وبعد برهة , أضافت أينا بغرابة :
- ساندي حزين اليوم , لم يخرج من مكتبه طوال النهار , أنا متأسفة من أجله !
- لكنني ما زلت عند رأيي .. سأكون شريكة له في المصنع .
- ليس هذا هو السبب الحقيقي لحزنه ... فهو مغرم بك ... وللمرة الثانية , يفشل على صعيد الحب...
و أغر ووقت عيناي أينا بالدموع , ولم تكمل حوارها مع ليزا !
فشعرت ليزا بضيق من جراء تسببها التلقائي بيأس ساندي واستسلامه للحزن . وعادت إلى منزلها سيرا على الأقدام وهي تعلل النفس بغد أفضل ... ما عساها تفعل لساندي كب تساعده على الخروج من محنته ؟ هل تصرفها العفوي والبسيط والمباشر والواضح معه هو الذي شجعه للمضي في إحياء الأمل حول علاقتهما ؟ وما إن هدأت أفكارها , حتى ناداها صوت تألفه , فالتفتت لترى جوني يركض نحوها , وشعره يتطاير في الهواء , وما أن أصبح على مقربة منها حتى سألها بإلحاح :
- ليزا ... ستصبحين أمي , أليس كذلك ؟
- أجل ... يا جوني .... أجل ...
- على الأقل .. لم تغيري رأيك .. حسنا !
وأضاف بحماس :
- ليزا .. لن يرتاح لي بال إلا إذا أقسمت بأنك لن تتراجعي عن قرارك .
- أعدك أنني لن أتراجع.
- هل ستأتين هذا المساء وتعدين لنا طعام العشاء ؟
- لم يحن الوقت بعد لذلك , سأهتم بهذا الأمر , عندما نقيم نهائيا معا ... هذا لا يمنع أن يتولى والدك من وقت لآخر عملية الطهي .. فهو طباخ ماهر !
- لكن والدة جيم , تهتم بتحضير الطعام بصورة مستمرة .
- جوني ! سأكون أما لك هذا صحيح . لكن هذا لا يعني أنني سأتصرف تماما كما تتصرف والدة جيم .. فأنا لدي حياتي العملية أيضا , وسأهتم بك , وبالطهي , عندما تسنح لي الفرصة بذلك .. وفي أوقات انشغالي يتولى والدك السهر عليك !
أجاب جوني بجدية :
- فهمت ما تقصدين .. المهم أن تكوني معنا في أغلب الأحيان , في أي حال أنت أجمل من والدة جيم , فهي لا تملك عينين كعينيك اللتين بلون البحيرة عند سفح الجبل , عندما تعكس الشمس أشعتها ....
سألته ليزا بدهشة كبيرة , فردد كلامه بارتباك وأضاف بحيرة :
- سمعت هذا التشبيه من أبي عندما سألته يوما عن لون عينيك .
فأجابني بلون البحيرة عند سفح الجبل عندما تعكس الشمس أشعتها الذهبية وتمتزج بلون البحيرة الأخضر , وشعرها بلون ورق الخريف . ليزا , ألا تحبين هذه التعابير ؟
- بالطبع .. أحبها !
ارتعدت لدى سماعها ما ردده جوني بطيبة فائقة , وأدركت مرة أخرى أن فرايزر أخفى عنها شعوره الحقيقي , بل أنه عبر عن العكس فقال لها في لقائهما الأول , إنها تشبه والدتها بشعرها الأحمر . وفي ذلك اليوم نفرت من لهجته الساخرة . ربما هي التي اعتقدت أنه يسخر منها ! وجوني يؤكد الآن انطباعها الخاطئ .
واشتاقت فجأة له وتمنت لو يحضر الآن ليتناقشان معا في طريقة إعداد الزفاف . لكنه لم يحرك ساكنا وبقي بعيدا لمدة يومين واعتبرت ليزا أنه محق في التزامه تجنب معاشرتها . ألا يرتكز زفافهما على المنطق وعلى المصلحة المشتركة ؟
استلامها برقية من والدها سنح لها فرصة الذهاب لملاقاته وتبليغه محتواها , يقول فرانك :
- أحر التهاني . أنا مسرور للغاية . أبارك هذا الزواج بمحبة !
وتعجبت ليزا للهجة فرانك الفرحة , فهي لم تتعوده سريع التأثير , فهو من النوع الذي يكتم مشاعره في وضع كهذا .. ألهذا الحد نال فرايزر لامون إعجابه ؟
وابتسمت وهي تسير بخطى رشيقة نحو ورشة العمل حيث يعمل فرايزر . وتذكرت الفترة التي أمضاها فرانك في اردمونت .. الطقس شتاء , ومطر غزير , الهواء يلفح بشدة عبر الجزيرة , ويحرك بقوة كل ساكن كأنه لا يطيق الجمود , فتهتز الأشرعة في الحوض , ونوافذ البيوت , والورق المتطاير يجن جنونه .
وما إن وصلت ليزا إلى مقربة من الورشة حتى لاحظت انكباب الجميع على العمل باندفاع , كأنهم خلية نحل نشيطة ..ز وفتشت عن فرايزر بين الجميع الذي يعمل على المركب فبان لها بقامته الممشوقة يراقب الأعمال . توقفت هي بدورها , تراقب بفضول كبير وبإعجاب الخطوط الهندسية , المتناسقة , التي تشكل هيكل المركب . وإلى جانب هذا المركب الذي يعملون عليه , مركب آخر , جاهز , تضيئه يافطة , كتب عليها بأحرف براقة "مادريكال " أي : "الغزلية " وهذا عنوان قصيدة غنائية . وفجأة توجه الجميع إلى المركب الجديد , وراحوا يعدونه للإبحار , فرافقهم فرايزر , ووقف جانبا يتأمل بدهشة كطفل ما صنعته يداه .... وأخذ المركب الجديد يهبط ببطء حتى لامس صفحة الماء , و بجلال , محدثا ارتجاجا رائعا , ما أجمل هذه اللحظة .... فهي تختصر ولادة هذا المركب , حتى انطلاقه وكم هو سعيد الآن فرايزر أمام انجازه هذا !
لم تتمالك ليزا فرحها فاتجهت نحوه , وقالت بحماس كبير :
- أنه مدهش !
فوجئ فرايزر لدى سماعه صوتها , إذا يبدو أنه لم يسمع وقع خطاها .
- أنه يخص رونالد غو شقيق زوج السيدة شيزهولم .
أجاب فرايزر بفظاظة , فنظرت إليه ليزا وللمرة الأولى بإمعان , وراقبت لون عينيه , الذي يميل إلى لون البحر عندما تشتد زرقته , في الأيام المشمسة , فهما لا تقلان سحرا وغرابة عما يحمله البحر من أسرار دفينة !
بادلها فرايزر النظرات بالحدة نفسها . فشعرت بالخجل , وقال بصوت لعوب :
- ليزا ماذا تريدين ؟ هناك مركبان في انتظاري لأطلقهما ليس لدي وقت لأكرسه لك .
- أليس من الخطورة أن تطلقهما اليوم في هذا النهار الممطر العاصف ؟
أرادت أن تشاركه في هموم عمله بدون أن تفرض نفسها عليه وترغمه على الاهتمام بها .
فأجاب فرايزر مفسرا بصبر :
- لا خيار لي , يجب أن أطلقهما اليوم لأتأكد من جودتهما .... فأنا مشغول للغاية , وتزداد الطلبات ويجب أن أنهي قسما منها قبل انتهاء الشهر . لم تجاوبيني بعد , لماذا أتيت وماذا تريدين ؟
أعطته البرقية , التي حملتها إليه , والتي كانت حافزا لمرورها به , محاولة أن تنسى فظاظته وخشونته . وأدركت أن عليها من اليوم وصاعدا , أن تعتاد طالما أنها قبلت بهذا الزواج الذي يخلو من الحب .
ولا حاجة بها أن تشعر بالألم , أو بالحرج , أو أن تطالبه بقليل من اللطف أو اللباقة , لكنها لم تطلب الكثير , كانت تكتفي , ببسمة رقيقة بعد غيابه عنها . أعاد إليها البرقية معلقا :
- هذا لطف من والدك أن يبدي رأيه بهذه السرعة , أمامنا ثلاث أسابيع لإعداد مراسم الزفاف , وأجد هذه الفترة كافية .
وأضاف بسخرية :
- هل تعرفين أحدا ما زال يعارض بعد هذا الزواج ؟
- لا أحد . لو رفض أبي , هل كنت عدلت عن هذا الزواج ؟
- وأنت , ما كنت فعلت لو رفض والدك ؟
- لم تجيبني عن سؤالي .. هذا ليس بجواب .
- لا تنتظري مني في الوقت الحاضر جوابا آخر... أيمكنك الاهتمام بعشاء جوني .... فلن أعود باكرا هذا المساء .
- وليس من واجبي أيضا أن أرافقه حتى الفراش ؟
- يكون من دواعي سروري لو فعلت .
وعاد فرايزر إلى عمله , وأخذت ليزا طريق العودة إلى البيت وهي تفكر بهذا الدور الذي فرض عليها أن تلعبه حتى النهاية .... دور المرأة المطيعة .
وهي في الواقع تسخر من هذه المواقف .... لكنها لم ترفض هذا الزواج , وكان باستطاعتها أن تفعل ... لماذا ؟
استقبلها جوني بالترحاب وارتمى بين أحضانها بفرح , وألح عليها بمرافقته حتى منزله لتناول العشاء فقبلت على مضض . كان المنزل في حالة يرثى لها من الفوضى . كل شيء يدل على الإهمال , ولم تعرف من أين تبدأ لتعيد إلى المكان رونقه . انتبه جوني لذهولها وقال معلقا :
- الحال في الطابق العلوي أسوء بكثير من هنا !
فسألته باستغراب :
- كم مضى من الوقت على غياب الخادمة التي تهتم بالتنظيف البيت ؟
- إنها مريضة ... وأبي لا يملك الوقت الكافي للاهتمام بالمنزل .
- حسنا , أمامنا ساعتان من العمل القاسي !
وخلعت ليزا معطفها وبدأت عملية التنظيف والترتيب , وعندما أشرفت على الانتهاء حضرت العشاء لجوني , ورافقته حتى فراشه , كما فعلت في السابق عندما اشتدت العاصفة وبقيت إلى جانبه تغني له , كما تذكرت تلك الليلة عندما عادت من النزهة وجوني يرافقها .
وكم تمنت ألا تلبي دعوة ساندي لتناول الشاي وتمسك بيد جوني وتمشي بجوار فرايزر حتى منزلهما ... هاهي اليوم تفعل تماما ما تمنته فيما مضى ...
واشتد عليها التعب , وارتمت على الديوان في الصالون , لتستعيد شيئا من الراحة , قبل خلودها إلى النوم . أدركت للمرة الأولى , لماذا كانت تعرض دائما فكرة الزواج .
فهي تكره الواجبات المنزلية التي ترهق المرأة ولا تترك لها متسعا من الوقت لانصرافها إلى شؤون أخرى تصقل شخصيتها و تطورها , الحب وحده , يحررها من هذه العبودية , ويخفف عليها هذا العبء . الحب وحده ... رددت ليزا ... وغابت في نوم عميق , على غفلة منها ...
في عرض البحر , مركب ذو أشرعة بيضاء . يشق الأمواج , تحت سماء زرقاء صافية ... وهي ممدة على سطحه , تنعم بالدفء الشمس وحرارتها .
فجأة يدوي خلفها صوت فرايزر , كما عهدته , فظا , خشنا , ويملي عليها أمرا . فتلبي بصمت ثم تنهال عليها أوامره , وهي تسرع لتنفيذها , حتى يرهقها التعب . فتنظر ناحيته لتستجدي عطفا وعرفانا بالجميل , ثم تظهر لها سارة , بأناقتها , وهي تبتسم ساخرة منها , فينحني فرايزر نحوها , ويقبلها , بينما وقفت هي ليزا , كمن حكم عليه بالإعدام ... وهو البريء ....
- فرايزر أنت هنا ؟
انتفضت ليزا مذعورة ... وهي تحاول أن تبعد عنها هذا الحلم المزعج .... وخيل إليها أنها سمعت صوت سارة ... أهي في حلم ؟ أم هو الواقع ؟ واتجهت إلى المدخل , بعد أن أعادت تصفيف شعرها وأشعلت الضوء .
هاهي سارة حقيقة تقف أمامها الآن بأناقتها المعهودة وعيناها تقدحان شررا تماما كما في الحلم . استعادت ليزا قواها وقالت بصوت طبيعي :
- السيد لامون , لم يأت بعد .... أتحبين انتظار عودته ... تفضلي .
فأجابت سارة بصوت بارد :
- هذا الذي أنوي عمله فعلا !
وأضافت وهي ما تزال تتمشى في عرض الصالون :
- لدي ما أقوله لك . كنت في زيارة ساندي , وأخرني إنك تستعدين للزواج من فرايزر لامون , على ما يبدو أن هذا الخبر أزعجه للغاية ! هل تنوين بالفعل الزواج من فرايزر ؟
- نعم .
- حسنا ! فأنا لم أخطئ إذن في حكمي عليك , فأنت كسواك من اللواتي زعمن الاهتمام بجوني , من أجل الوصول إلى والده , لكنك تصرفت بذكاء وببراعة عندما أعلنت أن هذا الزواج لا يهمك بقدر ما يهمك الاعتناء بجوني... ولدي ما أضيفه يا آنسة ليزا في هذا الخصوص . لا أعتقد أن فرايزر تقدم للزواج منك من أجل قلقه الدائم على ولده ... في أي حال فهو تصرف على هذا النحو من وحي ما نصحته به ...
فانتفضت ليزا غاضبة وسألت بجفاف :
- لم أفهم قصدك بعد من هذه الزيارة ؟
شاحت سارة بنظرها , وأضافت :
- عندما رافقت فرايزر من غلاسكو إلى اردمونت بسيارتي أطلعته على وفاة خالتك مود , ولفتت انتباهه , لكونك الآن , المالك الوحيد لمنزل السيدة الراحلة ومن مصلحته أن يعرض عليك شراءه مع الأراضي التي تحيط به ... هل فعل ؟
فترددت ليزا وقالت :
- نعم ...
- لكنني أخبرته عن عدم مقدرتي بيع المنزل , نظرا لما أوردته خالتي في الوصية ... فخاب ظنه ...
ابتسمت سارة ولاح بريق شيطاني في عينيها وأضافت بنشوة :
- وعندئذ تقدم وطلب يدك للزواج ؟
لم تجب ليزا . بقيت برهة , تحاول أن تعيد في مخيلتها تفاصيل ما حدث ذلك المساء بينها وبين فرايزر لامون ... أهي اتي تقدمت أولا وطرحت فكرة الزواج , أم هو الذي فعل ؟ ولم تصل إلى نتيجة , نظرا لارتباكها في هذه اللحظة أمام سارة , التي شوشت عليها أفكارها , وقلبت كل شيء رأسا على عقب ... فأجابتها وكأنها في غيبوبة :
- لست أدري ... أعتقد أن الأمر سار على هذا النحو !
- .... هذا هو القصد من زيارتي لك في هذه الساعة ... لأحذرك من دوافع فرايزر الحقيقية , فهو يريد الزواج منك للحصول على أملاكك , عندئذ , لن يمنعه أحد من التوسع والبناء ....
خرجت هذه العبارات من فم سارة , كأنها ألسنة من نار تحرق بدون رحمة !