وصلتنا أوراق مهربة من سامي.
أهلي
فاض الشوق بي. بت كالزيز يئز ويدور حول نفسه، ثم يضرب رأسه بالجدار. جافاني النوم. أغزل أفكاري حول نفسي والمساجين. نسيت حالي ونسيت عائلتي. اقتحمت المهجع أرطب خاطرهم. قرأت لهم سوراً من جزء عمَّ وسورة ياسين والفاتحة. رددوها معي. ظلت عيونهم الخائفة متشبثة بالسماء تستجدي الرحمة. ولكن عبئاً فقد أحكمت الأنشوطة حول أعناقهم، أعناقنا، هل أصدق أذني، أأنا واهم، أم مجنون، سمعت أصواتكم تحت نافذة الزنزانة. قفزت أحاول رؤيتكم، لم أفلح فرحت أبكي. ضربت رأسي بالحائط. رآني السنغالي. دخل. أمسك قدمي ورفعني إلى النافذة، إلى الطاقة المعلقة في السماء. صرخت:
- ماما، بابا، خالتي، سمعت صوت خالتي يلعلع كالرصاص يقطعه نشيح أمي الباكية:
- لن أعود قبل أن أراه.
هل أنا واهم، اختلطت الآهات بالكلمات، ولكني متأكد من وجه شيخ أسود الشعر ملتح يتكلم الإنكليزي تذكرت سحنته. كانت لرجل لمحته في مكتب التطوع تملأ الخواتم الزمردية والياقوت أصابعه العشرة. وقفت أترنح كالسكران ناداني صفير خافت من الزنزانة المقابلة من خلال القضبان، رأيت الوجوه السوداء تلمع بدموع مغلوبة مقهورة ذليلة. تعانق أيديهم المستحيل. فهمت المصير القاتم الذي يفتح شدقيه لالتهامهم ربما التهامي غداً أو بعد غد.
مضت ساعة دقت أقدام عسكرية رتيبة قاسية على أرضية الزنزانة، وانتصبت قامات عملاقة مروعة في الضوء الباهت.
مشى الضعفاء طائعين أمامهم. أكتافهم متهدلة، رؤوسهم المجعدة منكسة كرايات مهزومة. كانوا الوقود العبرة الذي لملم من كل كتيبة ثأراً للضابط الإنكليزي.
لم يمض وقت كبير حتى دوت ثلاث عشرة طلقة. نظرت إلى ثيابهم المكومة في الزوايا وعلى الأرض. اقشعر بدني. انكمشت هلعاً هالني صوت الرصاص صرت أدور على نفسي كالمهووس أبكي مصيرهم. بل مصيري من يدري، أجل، ممكن، قد ألحق بهم غداً أو بعد غد.
فجأة دفع الباب عليّ بشدة. هبط قلبي.. وقف حارس أبيض فوق رأسي آمراً:
- خذ أغراضك، هيا هيا بسرعة.
وجدتني في محطة القطار التي شهدت حريتي أول مرة وأنا أغادر مصر إلى سوريا. كان الطريق إلى الحرية قصيراً جداً. أعادوني إلى الإسماعيلية ثم إلى قطعتي. ومنها إلى السجن قيد المحاكمة. جرجرة مهينة. عينت المحكمة الكابتن جورج محامياً للدفاع عني.
أحبكم جميعاً. أقبل أيدي ماما وبابا.... سامحوني
ما إن أنهى أبي تلاوة الرسالة التي وصلت متأخرة حتى جاءتنا البشارة سريعاً بأن سامي أصبح في سجن القلعة بدمشق. وقع أبي على محضر طويل في مخفر الشرطة ربطت به حيثيات الحكم، وأعاد سامي إلى البيت.
وقف سامي كالقطة المبلولة قرب الباب. حليق الشعر نحيل الجسم في ملابس عسكرية فضفاضة تخب قدماه في بسطار كبير. درنا حوله تلمسناه بأيدينا. وشممناه من رقبته وكتفيه البارزتين. تنحنح بدا خجلاً من ملابسه الوسخة. وربما من رائحة العرق. استند إلى الجدار ورمى الحقيبة عن ظهره ما إن أدار نظره فينا حتى دبت الحرارة في جسمه المنهك نفض عنه لحظة الذهول، وارتمى على صدر أمي يبكي بحرقة مثل طفل، جعل يبكي وينشج.
ضمته أمي بحرارة تمسح دموعه. ويمسح دموعها
حسم عادل الموقف العاطفي باحترام حقيقي لمشاعر أخيه.
- صار رجلاً، كفى دلالاً يا أمي.
تبادر إلى ذهن أمنا الطعام. يجب أن يأكل ويستعيد عافيته. انسحبت مرغمة وبقينا مسمرين إلى فمه ننتهز فرصة غياب الوالدة في المطبخ فقد ذابت كشمعة في الآونة الأخيرة.
- أي سامي نبر أبي بنفاد صبر فرحاً بعودة ابنه. اتكأ على مسند فوق الديوان المفروش بسجادة شرقية.
- رائحتي قاتلة. أغسل بدني وأعود إليكم. أجاب:
صرخنا بصوت واحد: لا، لا...
تدفق صوت سامي واهناً:
((عندما صدر علي الحكم بالسجن المخفف نظراً لصغر سني رحت أحفر الأيام بأظافري على الجدار إذا ما انسحب الليل وهاجمه الصباح. وصلتني دراهم أبي عن طريق ابن العشا متعهد الطرق لدى الإنكليز. فطلبت مذياعاً صغيراً تقاسمت سماعه مع الحارس الكونغولي. ازداد الضغط على السجناء المساكين. سمعت بأذني أصوات التعذيب الخارقة لكل معاني الرحمة.
عرفت ومن معي بما لا يدركه الشك بأن الجيش الإنكليزي في تدهور وتراجع. لازمني سوء الحظ في الفترة العصيبة لاندحارهم وتقهقر الجيش الثامن حتى أبواب الإسكندرية. بل قيل ذلك حتى((مرسي مطروح)).
تهب الأخبار مثل زوبعة مداً وجزراً، تقلباً وهدوءاً، حيال أي تقدم أو تقهقر، في هذه الأثناء تغيرت القيادة الإنكليزية، قبض عليها الرجل الحديدي((مونتغمري)) رص الصفوف، أعاد تنظيم الجيش الثامن، نفخ فيه روحاً عسكرية حديثة، دعمتها الإمدادات الأمريكية عبر البحر.
هكذا استسلمت إيطاليا، وانسحب الحليف الألماني الجنرال رومل إلى الصحراء وتبدلت القيادة الألمانية أيضاً، أدى الاختلاف بين القيادتين المتدربتين مع فن الحرب في الصحراء إلى هزيمة نكراء ساعدت الحلفاء على تطويق الجيش الألماني.
- يا حرام على مصر، يا حرام على مصر يا حرام عليك يا مصر أم الدنيا. ردد سامي وضرب جبينه بكفه.
وقفت الدنيا على رأسها. عمت المجاعة مصر كلها وتسلطت الأوبئة على الشعب المسكين البسيط، فمن نجا من الكوليرا سقط فريسة مرض الزهري والطاعون الأسود حتى ملأت رائحة الموت الخياشيم، ودخلت الزنزانات المغلقة، وشوارع القاهرة رحل العديد من المساجين السود حمدت ربي أني داخل القضبان أثناء تلك القتامة التي محت الحياة حولي وحتى الشمس اللاهبة التي باتت كئيبة باهتة، كانت الأنباء شاهد عصر على قسوة الحرب الضروس التي جرت الشعوب الضعيفة ومصر إلى حافة الهاوية. حرقت الجثث أو طحنت بجنازير الدبابات الثقيلة. باعت الحرة طفلها، والصبية جسدها وغزت همجية القرون الوسطى شوارع القاهرة تتاجر بالرقيق الأبيض مقابل لقمة العيش.
أنباء رهيبة كانت تصلنا. تعلمت كيف أكره الإنكليز، فلا الجيش جيشنا، ولا اللغة لغتنا.
سألني المدعي العام:
- ما الذي دفعك إلى صفوفهم؟
أجبت:
- أحببت رؤية مصر.
استغرب المدعي العام قولي. نظر إلي بدهشة كمن يعاين مجنوناً..
- تدخل الجيش فقط ليأخذوك إلى مصر؟
- نعم سيدي..
تأكد عند ذلك من سذاجتي أن يكن من جنوني.
في اليوم السابع من محاكمتي المرهقة. ثارت علي أسناني. تفجر رأسي من الألم: ولم أقو على تركيز مخي، جروني إلى عيادة طبيب يهودي اسمه((صموئيل)) كان يهودياً قذراً بلا قلب. أدخل الكلابة في فمي وخلع لي ضرسين سليمين دون مخدر. صحت من الألم ورفسته بالبسطار على وجهه. أعادوني إلى الزنزانة لم يتوقف النزيف كدت أختنق بالدم وعندما رآني الحارس رثى لحالي وأشفق علي... أخبر الشرطة العسكرية. نقلوني إلى المستشفى وخاطوا الجرح الذي لم يندمل.
كانت فترة المستشفى وقلع الضرسين، ومرارة الألم فترة راحة واستحمام لي. لم تلبث أن انتهت سريعاً، فقد أعادوني إلى المحكمة مثل كلب أجرب وقرأوا علي التهمة التي تلخصت كالتالي:
- الهروب من الحرب بالسلاح الكامل.
- كنت بحاجة إلى إنسان من أهلي ووطني. فرغم قسوة الموقف ظلت ذاكرتي تعيدني إلى دمشق. احتل هذا الحلم ذهني. كان الأمل الذي يمدني بالشجاعة والصبر.
أعادوني إلى القاضي، للمرة الأخيرة سألني:
- العمر
- ستة عشر عاماً
حدق في الأوراق، ثم أدخل يده في درج المكتب وأخرج ورقة كان قد زورها عيّاد ليصبح العمر ثمانية عشر عاماً. ثم أخرج الوثيقة الأصلية التي جاء بها الشيخ العميل من دمشق، وقارن بين الاثنتين.
قال القاضي عاقد الحاجبين مع ظل ابتسامة بصوت مهيب بعد معاينة استنطاقي الأسبق:
- أهذه تذكرتك؟
أجبت: نعم.
- تكلم، كيف تطوعت بالجيش.. جيش بريطانيا العظمى.
عدت أؤكد ونظري إلى الأرض:
- أحببت أن أرى مصر، لا علاقة لي بالإنكليز ولا بالحرب. ترجم رجل وقف إلى جانبي. كان بديناً ذا وجنتين منتفختين ونظارتين هبطتا إلى أرنبة أنفه.
ضحك الحاضرون بصوت عال. تقبلت نتيجة المحاكمة بفرح عارم. حكم علي بالسجن مدة أسبوعين مع تسريح من الجيش لصغر سني.
ظل موضوع غلاء الخبر يؤرق الناس في حياتهم اليومية وبات الهم اليومي الذي يقض مضاجعهم، ويلون سهراتهم بقصص العوز والتقتير.
خرجت من البيت المجاور المرأة الليبية التي كانت تودع حليها عندنا إثر كل يمين طلاق يطلقه زوجها. كانت تحمل حقيبة ملابس واحدة. وتجر ثلاث بنات ذاهلات عن المصير خلفها. فتحت أمي الباب راجية إياها أن تخزي الشيطان ريثما يتم الصلح بينها وبين زوجها:
- الصباح رباح يا أم نادية.
- لا، لن أعود إليه، واللّه لن يرى ظفري بعد اليوم.
همدت الأصوات نهائياً في المنزل. ثم تغير شيء حولنا. دخل الحارة طنبر خشبي يجره حصان أصهب.
توقف أمام بيت أم ناديا المهجور. أنزل العتال أثاثاً ملفوفاً بعناية، وآلات معدنية كبيرة حديثة، وكرسياً دواراً تناوله رجل مخضب الشعر في الخمسين من عمره. علّق الرجل قطعة نحاسية مستطيلة على الباب. حفر عليها: كامل السمان طبيب أسنان وجراح.
تلهّت الحارة بالزوار الجدد، وأغمضت عينيها عن رجل غريبة دبت لعملاق ضخم الجثة تفوح من فمه رائحة عجيبة ذات أبخرة واخزة، يرتدي قنبازاً مفتوحاً كالحاً وشالاً يضمه حول وسطه بزنار جلدي عتيق. يأتينا كل يوم.. يترنح في مشيته يمنة ويسرة إلى أن يصل إلى دكة ترابية يجلس قرب برميل القمامة القلاب. ثم يخرج رغيف خبز التقطه من الفرن ويقضمه على مهل. تدفع قذارة شكله وشعره الطويل اللزج الأولاد إلى الضحك والسخرية منه، وأحياناً إلى ضربة بالحجارة وشد الزنار ينفلش القنباز المهترئ عن بدن عار في عز الشتاء.
يلكزه خبيث:
- حميدو، أين كنت البارحة؟ لا تخجل، قل، قل.
وينط آخر:
- اعترف لك حشاش.
ترف عينا حميدو الزائغتان بحثاً عن معين. لا يجد. يعود ساهماً تائهاً في جلسته.
- حميدو.. إبك.. أين بيتك؟. حميدو ارقص.
يترنح حميدو ثقيلاً، يدب بخوف مبهم. يدور دورتين ثم يقع على الأرض.
- شوفوا المجنون. حميدو، غني يا وابور اجري، حميدو ابكي.
يمسح حميدو عينيه. تهر منهما دمعتان حقيقيتان. يبحث عن عود ثقاب، يمد يده مستنجداً. ويضربه الصبي هيثم، يدوس حسن على قدمه يبقى حميدو ضعيفاً حتى الموت.
حشاش، حشاش يخرب بيتك، ما وجدت غير هذه الحارة حتى توسخها... أمامك القميم في العفيف، هناك تستطيع أن تحشش على مهلك. سلطان زمانك. يا اللّه انقلع. يميل الغريب على جنبيه ويعود في اليوم التالي أشد إلحاحاً على جلسته مترنحاً مهاناً لا واعياً. كل ما تعرفه الحارة عنه. أنه خرج من السجن حشاشاً اتهمه زوج أمه بالسرقة. طرده من البيت، وسلمه إلى الشرطة.
تنبعث من عيادة الطبيب(كامل السمان) أغنية يومية أسيانة بصوت(لور دكاش) الرخيم الصداح. أغنية واحدة لا تتغير وكأنها أبدية. (آمنت باللّه. نور جمالك آية، آية من اللّه. آمنت باللّه).
ألفت في عودتي من المدرسة ظهراً رؤية امرأة تركية شقراء الشعر تلف شعرها المنسق الأملس بشبكة سوداء ناعمة تعقصه على شكل قلب فوق الجبين العالي.
كانت قصيرة القامة، بنظرة نبيلة تنبئ عن ماض عريق. ترتدي طقماً أسود يطل من قبته الرسمية قميص أحمر. تنتعل في قدميها حذاء من الفلين السميك. تهرول خلفها امرأة سوداء لا تحاذيها أبداً، ولا تكلمها فقط تتبعها كظلها.
يطغى النداء الدافئ من حنجرة(لور دكاش) على أزيز الآلة المرعبة لنخر الأسنان. يتلصص الأولاد من ثقوب الخص الخشبية المتقابلة. يدفعهم فضول ما إلى فعل ذلك لا يدري أحد كنهه. فعل صبياني محرم على الكبار ومباح للصغار.
تصمت الآلة. لا ينير الضوء الخافت الغرفة، بل يسهم في تهييج الخيال، يتبادل الأشقياء الكلام.
- أين يده، قدمه، فمه... ولكن هي، أين هي؟
تظل الخادمة جالسة وحيدة في الردهة. صنم قُدَّ من أبنوس قديم. تلف سيكارة وتدخن بصمت لاهية عن العالم. أتراها جالسة معها مجرد حماية.. أم ماذا؟
تخرج المرأة التركية. تمشي فتتبعها المرأة الأخرى. تتكرر اللقاءات. وتكبر الإشاعات. وتتأجج الغيرة الحمقاء في الصدور.
لابد من كبش فداء يبرد الدم يجب أن يسيل الدم حاراً قانياً كي يغسل أعتاب الحارة من رجس الشيطان. ولكن متى. لابد من توقيت.
يتلمظ الرجال حسرة كلما تهادت التركية. عيناها دائمتا النظر إلى الأمام. لا مباليتان بالخطوات المتلصصة التي تتبعها.
فيما كانت الحمية تدفعها المروءة تثور لتدمر، وتحطم، وتقتل، وتذبح باسم الشرف، انتهت اللقاءات العاطفية بصمت، دون دم بعد أن غادر الطبيب الحارة تلقائياً. جمع حوائجه وغاب.
حلّ محله طبيب نفسي جلب فرنسية جميلة معه. شهق الرجال وغمغمت النسوة حسرة:
- أجنبية!
تظل النساء حاضرات غائبات مكبلات حتى العظم، هي في الشورت الأبيض وهن بالمانطو الأسود.
تنقر شكواهن آذان الأزواج بلا ثمرة. صب حضورها برداً على القلوب المتعصبين جميعاً. فما عادوا يتذمرون من رائحة الخمر ولا صوت الموسيقا الضاجة في الليل. ولا من نباح الكلب الرابض خلف الباب. ارتخت مفاصلهم كما ارتخت معارضتهم لجارهم(كريم) صاحب الأراضي الواسعة في الغوطة عندما جاء بطفلة بنت أشهر ورماها بين أيدي أخواته العانسات قائلاً:
يتيمة الأبوين سجلوها تحت اسم فريدة العبد اللّه
لم تتجزأ واحدة على فتح فمها عن أصلها، وكيف جاءت. من أبوها؟
فجرت البنت اللقيطة عاطفة الأمومة المكنونة في صدورهن.
- التربية غالية. قالت جدة رفيقتي المتهالكة على الحياة.
هذه ابنة كريم ولا يعترف بها خوف الفضيحة. يا لطيف اقطع يدي إن لم تكن من صلبه. رغم القيل والقال والهمسات قبلتها الحارة. تسللت رخاوة إلى عيني أبي الصقريتين. نادى عربية التي فقدت ولدها وظلت مقيدة بنا وقفت واجفة القلب.
- نعم سيدي.
- إذا كان في ودك أن تتركينا وتذهبي إلى أهلك فأنا أوصلك بيدي. ربما تجدين ابن الحلال الذي يسترك في الضيعة. أطرقت المسكينة برأسها إلى الأرض وانهمرت دموعها.
- يا سيدي. الموت معكم أرحم. أين أذهب من عيون أهلي؟
سكت محزوناً، وهز رأسه مستغفراً ربه، ودعاه في سره.
ظل الفقر والجوع الهم اليومي للناس. جابت مصفحات إنكليزية شوارع دمشق لمدة أربعة أيام كي ترغم الفرنسيين على الانسحاب.... رمى جنودها البسكويت والعلكة للأولاد وفرقوا الطحين الزيرو على الأفران... وعندما انسحبوا.... عاد الخبز الأسمر إلى موائد الشوام وعمر التشاؤم قلوبهم.
علق أحدهم: حكم لصوص أنذال.
عيد الجلاء!
استيقظت دمشق على فرحة كاسحة... فرغت الدنيا من جيوش الاحتلال الفرنسية. لأول مرة تتحرر البلاد بعد أربعمئة سنة حكم عثماني وثلاثين سنة حكم فرنسي..
فرح ووجوه باسمة، وآمال تعمر الصدور.... اللّه أكبر.
قال أبي متحمساً:
- هل نقوى على تحمل هذا الفرح يتفجر في الصدور. في ودي لو أضم الناس جميعاً بذراعين خالصتين من البغضاء، هل يمكن للمرء الذي فتح عينيه على المظالم والإضرابات والمظاهرات والغلاء والقتلى والشهداء أن ينسى هذا اليوم؟ عيد الجلاء.
لابد أن الكبار فهموا معنى عيد الجلاء أكثر منا نحن الصغار عشنا عيداً ملوناً لا يماثله عيد في العالم على كثرة الأعياد. هبت الحارات والأخيار، والكبير والصغير هبة واحدة وقلب واحد للاحتفال بعيد الجلاء. ذبحت الخرفان ووزعت الهدايا والحلوى. وارتفعت الزينات. غناء موسيقى حماسية مذيعون يتناوبون.... ضجيج وفرح... من قبة السيار في آخر خط المهاجرين إلى الشيخ محي الدين... ومن سوق ساروجة إلى سوق الحمدية. وباب الجابية والسويقة إلى القصاع وباب توما، وحيّ الأمين. سجاد على الجدران مشاعل الكشافة ليلة العيد لمبات كهربائية متصالبة على النوافذ والشرفات. أسهم نارية ملأت السماء عيون ساهرة تنتظر الغد. السابع عشر من نيسان عيد الجلاء تاريخ جديد لنضال مرير منذ هجوم التتر وحتى آخر فرنسي.
مضينا في الصباح رجالاً ونساءً وأطفالاً وشباباً وشيبا إلى شارع بيروت تتفجر رغبة الحياة الحرة من مآقينا. أصبحت سوريا جمهورية عربية مستقلة رئيسها شكري القوتلي.
صرخ عادل من السرادق:
- تعيش سورية، يالدمشق العظيمة... افرحي لشهدائك لقتلاك.
علق أبي:
- الآن جاء دور الشباب. نحن عملنا واجبنا دوركم يا أولاد
لعل غرابة وتنوع نماذج النساء التي تعثرت بها، ورأيتها قربي خاضعة لتعليمات اجتماعية صارمة أثرت بعمق في مشاعري، كل شيء في الناس كان مشوهاً... حتى تصرفات أمي واخوتي البنات حين كان الأمر يتعلق بالتقاليد والعادات والأعراف السائدة... خنوع وملل ورتابة عيش.
شكلنا أنا ورفيقتي((نورس)) ثنائياً جيداً في الصف. جمعنا تطلع نحو الثابت في المجتمع... الوطن، الفكرة، الثورة... أما المتحول فيجب أن تكون التقاليد البالية المتوارثة.
كانت نورس مرجعاً في قواعد اللغة العربية، وكنت أنا بأجنحتي المفرودة دوماً نحو الريح كتلة مشاعر وأحاسيس لا تنضب. أقرأ بين السطور وأستوعب وأعب من ثروة المفردات.
ذات صباح. تمسحت بي زميلة في الصف اسمها((سوسن)) يموج على كتفيها شعر أسود طويل مفرق بجديلتين، ويرتسم على شفتيها الدقيقتين خط من الزغب الأسود الواضح فوق بشرة بيضاء. رفت أهدابها الوطفاء على عينين واسعتين ذئبيتين.
نبرت هامسة: سلمى تحملين سراً؟
حدجتها بنظرة قاسية أرخت يدها عن كمي.
- شوفي، معي رسالة غرام.
تراجعت خجلة.
- لا تخافي... لي
- مجنونة، لو سمعتك الموجهة. فضيحة، ثم طرد.
- خذي اقرئيها، وغداً ترجعينها. موافقة؟ دستها في جيبي.
كنت أرتعش خوفاً، ماذا لو وقعت في يد أخي؟ هل يصدقني؟
تركتني أتخبط بحيرة واجمة ساخرة على نحوٍ صبياني، وهربت.
أحدث نفسي:
- هذه البنت النصف رجل تجد فتى أحلامها، وتقع في الحب ياللمهزلة.
اشتريت من دكان صغيرة على ناصية حارة الرئيس مجلة الاثنين واحدى
روايات ارسين لوبين وخبأتهما بين كتبي.
أحببت هذه المغامرة الصغيرة، كبرت تطلعاتي. سئمت الكتب التاريخية الوصفية، والكتب الصفراء في مكتبة أبي واجتهادها الذي توقف وبحثت عن الممنوع والمجهول واللامألوف الصعب. يضيق رأسي بحمل أفكاري كما تضيق ملابسي وتنبئ بتغيرات فيزيولوجية تقلقني وتفرحني. استدار الكتفان والردفان تحت الخصر النحيل وامتلأ النهدان ضراوة.
غلفت سوسن تقربها المفاجئ مني أمام التلميذات بمجلة، ضمنتها رسالة زهرية اللون كتبت بخط جميل.
هذه هي الثانية تلمع عيناها إذ تحكي.
- هل تصدقين يا سلمى، يعبدني، يعبدني، يقبلني قبلات طويلة حارة. ويضغط على ثديي بقوة فأطير من النشوة اللذيذة أخشى أن أغيب عن الوعي بين يديه. يريد أن يأكلني.
- وأهلك؟
- في غرفة الجلوس.. آخر اطمئنان. سلمى إذا هبت رياحك فاغتنميها. لا تكوني غبية.
- صرت مثقفة يا سوسن. منذ متى؟
دبكت بقدمها:
- لو رأيته يا سلمى. لو رأيته. رجل ناضج كامل مثقف موشى الشعر بخيوط من فضة. نظارتان على أنف معتدل، وفم مدلوق ذقن مبرومة. يداه، يداه يداه. كم أحب يديه تمتصان قوتي، تهدّان مقاومتي...
لم أسمع بقية حديثها، رحت أتخيل شكل العاشق المتيم الذي يكتب الأشعار ولا تفهمها. رسمت للعاشق صوراً شتى. لم تنطبق أي منها على من أعرف.
قلت لها:
- وما دوري أنا... أنا بالذات؟
- أنت شاطرة بالعربي، أنت ثقتي، أرجوك ساعديني، كلماته كبيرة علي ما رأيك لو كتبت جواباً باسمي. أنا كسلانة بالعربي.
انحنت وقبلت يدي بذل.
خامرني شعور خبيث. لم لا أتلاعب بعواطفها، وأساومها على تقبيل قدمي ثمن كل رسالة أخطها.
ضحكتُ من أفكاري الجهنمية، وطمأنتها:
- طيب، طيب. أشوف.
حبست نفسي في الحمام وقرأت. كانت أشعاراً حقيقية، وتشابيه صعبة وتراكيب معقدة أرفع من مستوانا المدرسي في الصف الثامن. فالكلمات جميلة حارقة تقطر جوى وشكوى. تبنيتها، اعتبرتها ملكاً خاصاً بي وحدي. مددت بيني وبين الشاعر خيوطاً حريرية خلقتها كلمات عاطفية.
انكب على رسالة((سوسن)) مشوقة إلى تفريغ شحنة الصبا في بدني التي تتوق إلى الانفجار. كبسني شوقي إلى ولوج حياتها الخاصة.
وقّعت سوسن حذره بالحرف الأول من اسمها في ذيل الرسالة المزينة بقلوب حمراء. ثم رسمت قلباً يقطر دماً.
- اللعينة!
تابعتها وضحكت منها، وعندما مررت لسانها على الظرف شعرت بهول تهوري. تساءلت"
- لم أزج نفسي في لعبة خطرة. لماذا أغمس أصابعي في أهواء فتاة تتلمظ شهوة وأحلاماً بالتحرر من ربقة العذربة كما تدعي. دون أي شعور بالمسؤولية.
سرقت مداراة الأعراف سكينتي.
- هل أقوى يوماً على التسلل إلى أحضان فتى أحلامي. وأقف أمامه عارية لا يسترنا سوى الظلام كما تفعل((سوسن)) يومياً بعد أن يأوي أبواها إلى فراشهما.
تبادلني النظرات في يوم آخر، أفهم. مزيداً من الرسائل ولكني لن أقبل أن أكون الثانية بعد أن تقرأ الرسالة أولاً. عرضت شروطاً مليئة بالابتزاز:
- أفتح الرسائل أولاً.
انصاعت مرغمة.
أحسستني تعيسة للشر الذي تفجر في أعماقي، والغيرة التي تأكلني فجأة.
- أمجرد احتكاك بسيط مع أناي الداخلية تحولت إلى لا((إنسانة)). أمدتني بالرسائل على نحو منتظم، صباح كل سبت. تعلقت بها وعصرت قلبي قطرة قطرة. وسوسن سعيدة لاهية ناعمة بالحب، تجول يدا حبيبها حرتين في ثناياها جسدها اللاهب. تحكي لي بسذاجة بريئة عن مداعباته، وعن ابن الجيران الذي يلاحقها ويقرصها من فخذها. وأستاذ الإنكليزي الذي يلمس شعرها بأنامله. ولم تتطرق أبداً إلى الرسائل.
ذات حين دعتني إلى بيتها كي نشرب الشاي، ونستمع إلى اسطوانة((مجدلينا)) الراقصة.
وهناك مع فنجان الشاي التقيته. مشهد مضحك هرب من فيلم مصري. ابتسم ابتسامة عريضة مغرية دبقة.
- آنسة سلمى. أخمن؟
أجبته بابتسامة عريضة مماثلة.
تسلقت عيناه شفتي. تعلقتا بفمي. ثم درجتا على وجهي ويدي وجسدي. قرأت اللعب في عيني رجل مخادع شبق مجرب.
دخلت((سوسن)) بالقهوة. رشفت من فنجاني رشفة ساخنة. ورشف من فنجانه رشفة. وبلمحة بدل الفنجانين، وبهدوء تام أشعل سيجارة((بافرا)) وراح يدخنها على مهل، ويتأملني من خلال الضباب الكثيف، تجاهلت حركته الصبيانية التي لا تليق بسنواته الخمس والثلاثين. كسر الصمت. قال ممازحاً:
- حكت لي سوسن عنك... قالت إنك تحبين كتابة الرسائل. ثبت عينيه في مؤق عيني. فاجأني بكلامه. خسرت اللعبة. كشفني ببساطة. ياللغبية التي لا تؤتمن على سر)).
- لا. لا أحب، أجبت غاضبة.
تناولت محفظتي وهرولت نحو الباب. رفعت يدي مودعة.
- عندكم درس خاص.
تنتقل سوسن متباهية كفراشة من جميل إلى أجمل ومن طالب إلى أستاذ ومن ابن مدينة إلى ابن ريف، تمسك بتلابيبهم وتزحلقهم. يمر أسبوع تملّهم واحداً إثر واحد. حتى فاحت رائحة نتنة وامتلأ بطنها، وعلى باب المدرسة ناولها طالب طب ثلاث رصاصات ثأراً لكرامته. خطفت الروح من بدنها وقضت على مستقبله، ثم أسلم نفسه للشرطة.
كنت قد كتبت قصة سوسن على مزاجي الخاص، ودفعتها إلى حافة الموت بسكين حادة. عندما قتلت شعرت بأني مدانة ومشاركة في تلك الجريمة بنحوٍ أو بآخر. عفت الطعام والنوم، وكرهت نفسي، ذبحتني القفزة القاتلة التي قامت بها. تساءلت:
- ترى لو أهملت طلبها أما كان الأفضل؟ ظلت جثتها الملطخة بالدماء المرمية تحت الأقدام ماثلة في مخيلتي ورافقتني سنوات طويلة زرعت الهلع في قلبي.
تلونت الأيام بعد أربع سنوات من الاستقلال فقط. تحولت من زهر إلى رمادي، ومن رمادي إلى أسود حسب الظروف والأهواء السياسية التي أطلت فجأة على حياة الشوام، برز وجه عسكري ينادي بتغيرات اجتماعية مظهرية مثل الغاء الطربوش والشروال. وحمل الدعوة أزلام مُتكسّبون داروا بها على منافيخ الحارات.
قال أبو عجاج الحمصاني الذي ارتدى البدلة الرسمية لأول مرة في حياته بصوت مسموع:
- معلوم يا أخي... بدنا رجال تحارب بفلسطين، هذا رد على هزائم فلسطين. همس زكردي في أذنه وفي يده خيزرانة رفيعة:
- أسلحة فرنسية وصورة الزعيم على السبطانات، هكذا سمعت ما شاء اللّه وكان!
- حبيبي هذا رجال وليس ديكاً كما أقول لك. كان في السجن، سجنته فرنسا. اتفق على شراء أسلحة متطورة. رفع دعوى على الحكومة الفرنسية وطالب بأوسمته.
طارت طابة من خرق قماشية ملفوفة على واجهة أبي عجاج فكسرت الزجاج.
خرج أبو عجاج من دكانه مهتاجاً غاضباً.
- لك أين هو... وينه الكلب، ابن الكلب.
هرب الولد وتخبأ في زاروب ضيق وصرخ مناكداً:
- أبو عجاج... حسني بك يا عزنا! بسرعة غيرت؟
لم تهدأ الحكايا. ذعر الناس حين استيقظوا صباحاً على أجساد محكومة تتدلى من حبال المشنقة في ساحة المرجة، فأغلقوا أبوابهم تحسباً من مفاجآت تالية، وما هي إلا ليال من شهور ستة من الأحداث المتسارعة الدامية في سوريا ولبنان حتى انفجر الوضع الجديد ولمّا يثبت أركانه. دخل عادل مهتاجاً مضطرباً إلى البيت:
- انقلاب جديد... انتبهوا كتيبة مصفحة تجوب شوارع المدينة. لا تخرجوا من الدار. أنت سامي، وأنت سلمى....
- خير إنشاء اللّه؟ سأل سامي...
- مشروع سوريا الكبرى... رد على تحرشات إسرائيل في الظاهر والباطن بعلم اللّه...
وقعنا في هم المفاجآت. مرة من انقطاع الكهرباء. ومرة من انقطاع مياه الفيجة. وباتت الأضواء الخافتة بالألوان النيلية على النوافذ تنذر بالشؤم وتُؤرّث الخوف.
فيما كانت الشام تتطلع إلى تثبيت الحلم الديمقراطي عبر مجلس نيابي أمين على مقدراتها ويوسع نواة الأحزاب الوطنية من خلال الطلاب والمثقفين من خلال الأساتذة الذين عادوا من أوروبا بعدما نهلوا من العلم والخبرة، وتشبعوا بالأفكار التحررية، تعرفت وتعمقت علاقتي بالفنان التشكيلي أحمد.
كان شاباً حنطياً حاد التقاطيع معبأً بذخيرة ديناميكية من الجدية، كتلة أعصاب مكهربة.
لفّه خيالي، وحفظته أحلامي، وراقبه زهوي. اندفعت خلفه بقوة كهرطيسية لاهية عن احتمالات التقول.
تابعت نشاطه، أقرأ ما يكتب في الفن والفكر أستذكر بيني وبين نفسي ما يكتب في الصحف المحلية من تعليق، فاجأتني تقاطيعه الحادة منذ اللقاء الأول فيما استقرت عيناه على وجهي. بت أترصد خطواته: محاضرة في جمعية الفنون، ومعرض في صالة الفن الحديث، تعليق في الندوة الثقافية، ومنتدى سكينة، والنادي العربي. كنت واحدة بين حاضرات وحاضرين.
وقفت، يوماً بينهم صغيرة مترددة أسأله، وما عساي أن أسأله وأنا لم أتجاوز الكفاءة.
همستُ بصوت خافت خجل كلمات مبهورة حول كتاب أصدره عبد السلام. ابتسم. تعلق شيء ما بيننا.
سأل عن سبب اهتمامي بهذا الكاتب بالذات. كشفتني رعشات شفتي ويدي. لملم أفكاري المبعثرة بلطف حول أسلوب المؤلف، كان رأيه أن المعنى المحرض يجب أن يستلم الريادة بعيداً عن الإسهاب والتفاصيل السطحية.
بعد أيام، أخذ يمدني بمواعيد المحاضرات صابراً على غيابي في أحيان. أدمنت على لقائه وأنا خائفة، أخذته انشغالاته بعيداً عني، بات أسير المقالة اليومية والمطابع التي تفتح فاهاً كالغول.
أحمد يعرض وينشر تعليقات ساخرة، تعج بالمرارة والضحك، تثير نقمة الحكومة الانقلابية الجديدة تكبر حلقته يدعو إلى تكتل الفنانين في نقابة تصونهم وتحمي حقوقهم. فن واقعي يعالج الأمور الراهنة ويضم اليميني واليساري في عصبة متحررة من أي ارتباط خارجي قد يشوه اسمها لا لدكتاتورية الحزب الواحد متمثلاً بحركة التحرير التي عمت دعايتها الدوائر والجامعة، والمدارس والأسواق
كانت الحركة غائمة الأهداف، طافية على السطح في الهواء الطلق لا جذور شعبية. لها بعيدة عن البنى التحتية لخصتها جريدة((الإنشاء)) بعناوين من مثل:
- حركة الفترة وليس التحرير فقط
- ضم عدد ضخم من الأصوات
- شعارات حرة لشعب حر
- المستقبل: الروح والجسد
لكن الحكم كان في واد والشعب في واد.. جاء حين تفجرت فيه العواطف المكبوتة. أعلن عن إضراب عام في الجامعة، انضمت إليه ثانويات التجهيز للبنين والبنات، وأغلقت المدارس بعد تحطيم النوافذ بالحجارة، خرجت أعداد كبيرة من الطلاب بمظاهرة تدعو إلى إسقاط الدكتاتورية.
لاحقت المباحث المنظمين فسقط عديدون في حبائلها كما سقط عادل في فخ الاعتقال، كشفت الواجهة الديمقراطية عن وجهها الكاذب.
ظل انتماء أخي عادل السياسي سراً خافياً علينا.
اشتد أوار الصدام بين العسكر والأهالي، وامتلأت سجون القلعة والشيخ حسن والمزة بالمقابل. ظل أحمد على خطه اليساري يقاوم بضراوة إغراءات الوزارة المعروضة عليه، يئس المتكسبون من احتوائه فسُّرح من سلك التعليم ومن الصحيفة، ووضع تحت الإقامة الجبرية في البيت.
طال غياب عادل عنا، رحنا نعد الأيام ننتظر خطواته، أرقنا القلق وأرثته أخبار التعذيب. أدخلت التمنيات الطيبة من الأصحاب والجيران خناجرها في حلوقنا لتنكأ جراحنا كلما حاولنا تضميدها، وكأننا غسلنا أيدينا من جثة ميت.
أخيراً، خرج أخي عادل من السجن صدر عفو عام عن بعض المعتقلين لعدم توفر الأدلة.
عاد نصف حي يجر جسماً نحيلاً يابساً.
فتحت أمي عينيها من غيبوبة السكري الذي أكل عافيتها.
- رجع عادل. همس سامي في أذنها. وأمسك كفيها النحيلين مطمئناً. صدر عفو عنه.
دخل عادل عليها وأخذ يمرغ وجهه بيديها... نفر الدمع من مآقينا.
خفف نجاحي في الكفاءة بعض الآلام التي ركبتنا تماثلت أمي نحو الشفاء وتجلست في سريرها النحاسي الأصفر.. هاقد عادت الضحكة إلى عينيها الكابيتين.
داعبتها بقولي:
- ماما تتلامح أمامي الجامعة. سنة وهوب يا جامعة... ساعتئذ ماذا أفعل.. احزري، ماذا أفعل. وقفزت فوق سريرها وضممتها تبسمت بوهن.
أرنو حالمة حزينة إلى ما كان ملكي قبل أن ينبشه هشام على نحو مباحثي من بين طيات ملابسي الداخلية. هتك سر مذكراتي، ومزق قصة الحب التي كتبتها عن سوسن. ففقدت مع ثورته الذكورية أهم أفكاري.
عادت العصفورة التي قضمت القضبان بأسنانها إلى العش مهيضة الجناح منتوفة الريش لتلتقط من الحب ما يسمح به.
سقى اللّه أيام الجمعيات الأدبية الذهبية والمنتديات الثقافية. هاجت بي الأشواق بعيداً عن الحزن. كتبت قصيدة بعنوان: ((إلى فنان)). أرسلتها متفائلة إلى صحيفة الفيحاء وانتظرت حتى مللت وعيل صبري.
وفجأة بعد أيام طويلة ظهر اسمي إلى النور.
تلفنت إلى أحمد، وسألته رأيه متوجسة.
رد بلا نفس:
- أثارت أعصابي. أثارتني
شعرت بخجل من تعليقه. لضمت الإهانة
- أنت لا تحب ما أكتب. يعني أن أكف عن الكتابة. أنسحب بشرف... لم لا تصفعني على خدي؟
- اكتبي: ولكن لا تتركي عواطفك مكشوفة متداولة و...
- أفهم من ترميزك أنها سيئة. قلها بصراحة.
- على هذا النحو نعم. اخرجي من ذاتك إلى الآخرين، إلى الناس.
انطويت على قهرٍ قاسٍ. فمزقت أوراقي التي سودتها وكبرت معي.
- رميتها في موقد الحمام بملء إرادتي. واتخذت قراراً بأن أترك المدرسة وأعيش حياة دعة أسوة ببنات الحارة انتظر العريس. بكيت طوال الليل. لاحظت أمي احمرار الجفنين وطفحاً خفيفاً على وجهي. نادتني:
- سلمى، ما هذه، حساسية على جلدك. على وجهك. يجب أن يراك الدكتور.
- وجهي، ركضت إلى المرآة. تلمست حبيبات حمراء منتفخة بشعة شوهت بشرتي. وكأنها جدري الماء.
هجمت على الطعام بشكل مرضي، لم أجد تفسيراً لذاك الاضطراب الجسماني وزيادة الإفرازات.
- هل كنت أعاقب نفسي؟ لا يمكن. شيئاً فشيئاً استرجعت صوابي وتوازني. فهمت بأن الصدمة التي أكلتها ضرورية، وأنها انعطافة جادة لابد منها في مسيرتي الفنية. إن أردت المتابعة.
تشبث الهوى بي، وتشبثت به. اصطلي بناره.. عاجزة عن رد وهجه. عدت مكبلة مزعزعة أقتل غيرتي التي أججتها فتاة سمراء نحيلة القد طويلة القامة كصبي أعجف تلبسها فكر يساري غائم ومضطرب تسللت إلى مخدعه ليلاً. نقلت الخبر ابنة خالته المكبوتة على رغبة الحب.
تغيرت الأحوال السياسية بعد الانقلاب الأخير، صدر عفو عن أحمد. بحث مجدداً عن صحيفة أخرى تتبنى أفكاره. عاد فشدد من لهجته ضد الدكتاتورية التي خلقتها الانقلابات منذ أن بدأها بطلها((حسني الزعيم)) وما جرته على البلد من ويلات وتمزيق نفسي وخلقي أدى إلى عدم الاستقرار وفقدان الثقة بين الأخ وأخيه. نسي الرسم واللوحات والمعارض وما عاد يعبأ بانزلاق فنان تشكيلي نحو الإفلاس.
تناوب أحمد حسب سياسة الصحيفة على كتابة الافتتاحية مع كاتب يميني اتضح أنه داعية حزب الشعب، يتعارضان ثم يلتقيان في مطالب أهمها:
حرية التعبير، تعدد الأحزاب، نظام ديمقراطي سليم.
لفتت لهجة المقالات النقدية اهتمام الناس فأقبلوا على شراء الصحيفة. هكذا رجع أحمد بعد لأي مرير إلى تثبيت أقدامه في عالم الصحافة.
تدخل عادل الرجل الثاني في البيت في مسيرة حياتي. أقنع أبوي بنقلي إلى الثانوية الأدبية حيث عين أستاذاً للرياضيات فيها. تحظى المدرسة بسمعة جيدة ومستوى رفيع باللغة الإنكليزية.
كان في نيته أن يبعدني عن أحلامي التي شم رائحتها عشية سمعني أكلم أحمد بالهاتف. لم يجابهني. ولم يسألني. تركني مع مواجهة نفسية ومحاسبة مميتة بدت أقسى من السوط على جلدي والقهر في ضميري. وفي حالٍ من التأهب المضني لسؤال أو جواب قد يأتي.
لم يسعني الرفض. برزت أمام نقلي إلى مدرسة أخرى مشاكل عدة:
- قالت أمي: المدرسة بعيدة عن المهاجرين والأقساط غالية، تشكل عبئاً جديداً على العائلة.
ذلل عادل العثرات جميعاً:
- أنا المسؤول:
تغير نمط حياتي. فمن جو متزمت خانق إلى تباسط ومناقشة وحرية في التعبير وصدام في الآراء حول التاريخ والحكم ونظام الحكم.
صرت أستيقظ مبكرة قبل موعدي السابق بساعة. يرافقني أخي، نركب الترام ونهبط في بوابة الصالحية، ثم نمشي في الحي الضيق المضموم على دخانه وروائح الطعام الزكية وهذا ما أغضب والدتي. وبعد أيام تراخى الحبل الذي لف حول عنقي حين ملّ أخي مرافقتي وحررني من رقابة عاتية.
أخذت بالجو الجديد. طال دربنا أم قصر أنا وأحمد، بتنا نلتقي يومياً. تترافق خطواتنا مشياً متوازناً. هو على رصيف، وأنا على رصيف نضحك على منظرنا. ثم نجده جميلاً في ظروف بلدنا.
فاجأتني أنظمة المدرسة غير العادية برسالة فكرية تبشيرية حزبية حول مشروع((سوريا الكبرى)) تطرح منطلقاتها في الصفوف مع الأساتذة والتلميذات وتتداول البنات صحيفة يومية تحمل شعارات الحزب السوري.
في الباحة لمحتني معلمة اللغة العربية الآتية من الجامعة الأمريكية في بيروت.
- سلمى، أملنا كبير في نشاطك وحيويتك. أتوسم فيك مستقبلاً مشرقاً. سرني إطراء الأستاذة هيفاء. حسبت كلامها مسايرة بوصفي أخت عادل الشريف الذي ذاعت موهبته بالرياضيات.
سارت الأمور بعد لأي سيراً طبيعياً. توثقت صلتي بها. وصلتها بي. كانت المدرسة قصراً بديعاً أثرياً ذا طابع شامي. هندسة معمارية مدروسة، واسعة فسيحة بساحة كبيرة مشجرة بالكباد والنارنج والليمون تشقها سلالم حجرية ملونة ضيقة تؤدي إلى متاهات الغرف الكثيرة في الطابق الثاني والثالث المشرعة للشمس.
في درس التاريخ وجه الأستاذ ميشيل حديثه بنحو غير متوقع، قال في جملة ما قال:
- ليست المرأة شفة تتلمظ، ولا جسداً يتلوى. هي من تكون كالملكة سمير أميس.
- الملكة سمير أميس؟ سألت مهتاجة:
- أجل، سمير أميس ملكة حكى عنها التاريخ الملكة الأسطورية لبلاد آشور وبابل. تنسب التقاليد إليها تأسيس مدينة بابل وحدائقها المعلقة تمجيداً لشجاعة زوجها الملك نينوس.
- يا اللّه. تنهدت.
أضاف وكأنه يلقي درساً في التاريخ
في عام 1748 كتب عنها((فولتير)) مسرحية تراجيدية، وقبله عالج الموضوع ذاته كريبّيون.
تدخلت ابنة المدير زميلة الصف:
- أستاذ، لا تنسى أوبرا روسيني التي وضع موسيقاها بافتتاحية رائعة عام/ 1825 .
علق مبتسماً راضياً:
- ابتعدنا عن الدرس.
- ماذا يعني.
- تساءلت دهشة.
قبل الانصراف. نادتني المعلمة((هيفاء))
- سلمى، أنت مدعوة إلى الشاي في بيت المدير هنا في المدرسة، انتظريني في الباحة.
تلكأت مترددة... ولكن..
- لن تتأخري. ستتعرفين على زميلات من كافة الصفوف.
دفعني الفضول إلى قبول الدعوة.
رأيت وجوهاً مألوفة. جلست المعلمة هيفاء قرب النافذة في زاوية مهملة تراقب مدى انسجامنا مع ما نسمع تتلاعبني أفكار شتى تحملني إلى صباح عطلة فيه رن الجرس في بيتنا. فتحت الباب. وقفت قامة فارعة بوجه متطاول أسمر وعيني واسعتين كحيلتين. خلفها بانت فتاة قصيرة بدينة، ابتسمتا في وجهي. نبرت الطويلة متعجلة.
- جئنا من قبل أحمد. أنا نائلة أدرس في كلية الحقوق. ورفيقتي أسماء من اللاذقية. تدرس العلوم.
تنحيت مرحبة ومتعجبة. كانتا أكبر سناً مني بنحو خمس سنوات على الأقل.
ظلت البنتان واقفتين على أقدامهما
- لن نأخذ من وقتك. ندعوك إلى أمسية شعرية ثم حوار بمناسبة عيد المرأة العالمي، في 8 آذار. تشارك في الأمسية الشاعرتان: أم جمانة وعزيزة، حول حقوق المرأة، ثم حديث لمناقشة مشروع إيزنهاور، وسوريا الكبرى والهلال الخصيب سنحتفل بعيد المرأة العالمي احتفالاً شعبياً في نادي العائلات بالقصاع. وهذه دعوة لك.
أخرجت إحداهما من حقيبتها بطاقة بيضاء مطبوعة. على غلافها اسمي.
تكررت الدعوات. أحببتها. صارت نافذة واسعة، وكتاباً أعيش بين سطوره على أرض الواقع. يمتد بيت المحامية الشاعرة أم جمانة طولاً بدهليز يدفع الغرف إلى جانب واحد.
في أول زيارة. رأيت بضع بنات في مثل سني جلسن متلحفات بالخفر. زينت الجدران لوحات أصلية لفنانين عرفتهم. ولوحة صغيرة بتوقيع أحمد. في زاوية قبع بيانو أسود لماع. انسدلت على النوافذ ستائر مخملية خضراء تلائم الأرائك القليلة المتناثرة بأسلوب أوروبي. وكثير من الكراسي الخيزران.
امتلأت الكراسي بعد نصف ساعة. ثم دخلت صاحبة البيت. استغربت شكلها. امرأة بدينة قصيرة جداً سمراء غامقة. شعر أجعد قصير ملموم فوق نافوخها، تترنح في مشيتها. رحبت بنا بوجه بشوش أزال الغم عن نفسي.
ألقت نكات ظريفة كسرت جو الصمت وبدأت تحكي عن وضع المرأة المتردي في البلد. يا إلهي. هكذا تعيش المرأة ولا نعرف عنها شيئاً. باسم الشرف تقتل، وباسم العائلة تموت، وباسم الأولاد تحرم. وباسم... انقلبت المحامية في نظري إلى أنثى جميلة رشيقة ساحرة، استطاعت أن تغرد هموم المرأة على بساطٍ صريح دون الاتكاء على أحد. كسبتنا منذ الجولة الأولى. خرجنا من عندها مفعمات بأهمية دور المرأة المتعلمة في توعية المجتمع الأمي المشلول الذي تمثله معظم النساء.
في ذهني أخذت تدور كلمات قالتها:
- الحرية، والعلم... العلم يأتي بالحرية. إذا لم تتعلم الواحدة منا فلن تخرج من قوقعتها إلى الهواء الطلق. من خلال الحماس طرحت أسئلة ذات طابع أنثوي صميمي تجاوز بعضها الهموم الصغيرة إلى هموم أشمل. نقطة سوداء تم التوقف عندها: هدايا النقطة الرابعة التي وزعت على المدارس، وفي علبها السم المدسوس لأجيالنا.
هالتني الكلمات الكبيرة الجريئة. في زمن الغليان.
انتشلني أستاذ التاريخ من سهومي مبتسماً:
- سلمى مشغولة عنا. ليست معنا إطلاقاً. سمعت أنك تكتبين شعراً.
تبسمت:
- مجرد محاولة، أستاذ..
- أحب هذه المحاولات، أطلعيني عليها، ربما أنشرها في صحيفتنا. سأعرفك على شاعر رقيق قوي المشاعر لعلك سمعت باسمه((خازن نمر))
- قرأته. أحب شفافيته، ليتني أتعرف عليه. صوره مثل لوحة بالألوان المائية.
تساءلت في قرارتي: -لم قال صحيفتنا... من هو؟ ماذا يعمل؟ ما خلفيته؟ من وراءه؟
انكمشت مرتبكة. هأنذي أدخل في لعبة أخرى... أنزلق في خطين متعارضين يجب أن أحذر خطواتي. جئت إلى هذه المدرسة كي أرمم لغتي الأجنبية لا أكثر.
مرت الأيام مليئة بالجدية والمثابرة.
نلت حظوة حسدتني عليها الكثيرات. كانت حلم كل فتاة منظمة حزبياً، هي رؤية زعيمة الحزب السوري.
كنت خالية الذهن ساذجة لا أعي أهمية وقيمة تلك المقابلة.
عندما دخلت بيتها المتواضع في عين الكرش، تقدمت نحو سيدة شاحبة جميلة المحيا، رشيقة القوام نحيلة الجسد غارقة بالسواد رفعت يدها بالتحية.
انبرت الأستاذة هيفاء متعجلة تقدمني:
- سلمى شاعرة الصف.
رأيت السيدة الحزينة في لوحة كبيرة على الجدار. تعلقت على خدها دمعة.
- أهلاً بشاعرتنا الصغيرة، يسعدني أن أراك. قالت كلماتها فصيحة واضحة، لم نلبث في بيتها سوى دقائق. انتهت الزيارة عندما دخلت بنتان صغيرتان. حيتا برفع يديهما.
انتظرت((هيفاء)) في الردهة خرجت مستبشرة:
- حظك كبير يا سلمى. تركت انطباعاً حلواً في نفسها.
- الفضل لك. أجبت مجاملة بحياء.
خفت من الانجرار والتمزق خلف دعوات ولقاءات أخرى لا أقوى على الاستمرار فيها، تراجعت. تحاشيت الكلام مع((هيفاء)) خارج الصف عن الزيارة غير العادية. تشاغلت بالمذاكرة. تخبأت خلف مناقشة الأوضاع في بلدنا حتى يئست مني. من ترويض المهرة الجامحة التي لا تعترف بقيد مذ خلعت الرسن من عنقها ومهما كان الثمن. في الواقع، ما كنت بقادرة على الانصياع تحت أوامر والتمزق الفكري بين اليمين واليسار. ثم أقف متفرجة مذبذبة منافقة.
تجاوزت((هيفاء)) عن دلعي كما وصفته، فصلت بين القناعة والاقتناع، ثم حسمت الأمر بذكاء وتفهم كبيرين لوضع قربني من صداقتها وأبعدني عن كثير من المشاكل مع الإدارة والمدير الذي اكتشفت أنه كان غارقاً بحبها.
ركبني الشيطان مرة، اقتربت من غرفتها المعلقة في متاهة السلالم من الطابق الأخير في المدرسة... أحزنني ما رأيت، تقشف بادٍ لأبسط قواعد الراحة، مثل غرفة عسكري يؤدي الخدمة الإلزامية بسرير حديدي، وطاولة جرداء قذرة عليها طابعة باللغتين العربية والإنكليزية وتحت أرجل الطاولة علبة معدنية امتلأت بورق الكربون الأسود والأزرق.
تربعت على الجدار صورة قديمة للمعلمة مقصوصة من صحيفة عربية لبنانية مع فريق من شباب الجامعة أثناء التخرج.
- كم هي جميلة هذه الشابة الجامعية، تأملتها بإعجاب. على قصاصة أخرى كلمات: الحكم بالإعدام على قتلة الزعيم اللبناني رياض، وقعت على سر دفين، قبضت على حياة امرآة تتسلل الروح من بدنها لحظة، لحظة، حزنت حزناً أليماً على هذه الهاربة من بهجة الشباب إلى عزلة قاتلة مقرفة بين أربعة جدران لا تتعدى ستة أمتار مربعة ولا تصلح إلا زنزانة لأعتى المجرمين، أو زريبة للدجاج.
هيفاء هاربة من وجه العدالة قاتلة. تملكني ذهول. انسحبت ببطء ألملم خطواتي المسروقة على صرير السلم الخشبي الفضاح، وأنا أهمهم.
- ماذا تخبئ الأيام؟