقافة الجنسية العربية باعتبار المرأة جسدا، موضوعا للمباضعة والوطء وذلك لأن الزوجة –فكيف بالجارية- ليست سوى نعل حسب تاج العروس: "الحذاء: الزوجة لأنها موطوءة كالنعل، أو هي رقيقة -حسب الامام الغزالي- عليها طاعة الزوج لأن النكاح نوع من الرق" .
يقوم الدكتور
الغذامي برحلة استثنائية وفريدة في تاريخ الأنساق المضمرة للثقافة العربية عبر العديد من كتب الجنس والحب في التراث العربي بين منظور النفراوي إلى ابن القيم الجوزي "في روضة المحبين ونزهة المشتاقين" الذي يبحث عن أسماء الحب كدوال على فضاء الحب الذي هو مساكنة واندماج وذلك عندما يزول الفضاء بين المحبين لكون الواحد منهما يفضي إلى صاحبه، في رحلة انسانية نحو الترقي والتصعيد الثقافي" . ثقافة الوهم ص35.
إذن فالحب حركة تفاعلية مناظرة لحركات تفاعل عناصر النص التي يتوغل
الغذامي حافرا بأدواته المفاهيمية الحداثية إذ تتوغل متفاعلة بدورها في جسد النص ليقود إلى الافضاء، أي ازالة الحجب بين الجسدين، بالتناظر مع إزالة الحاجز الفضائي بين النص كنسق ظاهر والنص كنسق مضمر وذلك للكشف عن البنية التحتية للثقافة العربية داخل النسق الثقافي ذاته حسب مصطلحات أهل الواقعية (الانطباعيين).
فالبنية التحتية للثقافة العربية بنية فحولية، تتخذ من الجسد الأنثوي (الطبيعة) موضوع فعلها وفعاليتها الفكرية والثقافية ، أي أنها تتوالد داخل أنساقها المغلقة ، وليست نتاج علاقتها بواقعها التاريخي الاقتصادي والاجتماعي كما هي السيرورات الاجتماعية للثقافة الحديثة التي قطعت مع الماضي القروسطي ، هذه البنية التحتية الجسدية الأنثوية هي الاصل في انتاج ثقافة الوهم بوصفها نسقا أصليا، نموذجا بدءيا، قابلا للتكرار والتناسل عن بنى ثقافية فوقية وهمية تتوضع كطبقات مفاهيمية فوق النص في صيغة جسد الانثى، إذ تصوغ تصوراتها للعالم في اللغة الفحولية الشرية المجازية ، وفي الشعر الكذب، وفي الثقافة عامة "يقولون مالا يفعلون" ، وفي الاجتماع عبر الهيمنة الذكورية، وفي الاقتصاد عبر الريعية غير المنتجة إذ أن التغيير في مجتمعاتنا العربية لم يكن في قيم العمل ولم يكن ثمرة العبقرية الفردية، ولهذا فإن كل مظهر حداثي لدينا ينطوي على باطن رجعي " . حكاية الحداثة ص164.
وهكذا يتكشف النقد الثقافي الذي يتوسله د.
الغذامي إلى شكل من أشكال النقد التشريحي المعرفي للبنى الانثربولوجية للثقافة، التي مدخلها في البنية الثقافية العربية الذكورية "إن دين النساء وعقولهن في فروجهن"، هذه الحكمة هي المدخل لكل حكايات كتاب ثقافة الوهم، وهي موضوع المرافعة النادرة في الثقافة العربية التي يقوم بها
الغذامي دفاعا عن وجود المرأة ككيان اجتماعي ، كهوية خاصة قائمة بذاتها وليست مضافة، ودفاعا عن عقلها وبالدرجة الأولى أنوثتها بوصفها مدخلا لأنثنة العالم الفحولي الذكوري الحربوي السلاحوي، أي أنسنة العالم من خلال البحث عن الأصل الذي هو الأنثى، وهو ما يعبر عن رؤية انسانية رفيعة لا تتجاوز محافظة وتقليدية مجتمع الجزيرة العربية أو المجتمع العربي والاسلامي فحسب، بل رؤية انسانية عليا تتحدى ثقافات المجتمع العالمي الذي لايزال بدوره يغط في أوهام فحولة ثقافية ذكورية عنفية وارهابية.
انطلاقا من هذا التحدي المدني النهضوي الحضاري يقوم
الغذامي بتشريح ألسني للغة والمرأة من منظور النقد الثقافي الذي ينطلق من القول بأن اللغة تملي علينا قانونها...
وهي إذ نتحدثها فهي تتحدثنا، وعلى هذا يذهب موغلا في الكشف عن جذور تشكل الذاكرة اللغوية الذكورية كمنظومة ثقافية عندما يتقراها نحويا لدى ابن جني في صيغة "الأصل في اللغة التذكير" ، المرأة واللغة ص181 ، ويتقراها ثقافيا وأدبيا في صيغة عبد الحميد الكاتب "خير الكلام ما كان لفظه فحلا ومعناه بكرا" أي أن المرأة معنى ينتجه ويحققه اللفظ الفحل، موضوع يتحقق عبر الكتابة أي موضوع بكارة لفحولة لفظ ، طبيعة تعيد صياغتها الثقافة فكانت هذه القسمة التي " يأخذ فيها الرجل الكتابة، واحتكرها لنفسه وترك للمرأة (الحكي) ، وهذا ما أدى إلى احكام السيطرة على الفكر اللغوي والثقافي وعلى التاريخ من خلال كتابة هذا التاريخ بيد من يرى نفسه صانعا للتاريخ ...ولم تكن المرأة في هذا التكوين سوى مجاز رمزي أو مخيال ذهني يكتبه الرجل وينسجه حسب دواعيه البيانية والحياتية ..." المرأة واللغة ص7
فالمرأة تحكي ولا تكتب، وهي معنى بكر ينقصه التحقق في اللفظ الفحل، بل هي لا تحضر إلا بوصفها موضوعا للمواقعة والمباضعة مع اللفظ الفحل، إنها لا توجد بذاتها بل بالإضافة إلى الذكر ، فهي "ضرورة للرجل ضرورة العبد للسيد "، وهذه الدلالات تعبر عنها حتى لدى أرقى مظاهر الذاكرة الثقافية الانسانية بعد أن بلغت الذروة العليا مع الفلسفة اليونانية بدءا من أرسطو الذي يرى ضرورتها ضرورة العبد وصولا إلى أرقى تجليات فكر الحداثة عبر فرويد الذي يرى أن "المراة رجل ناقص" المرأة واللغة ص186. وعلى هذا فإن المرأة لا تملك أكثر من أن تحكي لأن الكتابة ذكورية وعندما انتقلت المرأة للكتابة لم تفعل سوى التطلع للانكتاب ذكوريا، لكن حسب معجم ذكوري" . المرأة واللغة ص121.
وعلى هذا فليس أمام المرأة سوى خوض معركة الأنوثة مع الفحولة... عبر اقتحام أسوار الدلالة لكسر وحدانية اللغة، واستخلاص لغة من داخل اللغة، لكسر ثنائية اللفظ والمعنى" المرأة واللغة ص213.
لكن كاتبنا المندفع نحو النهايات في خوض معركة الحداثة إذ يدخلها من أضيق أبوابها وأصعب معارجها وأعقد مخارجها، وهو موضوع تحرير الأنوثة من هيمنة الذكورة في مجتمع عربي فحل من رأسه إلى أخمص قدميه ثقافة، حتى وإن اكتفى أن يكون فحل لفظا عبر الكلمات المقعقعة والصائتة والفاقعة شعاريا وبلاغيا إذ يدعو إلى المبارزة، لكن المؤنث البكر فعلا بأسوأ معاني الأنوثة في ذروة تفحشها وانحلالها المومس إذ يسجل هزائم متوالية منذ أبصر جيلنا النور رغم كل تنفجات ومعاظلات اللغة بوصفها فحلا، لكنه الفحل المخصي الذي لايصدر سوى أصواتا صائتة صاخبة تملأ الفضاء جلبة وضوضاء.
حداثة تقنية / حداثة معرفية:
يتميز نص
الغذامي بتلك الخصائص التي تخضع كل التناصات لنصها، أي اخضاع وتكييف مناهج البحث لحاجات ذاته النصية ، حيث تتعزز هويته وخصوصيته بل وأصالته الذاتية، فالمناهج تخضع للنص ولوظائفه الدلالية المعرفية في مستواها الظاهري النحوي والتركيبي و التوزيعي وفي مستواها الباطني عبر الكشف عن الأنساق المضمرة تحت سطح ظاهر النص.
فالأسلوبية الألسنية-والسيميولوجيا، والتفكيكية التشريحية كلها تتفاعل وظيفيا لاستنطاق النص دلاليا معرفيا وثقافيا للكشف عن اللامنطقي، اللاشعوري عبر استبطان النص داخليا، ليمنح حالة من التراسل بين مناهج الكشف عن الأدلة التي تقبع وراء ظاهرها الدلالة الثقافية.
أي أن الحداثة التقنية بوصفها وسائل للحفر أو الاستقراء أو الاستبطان تكمن أهميتها وقيمتها الوظيفية التحديثية في قدرتها على التوغل والحفر للكشف عن السلسلة المعرفية النظرية الفكرية والثقافية التي انتظمت وراء التحديث التقني.
أي الكشف عن النسق المعرفي العقلاني الحداثي الذي يؤسس للحداثة الوضعية أو التحديث التقني وفق اقتراحات هشام شرابي في التمييز بين مستويات الحداثة، حيث يفضل استخدام مصطلح التحديث (Modernisation) للمجال التقني عالم الأعيان والحداثة (Modernité) للمجال المعرفي عالم الأذهان، وأي فصل بين العالمين (الأعيان والأذهان) هو تدمير لكليهما قبل أن يكون تزييفا وتشويها للعالمين، عالم الأعيان إذ يتبدى عن تقنية حسية، غرائزية تلبي حاجات الجسد للترفيه عن طريق اختزال الحداثة العالمية إلى سلعة للاستهلاك ، وذلك عندما تتجاهل جذور شجرة المعرفة المورفة الظلال في ابداعات التقنية ، لكنها –في آن- العميقة الجذور الممتدة إلى الأعماق الموغلة في نسق تسلسلها السببي العقلاني المعرفي : الفكري النظري والتجريبي من نظرة رياضية تجريدية إلى تجريبية فيزيائية إلى التحقق والانتاج في المصنع ، وهذه السلسلة ينتجها نظام معرفي نظري ينهض على العقلانية والنسبية وكل تاريخ تطور الفكر النظري والاجتماعي والسياسي والمؤسساتي.
تلك هي نقطة الأساس التي يؤسس عليها
الغذامي مشروعه عن النقد الثقافي إذ يعبر صراحة عن ذلك في حواره مع زميله د.سعيد البازعي إذ يقول: " ولا شك أن سلب القيمة الفكرية عن الحداثة هو الغاء لها وتحويل لها لتكون حداثة شكلية لا تمس النسق الذهني ولا العقلية الاجتماعية والمؤسساتية وهذا تزييف فكري وثقافي يمسخ المنجز ويلغيه وتلك هي إحدى الحيل النسقية للفكر المحافظ"
لسنا في صدد الدخول في حوار الغذامي- البازعي، لكن المهم في هذ القول، أنه يكثف جوهر إشكالية النهضة العربية منذ محمد علي حتى اليوم، وهي الإشكالية التي رصدها بنباهة مميزة ياسين الحافظ عندما أكد على أن إخفاق المشروع النهضوي العربي يعود إلى مثاقفة الغرب عبر قناة القبول به كمنتج للسلعة ورفضه كمنتج للمعرفة التي أنتجت بتراكمها السلعة، أي رفض كل السيرورات المعرفية منذ عصر النهضة الأوربي (تجريبية-عقلانية-نسبية-تنوير-حداثة)، التي تشكل تاريخا فكريا ومعرفيا للسلعة الغربية من الإبرة إلى الطائرة التي تفتح أمامها كل الحدود والأسواق والأبواب ، إلا باب تاريخ العقل النظري والعلوم الإنسانية الفلسفية والاجتماعية التي شكلت فضاء انتاجها، وتلك هي تجربة محمد علي التي راهنت على التحديث التقني من خلال الاقبال على العلوم العسكرية الغربية الحديثة، بإيفاد الارساليات إلى فرنسا، مع التوصية بعدم خروجهم من معسكراتهم لكي لا يتنسموا هواء فضاءات الحداثة الثقافية والاجتماعية الأوربية ، ولم يكن الطهطاوي سوى طفرة تاريخية، لأنه بالأصل ذهب لا لكي يكون رسول مثاقفة حضارية مع الغرب، بل من أجل أن يؤم العسكر بالصلاة ...!
ولهذا السبب بالضبط وصف الكواكبي المستبد بأنه عدو لعلوم الحياة كالفلسفة والاجتماع وعلوم الانسان ، وأنه يحبذ علوم الصنعة والفقه والنحو والصرف وعلوم المعاد التي يتهوس لها ذوو النفوس الصغيرة والمطامح المتطامنة.
ولهذا كان المشروع المدني الدستوري الحداثي للامام محمد عبده وحزبه الاصلاحي الاسلامي (علي عبد الرزاق-قاسم أمين) ، والليبرالي الراديكالي (أحمد لطفي السيد-طه حسين) الذي تأسس على مجموعة من المبادئ الاصلاحية القائلة: بأن ليس ثمة اصلاح سياسي بدون الاستناد إلى اصلاح مدني عقلي ونظري ، وإن فكرة إصلاح النظام الفكري الإسلامي ذات أولوية لأي مشروع تحديثي، ولهذا فقد تبنى محمد عبده مع شيخه الأفغاني فكرة أن الاصلاح البروتستانتي الذي كان مدخلا للنهضة الفكرية الأوربية، إنما هو يستند إلى تعاليم الإسلام، ولهذا فقد ندد الإمام محد عبده بأولئك المقبلين بإعجاب إلى كل ما أنجز الغرب من لذائذ البدن الحسية ووسائلها وأدواتها، لكنه يرفض الروح البرومثيوتي المتمرد –حسب ياسين الحافظ- وسلالة الروح العقلاني النقدي النهضوي للغرب ، وكان قد عبر عن مأزق د.الغذامي وتياره الحداثي في علاقته بالموقف المحافظ الذي يرفض الحداثة الفكرية لصالح استيراها كمنتوج سلعي من خلال ما أتى على لسان أحد الممثلين الأفذاذ لمدرسة الامام العقلانية التنويرية وهو أحمد أمين عندما قال: "نحن الشرقيون نريد السيارة ولكننا نرفض العقل الذي أنتجها".
وبسبب انكسار الخط التنويري العقلاني الدستوري لمدرسة الامام مع الانقلابات الشعبوية العسكرية الريفية (القوموية واليساروية ولاحقا الاسلاموية) التي هي استمرار للمدرسة الخطابية الشعبوية العسكرية والوطنية الشعارية الكارهة للآخر المختلف لأحمد عرابي ومصطفى كامل، ستعود فكرة حاجتنا لغرب السلعة لاغرب العقل الذي أنتج السلعة، حاجتنا للعقل المكوًّن بدون مقدمات سيرورته التكوينية، كعقل مكوِّن ، وذلك سواء في المجتمعات العربية المحافظة أوالجمهوريات العسكريتارية البوليسية التي طرحت التنمية الاقتصادية بوصفها عملية تحديثية تقنية يمكن اختزالها إلى حدود التخلف التنموي الكمي في الدرجة وليس في النوع ، حيث يمكن الخروج منها إما بالاستيراد وفي أحسن الأحوال اللجوء إلى حلول (اقتصادوية) كالخطط الخمسية العرجاء التي لم تستند إلى منظور النهضة الشاملة التي تبدأ بالانسان وبحداثة العقل قبل حداثة اليد ، أي أن انقلابيتها العنفية القتالية العسكرية : العائلية والعشائرية والطائفية أعادها إلى نموذج دولة القوة والاكراه (الانكشارية) ، منقلبة على أسئلة النهضة التي تمس البنى الذهنية التكوينية للعقل الماضوي الذي لا يزال يحتضر منذ قرون ، أي لابد من البحث عن التمايز والتفاوت النوعي من أجل طرح أسئلة النهضة بوصفها عملية حداثية تطرح على العقل سؤال التأخر والفوات التاريخي والحضاري ، وليس التخلف التنموي الذي يحل باجراءات اقتصادية دون أي اصلاح فكري وثقافي وسياسي كما تحلم الأنظمة المستبدة التي تسعى للإفلات من استحقاقات الاصلاح السياسي .
وعلى هذا نستطيع القول: إن مشروع
الغذامي ينتظم في سلك المشروع النهضوي العربي التنويري الطامح إلى تغيير كل البنى المادية التحتية والذهنية والفوقية من أجل فيقوقة بنى قومه العرب من سبات قرون يحتضر فيها هذا العقل دون أن يشفى ليحيا ويشارك العالم سيره نحو الكمال الانساني و الترقي الأخلاقي والحضاري ، أو يموت فينبعث من جديد ليجدد شباب الانسانية.
ومشروع الفيقوقة النهضوي هذا الممثل في مثلث المنهج التطوري للامام محمد عبده ومدرسته الاصلاحية الاسلامية والليبرالية (حرية- تقدم-مدنية) هي عنوان المشروع الحداثوي الدستوري الذي بدأ فيقوقته الجديدة منذ عقدين كمشروع نخبوي ثقافي يخدش صخر المستحيل مع الهزيمة النهائية لايديولوجيا اللفظ الفحولي الشعاري الخطابي مع سقوط بغداد البلاغة في 9 نيسان 2003 حيث تقوض فخامة الملفوظ وانهيارفخفخة الانشاء، لكن –في الآن ذاته- حيث المعنى ليس بكرا عذراء، بل هو عجوز دردبيس حيزبون نالت منها المنون وأحنت ظهرها السنون ، إنها ايديولوجيا فحولة اللفظ ونسوية الفعل بالمعنى الحريمي للنسوية ...
وعلى هذا فإن مشروع
الغذامي يعتبر أحد عناوين مشروع الحداثة الفكرية والسياسية العربية التي استفاقت منذ ربع قرن لتزرع الأسئلة والشكوك بكل أسس ومداميك هذه العمارات المطهمة بلاغيا وذات الجبروت المجازي للأنساق المضمرة لفكرعربي حديث شكلا لكنه تقليدي ومحافظ بل متأخر ومفوّت جوانية